وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0264 - العبادة6 ( عبادة الحَج ).
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

معاني الحج :

1 ـ الحج فرصة للصلح مع الله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع العبادة ، ولكن بمُناسبة قُرب موسم الحج ، فالحديث في هذه الخطبة عن عبادة الحَج .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الحجُّ هو الشعيرة الرابعة في الإسلام ، بل إن الحج هو آخر ما فُرِضَ في الإسلام من عبادات ، وكانت فرضيَّته في السَنة التاسعة من الهجرة ، على أرجح الأقوال . والحج أيها الأخوة رحلةٌ فريدةٌ في عالم الأسفار ، إنها رحلةٌ إلى الله ، إذا كانت رحلات الأرض من أجل التجارة ، أو من أجل المُتْعَة ، أو من أجل العمل ، فإنَّ الحجَّ رحلةٌ إلى الله ورسوله .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا البيت - بيت الله الحرام - الذي تتجه إليه في اليوم خَمْسَ مرَّات ، إن الحجَّ هو زيارةٌ لهذا البيت ، إن الحجَّ هو طوافٌ حول هذا البيت ، إن الحجَّ وقوفٌ بعرفة .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الحج معانٍ كثيرة ؛ الحج قبل كل شيء عبادة يجب أن تؤدَّى ، أعرفت مغزاه أو لم تعرف ، أفهمت حكمته أو لم تفهم ، أوضعت يدك على جوهره أم لم تضع ، الحجُّ عبادة ، والحج فريضة ، ولكن لو دقَّقنا في معاني الحج لوجدنا أن للحج حِكَماً عُظمى ، وغايةً جُلَّى ، من هذه  الحكم ، من تلك الغايات أن الحج فرصةٌ للصلح مع الله . قد يتيه الإنسان في دروب الحياة ، قد تزلُّ قدمه ، قد ينحرف ، قد يقصِّر ، قد يُخالف ، قد يعصي، قد ينغمس في ملذات الحياة ، قد تشغله هموم المعاش ، يأتي الحج ليكون فرصةً ثمينة للصلح مع الله .
 أليس الله في كل مكان ؟ ولكن الله سبحانه وتعالى حينما يقول لك : تعالَ إليّ . أي تفرَّغ لعبادتي ، ترك الوطن ، وترك الأهل ، وترك الأولاد ، وترك العمل ، وترك مباهج الدنيا هو في حقيقته تفرُّغٌ كاملٌ لله عزَّ وجل . فمن أجل أن يصحَّ هذا الصلح مع الله ، يجب أن تزال كل العقبات ، يجب أن تسقط كل الأقنعة ، المال قناع ، والوجاهة قناع ، وبيت المرء قناع ، وأهله قناع ، فمن أجل أن يصحَّ الصلح مع الله يجب أن تسقط كلُّ هذه الأقنعة ، ويجب أن تزول كل العقبات ، من هنا كان الحج ذهاباً إلى بيت الله الحرام ، كان الحج تركاً للوطن ، تركاً للأهل ، تركاً للأولاد ، تركاً للتجارة ، تركاً للعمل .
 وهناك شيء آخر ؛ هو تفرغ ، وهو تجميدٌ مؤقَّت لمشكلات الدنيا ، فالذي يعاني من بعض المُشكلات ، فالذي تهُمُّه الدنيا ، يهمه أن صحَّته ليست على ما يرام ، يهمه أن دخله ليس كما ينبغي ، يذهب إلى هناك ليجمِّد هذه المشكلات ، لأنها ضاغطة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الحج فرصةٌ للصلح مع الله ، وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .
 كأنك يا أخي المؤمن حينما تقول : لبيك اللهمَّ لبيك . كأن الله سبحانه وتعالى يقول لك : عبدي تعالَ إليّ ، تعالَ لأريحك من هموم الدنيا ، تعال لأذيقك طعم القُرب ، تعالَ لألقي في قلبك نوراً ترى به الحق حقاً والباطل باطلاً ، تعالَ إليّ لتعرف حقيقة الدنيا ، تعالَ إلي لتعرف جوهر الدنيا ، تعالَ إلي لتعرف أن القُرب من الله عزَّ وجل هو كل شيءٍ في الحياة . .

(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتُّك فاتك كل شيء ، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء ))

[تفسير ابن كثير]

 هذا معنى تلبية الحاج ؛ لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك ، لبيّك لا شريك لك .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ فرصةٌ للصلح مع الله لمن كان مقصِّراً ، لمن كان تائهاً، لمن كان ضائعاً ، لمن كان منغمساً ، لمن كان منحرفاً ، لمن كان عاصياً ، إنك إذا ذهبت إليه ذهبت لتصطلح معه ، ذهبت لتعاهده على طاعته ، لتعاهده إلى طلب معرفته ، لتعاهده على العمل بمرضاته ، لتعاهده على السير في طريقه . هذا معنى .

2 ـ الحج شحنةٌ عاطفيةٌ روحيةٌ تدفع الإنسان إلى الله :

 ومعنىً آخر من معاني الحج : إنه شحنةٌ عاطفيةٌ روحيةٌ تجعلك تحثُّ السير إلى الله عزَّ وجل.
 في الإنسان عقلٌ وفيه قلب ، القلب بمثابة المُحَرِّك ، والعقل بمثابة الموَجِّه ، فإذا ضعفت حركة الإنسان ، فإذا تقاربت خطواته ، فإذا فترت هِمَّته ، فإذا بردت عواطفه جاء الحج ليعطي الإنسان شحنةً استثنائيةً إضافيةً تدفعه إلى الله ورسوله .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وهل من مناسبةٍ تشحن فيها النفس إلى بارئها مِن أن ترى هذه الأماكن المقدَّسة ؟ مِن أن ترى مكان طواف النبي عليه الصلاة والسلام ؟ مِن أن ترى المسعى الذي سعى به النبي عليه الصلاة والسلام ؟ من أن ترى المكان الذي بايع النبي أصحابه بيعة الرضوان ؟ من أن ترى مقام النبي العدنان ؟ إن مشاهدة الأماكن المقدسَّة في ذلك شحنٌ لكل مشاعر المسلم ، شحنٌ لطاقاتك .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أليست هذه الأماكن في قلوبنا ؟ أليست هذه الأماكن في مشاعرنا ؟ أليست هذه الأماكن في مُخَيِّلتنا ؟ إنك إذا ذهبت إلى تلك الأماكن ، ودخلت إلى بيت الله الحرام ، وصافَحَت عينك الكعبة المشرَّفة ، وطُفْتَ حولها مقبلاً ، منيباً ، مبتهلاً ، داعياً ، مستغفراً ، تائباً ، وذهبت إلى عرفات حيث يجب أن تكون معرفة الله عزَّ وجل . أيها الأخ الكريم إن زيارة البيت الحرام شحنةٌ عاطفيةٌ روحيةٌ تدفعك إلى الأمام .

3 ـ الحج ممارسةٌ للمبادئ السامية :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في الحج مبادئ سامية ، في الإسلام مبادئ سامية ، وفي الحج ممارسةٌ لهذه المبادئ السامية ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( الناس سواسية كأسنان المشط ))

[ من المبسوط عن الإمام السرخسي ]

(( لا فضل لعربيٍ على أعجمي إلا بالتقوى . . . ))

[ من الدر المنثور عن جابر بن عبد الله ]

((الناس ولد آدم وآدم من تراب ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[ سورة الحجرات : 13 ]

(( الخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم لله أنفعهم لعياله ))

[الجامع الصغير عن ابن مسعود ]

 كل هذه الآيات والأحاديث تؤكِّد المساواة بين بني البشر ، في الحج ممارسةٌ تطبيقيةٌ واقعيةٌ عمليةٌ لهذه المساواة .
 فالحاجُّ يا أيها الأخوة يخلع ثيابه ، والثيابُ تتفاوت بين قطرٍ وقطر ، وبين مصرٍ ومصر ، وبين إقليمٍ وإقليم ، والثياب تتفاوت بين مختلف الطبقات الاجتماعية ، والثياب تتفاوت بين مختلف الأعمال البشرية ، تتفاوت بين مختلف المِهَن ، تتفاوت من حيث القدرة على شرائها، تتفاوت من حيث الأذواق ، إن كل هذه الثياب التي يزهو بها الإنسان ، التي يؤكد بها مهنته الراقية ، أو مرتبته ، أو مكانته ، أو طبقته ، أو مَنْبَتَهُ ، إن كل هذه الثياب يجب أن تُخْلَعْ ، ويجب أن يكون الناس في الحجِّ سواسيةً كأسنان المِشط .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إن شعائر الحج ، إن مناسك الحج تأكيدٌ لهذه المساواة التي نادى بها الإسلام ، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى ، جميعاً يرتدون ثياباً بيضاء ؛ غير مخيطة ، تعبيراً عن تلك السواسية المطلقة ، فلا أمير ، ولا أجير ، ولا وزير ، ولا خفير ، ولا غني ، ولا فقير ، كلُّهم أمام ملكوت الله عزَّ وجل ، وفي بلاده المقدسة سواسية .

4 ـ وحدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر ورابع من معاني الحج وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة يقول :

(( المسلم أخو المسلم . . . ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 وفي القرآن الكريم :

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾

[ سورة الحجرات : 10 ]

 هذه الوحدة بين المسلمين ، هذه الوحدة بين المؤمنين في الحج تمارس ممارسة عملية ، فالمشاعر واحدة ، والشعائر واحدة ، والهدف واحدٌ ، والعمل واحدٌ ، والقَول واحد ، والدُعاء واحدٌ ، أن يمارس مليون أو يزيد من الحجاج شعائر واحدة ، مناسك واحدة ، أن يرددوا أقوالاً واحدة ، أن يقفوا في مكانٍ واحد ، أن يطوفوا حول بيتٍ واحد ، أن يكون لهم ربٌ واحد ، وبيتٌ واحد ، وكتابٌ واحد ، ورسولٌ واحد ، وأن يقوموا بأعمالٍ واحدة ، هذا مما يؤكِّد وحدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، هذا هو المعنى الرابع من معاني الحج .

5 ـ الحج رحلة سلام :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الحج رحلةُ سلامٍ ، في زمن سلامٍ ، إلى أرض سلام ، يقول الله عزَّ وجل :

﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾

[ سورة آل عمران : 97 ]

 ويقول الله عزَّ وجل :

﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾

[ سورة المائدة : 97]

 لا قتل ، ولا عدوان ، ولا إيذاء ، ولا صيد ، ولا شيئاً من هذا القَبيل ، إنك في أرض سلام ، وفي وقت سلام ، والرحلة رحلة سلام .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾

[ سورة المائدة : 95 ]

 يجب أن تتعوَّد أن تكون مَصْدَرَ سلام ، أن تكون مصدر أمنٍ للناس ، مصدر طمأنينةٍ لهم ، الحج فيه هذه المعاني - معاني السلام - .

6 ـ الحج تدريبٌ دقيقٌ وعمليٌّ على تحمُّل المشاق :

 شيءٌ آخر يا أيها الأخوة الأكارم ؛ في الحج تدريبٌ دقيقٌ وعمليٌّ على تحمُّل المشاق ، فيه من الجهاد الأصغر معنى المشقَّة ، وفيه من الجهاد الأكبر معنى الانضباط .
 من الجهاد الأكبر ؛ جهاد النفس والهوى فيه معنى الانضباط ، فأنت في الحج مأمورٌ أن تدع المُباح ، أن تدع الاغتسال ، أن تدع تقليم الأظافر ، أن تدع التَطَيًّب ، أن تدع الشيء المباح في بلدك ، أن تدع لبس المَخيط ، أن تدع التطيِّب ، أن تدع الأشياء المباحة ، فإذا كنت مأموراً أن تدع المباح وأنت في الحج عندئذٍ تجد أن ترك المحرَّم شيءٌ هينٌ يسير . .
 إن في الحج مشقةً أيها الأخوة المؤمنون ، والمشقة تدريبٌ للنفس ، تعويدٌ لها على تحمُّل المصاعب ، تهيئةٌ للمسلم ليقتحم الأخطار .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كان من الممكن أن يكون الحج في بلدٍ جميل ، في بلدٍ يتمتع بطقسٍ معتدل ، في بلدٍ فيه الأنهار في كل مكان ، في بلدٍ فيه الجبال الخضراء ، فيه البحيرات ، وعندئذٍ يختلط الحاج بالسائح ، ربنا سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة جعل الحج . .

﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾

[ سورة إبراهيم : 37]

 لأن القصد هناك أن تقيم الصلاة ، لا أن تنظر إلى الأماكن الجميلة ، ولا أن تتلهَّى بما لذَّ وطاب ، والحاج اليوم حينما يقصِد الرفاهية ، والتمتع ، والاسترخاء ، والاستلقاء، وتناول الطعام مما لذَّ وطاب فإنه بهذا يبتعد عن المقصد الأساسي من الحج .
 تدريبٌ عملي على تحمُّل المشاق ، على تحمل الشدائد ، على مفارقة الأولاد ، على مفارقة الأهل ، على مفارقة الأوطان ، على حياة الخشونة ، على حياة الشَظَف .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا الذي ينشأ في النعيم ؛ ينام على فراشٍ وثير ، يأكل من الطعام ما لذّ ، يقبع في مكانٍ باردٍ في الصيف دافئٍ في الشتاء ، ينتقل من مركبةٍ إلى أخرى دون أن يمشي على قدميه ، يرتدي من الثياب أجملها ، هذا الذي ينشأ في النعيم هذا لا يمكن أن يتحمَّل الشدائد ، ولا يمكن أن يخوض غمار الأخطار ، إنه إنسانٌ ضعيف ، يأتي الحج ليعلِّمك تحمُّل الشدائد .

7 ـ الحج يوسع آفاق المسلم :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وللحج معانٍ كثيرة ، من هذه المعاني أنه يوسع آفاق المسلم ؛ يوسع آفاقه الثقافيَّة ، وخبراته العملية . لأن بعضهم يقول : السفر نصف العلم ، ترى بلاداً أخرى ، ترى أمماً أخرى ، ترى شعوباً أخرى ، ترى عاداتٍ ، ترى تقاليد ، ترى ألواناً من الناس لهم عقليَّاتٌ خاصَّة ، لهم علاقاتٌ خاصة ، لهم أنماطٌ سلوكيةٌ خاصة ، هذا يوسِّع آفاق المسلم ، يعرف حجمه الحقيقي ، يرى من هو أورع منه ، يرى من هو أحفظ منه لكتاب الله ، يرى من هو أخشع منه .
 ما الذي يجعل الإنسان تنمو في نفسه عقدة الكبر ؟ انعزاله عن الناس . إذا اختلط المسلم بأخيه المسلم ، ورأى من ورعه ، ومن علمه ، ومن زهده ، ومن أعماله الطيِّبة عندئذٍ يرجع إلى حجمه الطبيعي ، إن في الحج توسيعاً لآفاق المسلم ؛ آفاقه الثقافية ، وخبراته العملية عندئذٍ يعرف موقعه الصحيح من بين المسلمين .

8 ـ الحج فرصةٌ سنويةٌ ليتعرَّف المسلمون على بعضهم بعضاً :

 شيءٌ آخر : المسلمون يا أيها الأخوة حينما يجتمعون في البيت الحرام ، في مكة المكرَّمة ، في المدينة المنوَّرة ، حينما يجتمعون في عرفات جميعاً في يوم واحد ، وفي مكانٍ واحد ، حينما يجتمعون في مِنى أياماً ثلاثة ، وفي مكانٍ واحد لابدَّ من اتصالٍ بينهم ، لابدَّ من أن يتعاونوا على حلّ مشكلاتهم ، لابدَّ من أن يتَّصل العُلماء بالعلماء ، والأمراء بالأمراء ، لابدَّ من أن يعرضوا مُشكلاتهم ، لابدَّ من أن يضعوا لها حلولاً ، إن الحج فرصةٌ سنويةٌ ليتعرَّف المسلمون على بعضهم بعضاً ، ليتواصلوا ، ليَبُثَّ بعضهم هموم بعضهم إلى الآخرين .
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا أيضاً هدفٌ من أهداف الحج .

9 ـ الحج تدريبٌ عملي على الرحلة الأبدية :

 قد يسأل سائل : لماذا الثوب الأبيض ؟ ولماذا الثياب غير المَخيطة ؟ ولماذا يقف الناس جميعاً في مكانٍ واحد وكأنهم في المَحْشَر ؟ قيل : إن الحج يشبه أن يكون رحلةً قبل الأخيرة ، في الرحلة الأخيرة إلى الدار الآخرة يلفُّ الإنسان بثيابٍ بيضاء غير مخيطة -هي الأكفان - وحينما يُنْفَخُ في الصور يقوم الناس جميعاً لرب العالمين ، على صَعيدٍ واحد ، وإذا نظرت إلى عرفات ، أو إلى مِنى ، أو إلى الناس في البيت الحرام لرأيت منظراً يشبه المَحْشَر ، أناسٌ لا فرق بينهم ، لا فرق بين غنيِّهم وفقيرهم ، ولا بين أميرهم وأجيرهم ، ولا بين عظيمهم ووضيعهم ، ولا بين قويِّهم وضعيفهم ، أناسٌ جميعاً في مرتبةٍ واحدة ، وعلى صعيدٍ واحد ، يرتدون ثياباً بيضاء غير مَخيطة وكأنهم في المحشر ، إن الحج يذكرنا بالرحلة الأخيرة حيث لا عودة .
 الحج رحلةٌ قبل الأخيرة ، بعدها عودة ، ولكن الرحلة الأخيرة يجب أن نستعدَّ لها أيَّما استعداد ، إنها مفارقةٌ أبدية ، إنها خروجٌ من المنزل من دون عودة ، إنها تركٌ لهذا المحل التجاري من دون عودةٍ إليه ، إنها مفارقةٌ لهذه الزوجة من دون عودةٍ إليها ، هل وَطَّنا أنفسنا على المغادرة من دون عودة ؟ إن الحج تدريبٌ عملي على هذه الرحلة الأبدية ، التي هي رحلةٌ مصيرية ؛ إما أن يكون الإنسان في نعيمٍ مقيم ، وإما أن يكون في أسفل سافلين .

10 ـ الحج برهان عملي على محبة الله و رسوله :

 شيءٌ آخر يا أيها الأخوة المؤمنون : في الحج برهانٌ عملي ، الحَرُّ لا يحتمل ، والازدحام لا يحتمل ، والنفقات باهظة ، حينما يحجُّ الإنسان ، ففي أدائه لهذه الفريضة برهانٌ عملي على أن المؤمن يحب الله ورسوله ، ويؤثر محبته وتطبيق أمره على ماله ، ينفق ماله رخيصاً ، وعلى أهله يدعهم في بلده ، وعلى أولاده ، وعلى عمله ، وعلى دكَّانه ، وعلى متجره ، وعلى حرفته ، لمجرَّد أن يحجَّ المسلم ففي هذا الحجِّ تأكيدٌ على أنه يحب الله ورسوله ؛ أكثر من حبه لماله وقد أنفق ماله ، أكثر من حبه لأهله وقد فارق أهله ، أكثر من حبه لأولاده وقد فارقهم، أكثر من حبه لعمله وقد أغلق دُكَّانه ، هذا تأكيدٌ عملي يا أيها الأخوة المؤمنون .

11 ـ الحج تدريبٌ على عبادة الله عزَّ وجل :

 والمعنى الأخير من معاني الحج : أنك أيها الحاج حينما تنفِّذ أمراً غير مُعَلَّلٍ ، إن هذا تعويدٌ لك على تنفيذ الأوامر المُعَلَّلة ، إن كنت صاحب إرادةٍ قوية على تنفيذ أمرٍ غير مُعَلَّل ، فلأن تنفذ الأمر المعلَّل هذا من باب أولى ، إذا أمرك الله أن تكون صادقاً هذا أمرٌ معلل لمصلحتك ، من أجل مكانتك ، إذا أمرك الله أن تغضَّ بصرك عن محارم الله هذا أمرٌ معلَّل . .

﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾

[ سورة الأحزاب : 53 ]

 أما إذا أمرك ألا تقلِّم أظافرك ، ألا تحلق شعرك ، ألا تمسَّ طيباً ، ألا ترتدي مَخيطاً ، ألا تضع على رأسك عمامة ، ولا غطاء ، ولا شيءٍ من هذا القبيل ، ألا ترتدي خُفَّاً، تلبس خفاً ساتراً ، ما هذا ؟ هذه أوامر غير معلَّلة ، فيها حكمةٌ خفيَّة ، إن كنت ملزماً على أن تدع الشيء غير المعلل ، فلأن تدع الشيء المعلل من باب أولى ، إنها تدريبٌ على عبادة الله عزَّ وجل .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه النِقاط نقاطٌ فيها بعض معاني الحج ، ومن ذاق عرف، ومَن حَجَّ فعلاً ربما فتح الله عليه معاني أخرى لم ترد في هذه الخطبة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الحجُّ عبادةٌ بدنيَّةٌ و مالية و زمانية و مكانية و روحيَّة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ تعقيباً على موضوع الحج ، هذه المناسك التي يؤدِّيها الحاج ، لابدَّ من مشاعر تكون منطويةً في قلبه ، لأن هذه المناسك من دون مشاعر لا معنىً لها . المرأة حينما ترتدي الثياب السوداء حِداداً على زوجها ، معنى ذلك أن قلبها يعتصِر من الألم ، وما هذه الثياب السوداء إلا تعبيراً عن ألمها ، فهناك شيءٌ ظاهر وهناك شيءٌ خَفِيّ ، الشيء الخفيّ هو الحُزن الذي يعتصر قلبها ، والشيء الظاهر هو هذه الثياب السوداء ، هذا مثل .
 الأشياء الظاهرة لابدَّ من أن تخفي وراءها مشاعر حقيقية ، فالطواف حول البيت هذا سلوكٌ ظاهر من مناسك الحج ، لابدَّ من حالةٍ للمؤمن تُرافق طوافه حول الحج ، سَعْيُهُ بين الصفا والمروة هذا منسك ظاهر ، لابدَّ من مشاعر يجب أن يشعر بها الحاج وهو في مسعاه بين الصفا والمروة ، وقوفه بعرفة وقوفٌ ظاهر ، ودعاؤه دعاءٌ ظاهر ، ولكن لابدَّ من شعورٍ عميقٍ عميق بمعرفة الله وأنت في عرفة .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قد تلتقي مع حاجٍ حجَّ البيت الحرام ، ووقف في المِشْعَرِ الحرام ، ووقف في عرفات ، تسأله تجد أنه لا يتحدث إلا عن الأمور المادية ؛ وصلنا في الوقت الفلاني ، تأخَّرنا ، ركبنا سيارةً معينة . أيعقل أن الله سبحانه وتعالى يأمرك أن تنفق الأموال الطائلة ، وتدع أهلك ، وأموالك ، وأولادك ، ومحلك من أجل أن تثبت وجوداً مادياً في عرفات ؟ أهذه هي عبادة ؟ أهذا هو الحجُّ الذي ذكره الله في القرآن الكريم ؟
 حينما يكتفي المؤمن بالمظاهر الخارجية في الحج فقد ابتعد عن جوهر الحج ، حينما يكتفي المؤمن بالطواف وقلبه ساهٍ ولاهٍ ، حينما يجلس في عرفات يتحدَّث حديث الدنيا ؛ عن أخبار العمل ، وأخبار التجارة ، والأسعار ، وإلى آخره ، إلى أن تغيب الشمس ويعود إلى مِنى ، ليس هذا هو الحج الذي أراده الله عزَّ وجل ، الحج في الأساس مناسك تُرافقها مشاعر ، والمشاعر هي التي تهذِّب النفس .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ تفقَّهوا قبل أن تحجوا ، لابدَّ من أن تستقيم على أمر الله في بلدك ، حتى يكون الحج فُرْصَةً لأن تطلع على كنوزك أنت المخبوءة في أعماق نفسك.
 إن الحج امتحانٌ لاستقامتك في بلدك ، امتحانٌ لمعرفتك بالله عزَّ وجل ، امتحانٌ لعملك الصالح ، أما الذي يذهب ويعود كما ذهب فكأنه ما حجَّ بيت الله الحرام .
 شيءٌ آخر يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يمكن أن تدع واجباً لتؤدي نافلةً ، فمن حَجَّ حجَّ الفرض ، وعليه واجباتٌ تجاه أولاده ، أو تجاه من حَوْلَهُ ، فلأن يدع هذا الواجب ليؤدِّي نافلةً فهذا غير مقبولٍ منه ، وفي تاريخ السَلَف الصالح ، وفي تاريخ العلماء الأفاضل شواهد كثيرة تؤكِّد أنهم آثروا أداء واجباتهم تجاه أهليهم ، ومجتمعاتهم ، وأبناء دينهم على أداء العبادات النافلة ، حجة الفرض لابدَّ من أن تؤدَّى ، فمن أنكر فرضية الحج فقد كفر ، ومن لم يؤدِ الحج تهاوناً فقد فسق . أما أن يدع الإنسان ما عليه من واجباتٍ عظيمة ، من أجل أن يرفع عدد حَجِّه إلى عددٍ قياسي ، ينفق كل عامٍ أموالاً طائلة ؛ وعليه التزاماتٌ إنسانيةٌ ، وأسريةٌ ، واجتماعية تجاه من حوله فهذا مما نهى عنه العلماء .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الحجُّ عبادةٌ بدنيَّةٌ ، وعبادةٌ مالية ، وعبادةٌ زمانية ، وعبادة مكانية ، وعبادة روحيَّة ، وهو عبادة ، ومعنى أنه عبادة أي أنه مناسبةٌ للاتصال بالله .

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
 اللهمَّ ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفُكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا ، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها مَعاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خَير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور