- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
شمول العبادة الحياة كلها والدين كله ونشاطات الإنسان كلها :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ تتميماً للخطبة السابقة التي كانت حول موضوع العبادة، بل حول موضوع مجالات العبادة ، وقد بيَّنت لكم فيها أن الحياة كلها مجالٌ للعبادة ، بل إن الدين كله مجالٌ للعبادة ، بل إن الأعمال الطيبة الاجتماعية مجالٌ للعبادة ، بل إن كسب الرزق، أيّ إن المهنة والحرفة التي يكسب الإنسان منها رزقه ، يمكن أن تكون مجالاً للعبادة ، بل إن قضاء الحاجة التي أودعها الله في الإنسان ، حينما يأكل ويشرب ، وحينما يباشر ما أباح الله له هذا أيضاً مجالٌ للعبادة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ ؟! قال عليه الصلاة والسلام : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ ؟ قالوا : نعم ، قال : كذلك إذا وضعها في حلالٍ كان له الأجر ))
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ماذا بقي ؟ عملك عبادك ، زواجك عبادة ، طعامك وشرابك عبادة ، أعمالك الطيِّبة الاجتماعية عبادة ، العبادات الشعائرية من صلاةٍ ، وصيامٍ ، وحجٍ ، وزكاةٍ عبادة ، المعاملات والواجبات والحقوق عبادة ، العبادة تشمل الحياة كلها ، تشمل الدين كله ، ولا يعقل أن يقول الله عز وجل :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
وتكون العبادة مجموعة أعمالٍ تُعَدُّ على أصابع اليد ، ما دام الله سبحانه وتعالى جعل عِلَّة خلقنا العبادة فلابد مِن أن تشمل العبادة الحياة كلها ، والدين كله ، ونشاطات الإنسان كلها .
مزاولة الإنسان لنشاطاته في الحياة عبادة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من هو المسلم ؟ إنه خليفة الله في الأرض ، مهمَّته أن ينفِّذ أمره ، وأن يقيم حدوده ، وأن يُعلي كلمته ، وأن يقوم بواجب العبودية له ، عندئذٍ تصطبغ أعماله كلها بصبغةٍ ربانية ، فيكون كل ما يصدر عنه ؛ من أقوالٍ ، وأفعالٍ ، وحركات ، وسكناتٍ ، عبادةً لله رب العالمين .
أيها الأخوة الأكارم ؛ هل صحيحٌ أن مزاولة الإنسان لنشاطاته في الحياة عبادة ؟ صحيحٌ بشرط أن تكون نيَّته من هذه الحركات والسَكنات وتلك المواقف أن تكون النيَّة نيةً طيبة. أرأيتم إلى معدن الحديد ، لو وضع في آلةٍ ، وأشارت عليه بإشاراتٍ وأشكالٍ معينة ، فصار نقوداً، أرأيتم إلى الورق الخام إذا طبع فأصبح عملةً ، هناك فرقٌ كبير بين الورق الخام وبين النَقْد ، إن هذا الورق الخام بهذه الأشكال وتلك الإشارات أصبح نقداً ثميناً تُقْضَى به الحوائج .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ورد في الحديث الصحيح المتواتر :
(( إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلّ امرئ مَا نَوَى ، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أَوِ امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ ))
مرةً ثانية . . يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس الإسلام أعمالاً تقضيها في وقتٍ محدود ، ليس الإسلام أفعالاً معدودةً تعدُّ على أصابع اليد ، لا يعقل أن يكون الإسلام هكذا ، لا يعقل أن نعبد الله في الليل ونعبد الناس في النهار ، لا يعقل أن نعبد الله في المسجد ، ونعبد الدينار والدِرْهَم في الأسواق ، لا يعقل أن نعبد الله يوم الجمعة ، ونعبد سواه في بقية أيام الأسبوع. ليس هذا هو الدين ، وليس هذا هو الإسلام ، الإسلام أن تعبد الله في كل دقيقةٍ ، وفي كل ثانيةٍ ، في وقت راحتك ، وفي وقت عملك ، تعبده في عملك بإتقان عملك ، وتعبده في بيتك بأداء حقوق أهل بيتك ، وتعبده وأنت صامت بالتفكُّر في خَلْقِه ، تعبده وأنت ناطق بذِكْرِه، تعبده وأنت تنظر بالموعظة والعبرة ، لا يعقل أن يقول الله عز وجل :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
وتكونُ العبادة أعمالاً محدودةً يسيرةً تعدُّ على أصابع اليد .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ماذا ينتج من هذا المفهوم الواسع جداً للعبادة ؟ العبادة الصوم والصلاة والحج والزكاة ، والعبادة المعاملات ، أداء الحقوق والواجبات ، العبادة الأعمال الخيرية ، العبادة المهنة التي نرتزق منها ، العبادة حينما يلبي الإنسان حاجات جسده في الطريق الصحيح ، وفي القناة النظيفة ، وفي الأسلوب المشروع ، وبنيةٍ عالية عندئذٍ تصبح أعمال الإنسان كلُّها عبادةً لله رب العالمين .
اصطباغ حياة الإنسان بصبغتين :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ينتج من هذا المعنى الواسع للعبادة أن حياة الإنسان تُصْبَغ بصبغتين ، الصبغة الأولى : هي الصبغة الربَّانية ، في كل أعماله يبتغي وجه الله ، إذا تزوَّج يبتغي من زواجه وجه الله ، إذا اشترى ثوباً يرتديه يبتغي من هذا العمل وجه الله ؛ ليظهر بالمظهر اللائق ، إذا أدّب ولده يبتغي بهذا وجه الله ، إذا عمل وباع واشترى يبتغي بهذا وجه الله، يصبح الله سبحانه وتعالى مقصوده في كل حركاته وسكناته . هذه الصبغة الربانية تنعكس على الحياة اليومية بتجويد الأعمال ، فالصانع يصنع هذه الصنعة ليقدِّمها هديةً لله رب العالمين، إذاً يتقنها . والتاجر يبيع ويشتري لينفع المسلمين ، ليأخذ منهم ثمن ما أخذوا منه ، لا ليأخذ منهم أضعاف ما أخذوا منه . المزارع يزرع هذا النبات ليقتات به المسلمون ، ولا يزرع نباتاً يضر صحتهم ، ويودي بحياتهم . حينما تصبح الصبغة في حياة الإنسان ربانية تنعكس على أعماله كلها ؛ في غضبه ، في رضاه ، في عطائه ، في منعه ، في صلته ، في قطعه ، لا يكون الإنسان عابداً لله عز وجل إلا إذا أعطى لله ، ومنع لله ، ووصل لله ، وقطع لله ، وخاصم في الله ، ورضي في الله ، إذا كانت الصبغة الرَّبانية تشمل حياته كلها عندئذٍ هو يعبد الله كما يريد الله أن نعبده .
شيءٌ آخر . . إذاً من نتائج هذه الصبغة ؛ الصبغة الربانية ، تجويد الأعمال ، ينتفي الغش ، ينتفي الكذب ، ينتفي التلاعب ، ينتفي كل عمل يؤذي المسلمين ، ينتفي كل نشاطٍ يقوم على أنقاض مصالحهم ، ينتفي كل سعيٍ يقوم على إفقارهم ، يقوم على إشاعة الفساد فيما بينهم ، لأن كل عاملٍ يبتغي بعمله وجه الله ، إذا الصبغة الربانية هي الصبغة التي تتأتى من مفهوم العبادة الصحيح .
لا يعمل عملاً ، لا يقف موقفاً ، لا يتصرف تصرفاً ، لا يغضب ، لا يرضى إلا بما يرضي الله عز وجل ، ينعكس هذا إتقاناً في الأعمال كلها عندئذٍ تصلح الحياة .
هذا الذي يصنع المواد الغذائية لو أنه يبتغي الله عز وجل لأتقن هذه المواد ، ولابتعد عن كل ضررٍ يقع في صحة المسلمين ، لو أننا عبدنا الله كما يريد أن نعبده لكنا في حالٍ غير هذا الحال .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر : إذا عبدت الله وحده بهذا المفهوم الواسع عندئذٍ تتوحد وجهتك ؛ لا صراع ، لا تناقض ، لا ازدواجية ، لا موقف معلن وموقف حقيقي، هذه الازدواجية ، وهذا النفاق كله ينعدم ؛ لأنك تعبد الله وحده الذي بيده كل شيء ، والله سبحانه وتعالى ما أمرك أن تعبده وحده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلّه راجعٌ إليه ، قال تعالى :
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
أنت إذا عبدت الله وحده تتوحَّد وجهتك ، اعمل لوجهٍ واحد يكفك الوجوه كلها . من جعل همَّه إرضاء ربه كفاه الله الهموم كلها . يقول الله عز وجل في الحديث القدسي :
(( أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ))
إنك إذا عبدت الله وحده اصطبغت حياتك كلها بالصبغة الربانية ، ليس لك حظ نفس ، هذا كلام العامة : " ساعةٌ لك وساعةٌ لربك " ، ساعةٌ في القيَم المادية وساعةٌ في القيَم الروحية ، ساعةٌ في المسجد وساعة في الدنيا ، ساعةٌ لتعطي نفسك حظَّها من العبادة ، وساعةٌ لتعطي نفسك حظَّها من حظوظ الدنيا ، هذا كلامٌ غير مقبول ، هذه ازدواجية ، وقد يقع بين هذين الحَقْلَيْن تناقض ، يقع الصراع ، تقع المفارقة .
يا أيها الأخوة المؤمنون . . إذا عبدت الله وحده اصطبغت حياتك كلها بالصبغة الربانية ، وإذا عبدت الله وحده توحَّدت وجهتك وجهةً واحدة .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يجب أن تعبد الله حيثما كنت ، وأنى كنت ، وكيفما كنت، في كل أحوالك ، وفي كل أوقاتك ، وفي كل أمكنتك . .
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
تقسيم الأوامر و النواهي إلى عبادات و معاملات :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر : العلماء قسَّموا الأوامر والنواهي إلى عباداتٍ وإلى معاملات . وهذا التقسيم ترونه في كتب الفقه وهو تقسيمٌ مدرسي ، ولكن لهذا التقسيم محذور . العبادات هي الحركات والأقوال والأفعال التي جاءتنا عن الله رب العالمين ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم لنتقرب بها إلى الله عز وجل ، العبادات لا يجوز أن يضاف عليها، من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد ، كل بدعةٍ ضلالة ، الصلوات الخمس والصيام والحج والزكاة هذه عباداتٌ بعضها بدنية ، وبعضها زمانية ، وبعضها مكانية ، وبعضها مالية ، هذه العبادات تمتحن عبوديَّتنا لله عز وجل ، ربما كان حظ النفس فيها غير منظور ، هذه العبادات لا يجوز أن يضاف عليها ، ولا أن يحذف منها ، ولا أن تعدَّل ، ولا أن تبدَّل لأنها توقيفية ، ولو فتح باب التعديل فيها لألغيت ، أو لفقدت جوهرها كما هو ذلك في بعض الشرائع .
ولكن المعاملات جاء الإسلام ليقر ما هو منها صالح ، و ليمنع ما هو منها طالح ، فالمعاملات ؛ الحقوق والواجبات ، أصول البيع والشراء ، كل ما جاء به الشرع الحنيف لينظم علاقاتنا ، بل إن تنظيم هذه العلاقات من أجل أن تستقيم وجهتنا إلى رب الأرض والسموات .
شمول العبادة كيان الإنسان كله :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ موضوعٌ ثالث . الموضوع الأول : شمول العبادة للحياة كلها ، والموضوع الثاني : شمول العبادة للدين كله ، والموضوع الثالث : شمول العبادة للنشاطات كلها ، والموضوع الرابع شمول العبادة لكيان الإنسان كله .
فنحن يا أيها الأخوة نعبد الله بفكرنا ، بالتفكُّر في خلق السموات والأرض ، بتدبُّر آيات القرآن الكريم ، بالنظر والتأمل في الحوادث ؛ فهذه عبادة الفكر ، ابن عباسٍ رضي الله عنه يقول : تفكر ساعة خيرٌ من قيام ليلة ، فكر له حظه من العبادة . أبو هريرة رضي الله عنه يروي حديثاً عن رسول الله :
(( تفكر ساعةٍ خيرٌ من عبادة ستين سنة ))
فالفكر له حظٌ من العبادة .
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول : " طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة ". الإمام أبو حنيفة أيده في ذلك ، الإمام مالك كان بين يديه رجلٌ اسمه وهب ، قال وهب : كنت بين يدي مالك ، فوضعت ألواحي ، وقمت لأصلي صلاةً نافلة . فقال مالك : " مالذي قمت إليه بأفضل من الذي قمت عنه " .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يجب أن يكون حظ الفكر من العبادة وافياً . تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً ، إن الرجلين ليستوي عملهما ، وبرُّهما ، وصومهما ، وصلاتهما ، ويختلفان في العقل كالذرة جنب أحد ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العبادة تشمل كيان الإنسان كله ، فنحن نعبد الله بأفكارنا ، ونعبده بقلوبنا ، فلابد من أن نحبه ، لابد من أن نخشاه ، لابد من أن نرجو رحمته ، لابد من أن نخشى عقابه ، لابد من أن نرضى بقضائه ، لابد من أن نصبر على بلائه ، لابد من أن نذكر نعمائه ، لابد من أن نستحي منه ، لابد من أن نتوكل عليه ، لابد من أن نخلص له . قال موسى :
(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : يا موسى أحب عبادي إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء ، أحبني وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي . قال موسى : يا رب إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال الله عز وجل : ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي ))
ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني ، وذكرهم ببلائي كي يخافوني ، لابد من أن يعبد القلب ربه من خلال محبَّته له ، ومن خلال تعظيمه إياه ، ومن خلال خوفه منه ، ومن خلال إخلاصه إليه . فنحن نعبد الله بقلوبنا ، نعبده بعقولنا ، ونعبده بقلوبنا ، ويجب أن نعبده بألسنتنا ، قلبه مؤمن ولكن لسانه في الباطل ، كلامٌ فارغ ، يجب أن تذكره . .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾
يجب أن تتلو كتابه ، يجب أن تدعوه آناء الليل وأطراف النهار ، يجب أن تسبِّحه، يجب أن تنزِّهه ، يجب أن تكبِّره ، يجب أن توحِّده .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾
ذكر الله نوعان :
وقد قال العلماء : ذكر الله نوعان ، ذكر ثناءٍ وذكر دعاءٍ ، وهناك من يقول : ذِكْر الله أنواع ؛ ذكر ثناءٍ ، وذكر دعاءٍ ، وذكر دعوةٍ إليه ، وذكر أمر بالمعروف ، وذكر نَهْيٍ عن المُنكر ، وذكر بيان نعمه الكثيرة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول بعض العلماء : الذكر المحمود ما اجتمع فيه القلب واللسان معاً . قد تذكر الله والقلب ساهٍ ، وقد تذكره بقلبك واللسان صامت ، أما أكمل الأحوال فأن تذكره بلسانك وبقلبك معاً .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ويجب أن نعبد الله بأبداننا ، فقد تَكُفُّ عن الطعام والشراب، وهذا هو الصيام وهو عبادة ، وقد تعمل وتتحرَّك ، وتقف وتركع وتسجد وتتلو ، وهذه عبادة وهي الصلاة ، وقد تبذل المال الذي أنت حريصٌ عليه ، والذي هو شقيق الروح ، فبذل المال عبادة ، وقد يجتمع البدن بامتناعه ، والبدن بحركته ، وبذل المال ، كما هو في الحج ؛ فهو عبادةٌ بدنيةٌ ، ماليةٌ ، زمانيةٌ ، مكانيةٌ ، روحية . الإنسان قد يعبد الله عز وجل ببذل ما عنده ، ببذل مهجته ، والتضحية بها ؛ كما هو الحال في الجهاد ، ويعبده أيضاً بهدر مصالحه المادية القريبة كما هي الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، هذه عبادة أيضاً أيها الأخوة المؤمنون .
أفضل أنواع العبادة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوعٌ دقيقٌ أخير وهو : أي أنواع العبادة أفضل ؟ بعضهم يرى أن كل عبادةٍ رافقتها مشقةٌ هي أفضل أنواع العبادة . وهذا تفكيرٌ خاطئ ، لأن المشقَّة ليست هدفاً بذاتها . النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً واقفاً بالشمس فقال :
(( ما هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي ، قال : إن اللّه عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب ))
ليست المشقة هدفاً لذاتها ، أما إذا كانت المشقة سبيلاً وحيداً لبلوغ الخير فمرحباً بها ، حينما تكون المشقة ممراً إجبارياً واتجاهاً لابد من السير فيه ، مرحباً بها إذا كان طريقاً وحيداً ، أما أن يكون طريقان ؛ طريقٌ فيه سلامة وطريقٌ فيه مشقة ، فلنبتعد عن المشقة إلى السلامة ، لأن المشقة ليست هدفاً بذاتها ، قد تكون وسيلة ، لكن لا يجب أن تكون هدفاً لذاتها .
بعضهم يقول : أفضل أنواع العبادة ترك الدنيا . قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه إلا أن يتزود منهما معاً فإن الأولى مطيةٌ للثانية ))
قال عليه الصلاة والسلام وقد بلغه أن أناساً نذروا أن يصوموا صوم الدهر ، وأناساً نذروا ألا يتزوَّجوا ، وأناساً وأناساً ، فوقف فيهم خطيباً وقال :
(( أما بعد فإن أشدكم لله خشيةً أنا - النبي عليه الصلاة والسلام- أنام وأقوم، أصوم وأفطر ، أتزوج النساء ، آكل اللحم هذه سنتي فمن رغب عنها فليس من أمتي ))
ليس أيضاً ترك الدنيا أفضل أنواع العبادات ، بل إن أفضل أنواع العبادات ما عادت بالنفع على الناس ، خدمة الخلق أفضل أنواع العبادة ، والله لأن أمشي مع أخٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا ، الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، هذه أعلى درجات العبادة ، خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه ، تعليم الناس ، خدمة الخَلْق ، القيام بشؤونهم هذا أعلى أنواع العبادة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ أخير : قال بعض العلماء : إن أفضل أنواع العبادة أن تعبد الله في كل مناسبةٍ بما ينبغي أن تعبده به . فإذا جاءك الضيف ، فعبادة الله إكرام هذا الضيف ، وإذا دخل وقت الصلاة فأفضل أنواع العبادة أن تُصلي ، وإذا جاء العشر الأخير من رمضان فأفضل أنواع العبادة أن تعتكف ، وإذا جاءك طالب العِلْم فأفضل أنواع العبادة أن تعلِّمه، وإذا مرض من يلوذ بك فأفضل أنواع العبادة أن تمرِّضه ، هذه العبادة المُطلقة .
بينما هناك العبادة المقيدة هذا الذي يتوهم أن يعبد الله في ترك الدنيا ، هذه عبادةٌ مقيدة ، وهذا الذي يتوهَّم أن يعبد الله في المحافظة على قلبه فقط ، ويدع شؤون الناس جانباً ، هذه عبادةٌ مقيَّدة ، بل إن أرقى أنواع العبادة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام أن يعبد الله في كل وقتٍ ، بما هو أنسب الأوضاع ، فيما بين الفجر والشمس أفضل أنواع العبادة أن تصلي ، وأن تتلو كتاب الله . .
﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾
هذه المرونة في فهم العبادة تجعل من الإسلام ديناً عظيماً يتمشَّى مع كل الظروف .
أيها الأخوة الأكارم ؛ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾
واليقين هو الموت ، أيْ يجب أن تعبد الله في كل حياتك .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .