- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
رمضان شهر الإنفاق :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي :
عن أبو هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( قال الله عز وجل : يا ابن آدم ، أنفقْ أُنفِقْ عليك ))
عبدي أنفق أُنفق عليك ، أنفق مما آتيتك ، والإنفاق هنا مطلق ، أنفق مما آتيتك ، من مالٍ ، أو علمٍ ، أو جاهٍ ، أو قوةٍ ، أو خبرةٍ ، أو مهارةٍ ، أو أي شيءٍ تملكه ، والنبي عليه الصلاة والسلام يخاطب سيدنا بلالاً فيقول :
(( أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً ))
أنفق ولا تخش إقلالاً ، لا شك أن خطبة اليوم عن الإنفاق .
أيها الإخوة الأكارم ؛ استعرضت آيات الإنفاق في القرآن الكريم فوجدتها تقترب من المئة ، وآيات الصدقة تزيد عن عشرين آية ، ففي كتاب الله ما يزيد عن مئةٍ وعشرين آيةً تحض المؤمنين على الإنفاق والتصدُّق ، الإنفاق مُطْلَق ؛ قد ينفق الإنسان ماله رئاء الناس ، وقد ينفق الإنسان ماله ليصد عن سبيل الله ، ولكن الصدقة تؤكد صدق الإنسان مع ربه ، من الصدق .
فلو تساءلنا يا ترى ما الهدف الكبير من الإنفاق ؟
الله سبحانه وتعالى يجيبنا عن هذا السؤال :
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
إن شفاء النفس من أمراضها ، وتحليَتها بالكمال إنما ثمنه الإنفاق في سبيل الله ، وعلَّة ذلك أنك إذا أنفقت في سبيل الله ابيض وجهك وأقبلت عليه ، فتجلَّى عليك بنوره ، فمحا من نفسك العيوب وحلاَّك بالفضائل .
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾
إن مكانتك عند الله تدعِّمها وتثبِّتها بما تنفق من مال ، بالعكس قد يكون إنفاق المال سبباً وحيداً لتثبيت مكانتك عند الله .
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾
مركز الثقل في الآية :
﴿ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾
من يأخذ هذه الصدقة ؟
السؤال الثاني هو : أنت حينما تعطي الصدقة للفقير ، هل تعلم من يأخذها منك ؟ قد لا تصدِّق ، أنت حينما تعطي الصدقة للفقير هل تعلم من يقبضها منك ؟ الله سبحانه وتعالى ..
﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ﴾
هو الذي يأخذها منك ، إن الصدقة لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير .
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ))
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( صدقة السر تطفئ غضب الرب ))
عن أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ))
الله سبحانه وتعالى يسترضى ، ولكن الإنسان إذا كان لئيماً لا يسترضى ، إن أحسنت لم يقبل ، وإن أسأت لم يغفر ، إن رأى خيراً كتمه ، وإن رأى شراً أذاعه ، لكن الله يسترضى ، إن الحسنات يذهبن السيئات ..
عن أبو هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول يومَ القيامة :
(( يا ابنَ آدمَ مَرِضْتُ فلم تَعُدْني ، قال : يارب كَيْفَ أعُودُكَ وأنتَ ربُّ العالمين ؟ قال : أمَا علمتَ أنَّ عبدي فلاناً مَرِضَ فلم تَعُدْهُ ؟ أما علمتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لوجَدتني عنده ؟ يا ابنَ آدمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فلم تُطعمني ، قال : يا رب ، كيف أطعِمُكَ وأنتَ ربُّ العالمين ؟ قال : أمَا علمتَ أنه استطعمكَ عبدي فلان فلم تُطْعِمْهُ ، أمَا علمتَ أنَّكَ لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي ؟ يا ابنَ آدم ، استَسقيْتُكَ فلم تَسْقني ، قال : يا رب ، وكيف أسقِيكَ وأنتَ ربُّ العالمين ؟ قال : اسْتَسقَاك عبدي فلان ، فلم تَسْقِه ، أما إنَّك لو سَقَيْتَهُ وجدتَ ذلك عندي ))
من منكم يصدق أنك إذا دفعت صدقةً فكأنما تقرض الله عز وجل ؟
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
الآيات التي تتعلق بالإنفاق .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في القرآن الكريم آياتٌ عدَّة على صيغة الأمر ، والأمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب .
الآية الأولى : وينفقوا مما رزقناهم.......
﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾
الآن ما دمت على قيد الحياة فالأمور لها علاج ، ولها حلول ، والذمم تُصَفَّى ، والحقوق تسوَّى ، والأخطاء تُمْحَى ، ما دام هناك مالٌ تتقرَّب به إلى الله سبحانه وتعالى .
﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾
الآية الثانية : وأنفقوا في سبيل الله .......
أمرٌ ثاني :
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾
قال بعض المفسِّرين : إن لم تنفقوا تهلكون . من معاني هذه الآية أنكم إن لم تنفقوا تلقون بأيديكم إلى التهلكة .
و ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾
الآية الثالثة : أنفقوا من طيبات .......
أمرٌ ثالث .. و ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾
من الكسب الحلال ، من أطيب الكسب الحلال .
الآية الرابعة : ومما رزقناهم ينفقون .......
والله سبحانه وتعالى حينما وصف المتقين وصفهم بالإنفاق ، قال :
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
بل إن الإنفاق سببٌ لنيل ما تريد ..
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾
الآية الخامسة : لينفق ذو سعة من سعته .......
أمرٌ خامس :
﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾
السخاء حسن ، ولكن في الأغنياء أحسن ، والصبر حسن ، لكن في الفقراء أحسن ، والتوبة حسن ، لكن في الشباب أحسن ، والحياء حسن ، لكن في النساء أحسن ، والعدل حسن ، لكن في الأمراء أحسن ، والورع حسن ، لكن في العلماء أحسن .
يتوجب مع الإنفاق الإخلاص : خمس آيات تتحدث عن الإخلاص .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( رب درهمٍ سبق ألف درهم ))
درهمٌ تنفقه في إخلاصٍ خيرٌ من مئة ألف درهمٍ تنفقه في رياء ، لذلك الله سبحانه وتعالى في خمس آيات في كتاب الله يتحدث عن الإخلاص .
يقول :
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
حصراً :
﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ﴾
إذاً الهدف الكبير من هذا الإنفاق التقَرُّب إلى الله عز وجل .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن تعلمَ أن الله يعلم ، إن هذا المبلغ الذي دفعته أعرف الناس أم لم يعرفوا ، انتبهوا أم لم ينتبهوا ، الله وحده يعرفه ، يعلم كم أنفقت ، ولم أنفقت ، وفي سبيل مَن أنفقت ، وحجم ما أنفقت ، ومقدار التضحية فيما أنفقت ..
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾
قولٌ فصل :
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾
سجَّلت أو لم تسجل ، كتبت هذه النفقة في دفترك أم لم تكتبها ، إنها مُسجلةٌ عند الله عز وجل ، وسوف تُعرض عليك يوم القيامة ، سوف تراها كجبل أحد يُرْبِيها الله لك .
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ﴾
أما في هذه الآية :
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾
لو دللت ضالاً إلى هدفه ، هذا خير ، لو قدت أعمى إلى مبتغاه ، هذا خيرٍ ، أي خير تنفقه ، لو أنك تبسمت في وجه أخيك هذا خير ، لو أنك أطعمت هرةً ، لو أنك أنقذت نملةً ، لو أنك فعلت شيئاً لا تظنه شيئاً كبيراً ..
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ﴾
أيْ أصغر شيءٍ في الكون يُسَمَّى شيء ، و" مِن " للتبعيض .
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
أيْ لو نزعت خيطاً ، وجدت على أرض المسجد خيطٌ فأمسكته ووضعته في جيبك ، ما قيمة هذا العمل ؟ فإن الله به عليم .
﴿ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
الشيء الذي يجب أن تعلموه : أن الله سبحانه وتعالى يعوِّض عليكم كل نفقةٍ تنفقونها ، وهذا يعدُّ قانوناً في كتاب الله ، والدليل أن الصياغة صياغةٌ شرطية ، قال تعالى :
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾
هذا هو الإيمان ، حينما تنفق يجب أن تعلَمَ أن هذه الذي أنفقته سيعود عليك مبدئياً كما أنفقت ، ثم أضعافاً كثيرة .
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾
يوفَّ إليكم ..
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾
يجب أن تعلم أن الله يعلم ، ويجب أن تعلم أن الذي تنفقه في سبيل الله يوفَّ إليك ، ثم يجب أن تعلم أن جزاء الإنفاق عند الله كبير ، في الدنيا والآخرة ..
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾
لو أن في بيتك صندوقاً حديدياً ، فتحته ووضعت فيه ألف ليرة ، ثم فتحته في يومٍ آخر وضعت فيه عشرة آلاف ، بعد أيام وضعت فيه خمسين ألف ، هل تظنُّ أن هذا المال الذي تضعه في هذا الصندوق يذهب سدى ؟ في أية لحظة افتح باب الصندوق ترى المبالغ كلها لك ، فكيف إذا رأيت أضعاف أضعاف هذه المبالغ ؟!
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾
لذلك سيدنا علي قال :
(( والله ما أحسنت وما أسأت ))
أي ما أحسنت إلى أحد ، إنما أحسنت إلى نفسي ، ولا أسأت إلى أحد ، إنما أسأت إلى نفسي .
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
أي إلى سبعمئة ضعفٍ ، يضاعف الله لك النفقة ، ولكن هناك حالاتٍ ترفع من قيمة النفقة ، تزيدها أجراً ، تزيدها ثواباً ، تُعليها عند الله ، ليسوا سواءً ..
﴿ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾
الذي ينفق وهو في عسرة ، هذه النفقة لها عند الله مكانةٌ خاصة، النفقة التي تنفقها وأنت مُعْسِر ، لها عند الله حجمٌ كبير ، من نوعٍ خاص، لها ثوابٌ خاص ، لها أجرٌ خاص .
﴿ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾
يوم كان أصحاب النبي في ضيق ، وفي شدة ، وفي فقر ، نفقتهم قبل الفتح أعظم عند الله مِن نفقتهم بعد الفتح ، إذاً نستنبط من هذه الآية إذا أنفقت وأنت في عسرٍ فلهذه النفقة مكانةٌ خاصةٌ عند الله عز وجل .
شيءٌ آخر ..
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾
أيضاً الإنفاق في الضراء له عند الله أجرٌ عظيم .
شيءٌ ثالث : إذا أنفقت في الليل ، من دون أن يعلم أحد ، أو أنفقت سراً ، بحيث لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك ، فهذا مما يرفع قيمة الصدقة عند الله .
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً ﴾
مِن علامة الإيمان أيها الإخوة أنك إذا لم تجد ما تنفق ، تَقَطَّعَ قلبك ألماً ، فاضت عيناك ، تتمنى أن تُنْفق ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( نية المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته ))
نية المؤمن خيرٌ من عمله ونية الفاجر شرٌ من عمله .
﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾
يبكون ، حينما لا يجدون ما ينفقون ، هذه أحوال المؤمنين الصادقين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن تعلموا أن هناك صفاتٍ لو توافرت في المُنْفِق لأبطل الله نفقته ..
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ ﴾
لو أنهم أتبعوا ما أنفقوا مناً أو أذىً ، أبطل الله سبحانه وتعالى نفقاتهم .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾
شيءٌ آخر ..
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾
في الإنفاق كن بين الإسراف والتقتير .
شيءٌ آخر لا يقبله الله سبحانه وتعالى : الشيء الخبيث ، الذي لا تحبه لا تنفقه ..
﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾
أكلةٌ لا تعجبك ، قلت : اعطوها لفلان . هذه هدية إلى الله عز وجل ، أهكذا تهدي الله عز وجل ؟
﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾
إلا إذا كنت مضطراً ، على وشك الموت جوعاً ، عندئذٍ تأخذ هذا الطعام .
﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً ﴾
إذا شعرت أن هذه النفقة كالغرمِ ، كالضَريبة ، ليتك لم تدفعها ، الله أغنى من أن يقبلها منك ، إن رأيتها مغرماً لا تقبل منك ، يجب أن تراها مغنماً لا مغرماً ..
﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾
إذا كان في جَمْعٍ غفير ، ودعي إلى الإنفاق ، وأنفق مالاً ، وتمنَّى أن ينوِّه الناس بهذا الإنفاق ، وأن يوصف بأنه محسنٌ كبير ، فهذا رئاء الناس ..
﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ﴾
شيءٌ آخر يمنع قبول الإنفاق :
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾
إذا أنفقت وأنت كاره ، إذا أنفقت وأنت ترى الإنفاق مغرماً ، إذا أنفقت شيئاً خبيثاً ، إذاً أنفقت مُسْرفاً ، أو أنفقت مُقَتِّراً ، إذا أتبعت ما أنفقت مناً وأذىً ، فهذه النفقات غير مقبولة عند الله جملةً وتفصيلاً .
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
والذي يفسُق ، يعصي الله ، يعطي نفسه هواها ، لو أنفق ..
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ))
﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾
المسارعة إلى الإنفاق .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن نسارع إلى الإنفاق ، لا ندري ما سيكون ، لا ندري في أيّ لحظةٍ ينتهي الأجل ، إذا خرجنا من البيت أنعود إليه ؟ والله لا نعلم ، إذا وضعنا رأسنا على الوسادة ، ترى أنستيقظ ؟ والله لا نعلم ، إذا استيقظنا ، ترى أننام في هذا البيت ؟ والله لا نعلم ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
والله سبحانه وتعالى في هذا المعنى بالذات يقول :
﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
كان أحد الصالحين قد اشترى قبراً ، وفي كل خميس يضَّجع فيه ويتلو قوله تعالى :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
يخاطب نفسه ويقول لها : قومي فقد أرجعناكِ .
﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
لذلك قال عليه الصلاة والسلام ـ دققوا في هذا القول :
(( درهمٌ تنفقه في حياتك خيرٌ من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك ))
لا تكن تحت رحمة ناظر الوصيَّة ، لا تكن تحت رحمة الوَرَثة ، قد ينفقوا وقد لا ينفقوا ، قد يتهموا أباهم بأنه مجنون ، أوصى بمبلغٍ كبير للفقراء ، لا تكن تحت رحمتهم ، أنفق وأنت حيٌ تُرْزَق ..
(( درهمٌ تنفقه في حياتك خيرٌ من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك ))
هناك أشخاصٌ يمتنعون عن الإنفاق ..
﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾
العلماء قالوا : أي مبلغٍ مهما قَل يسمى عند الله كنزاً إن لم تؤدِ زكاته ، وأي مبلغٍ مهما كبر ، لا يسمى عند الله كنزاً إذا أديت زكاته .
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ﴾
هذه حُجَّة الذين لا ينفقون ، يا أخي الله رب العباد ، هل أنا موكل بالعباد ؟ لهم ربٌ يرزقهم . هذه حجة الذين لا ينفقون ..
﴿ أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾
فطلبة العلم ، إن امتنعت أن تنفق عليهم ، ينفضوا عن العِلم ، لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، حجتهم بعدم الإنفاق أن ينفض الناس عن العلم ..
﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ﴾
ماذا كانوا يخسرون لو أنفقوا ؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
حينما ينفق الإنسان نفقةً ليعيش حياةً ناعمةً ، حينما يبالغ في النفقة على شهواته ، وملذاته ، وانحطاطه ، حينما ينفق على هذا الجسد ..
﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
ينفق على شهواته بمئات الألوف ، فإذا دعي إلى صدقةٍ يبخل ، هذا الذي تنفقه في الدنيا يبقى في الدنيا ، ولن تأخذ منه شيئاً ، وهذا الذي أنفق على بستانه الشيء الكثير ، فأصابها إعصارٌ فأصبح يُقَلِّبُ كفَّيه على ما أنفق فيها .. لذلك السيدة عائشة رضي الله عنها كان النبي عليه الصلاة والسلام يوزع شاةً ، وزع معظمها ولم يبق إلا كتفها فقالت : يا رسول الله لم يبق إلا كتفها ؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال : يا عائشة كلها لكم إلا كتفها .
سيدنا عمر أمسك تفاحةً وقال : أكلتها ذهبت ، أطعمتها بقيت ، بقيت إلى الأبد ، فإذا أكلتها استهلكتها ، ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدَّقت فأبقيت ، هذه الثياب الجميلة التي كلَّفتك مبالغ طائلة ، تلبسها ، تستهلكها ، لكنك إذا أنفقت من مالك هذا الذي يبقى .
مصارف الإنفاق .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن تعلموا مصارف الإنفاق ..
﴿ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام سُئِل : مَن الفقير ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ليس الفقير الذي ترده اللقمة واللقمتان إنما الفقير الذي لا يجد حاجته .
أيْ إن كان دخله أقل من مصروفه الطبيعي ، الاعتيادي ، الضروري فهذا فقير ، قد يكون له بيتٌ يملكه ، هذا بيت مستهلك ، مهما ارتفع ثمنه هو يستهلكه ، الذي لا يجد حاجته هو الفقير ، وأما المسكين الذي لا يستطيع أن يكسب المال إطلاقاً ، ولكن إذا اجتمع الفقير والمسكين تفرَّقا ، وإذا تفرقا اجتمعا ، هكذا قال بعض العلماء . أيْ إذا ذَكَر الله الفقراء والمساكين ، صار بمعنى الفقراء معنى دقيق ، وللمساكين معنى دقيق ، أما إذا اكتفى الله بالفقراء ، فيعني بالفقراء الفقراء والمساكين ، وإذا ذكر المساكين فيعني بهم المساكين والفقراء ، أما إذا ذكرهما معاً ، فالفقراء شيء والمساكين شيءٌ آخر ، الذي لا يستطيع كسب المال إطلاقاً ؛ العجزة هم المساكين ، أما الفقراء الذي لا يجد حاجته ..
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ ﴾
عتق رقبة ..
﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾
أصحاب الديون ..
﴿ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ ﴾
وهناك قاعدة فقهية تقول : الأقربون أولى بالمعروف . ومن أروع تفسيرات هذه القاعدة : الأقربون فقراً ، والأقربون نسباً ، والأقربون إيماناً . يجب أن توازن ؛ اثنان في مرتبةٍ إيمانيةٍ واحدة ، أعط الأشد فقراً ، اثنان في مستوىً من الفقر واحد ، الأقرب إلى الإيمان ، اثنان في مستوىً إيمانيٍ واحد ، ومستوىً معاشي واحد ، أعط الأقرب إليك نسباً ، يجب أن تثبت عاملين وتحرك عاملاً .
الاعتدال بالإنفاق .
وأمثل حالات الإنفاق أن تكون معتدلاً في الإنفاق :
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ﴾
ليس منا مَن وسع الله عليه ثم قتَّر على عياله ، ومن منكم يصدق أنك إذا وضعت اللقمة في فم زوجتك ، هي لك صدقة ؟ إنفاق المال على أولادك ؛ هذا إنفاق في سبيل الله ، ولكن باعتدال ، فإذا بلغ حد الاعتدال ، خرج عن دائرة القبول ، إذا أنفقت عليهم ليتيهوا على الناس ، ويفسدوا في الأرض ، فهذه النفقة تؤثم عليها.
والإنفاق في بعض معانيه سبب قوامة الرجل :
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قصةٌ قصيرة :
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾
هذا المال حصَّلته بخبرتي ، وذكائي ، وجهدي ، وعَرَقي :
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ﴾
هذا الذي يرى بيتاً فخماً ، أو سيارةً فارهة ، فتذوب نفسه شوقاً إلى أن يمتلك مثل هذا البيت ، هذا مِنَ الذين يريدون الحياة الدنيا ..
﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت تخطانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
آيات الإنفاق :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ الآن في آيات في كتاب الله تدعوكم إلى الإنفاق :
﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾
أيْ لو أن إحدى الكليتين تعطَّلت عن العمل ، يضطر الإنسان أن يستأصلها ، ولو أن الكليتين معاً توقفتا عن العمل ، يحتاج الإنسان إلى ما يزيد عن مليون ليرة ليزرع كليةً ، احتمالات نجاحها ثلاثون في المئة.
فإذا أتم الله عليك صحتك فأنت غني ، ما لك لا تنفق ، إن بخلت عن أن تنفق فهناك مصارف للمال لا يعلمها إلا الله ، قد ينفق الإنسان على صحته ، وعلى التحاليل ، التي لا تجدي أحياناً مئات الألوف ، وقد ينتقل من بلدٍ إلى بلد ، ليعالج نفسه من دون جدوى ، وقد يجد أن مال الدنيا كله ليس بشيءٍ حينما يفقد بعض أجهزته أو أعضائه .
﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ﴾
أيْ إن بخلتم ..
﴿ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾
أيْ إن لم تنفق فهناك مَن يُنفق ، إن لم تبحث عن رضاء الله ، هناك مَن يبحث عن رضائه ، إن لم تتقرب إليه هناك مَن يتقرب إليه .
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
هذا الذي لا تنفقه هو لله ، سوف تتركه ، هذا الذي بخلت به لن يبقى لك ، سوف تتركه ، أنفقه طواعيةً قبل أن يتركك ..
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ﴾
أيْ الغني يجب أن ينفق ، أحب ثلاثاً وحبي لثلاثٍ أشد ، أحب الطائعين ، وحبي للشاب الطائع أشد ، وأحب الكُرَماء ، وحبي للفقير الكريم أشد ، وأحب المتواضعين ، وحبي للغنيّ المتواضع أشد ، وأبغض ثلاثاً وبغضي لثلاثٍ أشد ؛ أبغض العصاة ، وبغضي للشيخ العاصي أشد.
عبدي شاب شعرك ، وانحنى ظهرك ، وضعفت قوتك ، فاستحيي مني فأنا أستحي منك ، وأبغض ثلاثاً وبغضي لثلاثٍ أشد ، أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد ، وأبغض المُتَكَبِّرين ، وبغضي للفقير المتكبر أشد ، وأبغض البخلاء ، وبغضي للغني البخيل أشد .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تُهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
واقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلّغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا اللهمَّ بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا . واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا مبلَغ علمنا ، ولا تسلّط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا .
اللهم يا أكرم الأكرمين اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، مولانا رب العالمين .
اللهم إنَّا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السَلْب بعد العطاء .
اللهم بفضلك ورحمتك أعنا على الصيام والقيام ، وغضّ البصر وحفظ اللسان ، وأدخلنا الجنة بسلام ، اللهم تقبله منا يا أكرم الأكرمين .
اللهمَّ أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .