- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إذا رجع العبد العاصي إليه نادى منادٍ في السماوات والأرض : أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله خير نبيٍ اجتباه وللعالمين أرسله .
تقدم منه سيدنا مسعود وصافحه ، ولما أمسكت يدي النبي بيد مسعودٍ رضي الله عنه ، وجد يده خشنة ، فيها جراحٌ مِن عمله ، مِن كسب رزقه ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( هذه اليد لا تمسَّها النار ))
فلما صعد ابن مسعودٍ شجرةً على مرأى مِن صحابة رسول الله ، رأوا دقَّة ساقيه ، كان قصير القامة نحيلاً ، فتبسَّم بعضهم ، وعجب بعضهم الآخر ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أتعجبون مِن دقة ساقه ، والله الذي لا إله إلا هو إن ساقه يوم القيامة تزن كجبل أحد ))
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، الهُداة المهديّن ، الغُر المحجَّلين ، الذين كانوا حكماء علماء كادوا مِن فقههم أن يكونوا أنبياء ، كانوا رهبان في الليل فرساناً في النهار .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا .
باب التوبة مفتوح :
وبعدُ أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الخُطَب الماضية إلى بعض الآيات مِن سورة التوبة وها نحن أمام قوله تعالى :
﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
ما دام في الحياة بقية ، ما دام القلب ينبِض ، فباب التوبة مفتوحٌ على مِصْراعَيْه ، والله سبحانه وتعالى أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد .
ولله عزَّ وجل أفرح بتوبة أحدكم من بدويٍ ركب راحلته ليجتاز بها الصحراء ، جلس بعد حينٍ مِن الوقت إلى ظل نخلةٍ ، ليستريح مِن وعثاء السفر ، وما هي إلا برهةٌ حتى أخذته سِنَةٌ مِن النَوم ، فاستيقظ فلم يجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه ، فجعل يبكي ، ويبكي ، ويبكي يأساً مِن الحياة ، بعد ضياع الراحلة ، ثم أخذته سِنَةٌ من النوم ، فأفاق منها فرأى ناقته ، فتلعثم لسانه من شدة الفرح وقال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي .
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لَلّهُ أشَدُّ فْرَحا بِتَوْبَةِ أحَدِكم مِنْ أحَدِكم بِضَالَّتِهِ إذا وجَدَها ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ لو أن ذنوب الإنسان بلغت عنان السماء ، ثم قال : يا رب ، لقد أذنبت . يقول الله عزَّ وجل : وأنا قد سترت ، فإذا قال : يا رب ، لقد تبت إليك . يقول الله عزَّ وجل : وأنا قد قبلت . وإذا قال الراكع : يا رب ، قال الله : لبيك ، وإذا قال الساجد : يا رب ، قال الله : لبيك ، وإذا قال العاصي : يا رب ، قال الله : لبيك ثم لبيك ثم لبيك .
هذه الأحاديث أيها الإخوة هدفها الأول حثُّ النَفْس على التوبة النصوح ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾
قد هلك المسوِّفون ...
من هم المسوِّفون ؟ الذين يقولون : سنتوب غداً ، أو بعد غدٍ ، أو في نهاية الموسم ، أو في نهاية العام ، أو على مطلع العام الجديد ، أو بعد احتفال رأس السنة ، هؤلاء الذين يسوفون التوبة ؛ إنهم هالكون لاشك .
شروط التوبة :
لكن التوبة أيها الإخوة المؤمنون تحتاج إلى جهدٍ كبير :
1- إقلاعٌ عن الذنب .
2- ندمٌ عن الماضي .
3- وإقلاعٌ في الحاضر .
4- ورغبةٌ أكيدة ألا يعود إليها في المستقبل .
ندمٌ ، وإقلاعٌ ، وعزيمة ، إذا توافر الندم ، والإقلاع الفوري ، والعزيمة الصادقة على الاستمرار والثبات ، فهذا مِن علامات التوبة المقبولة ، العائد من ذنبه كالمستهزئ بربِّه .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾
قصة كعب بن مالك ورفاقه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية :
لكن هؤلاء الثلاثة مِن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين تاب الله عليهم فقال :
﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
قد يتوب الإنسان مِن ذنبه ، فيتوب الله عليه ، توبة الله على العبد بعد أن تاب من ذنبه محمولةٌ على قبول التوبة ، لكن توبة العبد على الله قبل أن يتوب مِن ذنبه محمولةٌ على التضييق عليه ، إلى أن توصله إلى التوبة .
فهؤلاء الصحابة دعوا إلى الجهاد في سبيل الله ، وكانت المعركة معركة " تبوك " ، ودعا النبي أصحابه لهذه المعركة ، واستجابوا له ، وتخلّف مِن أهل المدينة بضعٌ وثمانون رجلاً أكثرهم مِن المنافقين ، وتخلَّف أيضاً ثلاثةٌ ما عُهد عليهم النفاق .
فلما توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى تبوك ، وقفل راجعاً منها ، قال سيدنا كعب : لما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلاً مِن تبوك ، حضرني بثي ـ جاءه الألم ، جاءه الهم ، جاءت النُقطة الحرجة ، كيف يواجه النبي ، وهو صحابيٌ صادق ؟ كيف يعتذر له ؟ ماذا يقول له ؟ أيكذب عليه ، أم يصدقه ؟ إن كذب عليه وقع في غضب الله ، وإن صدقه وقع في سخط النبي عليه الصلاة والسلام ، قال: جاءني بثي ، حضرني بثي ، وطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بمَ أخرج مِن سخطه ، وصرت أستعين على ذلك بكل ذي رأيٍ مِن أهلي ، أأصدقه أم أكذب عليه ؟
فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد أظلَّ قادماً ، زاح عني الباطل ، وعرفت أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبداً ، فأجمعت صِدْقَهُ ـ أي قررت أن أصدقه وليكن ما يكن ـ فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وكان إذا جاء من سفرٍ بدأ بالمسجد فصلَّى ركعتين ، ثم جلس إلى الناس يستمع أعذارهم ، هؤلاء المتخلفين .
فلما فعل ذلك ، جاءه المخلفون من المنافقين ، فطفقوا يعتذرون إليه بكلاٍم منمقٍ ، مقنعٍ ، ويحلفون له أنهم هكذا ، وهذا الذي حدث معهم ، وهناك أسبابٌ قاهرة حالت بينهم وبين الجهاد ، وأنهم معذورون ، ويسألونه الاستغفار والمغفرة .
وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً ، فيقبل النبي عليه الصلاة والسلام منهم علانيتهم ، ويَكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلَّمت عليه صلى الله عليه وسلَّم تبسَّم تبسُّم المغضب وقال لي :
(( تعالَ ))
فجئت ، فلما سلَّمت عليه قال لي :
(( ما الذي منعك عن اللحاق بنا ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهراً ))
أي ناقةً .
فقلت : يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج مِن سخطه بعذرٍ ، لو كان الذي يسألني غيرك لاعتذرت له ، فقد أوتيت جدلاً ـ أنا عندي قوة إقناع ، لو أن الذي سألني غيرك ـ لو أني جلست عند غيرك من أهل الدنيا لخرجت من سخطه بعذرٍ ، فقد أوتيت جدلاً ، ولكني والله قد علمت لئن حدثتك اليوم بحديثٍ كذبٍ ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يُسَخِّطك علي ـ هذا هو التوحيد ، لم يرَ إلا الله ، لو كذب على النبي لسخط الله عنه وأسخط عنه النبي ـ ولئن حدثتك بصدقٍ ، تجد عليَّ فيه ـ أي تغضب علي فيه ـ إني لأرجو عقبى ذاك مِن الله عزَّ وجل ، والله ما كان لي عذر ، أبداً ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنك . لا عذر ؛ كنت فارغاًُ ، نشيطاً ، قوياً ، غنياً .
فقال عليه الصلاة والسلام بكلمةٍ جامعةٍ مانعة قال :
(( أما هذا فقد صدق ))
وبهذه الكلمة الموجزة قيَّم كلام المنافقين جميعاً .
(( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ))
فقام رجالٌ من بني سَلَمَة ، فاتبعوني ، وقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، لقد عجزت أن تعتذر إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون ؟! لقد كان كافيك مِن ذنبك استغفار النبي عليه الصلاة والسلام لك .
قال : والله ما زالوا يؤنِّبونني حتى كدت أن أرجع إلى رسول الله فأكذِّب نفسي .
عندئذٍ بوحيٍ مِن الله عزَّ وجل أمر الله عزَّ وجل نبيَّه أن يقاطع هؤلاء الثلاثة مقاطعةً تامة . لا كلام ، ولا سلام ، ولا لقاء ، ولا زيارة ، ولا تعامل ، حتى أن زوجات هؤلاء امتنعن عن كلام أزواجهن .
أية سلطةٍ يملكها إنسانٌ تصل هذه السلطة إلى بيت أحدنا ، فتمنع زوجته مِن التحدُّث إليه ، والقصة معروفة ، وكيف أن هذه الأيام الخمسين طالت وطالت ، و ..
﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
الله سبحانه وتعالى إما أن تتوب إليه ، وإما أن يضيِّق على العاصي حتى يحمله على التوبة ، تب إليه قبل أن يتوب عليك ، إن تبت إليه قَبِلَ توبتك ، فإن لم تتب تاب عليك كي تتوب ، أي ضيَّق ، إن اخترت ما يريد ، أنعم بهذا الاختيار ، وإن لم تختر ما يريد ، حملك على أن تختار ما يريد ، لأنه يحبك .
أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد .
المغزى من هذه الآية :
أنه يجب أن تتوب قبل أن يتوب الله عليه ، توبة الله على العبد بعد التوبة قبولها ، وتوبة الله على العبد بعد الذنب مضايقته حتى يتوب . ثم تاب عليهم بهذه المقاطعة ، بهذا التضييق ، بهذه الجفوة؛ بهذا البُعْد ، بهذه الأيام الطويلة ليتوبوا ، فلما تابوا ، انحلَّت كل المشكلات . أي لا حل لمشكلاتنا إلا بالصلح مع الله سبحانه وتعالى ، التوبة النصوح .
(( كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك ))
(( من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها ))
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها ))
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
يا أيها الإخوة المؤمنون :
لا ينبغي أن تقول : سأتوب مساءً .
ولا ينبغي أن تقول : سأتوب بعد نهاية هذه الخطبة .
يجب أن تعقد العزيمة مُنذ سماعك هذا الكلام على ترك كل ذنبٍ ، وكل مخالفةٍ ، وكل معصيةٍ ، وكل دخلٍ مشبوه ، وكل عملٍ لا يرضي الله عزَّ وجل ، يجب أن تُجْرِيَ جرداً ـ ونحن في أول العام ـ جرداً لكل أعمالك ، وعاداتك ، وتقاليدك ، وعلاقاتك ، وطرائق الكسب الذي تكسبه ، وطرائق الإنفاق ، يجب أن تُمَحص في كل شيء ، وأن تحمل نفسك على التوبة ، فإذا فعلت ، نادى منادٍ في السماوات والأرض : أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ..
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ إذا تاب العبد توبةً نصوحا أنسى الله حافظيه ، والملائكة ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه .
الصدقة :
ويا أيها الإخوة المؤمنون ؛ إلى طائفةٍ من الأحاديث الشريفة حول موضوعٍ واحد .
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ))
في أوج الشباب ، في أوج الحاجة إلى المال ، في أوج الصحة ، في أوج القوّة ، حيث يكون المال مادَّة الشهوات ، حيث تُحَقِّق بالمال كل شيء ، وأنت كذلك تصدق مِن مالك الحلال حتى يرضى الله عنك .
(( أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ))
(( وأفضل الصدقة جهد المُقِل وابدأ بمن تعول ))
أي خمس ليراتٍ من إنسانٍ فقير قد تسبق عند الله خمسة آلاف ليرة ، ربَّ درهمٍ سبق ألف درهم..
(( وأفضل الصدقة جهد المُقِل وابدأ بمن تعول ))
النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم وسَّع مفهوم الصدقة :
أول شيء : أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيح ، أن تصدق وأنت بحاجة إلى المال .
الشيء الثاني : جهدٌ المقل .
الشيء الثالث : حفظ اللسان .
(( أفضل الصدقة حفظ اللسان ))
من الغيبة ، من النميمة ، من السخرية ، من الفُحش ، من البذاءة ، من كل ما يغضب الله . أو نؤاخذ بما نقول ؟ هكذا سأل صحابي النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال النبي :
(( ويحك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ ))
(( لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ))
هذا المفهوم السَلْبي للنواحي غير المادية .
(( أفضل الصدقة حفظ اللسان ))
المفهوم الإيجابي :
(( أفضل الصدقة إصلاح ذات البين ))
أن توفق بين اثنين ، بين أخوين ، بين شريكين ، بين أمٍ وابنها ، بين أمٍ وابنتها ، بين صديقين ، بين جارين .
(( أفضل الصدقة إصلاح ذات البين ))
(( وأفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة ))
إنسان جائع ، محروم ، مشرَّد ، عارٍ ، أن تشبعه ، وأن تكسوه ، وأن تؤويه .
(( يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ، كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ ))
وهناك رواية :
(( لوجدتني عنده ))
وأما أرقى أنواع الصدقة :
(( أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً ثم يعلِّمه أخاه المسلم ))
حفظ اللسان صدقة ، إصلاح ذات البين صدقة ، تعليم الناس صدقة ، جهد المُقِل صدقة كبيرة ، الصدقة وأنت صحيحٌ شحيحٌ تأمل الغنى وتخشى الفقر أعلى أنواع الصدقة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ اشتقَّت " الصدقة " مِن " الصدق " ، لأنها تؤكد صدق محبتك لله عزَّ وجل ، لأنها تؤكد صدق طلبك ، صدق إخلاصك ، صدق محبتك ، صدق سعيك للآخرة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( الصدقة برهان ))
أيها الإخوة المؤمنون ... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم . اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الغر الميامين .
الطب الوقائي :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أشار النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ، إلى ما يسمى اليوم:
بالطب الوقائي .
والوقاية كما يقولون :
درهم وقايةٍ خيرٌ من قنطار علاج .
فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
لو أن أحدنا قبض كفَّه ، حجم كفه المقبوض ، كحجم قلبه تماماً ، تبدأ عضلته بالضَّخ ، في الشهر الأول وأنت في بطن أمك ، ولا تكفُّ عن الحركة إلا مع انتهاء الرحلة ..
إن الطـبيب له عـلمٌ يدلُّ به إن كان للناس في الآجال تأخيـر
حتى إذا ما انقضت أيام رحلته حار الطبيب و خانته العقاقيــر
* * *
يبدأ هذا القلب يضخ منذ الشهر الأول وأنت في رحم الأم ، إلى أن تنتهي الرحلة ، إلى أن ينهي الله هذه الرحلة ، هذا هو الموت ، لكل أجلٍ كتاب .
ابسط يدك واقبضها سبعين مرةً في الدقيقة ، فهذا معدَّل ضربات القلب في الدقيقة ، وفي أثناء بذل الجهد الكبير ، قد يصل هذا النبض إلى مئةٍ وأربعين نبضةً في الدقيقة .
القلب محرك ، ولكن هذا المحرك مَرِن ، تزداد قوة أحصنته إلى السبعين ، عند الحاجة ، وتنخفض إلى الأربعة ، عند عدم الحاجة ، قوة الأحصنة لهذا القلب متبدِّلة .
قال العلماء : القلب ينبض في اليوم مئة ألف مرة ، في الأربعة وعشرين ساعة ، وينبض في الشهر ثلاث ملايين نبضة ، وإذا وصل الإنسان إلى الثمانين ، أحصى العلماء متوسط عدد نبضات قلبه ، إلى ألفين وثمانمئة وثمانين مليون نبضة .
شيءٌ عجيب ، أن هذا القلب الصغير يضخ من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف جالون في اليوم الواحد ، كل ضخة تعادل نصف فنجان شاي ، من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف جالون من الدم ، يضخ في اليوم الواحد .
المشكلة أن كل عضوٍ من أعضاء الإنسان ، إذا أصيب بالعطب ، والعطل ، يعني أن الإنسان فقد شيء من ميزات حياته ، لكن القلب إذا أصيب بالعطب ، أو العطل ، انتهت الحياة ، فالحياة متوقفةٌ على القلب .
فلذلك كما قيل : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ، وليس من غرائب الصُدَف ، أن أطالع مقالةً علمية ، يقول فيها المؤلف ، أو كاتبها :
إن صحة القلب ، وانتظام عمله ، ودوام عمله ، متوقفٌ على كمية الطعام التي تملأُ المعدة ، ونوع هذا الطعام .
صحة القلب ، وانتظامه ، ودوامه نبضه ، متوقفٌ ، على نوع الطعام وعلى كميته ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ))
قال :
(( نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع ))
لو أردت أن تجمع الطب الوقائي ، فطلاّب الجامعة اليوم ، يدرسون كتاباً يزيد عن ألف صفحة عن الطب الوقائي ، لو جمعت هذه الصفحات الألف ، وأردت أن تضغطها في كلمات ، لما كان من كلمةٍ أبلغ :
(( نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع ))
إذا جاع الإنسان ، أفرزت هذه الخلايا كمياتٍ كبيرة من العصارات الهاضمة ، فوق أنك تحس بطعم الطعام طيباً ، وفوق أنه يسهل هضمه ، إنك إذا أكلت وأنت جائع عرفت لذة الطعام ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( نعم الإدام الجوع ))
أطيب أكلةٍ تأكلها أن تكون أنت جائع ، المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء .
(( مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ الآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتِ الآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ ))
شيءٌ آخر ، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))
حَمَّلَ بعض علماء التفسير ، وعلماء الحديث ، هذا الحديث معنىً آخر : أن للنفس قلباً ، هناك قلب الجسد ، وهناك قلب النفس ، فمن كان قلبه سليماً ؛ من كل غشٍ ، أو حسدٍ ، أو حقدٍ .
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ
يقول بعض الأطباء : إن هناك عدة أشياء تتلف القلب ، أولها : التوترات العصبية .
قال ربنا عزَّ وجل :
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
معناها الشرك يسبب أمراضاً في القلب ، والإيمان يسبب صحةً لهذا القلب .
(( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))
معنى ذلك : أن الإيمان ، وسلامة القلب ، وطهارة النفس ، والتوكل ، والتوحيد ، أحد أسباب صحة القلب .
فهذا الطبيب يقول : جمع الأطباء أمراض القلب إلى أسبابها ، فكان من أبرز أسبابها ؛ التوترات العصبية ، وليس كالشرك ، مسبباً للتوترات العصبية ، وكثرة الطعام ، وكثرة المواد الدسمة في الطعام ، وقلة الحركة .
فالنبي الكريم كان يخدم نفسه ، يرفو ثوبه ، يكنس داره ، كان في مهنة أهله .
بذل الجهد ، والتوحيد ، والاعتدال في الطعام ، والانتباه إلى نوع الطعام ، هذه الأشياء الأربعة إذا توافرت ، كانت وقايةً من العطب والعطل الذي يصيب القلب .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ما مِن قولٍ يقوله النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه إن هو إلا وحيٌ يوحى ، لا ينطق عن الهوى ، إلا متطابق أشد التطابق مع أحدث معطيات العلم ، إذا أردت صحةً ، ونشاطاً ، وقوةً ، وراحةً ، فاسلك سبيل النبي عليه الصلاة والسلام ، وحِّد ، فإن وحدت ، لا ترى زيداً ، أو عبيداً ، لا ترى إلا الله ، وأن ..
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
هذه صحة القلب ، التوكل ، والتوحيد ، التفويض ، والاستسلام ، والاستقامة ، والعمل الطيب ، وهذا القلب ، الذي لا غلَّ فيه ، ولا حسد ، ولا بغض ، ولا حقد ، ولا خداع ، ولا نِيةً سيئة ، هذا القلب يبدو صحيحاً ، لأن أحد أسباب أمراض القلب : التوترات النفسية ، وقلة الطعام.
(( مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ))
(( نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع ))
ونوعية الطعام ، كان النبي الكريم يتخير من طعامه ما كان فيه الفائدة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا جزءٌ من الطب النبوي .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا .
اللهمَّ اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، واحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا.
اللهمَّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخيا وسائر بلاد المسلمين .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين .
اللهم إنا نعوذ بمن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عناً ما نحب ، فاجعله عوناً لنا فيما تحب .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .