وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0127 - رمضان1 - الصيام .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .

الصّيام :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ جاء في الحديث القدسي أنه :

(( من لم تصم جوارحه عن محارمي فلا حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي ))

[ كنز العمال عن ابن مسعود ]

 فلا يتم الصيام إلا بطاعة الله سبحانه وتعالى ، ولا يتم الصيام إلا بضبط النَفْس ، وضبط الجوارح ؛ ضبط العين ، وضبط الأذن ، وضبط اليد ، الصيام في أصله شهرٌ ينضبط فيه المَرء إلى أقصى حد ليكون هذا الانضباط مستمراً طوال العام .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ سيدنا الحسن رضي الله عنه يقول : " إن الله عزَّ وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه - والمضمار مكان السباق - يستبقون لطاعته ، فسبق قومٌ ففازوا ، وتخلَّف قومٌ فخابوا ، فالعَجَب كل العجب للضاحك اللاعب ، في اليوم الذي فاز فيه السابقون ، وخاب فيه المُبطلون ، أما والله لو كُشِفَ الغطاء لاشتغل المُحسن بإحسانه ، والمُسيء بإساءته ، فكان سرور المقبول يشغله عن اللَّعب ، وحسرة المردود تسدّ عليه باب الضحك " . نحن في شهر المضمار ، نحن في شهر السباق ، سبق قومٌ إلى طاعته ففازوا ، وتخلَّف قومٌ فخابوا ، فالعَجَبُ كل العجب من الذي يمضي هذا الشهر في الضحك واللَّعب ، لو أنه فاز لشغله السرور عن الضحك ، ولو أنه خاب لسدَّ عليه باب الضحك .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( الصيام جُنَّة ...))

[الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 والجُنَّة هي الترس تتقي به ضربة العدو ، والصيام جُنَّة تتقي به النار ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( الصيام جنَّةٌ ما لم يخرقها بكذبٍ أو غيبة ))

[الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 إذا خُرِقَ الصيام بكذبٍ أو غيبةٍ فَقَد مبرِّره ، وفقد مسوِّغه ، وفقد وظيفته .

 

الصيام لا رياء فيه فهو بين العبد و ربه :

 والصيام كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( لا رياء فيه ))

[ من الدر المنثور في التفسير بالمأثور عن أبي هريرة ]

 أكثر العبادات يمكن أن يرائي فيها المرء ، فهو يصلي في المسجد ليراه الناس ، يحجُّ البيت ليقال عنه حاج ، يؤدّي زكاة ماله جهاراً ليثني الناس على إحسانه ، ولكن الصيام لا رياء فيه ، بينك وبين الله ، لا أحد يعرف صيامك إلا الله ، الصيام كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( لا رياء فيه ))

[ من الدر المنثور في التفسير بالمأثور عن أبي هريرة ]

 قال تعالى في الحديث القدسي :

(( هو لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ))

[ من الدر المنثور في التفسير بالمأثور عن أبي هريرة ]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( نوم الصائم عبادة ، وصمته تسبيح ، وعمله مضاعف ، ودعاؤه مستجاب ، وذنبه مغفور ))

[ من الدر المنثور عن عبد الله بن أبي أوفى ]

الصيام نصف الصبر :

 والنبيّ عليه أتمّ الصلاة والسلام يقول :

(( الصيام نصف الصبر ))

[ من الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 أيْ الصيام يشغل نصف الصبر ، والصبر يشغل نصف الإيمان ، فمن صام إيماناً بالله واحتساباً ، فقد حقَّق رُبع الإيمان .

(( وإن لكل شيءٍ باباً وباب العبادة الصوم ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء عن أبي الدرداء ]

 الصوم هنا بمعناه المُطْلَق أي الانضباط ، يصوم الفم عن الحرام ، يصوم اللسان عن الكذب ، تصوم الأذن عن سماع الغناء ، تصوم العين عن مشاهدة ما حرَّم الله ، إن لكل شيءٍ باباً وباب العبادة كلها الصيام . أنت في الدنيا ، والدنيا مدرسة ، ولصاحب المدرسة منهجٌ، فإذا سِرْتَ عليه حققت النجاح ، وأساس هذا المنهج انضباط النفس والهوى . .

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النازعات : 40-41]

 ويقول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( إن اللّه تعالى فرض صيام رمضان

[عليكم]

 وسننت لكم قيامه - أي التراويح - فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ))

 

[ من الجامع لأحكام القرآن عن عبد الرحمن بن عوف ]

رمضان أوله رحمة و وسطه مغفرة و آخره عتق من النار :

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( أول شهر رمضان رحمة ))

[ من الجامع الصغير عن ابن أبي الدنيا ]

 أيْ يحسُّ الصائم بالتجلِّيات تنحدر إلى قلبه ، يحسُّ بالسعادة :

(( ووسطه مغفرة))

 يشفى من ذنوبه ، يشفى من عيوبه ، يشفى من أمراضه النفسية .

(( وآخره عتقٌ من النار ))

[ من الجامع الصغير عن ابن أبي الدنيا ]

 أي يتمكَّن الشفاء حتى تصبح النفس مستعصيةً على المرض ، عندئذٍ يُكْتَب من أهل الجنة . ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 ومعنى يرمض الذنوب أي يشفيها ، ويداويها ، ويعالجها .

الخصال التي تفطر الصائم :

1 ـ الكذب :

 ولكن الحديث الذي وعدّتكم في الأسبوع الماضي أن أعالجه هو قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( خمس خصال يفطرن الصائم وينقضن الوضوء ؛ الكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والنظر بشهوةٍ ، واليمين الكاذبة ))

[ من الجامع الصغير عن أنس]

 فالكذب يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إياكم والكذب فإنه مع الفجور ، وهما في النار))

[ من تخريج أحاديث الإحياء عن أبي بكر ]

 الكاذب فاجر .

(( إياكم والكذب فإنه مع الفجور ، وهما في النار))

 في كل علاقاتك ، في كل حركاتك ، في كل سكناتك ، في كل أقوالك ، في بيعك وشرائك . ويقول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدِّق وأنت به كاذب ))

[ من الدر المنثور عن النواس بن سمعان ]

 النبي عليه الصلاة والسلام جعل الكذب مع الفجور ، وها هو ذا يجعل الكذب مع الخيانة ، إنك إذا حدثت إنساناً وهو لك مصدق وأنت له كاذب فأنت بهذا تخونه ، وكبرت خيانةٌ أن تكون كاذباً . واليمين الفاجرة يا أيها الباعة . .

(( اليمين الكاذبة منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة ))

[ من كنز العمال عن أبي هريرة ]

 والدعاء النبوي الشريف :

(( اللهم طهِّر قلبي من النفاق ، ولساني من الكذب . . .))

[ من الدر المنثور عن أم معبد ]

 يبدو أن الكذب يُنَجِّس اللسان ، الكذب نجسٌ فإذا كذب العبد تنجَّس فمه .

(( اللهم طهِّر قلبي من النفاق ، ولساني من الكذب . . .))

[ من الدر المنثور عن أم معبد ]

 إذاً الكذب فجورٌ وخيانةٌ ونجسٌ . ويقول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( لو أفاء الله عليَّ نعماً عدد هذه الحَصى لقسمتها بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذَّاباً ولا جباناً ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء ]

 الكذب والبخل والجبن لا يمكن أن يتصف بهذه الصفات مؤمن ، أبعد الناس عن الكذب ، وعن الخيانة ، وعن الجُبْنِ ، وعن البُخْل المؤمن .

(( إن العبد ليكذب الكذبة فيتباعد الملك عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء عن ابن عمر ]

 وعن أسماء بنت زيدٍ قالت :

(( يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيءٍ تشتهيه لا أشتهيه ، أيعد ذلك كذباً ؟ قال عليه الصلاة والسلام : إن الكذب يُكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبةً ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء عن أسماء بنت عميس ]

 هذه كُذَيْبَة إذا قلت : والله لا أشتهي الطعام ، ليس في نفسي أن آكل وأنت تشتهيه ، فهذه كُذَيْبَة تكتب عليك ، إن دعيت فكُلْ . وقالت أسماء : سمعت امرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قالت : إن لي ضرَّةً ، وإني أتكثَّر من زوجي بما لم يفعل - قدَّم لي قطعةً من الحلي ثمنها كذا وكذا وزوجها لم يفعل ، جلب لنا طعاماً صفته كذا وكذا وزوجها لم يفعل ، من أجل أن تغيظ ضرَّتها - فقالت : إن لي ضرة وإني أتكثَّر من زوجي بما لم يفعل أضرُّها بذلك ، فهل عليَّ شيءٌ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :

(( من تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور ))

[ من كشف الخفاء عن أبي هريرة ]

 حتى هذا هو عند الله كذبٌ .

 

2 ـ الغيبة :

 هذا عن الكذب فماذا عن الغيبة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره . قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه ))

[ من الجامع لأحكام القرآن عن أبي هريرة ]

 يا أيها الأخوة الصائمون ، الكذب يفطر الصائم ، والغيبة تفطر الصائم ، إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه .
 والإمام الحسن رضي الله عنه يقول : " الغيبة أن تقول ما فيه ، والبهتان أن تقول ما ليس فيه ، والإفك أن تقول ما بلغك من دون تحقُّق " .
 يا أيها الأخوة الصائمون ؛ الغيبة لا تقتصر على الكلام ، هناك تعريضٌ يعدّ عند الله غيبةً ، هناك فعلٌ يعدُّ عند الله غيبةً ، هناك إشارةٌ تُعَدُّ عند الله غيبةً ، هناك إيماءٌ يعد عند الله غيبةً ، هناك غمزٌ يعد عند الله غيبةً ، هناك همزٌ يعد عند الله غيبةً ، هناك كنايةٌ تعد عند الله غيبةً ، هناك حركةٌ تعد عند الله غيبةً ، هناك محاكاةٌ تعد عند الله غيبةً .
 التقليد غيبة ، الحركة ؛ تعرِّض بها بحركة إنسان ، الإشارة ، الكناية ؛ تعطيه لقباً لا يحبه ، كُنيةً لا يحبها هذه غيبة ، الغمز ، أن تَمُطَّ شفتيك حينما يذكر اسمه هذه غيبة ، الإيماء ، إذا دار ظهره أومأت إليه بحركة هذه غيبة ، الإشارة ، الفعل ، التعريض ، استخدام كلمات غير مباشرة ، هذا كله يدخل في باب الغيبة ، ومن اغتاب فقد أفطر بنصِّ كلام النبي عليه الصلاة والسلام . حاكت أي قلَّدت . حاكت عائشة رضي الله عنها امرأةً فقال النبي عليه الصلاة والسلام :

(( ما يسرّني أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا ))

[ من الجامع لأحكام القرآن عن السيدة عائشة ]

 وقالوا : القلم أحد اللسانين ، أيْ إنَّ الغيبة قد تكون بالقلم لا باللسان ، والإصغاء غيبة ، أن تصغي إلى الذي يغتاب فهذا نوعٌ من الغيبة ، أن تصغي إليه لتستزيد من الغيبة فهذا أشدّ أنواع الغيبة ، تحرِّضه على الغيبة ، تشجعه عليها ، وتصديق الغيبة غيبة ، إذا صدقتها فأنت مغتاب ، والساكت شريك المُغْتاب ، والذي يسكت في مجلس لا يعلِّق ، لا ينفي ، لا يدافع، يبقى ساكتاً ، هذا شريك المغتاب . ومن أذلَّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذلَّه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق . ومن ردَّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة ، من رد العرض - موطن المدح والذم في الإنسان - إذا قيل لك في مجلس عن مؤمن إنه بخيل ، ورددت عنه ، ودافعت عنه ، ردَّ الله عن عرضه يوم القيامة ، و . .

(( كل المسلم على المسلم حرام ؛ ماله ودمه وعرضه ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 و . . إياكم والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزنا . . .
 يا أيها الأخوة الصائمون ، يا من تتقرَّبون بصيامكم إلى الله سبحانه وتعالى ، إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا . لأن في الزنا ينصرف الزنا إلى إنسانين ، لكن الغيبة تفتِّت مجتمعاً بأكمله . .

(( إياكم وفساد ذات البين فإنها الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر ولكن أقول حالقة الدين ))

 الغيبة سببٌ للفساد بين الناس . و . .

(( من تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته))

[ من الدر المنثور عن البراء بن عازب ]

 تتبَّع الله عورته أي فضحه في جوف بيته ، والغيبة أيضاً تفسد الصيام ، وتفطر الصائم .

 

3 ـ النميمة :

 وأما النميمة فعن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لمَّا خلق الجنة قال لها :

(( تكلَّمي أيتها الجنة . فقالت : سعد من دخلني ، فقال الجبار : وعزتي وجلالي لا يسكن فيكِ ثمانية نفر من الناس ؛ مدمن خمرٍ ، ولا مصرٌ على الزنا ، ولا قتَّاتٌ - والقتَّات هو الذي يَنِمُّ بين اثنين - ولا ديوثٌ ، ولا شرطي ، ولا مخنث ، ولا قاطع رحمٍ ))

 هؤلاء جميعاً الجنة محرمةٌ عليهم .

(( وعزتي وجلالي لا يسكن فيكِ مدمن خمرٍ ، ولا مصرٌ على الزنا ، ولا قتَّاتٌ ، ولا ديوثٌ ، ولا شرطي ، ولا مخنث ، ولا قاطع رحمٍ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء عن ابن عمر ]

 والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( لا يدخل الجنة نمَّام ))

[ من الجامع لأحكام القرآن ]

 هذا الذي ينقل قول إنسانٍ إلى المَقول فيه ؛ قال عنك كذا وكذا ، هذا الذي تحبه ، هذا الذي تثق به ، أخوك هكذا قال عنك ، شريكك هكذا قال عنك ، ابنك هكذا قال عنك ، هذا الذي ينقُل قول إنسانٍ في المَقول فيه . وفي الجنة كما يروي النبي عليه الصلاة والسلام مجالس عامرة بالنبي ، والنبي الكريم يقول :

((إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً ، الذين يألفون ويؤلفون . وإن أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الملتمسون للبرآء العيب ))

[ الطبراني عن أبي هريرة ]

 وقديماً قيل : " من نمَّ لك نمَّ عليك " . . " والسِعاية إفسادٌ ولو كانت صدقاً " . . " واتقوا الساعي ولو كان صادقاً في قوله إنه لئيمٌ في صدقه" . هذا الذي ينقل الأخبار السيئة من أجل أن يفتت العلاقات الاجتماعية ، هذا لا صيام له ، هذا إن شاء صام وإن شاء أفطر ، هذا صيامه كصيام البهائم .

 

4 ـ النظرة بشهوة :

 والنظرة بشهوة أيضاً تفطر الصائم ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس ، فمن تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه ))

[ من الدر المنثور عن حذيفة ]

 و . .

(( من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم ))

[ ورد في الأثر ]

 و . .

(( ما من مسلمٍ ينظر إلى محاسن امرأةٍ ثم يغضُّ بصره إلا أخلف الله له عبادةً يجد حلاوتها في قلبه ))

[ من مختصر تفسير ابن كثير ]

 و . .

((كل عينٍ باكيةٍ يوم القيامة إلا عينٌ غضَّت عن محارم الله ، وعينتٌ سهرت في سبيل الله ، وعينٌ خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله ))

[ من الدر المنثور عن ابي هريرة ]

 و . .

(( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة ؛ اصدقوا إذا حَدَّثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم ))

[ من الجامع الصغير عن عبادة بن الصامت ]

 وعن جريرٍ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن نظر الفُجاءة ، قال :

(( اصرف بصرك – فوراً- ))

[ من الجامع الصغير عن جرير ]

 و . .

(( ما من صباحٍ إلا وملكان يناديان : ويلٌ للرجال من النساء ، وويلٌ للنساء من الرجال ))

[ من الدر المنثور في التفسير بالمأثور]

كل الحوادث مبدؤها من النــــظر  ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها  فعــــل الســهامِ ، بلا قوسٍ ولا وتر
* * *

5 ـ اليمين الغموس :

 والشيء الخامس الذي يفطر الصائم : " اليمين الغموس " . ويجب أن تعلموا أن اليمين الغموس لا كفارة لها ، هناك يمينٌ لغوٌ كقولك : لا والله ، أغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنها ، ولكن احفظوا أيمانكم ، كلمة : والله لا أشتهي هذا الطعام ، أو والله ، أو تالله . هذا اليمين اللغو ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾

[ سورة البقرة :225 ]

 أما اليمين المُنْعَقِدَة حينما تقْصُد اليمين ، وحينما تستخدم اليمين كأداة ردعٍ ، أو منعٍ، أو حملٍ فهذه يمين منعقدة ، هذه لها كفَّارة ، أما اليمين الغموس ؛ تقسم بالله العظيم لتقتطع حقاً ليس لك ، أعطاك إنسانٌ مبلغاً من المال ، وليس معه إيصال بهذا المبلغ ، طالبك فيه ، فقلت له : ليس عندي شيء ، أبواب المحاكم مفتَّحة ، اذهب وأقم دعوى عليّ ، استدعاك القاضي ، سأله : أمعك بيِّنة ؟ قال : لا . دعاك لحلف اليمين ، أقسمت بالله العظيم أنّه ليس لهذا الإنسان عندك شيء . هذه اليمين في القضاء اسمها (اليمين الحاسمة) هذه اليمين الغموس سُمِّيَت غموساً لأنها تغمِس صاحبها في النار ، ولا كفارة لها إلا أن تجدِّد إسلامك ، إنها تنقضُ الإسلام ، ليس الصوم فقط ، بل تنقض الصوم والإسلام . أذكِّركم بالحديث ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( اليمين الغموس تغمس صاحبها في النار ))

 و . .

(( من اقتطع حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه حرَّم الله عليه الجنَّة وأوجب عليه النار ، فقالوا : يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً ؟ قال : وإن كان قضيباً من أراك -أي عود سواك))

[ من الجامع لأحكام القرآن عن أبي أمامة ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يجب ألا يبرح هذا الحديث أذهانكم طوال شهر الصيام :

(( خمس خصال يفطرن الصائم وينقضن الوضوء ؛ الكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والنظر بشهوةٍ ، واليمين الكاذبة ))

[ من الجامع الصغير عن أنس]

قصة ذات مدلول كبير :

 سيدنا عبد الله بن رواحة له قصةٌ ذات مدلولٍ كبير . هذا الصحابي الجليل عيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام قائداً في مُؤْتَة ، عيَّن القائد الأول " زيد بن حارثة رضي الله عنه " ، فقال النبي : فإذا قُتِل فقائد الجيش جعفر بن أبي طالب ، فإذا قُتل فعبد الله بن رواحة ، وصل الجيش إلى مؤتة ، والتحم جيش الروم وجيش المُسلمين ، وكانت معركةً حامية الوطيس ، فما هي إلا دقائق حتى سقط سيدنا زيدٌ شهيداً ، حمل الراية وقاد بها الجيش فسقط شهيداً . حمل الراية سيدنا جعفر ، ما هي إلا دقائق حتى سقط شهيداً ، جاء دور القائد الثالث ، يبدو أن سيدنا عبد الله بن رواحة شعر أن الموت قريب ، تردَّد قليلاً في أخذ الراية ، ويُروى أنه قال بيتين من الشعر ، كان شاعراً ، قال :

يـا نفـس إلا تٌقْتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتِ
إن تفعلي فعلهـمــا رضـيتِ  وإن توليـــــــــــتِ فـقـد شقيتِ
* * *

 ثم أخذ الراية فقاتل بها حتى قُتِل . ننتقل الآن مِن مُؤْتَة إلى المدينة المنورة ، حيث النبي عليه الصلاة والسلام جالسٌ مع أصحابه ، يقول لهم - وقد أطلعه الله على ما كان- : " أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قُتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتِل وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم سكت النبي عليه الصلاة والسلام، سكت وقتاً من الزمن يعادل تردُّد عبد الله بن رواحة ، فقال من حوله : يا رسول الله ما فعل عبد الله ؟ قال : ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قُتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه " هبط مقامه عند الله ، مع أنه أخذ الراية ، وقاتل بها حتى قتل ، ولكن تردده اليسير جعل من مقامه دون مقامِ صاحبيه . أي هذا الكون كله قدَّمه الله لك ، تكريماً لك ، أنت ماذا فعلت ؟ لو أن إنساناً في هذه الأيام قدَّم لك بيتاً ؛ وأسعار البيوت على ما تعرفون ، وقدم لك دكاناً ، وزوجك ابنته ، ثم سألك في الطريق أن توصله إلى مكانٍ بسيارتك ، فتردَّدت قليلاً ، هذا التردد بحق هذا الإنسان جريمة ، تردَّدت قليلاً .

((وإني أرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه))

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛

﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾

[ سورة التكاثر : 8]

 سوف نسأل عن هذا الوقت الذي نُمْضيه ، عن هذه الصِحَّة التي أسبغها الله علينا ، عن هذا البيت الذي نرأسه - نديره - عن كل معصيةٍ فيه ، عن كل مخالفة ، عن كل درهمٍ كيف أنفقناه ؟ من أين اكتسبناه ؟ وفيمَ أنفقناه ؟ عن هذا العمر فيمَ أبليناه ؟ عن هذا الشباب كيف ضيّعناه ؟ عن هذا العلم ماذا عملنا به ؟
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

فوائد الصيام :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ ))

 أي يزكو به ، يطهر به ، يصحُّ به .

(( وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ ، زَادَ مُحْرِزٌ فِي حَدِيثِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصِّيَامُ نِصْفُ الصَّبْرِ ))

[ ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 أي من أجل أن تتمتع بصحةٍ وافرة ، من أجل أن تعمل أجهزتك بانتظام ، من أجل أن تتمتع بهذه الأجهزة طوال الحياة ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ ))

 رأى العلماء أن في الصوم وقايةً من أمراض كثيرة ، وفي الصوم علاجٌ لأمراضٍ كثيرة ، بعض الأمراض المستعصية ، قد يكون علاجها في الصوم ؛ فالتهاب المعدة الحاد - كما يقول الأطباء - علاجه بالصوم ، وإقياء الحمل العنيد ، علاجه بالصوم ، وبعض أنواع داء السكري ، علاجه بالصوم ، وارتفاع التوتر الشرياني ، علاجه بالصوم ، والقصور الكلوي الحابس للملح ، علاجه بالصوم ، وخُنَّاق الصدر ، علاجه بالصوم ، والالتهابات الهضمية المزمنة ، علاجها بالصوم ، وحصيات المرارة ، علاجها بالصوم ، وبعض الأمراض الجلدية ، علاجها بالصوم . الصوم علاجٌ لبعض الأمراض ، ولكنه إذا طبِّق كما شَرَعَهُ النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو وقايةٌ من أمراض كثيرة .
 ثم إن في الصيام كما يقرر الأطباء صحةً نفسية ، إن في الصيام رفعاً لمستوى النَفْس ، تعويداً لها على الحرية من كل قيدٍ ، وكلِّ عادة ، وأفضل عادة ألا يتعود الإنسان أية عادة ، هذا الذي يُدمن التدخين ، كيف هو في رمضان يقلع عنه ، إذاً في الإمكان أن يقلع عنه، وأكبر شاهدٍ على ذلك ، شهر الصيام .
 إذاً الإنسان يقوي إرادته بالصيام ، والإنسان بالصيام يُنَمِّي إخلاصه ، إن الصيام عبادة الإخلاص ، وإن الصيام أيضاً ينمي مشاعر الإنسان ، قد يكون الطعام والشراب متوافراً . في شهر الصيام يشعر الصائم أن قيمته كلها منوطةٌ بكأس ماء ، بعد آذان الظهر ، بعد العصر ، قبيل المغرب ، يذوي هذا الإنسان ، يذبل ، يشعر بانحطاط ، لا يقوى على الكلام ، لا يقوى على المناقشة ، لا يقوى على حلّ مشكلة ، إن كأس ماء ينعش هذا الإنسان ، إن لقمةً يضعها في فمه تقوي صلبه . إذاً من أجل أن تشعر أنك ضعيف ، وأنك فقير ، و أنك مفتقرٌ إلى كأس ماء ، إلى لُقَيْماتٍ يقمن صُلْبَك ، تعرف حقيقة الضعف الإنساني ، تعرف مشاعر الفقر ، تعرف أن العادة الصحيحة أن تكون أنت صاحب الإرادة ، ينمي الإرادة ، ينمي الإخلاص ، هذه الفوائد المعنوية .
 وأما الفوائد المادية ، فلها من هو مختصٌ بها ، ومن يفصِّل فيها ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( صوموا تصحوا ، وسافروا تغنموا))

[الطبراني عن أبي هريرة]

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
 اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا. اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور