وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0343 - آيات من سورة البقرة1 ( الهدى والتقى ) - الأدعية النبوية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه :

 أيها الأخوة الأكارم، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، إذاً ليس في الأرض كلها كلام يرقى إلى كلام الله عز وجل فضلاً على أن يعلو عليه، فأن نمضي وقتاً في فهم كلام الله عز وجل لهو خير ما نفعل، ربنا سبحانه وتعالى في مطلع سورة البقرة يقول بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 1-2 ]

 الريب هو الشك، متى يشك المرء في كتاب ما؟ إذا كان فيه نقص، إذا كان فيه خلل، إذا كان فيه تناقض، إذا كان فيه إغفال، إذا كان فيه مبالغة،إذا كان فيه تحريف، إذا كان فيه تزوير، إذا كانت المعالجة ناقصة، إن كانت المعالجة غير كاملة، كل هذه العيوب كلام الله سبحانه وتعالى مبرأ عنها.

الهادي هو الله سبحانه :

 إذاً ذلك الكتاب لا ريب فيه، كلام خالق الكون مطلق في صحته، في كماله، في إحكامه، في إعجازه، في خير، في نفعه.

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 1-2 ]

 نقف عند هدى وقفة قصيرة، ما تعريف الهدى؟ الهدى هو الدلالة الموصلة إلى مطلوب، لا بدّ من هاد ولا بدّ من مهدي ولا بدّ من هدف هو المطلوب، من كلمة هدى يلزم من هذه الكلمة الحدود الثلاثة لا بدّ من جهة تهدي ولا بدّ من جهة تهدى ولا بدّ من هدف يهدى إليه، فيا أيها الأخوة الأكارم من هو الهادي؟ الله سبحانه وتعالى، قل إن الهدى هدى الله، في الأرض هدى واحد، طريق مستقيم واحد، نور واحد.

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾

[ سورة البقرة: 257 ]

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾

[ سورة الأنعام: 153 ]

الباطل يتعدد و الهدى واحد :

 الباطل يتعدد، النور واحد، والصراط المستقيم واحد، والهدى واحد، وماذا بعد الحق إلا الضلال، لذلك من كلمة الهدى دلالة تقودك إلى مطلوبك، لا بدّ من جهة تقدم الهدى وهي الله سبحانه وتعالى، ولا بدّ من جهة يقدم لها الهدى وهي الإنسان، ولكن الله عز وجل الذي يهدي والإنسان الذي يهتدي لا بدّ من أن يكون أمام الإنسان مطلب كبير هنا الوقفة: ما المطلب الكبير الذي نسعى إليه؟
 يا أيها الأخوة المؤمنون، قد يتراءى للإنسان الغافل أن المال شيء ثمين يسعى إليه بكل طاقته، في خريف العمر يكتشف أن المال ليس بهذا الحجم الكبير، ليس كل شيء إنما هو شيء، أما على شفير القبر يكتشف الرجل أن المال ليس بشيء، كل شيء هو طاعة الله عز وجل، كل شيء هو العمل الصالح المقرب إليه، قد يتراءى للإنسان الغافل في فترة من حياته أن اللذائذ ما كان منها مباحاً وما كان غير مباح هي كل شيء، فإذا تقدم به العمر رآها شيئاً وليست كل شيء، فإذا وقف على شفى القبر رآها ليست بشيء وأن طاعة الله عز وجل وأن العمل الصالح هو كل شيء.

الاستسلام لأمر الله يعني أنت على هدى :

 فيا أيها الأخوة الأكارم، من أجل ألا يتبدل هذا المطلوب من أجل ألا نفاجأ أنه مطلوب موهوم، من أجل ألا نغير بعد فوات الأوان، من أجل ألا يكون المطلوب حقيقة لا بدّ من أن يكون الله عز وجل هو الذي يحدد لنا المطلوب، إذا اخترعت أنت مطلوباً، إذا رسمت أنت هدفاً، إذا رسمك لك هدف من قبل البشر فهناك خيبة أمل مرة، ما هذه خيبة الأمل؟ حينما تكتشف أن هذا المطلوب ليس بمطلوب، ولكن المطلوب هي الحياة الأبدية، فإذا سلم لمطلوب طلبه الله منك وهو خالق الكون، وإذا سلمت بالدلالة الموصلة إليه وهي القرآن، وإذا استسلمت لأمر الله ونهيه فقد كنت على هدى، يا أيها الأخوة الأكارم:

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى ﴾

[ سورة البقرة: 1-2 ]

 دلالة توصل إلى مطلوب والمطلوب هو الجنة، والمطلوب هي السعادة الأبدية، فلينظر الإنسان هل له مطلوب لا يتوافق مع مطلوب الله من الإنسان، هل له هدف لا يتناسب مع الهدف المرسوم للإنسان من قبل الله عز وجل، هل مسعى يبتعد عن المسعى الذي ينبغي أن يكون عليه.

﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 1-2 ]

المتقي إنسان اتقى أن يعذب في النار :

 جمع مفرده متقي، والمتقي اسم فاعل من اتقى، واتقى مزيد وقى، ووقى تعني أن تجعل بينك وبين الخطر حاجز، من هو المتقي؟ هو الذي اتقى أن يعذب في النار، اتقى غضب الله في الدنيا، اتقى سخطه، اتقى أن يكون عبرة للناس، اتقى أن يسعى نحو دماره، اتقى أن يتجه اتجاهاً مخلوطاً، اتقى أن يتجه إلى طريق لا يرضي الله عز وجل، مهما قلبت معاني اتقى ومتقي ومتقون فهي من وقى.
 أيها الأخوة الأكارم،من هو المتقي؟ ما تعريف المتقي؟ ربنا عز وجل في القرآن الكريم يقول:

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾

[ سورة البقرة: 2-3 ]

الإيمان بالغيب هو الإيمان بالله عن طريق العقل :

 ما هو الغيب؟ هو الذي غاب عن حواسك، لا تدركه الأبصار، آمنت بالله بعقلك لأنك لن تستطيع أن تؤمن به بحواسك،

﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾

[ سورة الأعراف: 143]

 آمن بالغيب أي آمن بالله عن طريق عقله، إن الأقدام تدل على المسير، وإن الماء يدل على الغدير، وإن البعر يدل على البعير، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا يدلان على الحكيم الخبير، لا بدّ من أن تؤمن بالغيب، لا بدّ من أن تستخدم عقلك الذي أعطاك الله إياه من أجل أن تؤمن بخالق الكون وأنت لا تراه بعينك، لا شك أنكم تعلمون أن في الإنسان حساً يقينياً، وأن في الإنسان يقيناً عقلياً، وأن في الإنسان يقيناً إخبارياً وأن في الإنسان يقيناً إشراقياً، لا بدّ من أن تستخدم عقلك لتؤمن بالله يقينياً عقلياً، فإذا آمنت بقمة الغيب وهو الله سبحانه وتعالى يجب أن تؤمن بما أخبرك به، قال الله لك إن لي ملائكة نعم يا رب لأنك آمنت بالله تحقيقاً، بعد أن آمنت بالله تحقيقاً يجب أن تؤمن بما أخبرك به تصديقاً، قال لك هؤلاء أنبيائي سمعاً وطاعة يا رب، هذه الكتب أنزلتها عليهم وهي معجزة سمعاً وطاعة يا رب، هناك يوم آخر يقف الناس فيه لرب العالمين.

الإيمان بالغيب يعني أن ما في الكون يدل على الله :

 إذا معنى الإيمان بالغيب الله سبحانه وتعالى كل ما في الكون يدل عليه أقرب شيء إليك وأبعد شيء عنك، وأصغر شيء وأكبر شيء، ذاتك تدلك على الله عز وجل، طعامك وشرابك أهلك وأولادك السماء والأرض الطول والعرض البحر والنهر الأطيار والأسماك.

وفي كل شيء له آية  تدل على أنه واحد
***

 من هم المتقون؟ الذين هذا الكتاب أنزل من أجلهم، جاء وصفهم في القرآن:

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾

[ سورة البقرة: 2-3 ]

 لذلك قال بعض أصحاب رسول الله أوتين الإيمان قبل القرآن، أمنا بخالق هذا الكون قبل أن نراه، آمن به بعقولنا، وعوام العوام يقولون الله ما انشاف بالعقل انعرف، هذا كلام عامة الناس، ألست موقناً يقيناً قطعياً أن في الأسلاك كهرباء كيف عرفتها؟ من تألق المصابيح، روحك التي بين جنبيك أنت مؤمن بها أشد الإيمان لماذا؟ لأنها تنطق وتفكر وتتحرك وتأكل وتشرب وتنظر وتسمع وتمشي وأجهزتك تعمل وقلبك ينبض، المعدة تتحرك الأمعاء تتلوى الأعصاب تنقل الحركة والإحساس، روحك هل رأيتها؟ لا والله، هل سمعتها؟ لا والله، هل شممتها؟ لا والله، هل ذقتها؟ لا والله، هل أمسكت بها؟ لا والله، وأنت مؤمن بها أشد الإيمان، لأنه لو نزعت هذه الروح لأصبحت جثة هامدة، لأصبح الإنسان جيفة تأكله الكلاب.

 

الإيمان بالغيب يعني أنك آمنت بالله خالقاً ومربياً ومسيراً :

 إذاً روحك التي بين جنبيك أنت مؤمن بها أشد الإيمان، مؤمن من آثارها وأنت لا تراها، أفلا ينبغي أن تؤمن بخالق الكون والكون كله من آثاره، خلق الإنسان، خلق الحيوان، خلق النبات، خلق الأرض والجبال، خلق البحار، خلق السماوات والأرض، خلق المجرات.

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾

[ سورة البقرة: 2-3 ]

 بما غاب عنهم من إله خالق عظيم، وبما أخبر به هذا الخالق العظيم، أخبرك عن الملائكة وعن اليوم الأخر وعن الكتب وعن الأنبياء، فصفات المتقين أنهم يستخدمون عقولهم لمعرفة خالقهم، فإذا عرفوه صدقوا بما أخبرهم به، فالغيب غيبان ما غاب عن عينك وما غاب عن عقلك، الله عز وجل من خلال عقلك تؤمن به ولكن عقلك لا يكفي أن تؤمكن بالملائكة ولا باليوم الأخر ولا بالغيب الماضي ولا بغيب المستقبل، إذاً أنت مؤمن بالغيب لأنك آمنت بالله خالقاً ومربياً ومسيراً وآمنت أيضاً بما أخبرك به.
 هل يكفي أن تؤمن بالغيب؟ هل يكفي أن تعلن أن الله موجود؟ ماذا فعلت من أجله؟ ماذا فعلت هل تحركت نحوه؟ هل أقبلت عليه؟ هل اتجهت إلى طاعته؟ هل ائتمرت بما أمر وهل انتهيت عما عنه نهى وزجر؟
 جزء كبير من الإيمان أن تؤمن بالله عز وجل، وجزء آخر أن تتصل به، أن تتجه نحوه، أن تفرّ إليه، أن تقبل عليه، أن تعقد الصلة معه، وهذا لا يكون إلا من خلال طاعته، من خلاف الائتمار بما أمر والانتهاء عما عنه نهى وزجر، إنك بالصلاة تؤكد عبوديتك لله عز وجل، إنك بالصلاة تؤكد أنك عبد مفتقر إلى هذا الإله العظيم، هل يكفي أن تؤمن بالله وأن تتصل به والجنة لها ثمن.

 

الرزق كل ما تنتفع به :

 يا أيها الأخوة المؤمنون، إياكم أن يذهب بكم الظن إلى أن الرزق هو المال، لا والله، ولا أعراض التجارة، الرزق كل ما انتفع به، فعلمك رزق وإنفاق العلم تعليم الجاهل، وحلمك رزق وإنفاقه على الأحمق إنفاق لهذا الرزق، وجاهك رزق وأن تنصر به الضعيف إنفاق من هذا الرزق، ومالك رزق، أي شيء ينتفع به رزق، لا بدّ من أن تؤتى علماً فإنفاق العلم تعليم الناس، أو رزقت مالاً أو رزقت جاهاً أو قوة بقوتك تعين الضعيف، وبجاهك تنصر المظلوم وبعلمك تعلم الجاهل وبحلمك تنفقه على الأحمق.
 يا أيها الأخوة الأكارم، أرأيتم إلى الإيمان، من هم المتقون؟ الذين يؤمنون بالغيب، اسأل نفسك هذا السؤال: هل جلست مرة لتؤمن بالغيب؟ هل اقتطعت من وقتك المليء بالمشاغل وقتاً لتؤمن فيه بالغيب؟ هل نظرت فيما خلق لك؟ هل نظرت إلى طعامك كما أمرك الله عز وجل؟ هل نظرت مما خلقت، هل نظرت إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، هل نظرت في الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والمنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما ضحاها ونفس وما سواها؟ هل نظرت في الفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر؟ هذا هو الإيمان بالغيب، يجب أن تؤمن بالله من خلال التأمل بالسماوات والأرض، يجب أن تؤمن بما أخبرك به الله عز وجل، هل تلوت القرآن؟ هل صدقت بما جاء به القرآن من إيمان بالملائكة وإيمان بالأنبياء جميعاً وبالكتب المنزلة وبالقضاء والقدر وباليوم الآخر؟ هذه أركان الإيمان.
 هل تؤدي الصلاة أداء شكلياً؟ هل انقلبت الصلاة عندك إلى عادات وإلى طقوس تؤديها ولا تدري ماذا تؤدي أم أنها أمر إلهي عظيم تنقلك الصلاة من الظلمات إلى النور، من الطيش إلى الحلم من الجهل إلى الرؤيا.

إنفاق المال ذخر للإنسان عند الله :

 أيها الأخوة الأكارم، مما رزقناهم ينفقون، ماذا أنفقت؟ هذا المال الذي خصك الله به أتستهلكه استهلاكاً أم تستثمره استثماراً، أتستهلك وقت فراغك فيما لا يرضي الله، أتنفق مالك على متعك وعلى حواسك أم تنفقه ليكون لك ذخراً عند الله، مطلع سورة البقرة على إيجازه فيه كل شيء.

﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 1-2 ]

 فيه الدلالة الموصلة إلى المطلوب.

﴿ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 2-3 ]

على الإنسان أن يعرف الآمر قبل أن يعرف الأمر :

 لن تستطيع أن تقيم الصلاة إلا إذا استقمت على أمر الله، ولن تستطيع أن تستقيم على أمر الله إلا إذا عرفت الله، يجب أن تعرف الآمر قبل أن تعرف الأمر، إذا عرفت الله عظم أمره عندك، وإن لم تعرفه كان أمره عندك شيئاً ثانوياً في حياتك.

﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 4-5 ]

الفلاح هو الفوز بالجنة :

 البداية هي الهدى والنهاية هي الفلاح، ولماذا اختار ربنا كلمة الفلاح؟ إنها من فلاحة الأرض، الأرض إذا شققتها بمحراثك وألقيت فيها بذرة ماذا تنتج لك؟ كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، يعني إذا أنفقت من مالك شيئاً فلكي تأخذ مقابله أضعافاً مضاعفة، إذا أنفقت من جاهك شيء فلكي يرفعك الله في أعلى عليين، إذا أنفقت من قوتك كي تزداد قوة، إذا أنفقت من جاهك كي تزداد رفعة، إذا أنفقت من مالك كي تزداد غنى.

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 5 ]

 المفلحون نهاية المطاف، والهداية بدايته، فأنت بين هداية وبين تحقيق غاية.

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 5 ]

الهدى يرفع الإنسان ويعلي قدره :

 أيها الأخوة الأكارم، يستفاد من كلمة على هدىً من ربهم، هذه على تفيد الاستعلاء، تقول فلان على الفرس، وفلان على الجبل أو على التل، كلمة على في اصلها تفيد العلو، تفيد الاستعلاء، تفيد الإشراف فلماذا قال الله عز وجل:

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾

[ سورة البقرة: 5 ]

 الهدى أيها الأخ المؤمن في خدمتك، الهدى من أجل أن يرفعك لا من أجل أن يقيدك، إذا أمرك الله بأن تفعل كذا ونهاك عن أن تفعل كذا التزامك بأمر الله ونهيه لا لتقييد حريتك بل لرفعة مكانتك، فإذا اهتديت فأنت على الهدى، والمهتدي فوق الهدى، وفاعل الخير كما قال عليه الصلاة والسلام خير من الخير، وفاعل الشر شرّ من الشر، ألم تقرأ قوله تعالى:

﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾

[ سورة البقرة: 81 ]

 أيها الأخوة، المعصية قيد، المعصية قفص أنت في داخله، المعصية قيد في يديك وقدميك لا تستطيع منها فكاكاً، المعصية أسر، فلذلك ربنا عز وجل يقول:

﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة سبأ: 24 ]

 لماذا استخدم الله فيه في موضوع الضلال، واستخدم على في موضوع الهدى؟ لأن الهدى جاء ليرفعك، جاء ليعلي قدرك، جاء ليجعلك مكرماً، جاء ليجعلك الإنسان الأول، جاء ليجعلك المخلوق المفضل، جاء ليسعدك إلى الأبد، حينما تلتزم بأمر الله وتنتهي عما نهاك عنه الله فأنت تسعى إلى رفعتك وإلى سعادتك فأنت على هدى كأنك فوق الهدى، بمعنى أنك القصد من الهدى وأن الهدى في خدمتك وليس عبأ عليك، ليس أنت في خدمتك هو في خدمتك، إنك إذا اهتديت حققت الهدف الكبير الذي من أجله قد خلقت.

الضلال يقيد الإنسان و يقوده إلى جهنم :

 وأما الضلال قل:

﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة سبأ: 24 ]

 الضلال قيد.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾

[ سورة المدثر: 38 ]

﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾

[ سورة البقرة: 81 ]

 الضلال قيد، الضلال يجعلك أسيراً، يبدو لك أن الضال يفعل ما يشاء ويأكل ما يشاء ويلتقي مع من يشاء ويذهب إلى حيث ما يشاء، ليس قيد يقيده ولا شرع يحد من حركته، يبدو لك بشكل ظاهر وغير جلي أن الضال طليق والمؤمن أسير، الحقيقة هي العكس، المؤمن حينما ائتمر بما أمر الله وانتهى عما عنه نهى رفعه الله عز وجل في الدنيا والآخرة، والكافر حينما أعرض عن الدين وأدار له ظهره وفعل ما يشتهي وقع أسير شهواته، وقع أسير معاصيه، أصبح رهن مخالفاته، أصبح مقيداً سيق إلى جهنم سوقاً، فهذه الآية:

﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة سبأ: 24 ]

حقيقة وجودنا هي طاعة الله عز وجل :

 المهتدي فوق الهدى، والهدى في خدمته، والهدى ليرفعه، والهدى ليكرمه، والهدى ليسعده، وأنت المقصود من الهدى، وليس الهدى عبء عليك بل هو في خدمتك، فأنت عليه والمهتدي أقدس عند الله من الهدى.
 إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ّ، خلقت لك السماوات والأرض فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.
 يا أيها الأخوة الأكارم، يجب أن نعي حقيقة وجودنا، يجب أن نعي سرّ وجودنا، يجب أن نعي الهدف من وجودنا، يجب أن نحقق ذواتنا كما أراد الله عز وجل، يجب أن نسعى إلى المطلوب الحقيقي الذي رسمه الله لنا، لا أن نخترع نحن مطلوباً.. نخترع نحن هدفاً أو يخترع لنا هدف نسهى إليه، فإذا جاء وقت العذاب أو شفير القبر شعرنا بهد إذ لا ينفع الندم أن هذا ليس هو المطلوب وأن المطلوب شيء آخر هو طاعة الله عز وجل، لذلك قال الله تعالى:

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب: 71]

المتقي إنسان يتقي عذاب الله في الدنيا والآخرة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون، إذا فتحتم كتاب الله عز وجل وإذا بدأتم بسورة البقرة وسأسعى إن شاء الله من حين إلى آخر أن آخذ من بعض هذه السورة بعض آياتها لتكون موضوعاً لخطبة الجمعة فلا شيء يعلو على كتاب الله، ولا شيء يقترب منه، إنه غنى ما بعده عناً، ولا دونه فقر، إنه كلام خالق الكون، المتقي الذي يتقي عذاب الله في الدنيا ويتقي عذابه في الآخرة، يتقي غضبه ويتقي سخطه، كيف تتقي شيئاً لست مؤمناً به؟ إذاً لا بدّ من أن تؤمن به قبل أن تتقي عذابه، إذاً من معاني كلمة المتقي أنك آمنت به ثم أطعته، لا تزيد معنى التقوى عن هذا المعنى، آمنت بوجوده ثم التزمت أمره، إذاً:

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 2-3]

 آمنت بالله خالقاً، آمنت بالله رباً حكيماً إيمان تصديق، تحققت من وجوده عن طريق عقلك واستسلمت له عن طريق وجدانك، اتصلت به وهذه حقيقة الصلاة، أنفقت مما رزقك من علمك من جاهك من قوتك من مالك من خبرتك من وقتك من عضلاتك، أنفقت ما وهبك الله إياه تقرباً إليه، قال:

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾

[ سورة البقرة: 5]

 الهدى رفعهم وأعلى شأنهم، وجعلهم في أعلى عليين، جعلهم مخلوقات من الطراز الأول.

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 5]

 إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفه لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الأخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي.
 أيها الأخوة الأكارم، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

 

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحري الحلال أهمّ ما في الدين :

 أيها الأخوة الأكارم، من الأدعية النبوية الجامعة المانعة التي كانت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها هي دعاءه الشريف: اللهم ارزقنا طيباً واستعملنا صالحاً، وكأن هذا الدعاء الشريف جمع خيري الدنيا والآخرة، فإذا كان الرزق حلالاً فالطريق إلى الله سالكاً وإقبالك على الله موفور، والحجاب بينك وبين الله غير موجود إذا كان الرزق حلالاً، ودعائك مستجاب، وصلاتك تنعقد بسهولة لأن المعاصي حجب، تشتد كثافة على حجم المعصية، كلما كبرت المعصية كان الحجاب الذي بينك وبين الله كثيفاً، فإذا ذهبت المعاصي واقلع الإنسان عنها بالتوبة فقد هتك الحجاب بينه وبين الله عز وجل فصار الإقبال على الله سهلاً، والاتصال به ميسوراً، والحجاب مرفوعاً.
 فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: اللهم ارزقني طيباً، فتحري الحلال هو أهم ما في الدين قبل صلاتك وصيامك وحجك وزكاتك، قبل مظاهر الدين التعبدية، قبل أن تقيم الشعائر التعبدية عليك أن تقيم الشعائر التعاملية، يجب أن تتحرى الرزق هل فيه شبهة؟ هل فيه كذب؟ هل فيه تدليس؟ هل فيه احتكار؟ هل فيه مظنة ربا؟ يجب أن تتحرى الحلال ليكون الدعاء مستجاباً، ليكون الحجاب مهتوكاً، ليكون الاتصال سهلاً، ليكون الطريق إلى الله سالكاً.

مقام الإنسان عند ربه بقدر طاعته :

 واستعملني صالحاً، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك، ما وظيفتك أنت في الحياة؟ من أين تكسب رزقك؟ من خدمة المسلمين أم من إيقاع الأذى بهم، هل تعطي أم تأخذ؟ هل تيث الأمن أم الرعب؟ هل تبني مجدك على أنقاض الآخرين؟ هل تبني أمنك على خوفهم؟ هل تبني غناك على فقرهم؟ هل تبني حياتك على موتهم؟ ما الدور الذي تلعبه في الدنيا؟ ما الوظيفة التي تشغلها؟ ما المهنة التي تمتهنها؟ ما الحرفة التي تحترفها؟ هل أنت مفتاح للخير مغلاق للشر؟ أم أنك أداة لتأديب الناس، هناك أناس يجري الله الشر على أيديهم، إذا أراد الله أن يؤدب إنساناً سلط عليه إنساناً، وهناك أناس لأن الله يحبهم يجري الخير على أيديهم، مفاتيح للخير مغاليق للشر، إذا أحب الله عيداً جعل حوائج الناس إليه، إذا أحب الله عبداً جعله حياته عطاءاً بعطاء، جعل حياته رمزاُ لبث العطاء للآخرين.

جوهر الدين الاستقامة على أمر الله :

 فيا أيها الأخوة الأكارم، دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على إيجازه الشديد فيه كل شيء، فيه خير الدنيا والآخرة، اللهم ارزقني طيباً واستعملني صالحاً، جوهر الدين في دكانك، في معملك، في مكتبك، في الطريق، في المحاككة بالدرهم والدينار، في السفر وفي الإقامة، في التجارة، في الصناعة، جوهر الدين في الحرف، في المهن، في الزواج، في الطلاق، في الاحتفالات، الدين يظهر في هذه المناسبات، وأما الصلاة من شاء صام ومن شاء صلى، ماذا تكلفك الصلاة؟ لا تكلفك شيئاً إذا لم ير فقه الطاعة انقلبت إلى طقوس لا معنى لها، لذلك ما الذي ينفر الناس من الإسلام؟ أن المسلمين يصلون ويصومون ولكن عملهم ليس كما يرضي الله عز وجل، لذلك يزداد الناس بعداً عد دين الله، كما دخل الناس في دين الله أفواجاً يقول عليه الصلاة والسلام: يأتي على أمتي زمان يخرج الناس من الإسلام أفواجاً، ما الذي يخرجهم من دين الله أفواجاً؟ سوء معاملة المسلمين، يصلي ويكذب، يصلي ويأخذ ما ليس له، يصلي ويدلس، يصلي ويحتال، يصلي ويؤذي، يصلي ولا يرحم.
 لذلك هذا الذي يصلي وعمله لا يرضي الله له عمل في المجتمع مناقض للداعية إلى الله، يمكن أن نسميه منفر من الله عز وجل، فأنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك.
 عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.

تحميل النص

إخفاء الصور