وضع داكن
29-03-2024
Logo
الحلقة : 1 - القدوة الحسنة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

المذيع :
  في البداية سؤالنا الأول للأستاذ محمد راتب النابلسي ، هل لكم أن تحدثوننا عن القدوة بشكل عام و معناها ؟

القدوة الحسنة :

الدكتور راتب :
 أيها الأخوة المشاهدون ؛ الإسلام لا يتألق ، ولا يدخل الناس فيه أفواجاً ؛ إلا بالتطبيق العملي ، والتطبيق العملي قيمة أساسية من قيم الإسلام ، فالناس لا يتعلمون بآذانهم، بل بعيونهم ، ولغة العمل أبلغ من لغة القول ، وترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام .
 ويقول عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، هو قدوتنا وأسوتنا ، يقول:

(( والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر ، واعتكافه في مسجدي هذا ))

[ الجامع الصغير عن ابن عباس]

 ويقول بعض المفكرين : إن مثلاً واحداً أنفع للناس من عشرات المجلدات ، لأن الأحياء لا يصدقون إلا المثل الحي ، لهذا كان النبي الواحد بجهاده ، وخلقه ، أنفع للبشرية من آلاف الكتاب الذين ملؤوا بطون المجلدات بالفضائل ، والحكم .
 إن معظم الناس يستطيعون الحديث عن المثل العليا ، ولكنهم لا يعيشونها ، لهذا كانت حياة الأنبياء إعجازاً ، وكانت النتائج الذين خلفوها معجزةً أيضاً .
 ملك عمان التقى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال كلمة بالغة الدقة قال : والله ما دلني على هذا النبي الأمي إلا أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له ، وأنه يغِلب فلا يبطر ، ويُغلب فلا يضجر ، ويفي بالعهد ، وينجز الوعد .
 القدوة الحسنة والمثل الأعلى والأسوة الصالحة لها تأثير سحري في الناس الذين دعوناهم إلى الإسلام ، لأن الناس- كما قلت قبل قليل - يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، ويصدقون المثل الحي ، ولا يصدقون الفكرة المجردة ، بل إنهم في أشدّ الحاجة إلى مسلم يعيش بينهم ، تنطق أفعاله ، وحركاته ، وسكناته بحقائق الإسلام ، كم مسلم يمتلئ عقله معلومات غزيرة حول الإسلام ، ولكن بينه وبين الإسلام مسافات شاسعة .
المذيع :
 فضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي هل لكم أن تقدموا لنا نماذج للقدوة الصالحة من حياة السلف الصالح في عصور الإسلام المتألقة ؟

 

نماذج للقدوة الصالحة من حياة السلف الصالح في عصور الإسلام المتألقة :

الدكتور راتب :
 سيدنا عمر بن الخطاب عملاق الإسلام ، كان قدوة صالحة لأتباعه في عصره ، فكان إذا أراد إنفاذ أمر ، جمع أهله وخاصته وقال : " إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه، إلا ضاعفت له العقوبة لمكانته مني " فصارت القرابة من عمر مصيبة .
 دققوا أيها الأخوة ؛ صارت القرابة من عمر بن الخطاب مصيبة .! لأن الخطأ من أقاربه يستوجب عقوبة مضاعفة .
 مرةً رأى هذا الخليفة الراشد إبلاً سمينة ، قال : لمن هذه الإبل ؟ قالوا : هي لابنك عبد الله ، قال : ائتوني به ، فلما جيء بعبد الله بن عمر ، رأى أباه غاضباً ‍‍‍‍‍، قال : لمن هذه الإبل يا بني ؟ قال : هي لي ، اشتريتها بمالي ، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن ، فماذا صنعت؟ فقال رضي الله عنه قولته الشهيرة : ويقول الناس ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين ، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين ، وهكذا تسمن إبلك يا بن أمير المؤمنين ، هل عرفت لماذا هي سمينة ؟ بع هذه الإبل ، وخذ رأس مالك ، ورد الباقي لبيت مال المسلمين .
 في أواخر عهده بالخلافة ، جاءته رسل سيدنا سعد بن أبي وقاص تبشره بالنصر ، ويحملوا هؤلاء الغنائم ، وضعت الغنائم فكانت أكواماً عظيمة ، فإذا من بينها تاج كسرى ، وسواراه ، وثيابه ، فما كان من سيدنا عمر رضي الله عنه إلا أن تعجب وقال : " إن الذين أدوا هذا لأمناء "، كان إلى جانبه سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : " يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانتهم ؟ لقد عففت فعفوا ولو وقعت لوقعوا " وفي رواية : " ولو ركعت لركعوا ".
 وضع له طعام طيب ، وقدم له سنام الجمل ، فبكى بكاءً شديداً وقال : بئس الخليفة أنا ، إذا أكلت أطيبها ، وأكل الناس كراديسها .
 جاءته هدية من أذربيجان ، من واليه على أذربيجان ، فلما فتحها وجدها طعاماً نفيساً ، قال : يا هذا أيأكل عندكم عامة المسلمين من هذا الطعام ؟ قال : لا ، إنه طعام الخاصة ، فكتب إلى واليه على أذربيجان ، كيف يعنيك شأن المسلمين إن لم تأكل مما يأكلون ؟ وقال : حرام على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين ، ثم أمر بالهدية فوزعت على فقراء المسلمين في المسجد النبوي الشريف .
 هذا الخليفة الراشد جاءه مرة جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة مسلماً ، رحبّ به أشدّ الترحيب ، وأنزله منزلته ، كما أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان الموسم موسم حج ، ففيما هو يطوف حول الكعبة ، جاء بدوي من فزاره ، فداس طرف إزاره ، فسقط رداؤه عن كتفه - أي انزاح قليلاً - والبدوي فعل هذا خطأً ، ولم يقصد أن يسيء لهذا الملك ، ما كان من هذا الملك الغساني إلا أن التفت إلى هذا الفزاري وضربه على أنفه ضربةً هشمت أنفه ، ماذا يفعل هذا الفزاري ؟ ذهب إلى عمر بن الخطاب يشكو ملك الغساسنة ، سيدنا عمر استدعى ملك الغساسنة جبلة بن الأيهم ، وقال : يا بن أيهم جاءني هذا الصباح مشهد يبعث في النفس المرارة، بدوي من فزارة ، بجراحٍ تتألم ، مقلة غارت ، وأنف قد تهشم ، فسألناه فألقى فادح الوزر عليك ، بيديك ، أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح ؟ قال جبلة : لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً ، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي . قال سيدنا عمر : أي حق يا بن أيهم ؟ عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم ، عند غيري جبهة بالإثم بالباطل تلطم ، نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها ، أقمنا فوقها صرحاً جديدا وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ، يا بن أيهم أرض الفتى ، لابد من إرضائه ، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشمن الآن أنفك وتنال ما فعلته كفك . قال : كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟ هو سوقة وأنا عرش وتاج كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً ؟ قال : دعك من هذا وجنبني اللجاجة ، أنتما ندان في ظل الرسالة . قال : كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني . فقال عمر : عنق المرتد بالسيف تحز ، عالم نبنيه ، كل صرح فيه بشبا السيف يداوى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى .
 سيدنا عمر جاءته رسالة من بعض الولاة ، قال يا أمير المؤمنين : إن أناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم ، لست أقدر على استخراجه منهم ، إلا أن أمسهم بالعذاب ، فإن أذنت لي فعلت .
 فقال عمر : يا سبحان الله ! أتستأذنني في تعذيب بشر ؟ وهل أنا لك حصن من عذاب الله ؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله ؟ أقم عليهم البينة ، فإن قامت فخذهم بالبينة ، فإن لم تقم فادعُهم بالإقرار ، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم ، فإن لم يقروا ، فادعُهم لحلف اليمين ، فإن حلفوا فأطلق سراحهم ، وايم الله لأن يلقوا الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ أيها الأخوة المشاهدون ؛ سيدنا عمر رضي الله عنه خلّده التاريخ ، وله ذكر طيب في كل بقاع العالم ، لماذا ؟ لأنه طبق في سلوكه ما قاله بلسانه ، في عام المجاعة شحت المواد ، وقلّت اللحوم ، فقرقر بطنه ، فخاطب بطنه وقال : " قرقر أيها البطن أو لا تقرقر ، فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين ".
 هذه بعض النماذج من هذا الخليفة الراشد ، الذي ملأ الأرض بعدله ورحمته .

 

خاتمة و توديع :

المذيع :
 شكراً للأستاذ راتب النابلسي على هذه الباقة الجميلة ، من القصص الخالدة حول القدوة ، قدوة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .

 

تحميل النص

إخفاء الصور