وضع داكن
18-04-2024
Logo
الندوة : 15 - الذوق - الأدبيات في التعامل مع الآخرين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة:

الأستاذ جمال:
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب رب العالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
 أيها الأخوة والأحبة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم أطيب تحية في هذا الصباح الطيب، صباح يوم الجمعة، حيث نتابع مع حضراتكم حلقة جديدة ومتجددة من لقائنا الأسبوعي: "فيه هدى للناس".
اليوم نتابع حديثنا من خلال كلام الله عز وجل وهدي نبيه الأعظم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مع فضيلة الشيخ الدكتور النابلسي، دكتور السلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور راتب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أستاذ جمال جزاك الله خيراً.
الأستاذ جمال:
 دكتور، دخلنا كضيوف إلى بيت أحد الأصدقاء، أو الأخوة، أو دخل إلى بيوتنا، ما هي موضوعات الذوق في هذا المجال؟

من أدبيات الزيارة أن تكون قصيرة:

الدكتور راتب:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
 أستاذ جمال، جزاك الله خيراً، أحياناً ينزل الإنسان عند أقاربه ضيفاً، ويمكث يوماً، أو يومين، أو ثلاثة، ويكرمه أهل البيت، وتتفنن الزوجة في الضيافة، وتجتهد لترضي ربها أولاً ثم لترضي زوجها لاستضافة أهله وإكرامهم، وتكون الطامة الكبرى حينما يمكث الضيف أسبوعاً أو أكثر، يصبح هذا الضيف ثقيلاً، قال: وإذا علم الثقيل أنه ثقيل فليس بثقيل، وهذه المصيبة، أن الثقيل لا يعلم أنه ثقيل، لكن من أدبيات الزيارة أن تكون قصيرة.
فحينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، نزل في منزل أبي أيوب الأنصاري لحين بناء المسجد النبوي، وبناء بيته، وكان بيت أبي أيوب يتكون من طابقين، قال:

((لما نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: بأبي أنت وأمي إني أكره أن أكون فوقك وتكون أسفل مني))

[أخرجه الحاكم عن أبي أيوب الأنصاري]

 هل تعرف أستاذ جمال لماذا فعل أبو أيوب ذلك؟ ولماذا كان هذا الاختيار؟ حتى لا تكون قدما أبي أيوب فوق النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً، قمة في الذوق، قمة في الأدب، قمة في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لو نظرنا إلى أدب النبي الكريم، وذوقه الرفيع، فقال النبي الكريم:

 

((إني أرفق بي أن أكون في السفلى لما يغشانا من الناس))

 

[أخرجه الحاكم عن أبي أيوب الأنصاري]

أصر على أن يكون في السفلي.
الأستاذ جمال:
 وهذا دكتور راتب تعليم لنا، أن يحترم بعضنا بعض، أن يدلل بعضنا بعضاً، أن يحترم صغيرنا كبيرنا، وهناك حديث شريف في هذا المجال:

((لَيْسَ مِنا مَن لم يُوِّقرْ كَبيرنا، ويعطف على صغيرَنا، ويعرف لعالمنا حقه))

[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك]

الذوقُ مفتاح القلوب وقلة الذوق تصد الناس عن سبيل الله: الدكتور راتب:
 أستاذ جمال، لو دخلنا في الدعوة إلى الله، لها آداب كثيرة، أحياناً يتعود الناس على أشياء لم يرد لها أصل في السنة، وحينما نريد أن نقوّمها يكون التقويم بشكل خاطئ، بشكل منفر، وقف شيخ كبير في الصلاة، وكان بجواره شاب على وجهه علامات التدين وبعدما انتهى الإمام، أعجب الشيخ الكبير بصلاة هذا الشاب، لعله أعجبه الخشوع في الصلاة، مدّ الشيخ يده لهذا الشاب داعياً له أن يرزقه حجةً أو عمرةً ليصلي في بيت الله الحرام، فقال له مختصراً: حرماً، نظر الشاب إلى الشيخ بتجهمٍ وغلظةٍ قائلاً: هذا لم يرد في السنة، تقول لي: حرماً، فقال الرجل الكبير: وهل ورد في السنة قلة الذوق؟
 أحياناً بالدعوة هناك غلظة، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بغير منكر، لكن غياب الفهم، غياب حسن التعامل مع الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، يظل هذا الشيخ على موقفه بسبب هذا الشاب، أيها الشاب افهم دينك، تلطف مع الناس، تأدب في التعامل معهم، فالذوقُ مفتاح القلوب، وقلة الذوق تصد الناس عن سبيل الله.
 قصة رائعة أستاذ جمال، طفلان صغيران هما الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم وجد الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً كبيراً لا يحسن الوضوء، ماذا فعلا؟ انظر أيها المستمع إلى فعلهما، وتعلم الذوق في الدعوة إلى الله، ذهبا إليه فقال الحسن: يا سيدي، أخي هذا يدّعي أنه يتوضأ أحسن مني، وأنا أقسمُ أني أتوضأ كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم، فاحكم بيننا، وانظر إلى وضوئه ووضوئي، ثم قل أينا يتوضأ كما توضأ النبي الكريم؟ فدخل الحسن وتوضأ وأسبغ الوضوء وأحسنه، ودخل الحسن وتوضأ مثل أخيه، فقال الرجل: والله أني لا أجيد الوضوء كما تتوضآن، ما رأيك أستاذ جمال في هذا التصرف الأديب الذوقي الذكي من هذين الطفلين الصغيرين؟.
لذلك قال أحد العلماء لشاب قليل الذوق: يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك.
الأستاذ جمال:
 دكتور، لي ملاحظة هنا، ولطالما نتحدث عن الذوق، هناك بعض الآباء، أو بعض الأمهات يخاطبن، أو يخاطب الأب الولد الصغير أو اليافع، هناك أدبيات التخاطب أمام الناس، مهما فعل يوبخه، تحس أن هذه الشخصية لهذا الطفل أو اليافع تبنى بناء فيه أخطاء.

الأبوة علم و فهم و ذوق و أخلاق :

الدكتور راتب:
 أقسم لك بالله، أن الأب الذي يعنف ابنه أمام أخواته البنات، أو أمام أخوته، أو أمام أصدقائه، والله يرتكب بحق ابنه جريمة، يعقده، أنت غبي، هذه الكلمة خطيرة جداً قد تصاحبه خمسين عاماً، أنت غبي، فالبطولة أن ترفع معنوياته، أن تتلطف معه، الأبوة علم، الأبوة فهم، ذوق، أخلاق، الآن الذوق في الكلام مع الناس، هناك لطائف كثيرة، أول هذه الأشياء التي يقع فيها البعض هو المقاطعة، وعدم سماع آراء الآخرين، قال: إذا أردت أن يكرهك الناس فعليك بمقاطعتهم وعدم إعطائهم الفرصة ليعبروا عن وجهة نظرهم، وكلما عرضوا فكرة فقل لهم: إنكم على خطأ، وعندي أفضل منها، دائماً أوجد عندهم إحساساً بأنهم لا يفهمون، دائماً عليك بتوبيخهم، إذا فعلت هذا كرهك الناس جميعاً.

الموقف التالي يظهر تلطف النبي الكريم مع الآخرين و لين جانبه:

 لنستمع إلى موقف كريم من مواقف النبي، جاء عقبة بن ربيعة ممثلاً لقريش، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي، اسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل بعضها، فقال صلى الهو عليه وسلم: قل يا أبا الوليد إني أستمع إليك فإن الاستماع من الذوق الرفيع، قل يا أبا الوليد إنني أستمع إليك، فقال: يا بن أخي إن كنت تريدُ لما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به ملكاً، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رؤية لا تراه ولا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، إنها اختيارات عند النبي سخيفة، مال، ملكٌ، مداواةٌ من مرض، ولكن انظر أستاذ جمال إلى ذوق وأدب النبي الكريم، بدأ بكنيته يا أبا الوليد، من باب التلطف، ولين الجانب، ثم قال له: قل يا أبا الوليد أنا أستمع إليك، فلم يقاطعه النبي، وبعد أن أنهى كلامه قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد، قال: نعم، والقصة لها تتمة، يعرفها المستمعون، قال له:

((والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه))

[ السيرة النبوية]

الأستاذ جمال:
 هذا موقف، أي هذا خط أحمر، هو جاملهم دبلوماسياً.

 

عدم إيذاء شعور الآخرين أياً كان الفعل:

 

الدكتور راتب:
استمع لم يقاطعهم، وتأدب معهم، يا أبا الوليد، إني استمع إليك، أفرغت يا أبا الوليد؟
 الآن طالب جامعي بريطاني، أسلم بسبب الذوق الإسلامي، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما نكون ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن هذا يؤذيه، وفي رواية يحزنه، كان هناك صديقان مسلمان من بلدنا الطيب من دمشق، يدرسان في بريطانيا، ويتحدثان العربية والإنكليزية، فكانا يتحدثان العربية طالما كانا بمفرديهما، وحين يأتي هذا الصديق الإنكليزي يتحولان إلى اللغة الإنكليزية، حدث هذا عدة مرات، تعجب هذا الصديق من ذلك أيما تعجب، أراد أن يستفسر ويعرف السبب، فقالا له: نهانا نبينا الكريم أن نتحدث سوياً بلغةٍ لا يفهمها الثالث، فما كان منه إلا أن قال باللغة الإنكليزية ما معناه: إن نبيكم هذا حضاري جداًً، أسلم هذا الصديق بعد ستة أشهر، أول شيء وقع في قلبه هو ذوق الإسلام في التعامل مع الآخرين.
 الحقيقة تريد أن نخرج من خلق الذوق بشيء هامٍ جداً، ألا وهو عدم إيذاء شعور الآخرين أياً كان الفعل، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنكر فعلاً من إنسان لم يذكر اسمه صراحةً بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، والشخص أمامه وتأذى منه، يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، حتى لا يؤذيه.
الأستاذ جمال:
 دكتور، فعلاً موضوع الذوق في الدين الإسلامي الحنيف موضوع فعلاً فيه الجمالية الخاصة، فيه أدبيات، فيه حيثيات لهذا الموضوع، موضوع نسميه الحوار أو الندوة بين اثنين.

على الإنسان أن يلتزم أدب الحوار عند مناقشته مع الآخرين:

الدكتور راتب:
 هناك أدب الحوار، الحقيقة الإنسان عندما يحاور قد تزل قدمه إلى السباب، أي أقل كلمات السباب أنه يقول للآخر أنت لا تفهم، يمكن أن تحاور الآخر ساعات طويلة بالأدلة، الدليل بالدليل، الكلمة بالكلمة، الفكرة بالفكرة، الشاهد بالشاهد، السبب بالسبب، أما تتهم الآخر أنه لا يفهم، وأنك أكثر منه فهماً، فهذا من قلة الذوق.
أستاذ جمال، أذكر لك آيتين كريمتين تذهلان:

﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[سورة سبأ الآية:24]

 أنت حينما تحاور الآخر ينبغي أن تشعره أنك في مستواه، وأنه في مستواك، وأن الحق كرة إما عندي أو عندك،

﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ﴾

 ، الأول مؤمن،نبيٌ كريم، صاحب الوحي، صاحب الرسالة، سيد الخلق، حبيب الحق، والثاني كافر، قال:

﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

 أبلغ من ذلك:

 

﴿ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

 

[سورة سبأ]

﴿ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ﴾

 دعوته إلى الله لعلكم تظنوها جريمة،

﴿ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا ﴾

 لا تسألوا،

﴿ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

 أي أنت حينما تحاور، يجب أن تكون متواضعاً، ألا تستخدم كلمات قاسية، ألا تستخدم السباب والشتم، ألا تقول لفلان لا يفهم، هو أحمق، هذا ليس حواراً، هذا سباب وشتائم، وأنا أقول لك: لو كان أي حوار ملتزم بقواعد الأدب ما نتج عن أي حوار عداوة أبداً، لكن الحوار ينقلب أحياناً إلى سباب وشتائم، فكل إنسان يدافع عن كرامته عندئذٍ.
الأستاذ جمال:
 وهناك موضوع هام سيدي، موضوع التحضير لهذا الحوار، أي تجهيز المادة بشكل جيد بالحجة، أي قبل أن تدخل نقاشاً حاداً عليك أن تحضر بشكل ممتاز وجيد حتى تكون معك الحجة والبرهان.

 

السباب والشتائم دليل فقد الحجة:

 

الدكتور راتب:
أنا قناعتي، الإنسان حينما يفقد الحجة يسب ويشتم، السباب والشتائم دليل فقد الحجة، مادام معك حجة قوية فعليك ألا تشتم.
 أذكر أن إنساناً ردّ على جهة فهمت حديثاً شريفاً فهماً خاطئاً، لكنه زلت قدمه وقال: شيخكم مخرف، فأُتهم هذه الإنسان بالكفر والزندقة، من كلمتين قالهما بالحوار.
أنت السؤال أجب عنه، الدليل ائتِ بدليل آخر، بفكرة ائتِ بفكرة أخرى، ولا تفعل ذلك.
الأستاذ جمال:
 وعندما نصل إلى طريق مسدود في هذا الحوار، أي لم يعد عندي شيء أقدمه يمكن أن أعتذر، أو أعترف بعدم إمكانية متابعة هذا الحديث، أتحول دكتور مع حضرتك إلى موضوع من يحاضر، من يدعى إلى إلقاء كلمة في مناسبة، من يخطب الجمعة أمام جمهرة من الناس، أي موضوع له أهمية خاصة.

آداب الحوار مع الآخرين:

الدكتور راتب:
 ألا يطيل، ألا يرفع صوته بشكل مزعج، ألا يكون كلامه عاماً، ليس له معان دقيقة، هذا الكلام ممل، والناس ينصرفون عن الخطاب الديني إن لم يكن ناجحاً، لكن نحن مادام نتكلم عن أدب الحوار فهناك لقطة مهمة جداً، هي الذوق مع أصحاب المراكز العليا، أمثال الملوك والأمراء والعلماء.
 فمن السنة أن تنزل الناس منازلهم، إلا في حالة الحرب موضوع آخر، ونتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم الذوق في التعامل مع أصحاب المناصب، بعث النبي صلى الله عليه وسلم برسالة لكسرى ملك الفرس، الذي يسجد للنار، فيقول له: من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، الذي يعبد النار هل هو عند النبي عظيم؟ يبعث برسالة أخرى إلى ملك الروم، يقول له: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، هذا أدب التعامل مع أصحاب المناصب، إنسان دكتور، إنسان عميد، إنسان لواء، تكلم خاطبه كما يخاطبه من حوله، وهذا من الأدب أيضاً.

الذوق والأدب مع أصحاب الفضل على الإنسان:

 الآن عندنا موضوع آخر هو الذوق والأدب مع أصحاب الفضل عليك، كل من كان له فضل عليك كان له حقٌ عليك، أول هذه الحقوق أن تتأدب معه، وانظر أستاذ جمال إلى أدب العباس، فمن المعروف أن العباس أكبر سناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سُئل العباس أنت أكبر أم رسول الله؟ فقال العباس كلمات رقيقة رائعة، كلها أدب وذوق وحب، قال: هو أكبر مني لكنني ولدت قبله، حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبو بكر، انتظره الأنصار على مشارف المدينة، ولم يكن الأنصار يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم رأوا راحلتين قادمتين، ورأوا سيدنا الصديق هو المتقدم لأنه كان خائفاً على النبي، فكان يحميه، فظن الأنصار أن الرسول الكريم هو أبو بكر، فأسرعوا نحو أبي بكر وأخذوا فطامها، تصور الموقف الحرج صاحب الرسالة ظنوه الصديق، والصديق ظنوه رسول الله، كيف تصرف الصديق؟ لو قال أنا رسول الله مشكلة، لو قال الصديق: أنا لست رسول الله مشكلة ثانية، ماذا فعل؟ خلع رداءه وأظل به رأس النبي، فكانت لمحة طيبة، وذوقاً رفيعاً فعرف الأنصار أنه ليس برسول الله، وأسرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقاً إنه أبو بكر الصديق.
الأستاذ جمال:
 فعلاً متابعة لطيفة في حيثيات ودقائق الأمور في مجال الذوق، هناك من يدّعي أنه يحبك، يدعي احترامك، يدعي محبتك، يريد أن ينفعك فيؤذيك، هذا نسميه الحب الأحمق، كيف نتحدث عن موضوع الذوق في هذا المجال؟.

المبالغة في الذوق من قلة الذوق:

الدكتور راتب:
أولاً: الإمام الشافعي من أعلام الأمة، لكن له أستاذاً، كان يقول: لا أستطيع أن أقلب الورقة بصوت مرتفع بين يدي أستاذي كي لا أزعجه، ولا أستطيع أن أشرب الماء إجلالاً له.
 نحتاج نحن إلى هذه الأدبيات في التعامل مع من له علاقة علمية بأستاذه، لكن كما تفضلت الحب الأحمق أنا سميته: المبالغة في الذوق من قلة الذوق، كيف؟ لا تتكلف الذوق، اجعله طبيعياً، فمثلاً عند عيادتك للمريض، قلنا: لا تطيل إلا إذا أذن لك، أو كان يأنس بك، أحياناً المريض عنده كآبة، وغير مرتاح، هو رأى في زيارتك، وأنت عندك تعليمات من النبي أن تبقى عنده فواق ناقة – أي حلب ناقة - قال لك: رجاءً اجلس أنا مستأنس بك، فإذا أنت آثرت الذوق على طلب المريض فهذا من قلة الذوق، مادام مستأنساً بك، وأنت عندك وقت فينبغي أن تلبي طلبه.
لذلك يقال: إن المبالغة في الذوق من قلة الذوق، كلام الإمام الشافعي، بل إن الوقار في البستان من قلة المروءة، معك أصدقاؤك، النزهة مناسبة للمرح، اللهو البريء، والضحك، هو بالنزهة آخذ وقاراً، وهيمنة، وهيبة، قال: الوقار في البستان من قلة الذوق.
سبحان الله! أحياناً أخوانك يضحكون من قضية، فينبغي أن تضحك معهم، فكان عليه الصلاة والسلام يضحك مما يضحك منه أصحابه، كان معهم في أفراحهم، في أحزانهم، جلس مع تاجر يسأله عن الأسعار، أما دين فقط، لا يسمح بكلمة أخرى فهذا من قلة الذوق.
مرة إنسان جلس عند ضيف، قال له: اجلس هنا، فجلس بمكان آخر من باب الأدب، يبدو أن صاحب البيت عنده مكان مناسب للضيف، لا يكشف أهل البيت، المكان الآخر أمامه نافذة، قد تمر زوجته أمامه، لذلك مرة ثانية: لا تجلس في بيت من تزوره إلا في المكان الذي يدعوك إليه، لا تجلس في مكان تجلس وتصر عليه إلا أن يؤذن لك به، قد يكون المكان الذي اخترته يشرف على البيت كله، وزوجته محجبة كيف تتحرك في أرجاء البيت؟ فهذا من آداب زيارة الصديق.

آداب زيارة الصديق:

 لا يجلس أحدكم على تكرمة الرجل إلا بإذنه، تجلس وراء المكتب، تقلب بالأوراق، هذا من قلة الذوق، تفتح دفتر أخيك هذا من قلة الذوق، الآن تمسك هاتفه الجوال من اتصل به؟ من بعث له برسائل؟ هذا من قلة الذوق، هذه ينبغي أن تكون من الخصوصيات.
شيء آخر: من ذوقيات عيادة المريض، كما قلنا قبل قليل أن تكون الزيارة خفيفة، إلا إذا كان المريض كما قلنا مستأنساً بك، وسعيداً بهذه الزيارة.
 يروى أن أبا حنيفة رحمة الله تعالى، كان مريضاً وعاده أربعة رجال، فكانت زيارتهم ثقيلة وطويلة، وأطالوا الجلوس، الإمام مريض، فضاق بهم، وتعب تعباً شديداً، ومع ذلك هم لم يتحركوا، فماذا فعل الإمام؟ قال لهم: قوموا فقد شفاني الله عز وجل.
الأستاذ جمال:
دكتور راتب النابلسي، كيف تتحدث عن الذوق في آداب الإنسان للصدقة، مساعدة الفقير، مساعدة اليتيم، جبر الخاطر، هل هناك آلية معينة؟

من الذوق دفع الزكاة والصدقة بشكل سري إلا إن كانت متوجهة إلى مشروع خيري:

الدكتور راتب:
 لا تقل له: هذه زكاة مالي، هذه هدية، سمِّها هدية، ادفعها في مناسبة المدارس، مناسبة مجيء رمضان، ادفعها بشكل عيني أحياناً، تعلم علماً يقينياً أن هذا الفقير يحتاج إلى ثياب لأولاده بمناسبة نجاحهم فرضاً ائتِ له بهذه الثياب كهدية، أما أن تقول له: أنت فقير وهذا زكاة مالي، فهذا من قلة الذوق.
الأستاذ جمال:
ومن الذوق دفع الزكاة والصدقة بشكل سري.
الدكتور راتب:
 سري طبعاً، بالمناسبة أستاذ جمال، هناك توجيه نبوي وتوجيه قرآني، أنه يمكن أن تدفع علناً أو سراً، أنا أرى إن كانت هذه الصدقة متوجهة إلى مشروع بناء مدرسة، بناء مستشفى، بناء مجمع، بناء مستوصف، فينبغي أن تكون علانية، كي يتشجع الناس، أما إذا توجهت الصدقة إلى إنسان فينبغي أن تكون سراً.

الأدب والذوق مع الجيران:

 وقد ننتقل إلى الأدب والذوق مع الجيران، ورد في بعض الآثار النبوية:

(( أتدرون ما حق الجار؟ إن استعان بك أعنته، وإن استنصرتك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خيرٌ هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات شيعته، وإن مرض عدته، ولا تستطل عليه في البناء فتحجب عليه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهدِ له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بك ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذيه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ))

 أستاذ جمال، سامحني بهذا الكلام، أحياناً هناك إنسان موسع غني، يعطي ابنه في الحضانة خمسمئة ليرة، ويعطيه أطعمة غالية جداً بالمئات، أنا أرى من الذوق الإسلامي أن تعطي ابنك شيئاً معقولاً يستطيعه كل الأطفال، أما أن تجعل طفلاً صغيراً يكيد لأصدقائه بالخمسمئة ليرة أو بالطعام النفيس جداً، أطعمه هذا الطعام في البيت، أعطه هذا المبلغ في البيت ليضعه في خزانته، أما أن تعطيه في المدرسة خمسمئة ليرة هذا والله من قلة الذوق، من قلة الذوق التي لا تحتمل، هذا طفل صغير، هذا فيما يتعلق مع الجيران.
أنا أذكر أنه كان هناك شاب يسكن أمام بيت أبي حنيفة النعمان، وكان يشرب الخمر، ويغني طوال الليل وهو سكران، وأغنيته المشهورة:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا لِيَوم كريهةٍ وطِعانِ خلس
* * *
 يقوم أبو حنيفة لصلاة الفجر، هذا الجار المغني شارب الخمر يزعجه كثيراً، فكان أبو حنيفة يتحين الفرص ليعظ هذا الشاب، ويرقق قلبه للتوبة، وفي أحد الأيام قام أبو حنيفة ليصلي الفجر فلم يسمع صوت هذا الشاب، فسأل عنه فعرف أنه قد قبض عليه، لأنه ضبط يشرب الخمر، فذهب أبو حنيفة لصاحب الشرطة، وقال له: هلا أفرجتم عنه إنه جاري، فقالوا: إنه شرب الخمر، قال أخرجوه من أجلي، فأخرجوه، وجعله أبو حنيفة يركب خلفه على الدابة، ولم يتكلم معه كلمة واحدة حتى وصل إلى البيت، قال له أبو حنيفة: هل أضعناك يا فتى؟! فقال: لا والله، ولا أعود إلى الخمر والغناء أبداً.
إنه موقف رائع جداً، هذا العاصي يحتاج إلى قلب كبير يستوعبه.
الأستاذ جمال:
 وهذه مهمة الإنسان الذي يأمر بالخير والمعروف أن يكون طبيباً، أن يكون حكيماً، ينظر لهذا إنسان على أنه إنسان خلقه الله سبحانه، وما علينا إلا أن نكون أطباء نرعى شؤونه كي يكون فاعلاً في مجتمعه.

 

من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بغير منكر:

 

الدكتور راتب:
من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فليكن نهيه بغير منكر، أي قضية الأمر بالمعروف تحتاج إلى ذوق، إلى حكمة، إلى ملاطفة.
 صديق عمر بن الخطاب ارتد عن الإسلام، وشرب الخمر، وذهب إلى الشام، أرسل له رسالة، قال له: أما بعد، أحمد الله إليك، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، رسالة رقيقة جداً، قرأها وبكى، وبكاؤه حمله على التوبة، وعاد إلى عمر، فقال عمر رضي الله عنه: هكذا اصنعوا مع أخيكم إذا ضلّ، كونوا عوناً له على الشيطان، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه.
الحياة كلها ذوق أستاذ جمال، والله أنا اخترت هذا الموضوع لأنني أشعر أن المسلمين بحاجة إلى هذه المعاني الدقيقة، كي يكون التواصل بينهم، وكي يكونوا لحمة فيما بينهم.

خاتمة و توديع:

الأستاذ جمال:
 إذاً ما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى الأدبيات التي تحدث عنها فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ما أحوجنا و ما أحوج الناس جميعاً إلى الذوق في التعامل، في التخاطب، في الحوار، في المجالسة، في التعامل مع الآخرين، مع الأبناء، مع الزوجة، مع الآخرين.
نسأل الله التوفيق في أعمالنا جميعاً، شكراً فضيلة الشيخ.
الدكتور راتب:
بارك الله بك أستاذ جمال، جزاك الله كل خير.
الأستاذ جمال:
أيها الأعزاء: لقاؤنا في الأسبوع القادم بعون الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور