- ندوات إذاعية
- /
- ٠12برنامج منهج التائبين - دار الفتوى
مقدمة :
المذيع :
بسم الله ، والحمد لله ، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، هذا اللقاء يتجدد بإذن الله تعالى مع برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بكم في مستهله ، كما يسرني أن أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور محمد راتب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
نتابع ما بدأناه أمس من استعراض لأسباب هلاك الأمم ، ووجوب التوبة من هذه الأسباب ، تحدثنا عن تكذيب الأنبياء ، وقلنا : إن التكذيب العملي أبلغ وأقوى ، وعواقبه وخيمة عندما يكون تكذيباً عملياً بما جاء به الأنبياء والرسل ، الآن ليتنا نتحدث عن سبب آخر ألا وهو الترف والبذخ .
أسباب هلاك الأمم :
1 ـ الترف و البذخ :
الدكتور محمد راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
العبرة أن يكشف الإنسان سرّ وجوده في الدنيا ، فإذا ظن أن الدنيا دار استمتاع ونعيم تحرك حركة معينة ، وإذا عرفها على حقيقتها أنها دار عمل ، وليست دار جزاء ، وأنها دار تكليف ، وليست دار تشريف صحت حركته في الحياة ، من أبلغ ما خطب به النبي عليه الصلاة والسلام في أصحابه أنه خطبهم مرة فقال :
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ))
أنا حينما أذهب إلى بلد بعيد ، وأنزل في أحد فنادقه ، وأستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، وأتناول طعام الفطور ، أسأل : إلى أين سأذهب ؟ هذا سؤال عجيب ! من أسأله يسألني: لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن أتيت طالب علم فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن أتيت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن أتيت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات ، لا تصح الحركة إلا إذا عرف الهدف .فالإنسان حينما لا يعلم سر وجوده في الدنيا ، ولا يعلم غاية وجوده ، ويظن أن الدنيا هي كل شيء ، هي نهاية آماله ، ومحط رحاله ، لابد من أن يتحرك فيها حركة تدعو إلى استمتاعه بها ، واقتناص لذّاتها ، والانغماس في مباهجها ، أما حينما يعلم حقيقة الحياة الدنيا أنها دار عمل وليست دار أمل ، أنها دار تكليف وليست دار تشريف ، ينطلق إلى ضبط سلوكه وفق منهج الله ، وينطلق أيضاً إلى عمل صالح يكون ثمناً للقاء الله عز وجل ، لذلك ربنا عز وجل حينما قال :
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾
وقد يسأل سائل : لماذا انصب الأمر على المترفين فقط ؟ ذلك أن الأقوياء والأغنياء والمترفين هؤلاء أعلام في المجتمع ، فإذا فسقوا فسق الناس معهم ، وإذا استقاموا استقام الناس معهم ، من ألطف ما قرأت في هذا الباب أن سيدنا عمر رضي الله عنه حينما جاءته كنوز كسرى ووضعت أمامه تعجب فقال : " إن الذي أدى هذا لأمين " ، كان إلى جانبه الإمام علي كرم الله وجهه قال : " يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانته لقد عففت فعفوا ، ولو وقعت لوقعوا " ، وفي رواية : " لو عففت لعفوا ، ولو رتعت لرتعوا ".معنى ذلك أن هؤلاء المترفين أو الأقوياء أو الأعلام في المجتمع إن استقاموا استقام الناس ، وإن اعوجّوا اعوَجّ الناس ! وجه الله الأمر لهؤلاء المترفين فقال :
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾
من استقام فله أجر مضاعف لأن من يتبعه سيقلده في استقامته :
هذا يقودنا إلى موضوع دقيق جداً هو أن الإنسان حينما يمكّن في الأرض ، ويجعله الله غنياً ، أو يجعله الله قوياً إن أحسن فله أجر مضاعف ، وإن أساء فله عذاب مضاعف .
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
والتي تتقي الله عز وجل من نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل يؤتيها أجرها مرتين .هذا ينقلنا إلى أن الأب إذا استقام فله أجر مضاعف ، لأن أولاده سيقلدونه في استقامته ، وإذا انحرف فله وزر مضاعف ، كل إنسان وكّله الله أن يقود مجموعة من الناس ، ولو أنهم عشرة ، إذاً هو قائد ، فهو قدوة مقلَّد ، فإن أحسن فله أجر مضاعف ، أجر استقامته ، وأجر من استقام بسببه ، وإن أساء فعليه وزر مضاعف ، وزره ووزر من قلده في هذا ، لذلك قال الله تعالى :
﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾
يحاسب حسابين .المذيع :
فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي هنا ليتنا نتوقف عند قول الباري عز وجل :
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾
هنا ليتنا نفسر هذا الأمر ، أمر الله للمترفين ، هي مشيئة الله وإرادته عندما يريد أن يهلك قرية يهيئ لها الأسباب بأن يجعل مترفيها يفسقون فيها .من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر :
الدكتور محمد راتب :
معاذ الله أن يريد الله ابتداءً إهلاك قرية ، ثم يخلق أسباب هلاكها ، هذا لا يليق بكمال الله أبداً ، هذا ما نود أن نوضحه ، لكن قالوا : إذا أردنا أن نهلك قرية ، القرية حينما تشرد عن الله ، وحينما تبتعد عن منهج الله ، وحينما تغرق في المعاصي والآثام ، وفي أكل المال الحرام ، وفي الزنا والربا ، وما إلى ذلك ، كإنذار أخير ، في هذه الآية تفسير رائع :
﴿أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾
لأن الله عز وجل يقول :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾
الصواريخ والصواعق .﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾
الزلازل والألغام ،﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
هناك قراءة لهذه الآية :﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾
كعلاج مرّ لانحراف هذه القرية ، القرية منحرفة ، ومتفلتة ، وشاردة ، ومكذبة ، لكن كإنذار أخير وكعلاج مرٍّ قبل الإهلاك﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا﴾
وضغطوا ، وأكلوا أموال الناس بالباطل ، وقهروا ، وأذلوا ، هذا علاج إلهي ، ومن لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر ، حينما تأتي المصيبة ، وهناك من يتعظ بها هذه أصبحت دواءً لا مصيبة ، أما حينما تأتي المصيبة ، ولا يتعظ بها أحد فنفس الإنسان أكبر مصيبة ، من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر من هذه المصيبة ، والقراءة الثانية :﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾
كعلاج مرٍّ . كان عليه الصلاة والسلام يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء ، إن أحسنت لم يقبل ، وإن أسأت لم يغفر ، اللهم إني أعوذ بك من جار سوء ، إن رأى خيراً كتمه ، وإن رأى شراً أذاعه "، فتأمير المترفين الفسقة الظالمين الذين يأخذون أموال الناس بالباطل يذلون الناس ، هذا علاج إلهي ، ذلك أن الناس إذا انحرفوا قيض الله لهم من يقهرهم ، فإذا عادوا إلى الطريق الصحيح أزاح الله عنهم هذا الكابوس ، فهذا المعنى الآخر دقيق جداً :﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾
المترفون فسقوا ، وأهل هذه القرية لم يرتدعوا ، ولم يتعظوا ، ولم يعودوا إلى ما أمرهم ربهم ، إذاً كان هذا الإنذار الأخير وقد أعذر من أنذر .﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾
.المذيع :
ومن هنا يأتي الدعاء لله سبحانه وتعالى : أن ولي علينا خيارنا ، ولا تولي علينا شرارنا .
طاعة الكبراء قضية ثابتة في القرآن :
الدكتور محمد راتب :
وقد ورد أيضاً أنه : إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغيناؤكم سمحاءَكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، وإذا كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأمركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من سطحها .
المعنى الأول :
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾
وهم القدوة والنجوم في المجتمع ، أمرناهم أن يتوبوا ويستقيموا فلم يستقيموا ، قلدهم الناس فاستحقوا الهلاك . والقراءة الثانية :﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾
النقطة الدقيقة أنا أخاطب الأخوة المستمعين ، أن الأب قدوة ، والمعلم قدوة ، ومن ولي أمر عشرة فهو قدوة ، وليعلم هذا الذي جعله الله قدوة ، ومكنه في الأرض أنه إذا أحسن فله أجره مرتين ، وإذا أساء فله عقاب مرتين ، له عقاب إساءته ، وعقاب من قلده بإساءته ، وإذا أحسن له أجر إحسانه ، وأجر من قلده بإحسانه .قضية طاعة الكبراء ثابتة في القرآن ، قال الله عز وجل :
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾
﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً﴾
إني ألح على هذا المعنى : معنى الممكن في الأرض ، القوي الغني الذي ولي أمر عشرة ، هذا إن أحسن له أجر مرتين ، وإن أساء له عقاب مرتين .المذيع :
وهل يعفى الضعيف الذي قلد المتمكن من عقوبة ذنبه ؟
ضرورة البحث و التدقيق والابتعاد عن التقليد الأعمى :
الدكتور محمد راتب :
لا ، لا يعفى ، كان تقليده سبب عقابه ، لكن أودع الله فيه عقلاً ، وأعطاه منهجاً ، ذلك أنك إذا خرجت من بيتك تريد أن تبيع بيتًا لك ، والتقيت بوسيط عقاري ، وقال لك : هذا البيت قيمته كذا ، هل تبيعه فوراً ؟ مستحيل ، أنت في شؤون دنياك تتريث ، وتسأل ، وتوازن ، وتبحث ، لماذا في أمر دينك لا تسأل ولا تبحث ؟ لو أن هذا الكبير الغني القوي ارتكب فاحشة أو سيئة ، لماذا تقلِّده ؟ بل إنك لو اعتقدت اعتقاداً صحيحاً تقليداً لم يقبل منك ، ذلك أن الله لو قبِل من الناس اعتقادهم التقليدي لنجا كل من انحرف عن منهج الله عز وجل ، وحجتهم أننا قلّدنا كبراءنا ، لو أن الله قبِل عقيدة تقليدية لكان كل من انحرف في عقيدته معذوراً عند الله عز وجل ، والله عز وجل يقول :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾
ما قال : فقل ، هذه قضية في التوحيد مهمة جداً ، حتى لو كان اعتقادك صحيحاً عليك ألا تقبله دون دليل ، قبِلته دون دليل ، وألقيته على مسامع الناس دون دليل ، وحدثت الناس به من دون دليل ، هذا الاعتقاد لا يقبل ، لأنه لو قُبِل لقُبِل كل اعتقاد منحرف بحجة أن كبراءنا قالوا هكذا .هذه نقطة تضع المؤمن أمام مسؤولياته ، فلابد من البحث والتدقيق ، ولابد من أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم عن دليل ، والدليل على ذلك :
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
وهذا يقودنا إلى الذي يستفتى فيفتي يقول : حرام وكفى ، هذا كلام لا معنى له ، لو أن مفتياً سئل : ما حكم هذه القضية ؟ يقول : يا أخي الكريم هذه حكمها أنها حرام لهذه الآية ، هذه مباحة لهذه الآية ، هذه مكروهة لهذه الآية ، لابد من أن تطلب الدليل ، وبالمناسبة أنا لا أقبل أن يكون في مكتبة المسلم كتاب فقه غير مدلّل ، أحكام فقهية فقط ، هذه الأحكام الفقهية فقط لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تعلمنا أن منهج الله منهج قوي أساسه كتاب كريم ، وسنة نبوية مفصلة ومبينة ، هذا يقودنا إلى أن العلم أصل في هذا الدين ، وأن عالماً واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد ، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ، أي على كل مسلم ومسلمة ، أي على كل شخص مسلم .2 ـ الغلو في الدين :
ننتقل إلى سبب آخر من أسباب هلاك الأمم ، الحقيقة هذا السبب هو الغلو في الدين ، والدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ :
(( هَاتِ الْقُطْ لِي ، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ : بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ))
الحقيقة أن الدين عندما أتى من عند الله عز وجل ، وبيّنه النبي كان كنبع ماء صاف، فلما جرى هذا النهر ، وصبت عليه الروافد ، صبت عليه روافد مياه سوداء ، لو نظرت إلى نهر في نهايته لوجدته أسود اللون من كثرة ما صبّ عليه من فروع ليست صافية ، وليست جيدة .إن أردت صفاء الدين فارجع إلى ينابيعه الأصيلة ، فكل دين يضاف عليه ما ليس منه ، وهذا ينقلنا إلى حقيقة دقيقة في التجديد ، وهي أن التجديد في الدين يعني شيئاً واحداً ، ولا يجوز أن نتجاوزه ، أن تنزع من الدين كل ما علق به مما ليس منه ، هذا هو التجديد ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
عدد القضايا التي عالجها الدين تام عدداً ، وطريقة المعالجة كاملة نوعاً ، ولا يمكن أن نضيف عليه ، لأنه دين الله ، ولا يمكن أن نحذف منه ، لأنه دين الله ، لكن سمح لنا باجتهادات فقهية تبعاً لبعض الظروف المستجدة ، والتي تعود إلى أصول الدين .الغلو في الدين أن تخرجه عن صفائه ، وأن تخرجه عن تماسكه ، وعن الدليل ، أن تأتي بقضية فرعية صغيرة ، وأن تجعلها أصلاً من أصول الدين ، وتقاتل عليها ، فالغلو في الدين أحد أسباب هلاك الأمم ، فأنا حينما آخذ فرعاً من فروع الدين ، وأكبّره ، وأجعله أصلاً ، وأقاتل من أجله ، أنا شرذمت الأمة ، وشققت صفوفها .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾
أحد أسباب هلاك الأمم الغلو في الدين ، أحد الأخوة المؤمنين إذا تفوق في إحدى جوانب الدين ينبغي أن يعد نفسه متفوقاً في أحد جوانبه ، لا أن يجعل هذا الفرع الذي تفوق فيه هو الدين كله ، هذا غلو ، ويجعل بين الأمة تناحراً وعداوات وبغضاء ، وكل من شقّ الصفوف ، وجعل الأمة شيعاً وفرقاً وأحزاباً وطوائف هذا يخالف إرادة الله في جمع شمل هذه الأمة ، وعلامة إخلاص الإنسان أنه يجمع ولا يفرق ، أنه يكون سبب وحدة لا سبب تفرقة ، والحقيقة أن أعداء المسلمين يتعاونون ، وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة ، ومع الأسف الشديد تجد المسلمين أحياناً يتقاتلون ، وبينهم خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة ، فالأولى أن نتعاون فيما اتفقنا ، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ، الأولى أن نتعاون فيما اختلفنا ، وأن ينصح بعضناً بعضاً فيما اختلفنا .خاتمة وتوديع :
المذيع :
تحدثنا عن سببين من أسباب هلاك الأمم ، ووجوب التوبة من هذين السببين ، ألا وهما الترف والغلو في الدين ، نتابع غداً استعراض بعض أسباب هلاك الأمم في مجال حديثنا عن ذلك ضمن برنامجنا منهج التائبين .
أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن متابعتهم ، حتى الملتقى لكم التحية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .