وضع داكن
20-04-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 26 - الترف من أسباب هلاك الأمم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  بسم الله ، والحمد لله ، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .
 أخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، هذا اللقاء يتجدد بإذن الله تعالى مع برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بكم في مستهله ، كما يسرني أن أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور محمد راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
 نتابع ما بدأناه أمس من استعراض لأسباب هلاك الأمم ، ووجوب التوبة من هذه الأسباب ، تحدثنا عن تكذيب الأنبياء ، وقلنا : إن التكذيب العملي أبلغ وأقوى ، وعواقبه وخيمة عندما يكون تكذيباً عملياً بما جاء به الأنبياء والرسل ، الآن ليتنا نتحدث عن سبب آخر ألا وهو الترف والبذخ .

أسباب هلاك الأمم :

1 ـ الترف و البذخ :

الدكتور محمد راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 العبرة أن يكشف الإنسان سرّ وجوده في الدنيا ، فإذا ظن أن الدنيا دار استمتاع ونعيم تحرك حركة معينة ، وإذا عرفها على حقيقتها أنها دار عمل ، وليست دار جزاء ، وأنها دار تكليف ، وليست دار تشريف صحت حركته في الحياة ، من أبلغ ما خطب به النبي عليه الصلاة والسلام في أصحابه أنه خطبهم مرة فقال :

(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ))

[ ورد في الأثر]

 أنا حينما أذهب إلى بلد بعيد ، وأنزل في أحد فنادقه ، وأستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، وأتناول طعام الفطور ، أسأل : إلى أين سأذهب ؟ هذا سؤال عجيب ! من أسأله يسألني: لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن أتيت طالب علم فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن أتيت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن أتيت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات ، لا تصح الحركة إلا إذا عرف الهدف .
 فالإنسان حينما لا يعلم سر وجوده في الدنيا ، ولا يعلم غاية وجوده ، ويظن أن الدنيا هي كل شيء ، هي نهاية آماله ، ومحط رحاله ، لابد من أن يتحرك فيها حركة تدعو إلى استمتاعه بها ، واقتناص لذّاتها ، والانغماس في مباهجها ، أما حينما يعلم حقيقة الحياة الدنيا أنها دار عمل وليست دار أمل ، أنها دار تكليف وليست دار تشريف ، ينطلق إلى ضبط سلوكه وفق منهج الله ، وينطلق أيضاً إلى عمل صالح يكون ثمناً للقاء الله عز وجل ، لذلك ربنا عز وجل حينما قال :

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾

[سورة الإسراء: 16]

 وقد يسأل سائل : لماذا انصب الأمر على المترفين فقط ؟ ذلك أن الأقوياء والأغنياء والمترفين هؤلاء أعلام في المجتمع ، فإذا فسقوا فسق الناس معهم ، وإذا استقاموا استقام الناس معهم ، من ألطف ما قرأت في هذا الباب أن سيدنا عمر رضي الله عنه حينما جاءته كنوز كسرى ووضعت أمامه تعجب فقال : " إن الذي أدى هذا لأمين " ، كان إلى جانبه الإمام علي كرم الله وجهه قال : " يا أمير المؤمنين أعجبت من أمانته لقد عففت فعفوا ، ولو وقعت لوقعوا " ، وفي رواية : " لو عففت لعفوا ، ولو رتعت لرتعوا ".
 معنى ذلك أن هؤلاء المترفين أو الأقوياء أو الأعلام في المجتمع إن استقاموا استقام الناس ، وإن اعوجّوا اعوَجّ الناس ! وجه الله الأمر لهؤلاء المترفين فقال :

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾

[سورة الإسراء: 16]

من استقام فله أجر مضاعف لأن من يتبعه سيقلده في استقامته :

 هذا يقودنا إلى موضوع دقيق جداً هو أن الإنسان حينما يمكّن في الأرض ، ويجعله الله غنياً ، أو يجعله الله قوياً إن أحسن فله أجر مضاعف ، وإن أساء فله عذاب مضاعف .

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾

[سورة الأحزاب 32]

 والتي تتقي الله عز وجل من نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل يؤتيها أجرها مرتين .
 هذا ينقلنا إلى أن الأب إذا استقام فله أجر مضاعف ، لأن أولاده سيقلدونه في استقامته ، وإذا انحرف فله وزر مضاعف ، كل إنسان وكّله الله أن يقود مجموعة من الناس ، ولو أنهم عشرة ، إذاً هو قائد ، فهو قدوة مقلَّد ، فإن أحسن فله أجر مضاعف ، أجر استقامته ، وأجر من استقام بسببه ، وإن أساء فعليه وزر مضاعف ، وزره ووزر من قلده في هذا ، لذلك قال الله تعالى :

﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾

[سورة النساء : 85]

 يحاسب حسابين .
المذيع :
 فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي هنا ليتنا نتوقف عند قول الباري عز وجل :

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾

[سورة الإسراء : 16]

 هنا ليتنا نفسر هذا الأمر ، أمر الله للمترفين ، هي مشيئة الله وإرادته عندما يريد أن يهلك قرية يهيئ لها الأسباب بأن يجعل مترفيها يفسقون فيها .

من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر :

الدكتور محمد راتب :
 معاذ الله أن يريد الله ابتداءً إهلاك قرية ، ثم يخلق أسباب هلاكها ، هذا لا يليق بكمال الله أبداً ، هذا ما نود أن نوضحه ، لكن قالوا : إذا أردنا أن نهلك قرية ، القرية حينما تشرد عن الله ، وحينما تبتعد عن منهج الله ، وحينما تغرق في المعاصي والآثام ، وفي أكل المال الحرام ، وفي الزنا والربا ، وما إلى ذلك ، كإنذار أخير ، في هذه الآية تفسير رائع :

﴿أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾

 لأن الله عز وجل يقول :

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾

[ سورة الأنعام: 65 ]

 الصواريخ والصواعق .

﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾

 الزلازل والألغام ،

﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾

  هناك قراءة لهذه الآية :

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾

 كعلاج مرّ لانحراف هذه القرية ، القرية منحرفة ، ومتفلتة ، وشاردة ، ومكذبة ، لكن كإنذار أخير وكعلاج مرٍّ قبل الإهلاك

﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا﴾

  وضغطوا ، وأكلوا أموال الناس بالباطل ، وقهروا ، وأذلوا ، هذا علاج إلهي ، ومن لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر ، حينما تأتي المصيبة ، وهناك من يتعظ بها هذه أصبحت دواءً لا مصيبة ، أما حينما تأتي المصيبة ، ولا يتعظ بها أحد فنفس الإنسان أكبر مصيبة ، من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر من هذه المصيبة ، والقراءة الثانية :

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾

[سورة الإسراء: 16]

 كعلاج مرٍّ . كان عليه الصلاة والسلام يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء ، إن أحسنت لم يقبل ، وإن أسأت لم يغفر ، اللهم إني أعوذ بك من جار سوء ، إن رأى خيراً كتمه ، وإن رأى شراً أذاعه "، فتأمير المترفين الفسقة الظالمين الذين يأخذون أموال الناس بالباطل يذلون الناس ، هذا علاج إلهي ، ذلك أن الناس إذا انحرفوا قيض الله لهم من يقهرهم ، فإذا عادوا إلى الطريق الصحيح أزاح الله عنهم هذا الكابوس ، فهذا المعنى الآخر دقيق جداً :

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾

[سورة الإسراء: 16]

 المترفون فسقوا ، وأهل هذه القرية لم يرتدعوا ، ولم يتعظوا ، ولم يعودوا إلى ما أمرهم ربهم ، إذاً كان هذا الإنذار الأخير وقد أعذر من أنذر .

﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾

.
المذيع :
 ومن هنا يأتي الدعاء لله سبحانه وتعالى : أن ولي علينا خيارنا ، ولا تولي علينا شرارنا .

طاعة الكبراء قضية ثابتة في القرآن :

الدكتور محمد راتب :
 وقد ورد أيضاً أنه : إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغيناؤكم سمحاءَكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، وإذا كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأمركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من سطحها .
المعنى الأول :

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾

[سورة الإسراء: 16]

 وهم القدوة والنجوم في المجتمع ، أمرناهم أن يتوبوا ويستقيموا فلم يستقيموا ، قلدهم الناس فاستحقوا الهلاك . والقراءة الثانية :

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾

[سورة الإسراء: 16]

 النقطة الدقيقة أنا أخاطب الأخوة المستمعين ، أن الأب قدوة ، والمعلم قدوة ، ومن ولي أمر عشرة فهو قدوة ، وليعلم هذا الذي جعله الله قدوة ، ومكنه في الأرض أنه إذا أحسن فله أجره مرتين ، وإذا أساء فله عقاب مرتين ، له عقاب إساءته ، وعقاب من قلده بإساءته ، وإذا أحسن له أجر إحسانه ، وأجر من قلده بإحسانه .
 قضية طاعة الكبراء ثابتة في القرآن ، قال الله عز وجل :

﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾

[سورة الأحزاب : 67]

﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً﴾

[سورة إبراهيم : 21]

 إني ألح على هذا المعنى : معنى الممكن في الأرض ، القوي الغني الذي ولي أمر عشرة ، هذا إن أحسن له أجر مرتين ، وإن أساء له عقاب مرتين .
المذيع :
 وهل يعفى الضعيف الذي قلد المتمكن من عقوبة ذنبه ؟

ضرورة البحث و التدقيق والابتعاد عن التقليد الأعمى :

الدكتور محمد راتب :
 لا ، لا يعفى ، كان تقليده سبب عقابه ، لكن أودع الله فيه عقلاً ، وأعطاه منهجاً ، ذلك أنك إذا خرجت من بيتك تريد أن تبيع بيتًا لك ، والتقيت بوسيط عقاري ، وقال لك : هذا البيت قيمته كذا ، هل تبيعه فوراً ؟ مستحيل ، أنت في شؤون دنياك تتريث ، وتسأل ، وتوازن ، وتبحث ، لماذا في أمر دينك لا تسأل ولا تبحث ؟ لو أن هذا الكبير الغني القوي ارتكب فاحشة أو سيئة ، لماذا تقلِّده ؟ بل إنك لو اعتقدت اعتقاداً صحيحاً تقليداً لم يقبل منك ، ذلك أن الله لو قبِل من الناس اعتقادهم التقليدي لنجا كل من انحرف عن منهج الله عز وجل ، وحجتهم أننا قلّدنا كبراءنا ، لو أن الله قبِل عقيدة تقليدية لكان كل من انحرف في عقيدته معذوراً عند الله عز وجل ، والله عز وجل يقول :

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

[ سورة محمد: 19 ]

 ما قال : فقل ، هذه قضية في التوحيد مهمة جداً ، حتى لو كان اعتقادك صحيحاً عليك ألا تقبله دون دليل ، قبِلته دون دليل ، وألقيته على مسامع الناس دون دليل ، وحدثت الناس به من دون دليل ، هذا الاعتقاد لا يقبل ، لأنه لو قُبِل لقُبِل كل اعتقاد منحرف بحجة أن كبراءنا قالوا هكذا .
 هذه نقطة تضع المؤمن أمام مسؤولياته ، فلابد من البحث والتدقيق ، ولابد من أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم عن دليل ، والدليل على ذلك :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108 ]

 وهذا يقودنا إلى الذي يستفتى فيفتي يقول : حرام وكفى ، هذا كلام لا معنى له ، لو أن مفتياً سئل : ما حكم هذه القضية ؟ يقول : يا أخي الكريم هذه حكمها أنها حرام لهذه الآية ، هذه مباحة لهذه الآية ، هذه مكروهة لهذه الآية ، لابد من أن تطلب الدليل ، وبالمناسبة أنا لا أقبل أن يكون في مكتبة المسلم كتاب فقه غير مدلّل ، أحكام فقهية فقط ، هذه الأحكام الفقهية فقط لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تعلمنا أن منهج الله منهج قوي أساسه كتاب كريم ، وسنة نبوية مفصلة ومبينة ، هذا يقودنا إلى أن العلم أصل في هذا الدين ، وأن عالماً واحداً أشد على الشيطان من ألف عابد ، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ، أي على كل مسلم ومسلمة ، أي على كل شخص مسلم .

2 ـ الغلو في الدين :

 ننتقل إلى سبب آخر من أسباب هلاك الأمم ، الحقيقة هذا السبب هو الغلو في الدين ، والدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ :

(( هَاتِ الْقُطْ لِي ، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ : بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ))

[ النسائي عن ابن عباس ]

 الحقيقة أن الدين عندما أتى من عند الله عز وجل ، وبيّنه النبي كان كنبع ماء صاف، فلما جرى هذا النهر ، وصبت عليه الروافد ، صبت عليه روافد مياه سوداء ، لو نظرت إلى نهر في نهايته لوجدته أسود اللون من كثرة ما صبّ عليه من فروع ليست صافية ، وليست جيدة .
 إن أردت صفاء الدين فارجع إلى ينابيعه الأصيلة ، فكل دين يضاف عليه ما ليس منه ، وهذا ينقلنا إلى حقيقة دقيقة في التجديد ، وهي أن التجديد في الدين يعني شيئاً واحداً ، ولا يجوز أن نتجاوزه ، أن تنزع من الدين كل ما علق به مما ليس منه ، هذا هو التجديد ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 عدد القضايا التي عالجها الدين تام عدداً ، وطريقة المعالجة كاملة نوعاً ، ولا يمكن أن نضيف عليه ، لأنه دين الله ، ولا يمكن أن نحذف منه ، لأنه دين الله ، لكن سمح لنا باجتهادات فقهية تبعاً لبعض الظروف المستجدة ، والتي تعود إلى أصول الدين .
 الغلو في الدين أن تخرجه عن صفائه ، وأن تخرجه عن تماسكه ، وعن الدليل ، أن تأتي بقضية فرعية صغيرة ، وأن تجعلها أصلاً من أصول الدين ، وتقاتل عليها ، فالغلو في الدين أحد أسباب هلاك الأمم ، فأنا حينما آخذ فرعاً من فروع الدين ، وأكبّره ، وأجعله أصلاً ، وأقاتل من أجله ، أنا شرذمت الأمة ، وشققت صفوفها .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأنعام الآية: 159 ]

 أحد أسباب هلاك الأمم الغلو في الدين ، أحد الأخوة المؤمنين إذا تفوق في إحدى جوانب الدين ينبغي أن يعد نفسه متفوقاً في أحد جوانبه ، لا أن يجعل هذا الفرع الذي تفوق فيه هو الدين كله ، هذا غلو ، ويجعل بين الأمة تناحراً وعداوات وبغضاء ، وكل من شقّ الصفوف ، وجعل الأمة شيعاً وفرقاً وأحزاباً وطوائف هذا يخالف إرادة الله في جمع شمل هذه الأمة ، وعلامة إخلاص الإنسان أنه يجمع ولا يفرق ، أنه يكون سبب وحدة لا سبب تفرقة ، والحقيقة أن أعداء المسلمين يتعاونون ، وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة ، ومع الأسف الشديد تجد المسلمين أحياناً يتقاتلون ، وبينهم خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة ، فالأولى أن نتعاون فيما اتفقنا ، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ، الأولى أن نتعاون فيما اختلفنا ، وأن ينصح بعضناً بعضاً فيما اختلفنا .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 تحدثنا عن سببين من أسباب هلاك الأمم ، ووجوب التوبة من هذين السببين ، ألا وهما الترف والغلو في الدين ، نتابع غداً استعراض بعض أسباب هلاك الأمم في مجال حديثنا عن ذلك ضمن برنامجنا منهج التائبين .
 أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن متابعتهم ، حتى الملتقى لكم التحية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور