- ندوات إذاعية
- /
- ٠12برنامج منهج التائبين - دار الفتوى
مقدمة :
المذيع :
الحمد لله ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الأخوة المستمعون ، نجدد التحية دائماً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من لبنان، كما يسرني أن أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أحد أكبر دعاة دمشق وعلمائها ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور محمد راتب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
فضيلة الشيخ ، من المعروف أن هناك أسبابًا لهلاك الأمم ، وفي مقدمات النهاية لسلسلات حواراتنا حول التوبة فإن أسباب هلاك الأمم هي الذنوب ، لنستعرض بعض الأسباب لنتجنبها ، ونعلم مدى قدر التوبة من تلك الذنوب ؟
الفساد من صنع البشر :
الدكتور محمد راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
يقول الله عز وجل :
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
هذه الآية خطيرة جداً ، في أنها تؤكد أن الفساد من صنع البشر ، خالق البشر كل شيء أبدعه خير عميم ، لكن الإنسان حينما أودعت فيه الشهوات ، وأعطي منهجاً ليضبطها وضع المنهج وراء ظهره ، وتحرك بلا منهج ، وقع الفساد في الأرض ، وهذا الفساد في الأرض .﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾
فالباء باء السبب ، والله عز وجل كان من الممكن أن يفسد الإنسان ، ولا يذيقه نتائج فساده ، إذاً لا يتوب ، لكن شاءت حكمة الله عز وجل أنه إذا فسد أذاقه نتائج فساده لعله يتوب قال:﴿النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
تكذيب رسالات الأنبياء أحد أكبر أسباب هلاك الأمم :
لو استعرضنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن أسباب هلاك الأمم لوجدنا هناك أسباباً كثيرة ، في مقدمة هذه الأسباب التكذيب بما جاء به الأنبياء ، وقد قال الله عز وجل :
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً﴾
أحد أكبر هلاك الأمم التكذيب برسالات الأنبياء ، ولكن هناك قضية خطيرة جداً ، ذلك أن في العالم الإسلامي لا تجد مؤمناً واحداً يكذب بما جاء به الأنبياء ، ولكن هناك بما جاء بالتكذيب العملي ، لو تتبعت حياة المسلمين لا تجد في حياتهم ما يؤكد إيمانهم بالآخرة ، ولا ما يؤكد بأن الله يراقبهم ، وسيحاسبهم ، سلوكهم لا يتناسب مع ما يدّعونه من إيمان ، هذا التكذيب العملي أخطر بكثير من التكذيب اللفظي ، إنك إن كذبت بلسانك فهناك من يحاورك ويقنعك ، لكنك حينما تعترف أن هناك يوماً آخر ، وأن هناك حسابًا ونارًا ، ولا نجد في عمل هذا الإنسان ما يؤكد إيمانه فهذا التكذيب الخطير الذي لا يكشف ، لذلك العلماء قالوا : هناك كبائر ظاهرة ، وهناك كبائر باطنة ، الكبائر الظاهرة الإنسان يتوب منها سريعاً لأنها ظاهرة ، ولكن كبائر القلب كبائر باطنة ؛ كالكبر والاستعلاء ورد الحق ، فحينما أقول : التكذيب أقصد التكذيب العملي في العالم الإسلامي ، يؤكد هذا المعنى قول النبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ :(( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى ، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ ))
أما إنني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ، ولا حجراً هذه انتهت ، ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله ، أنا لا أخشى من التكذيب اللفظي ، قد يظهر كاذب من حين إلى آخر فيكذب، هؤلاء قلة قليلة هم في مزبلة التاريخ ، لكن الذي يقلق المسلم الذي يتمنى أن يعم الخير على كل المسلمين ، الذي يقلق هذا المسلم أنك لا تجد في حياة الناس اليومية ، ولا في تعاملهم ، ولا في بيوتهم ، ولا في تجاراتهم ، ولا في سفرهم ، ولا في علاقاتهم ما يؤكد إيمانهم باليوم الآخر .الشيء الثابت أن الإنسان يتعامل مع الواقع بإدراك انفعال سلوك ، أنا لا أنفعل إلا إذا كان إدراكي صحيحاً ، كما أنني لا أتحرك إلا إذا كان انفعالي صحيحاً ، ولعل من أبسط الأمثلة أنك إذا رأيت وأنت في بستان أفعى فعلامة إدراكك أنها أفعى لدغتُها قاتلة أنك تضطرب ، وعلامة اضطرابك أنك تتحرك إما لقتلها ، وإما إلى الهروب منها ، كأن هذا قانون .
لذلك لو أن الناس أيقنوا أن الله يعلم ، وسيحاسب ، وسيعاقب لا يمكن أن يعصيه أحد ، بل إن الله عز وجل حينما قال:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾
كأن الله اختار من بين أسمائه الحسنى اسمين فقط القدير والعليم ، حينما تعلم وتوقن أن علمه وقدرته تطولك فلا يمكن أن تعصيه ، هذا جانب من جوانب أسباب هلاك الأمم ، التكذيب .المذيع :
هل تؤخذ الأمة بذنب بعض الناس ؟
الأمة تؤخذ بمعصية بعض أفرادها إذا أقرتهم على ذلك :
الدكتور محمد راتب :
مستحيل ! لأن الله عز وجل يقول :
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
ولأن الله عز وجل يقول:﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾
﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾
ولأن الله عز وجل يقول:﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
ولكن تؤخذ الأمة أحياناً بمعصية بعض أفرادها إذا أقرتهم على ذلك .المذيع :
تقولون : إن من أسباب هلاك الأمم التكذيب ، وسنستعرض بقية الأسباب ، ولكن هنا لا يمكن أن نعمم أن كل المسلمين في عالمنا الإسلامي يكذبون تكذيباً فعلياً ، هناك مجموعة كبيرة أيضاً من الأمة الإسلامية تلتزم منهج الله ، وتعمل بما شرعه ، وأمر به ، فكيف تؤخذ الأمة بذنب البعض ؟
البلاء خاص والإكرام خاص :
الدكتور محمد راتب :
أنا أرفض المقولة الشائعة بين عامة المسلمين أن البلاء يعم ، أنا أرى أن البلاء خاص ، والإكرام خاص ، والآية دقيقة جداً :
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
لا تحمل نفس حِمل نفس أخرى .﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾
﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾
ولكن قال ربنا عز وجل:﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾
ما قال صالحون ، فهذا الذي ينسحب من المجتمع ، ولا يعنيه أمر هدايته ، ولا يأمر بالمعروف ، ولا ينهى عن المنكر ، ولا يحمل همّ المسلمين هو مستقيم وحده ، وانتهى الأمر ، هذا يؤخذ بجريرة غيره ، لأنه ترك فريضة سادسة ، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ترك فريضة كبيرة ، فأنا حينما أقول : أخذ الناس جميعاً بتكذيبهم الأنبياء بمعنى أن الباقيين أقروهم على أعمالهم ، سيدنا عمر يقول : " والله لو أن قرية ائتمرت على قتل واحد لقتلتهم به جميعاً .أستاذ زياد ، تصور أن حريقاً نشب في حي من أحياء بلدة ما ، فالذي يسكن في الطرف الآخر من الحي قال : أنا ليس عندي ماء ، إن لم يخرج من بيته ، ويساهم في إطفاء النار في أول الشارع النار سوف تصل إليه ، لعل هذا معنى قوله تعالى:
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾
هذا الذي لم يقترف هذه المعصية ، وأهلكه الله ، لأنه لم ينهَ عنها ، ولم يتمعر وجهه حينما يراها ، ولم يعبأ بنشوب المعصية بين المسلمين ، هذا ذنب أيضاً ، لكن بشكل عام التعميم من العمى ، لا يعمم إلا أعمى ، في كل بلد يوجد طيبون وصالحون ، ودعاة إلى الله صادقون وملتزمون ، هناك من يخاف الله ، لكن حينما يغلب على الأمة فسادها وانحرافها وتفلتها من منهج ربها عندئذ تستحق الهلاك ، لكن المستقيم له معاملة خاصة .﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
قال تعالى أيضاً:﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً﴾
التكذيب الفعلي أخطر من التكذيب القولي :
تكذيب رسالات الأنبياء أحد أكبر أسباب هلاك الأمم ، والتكذيب قولي وفعلي ، وأنا أرى أن التكذيب الفعلي أخطر من التكذيب القولي ، لأن التكذيب الفعلي يدعوك إلى أن تجيبه ، أن تحاوره ، وتأتيه بالدليل والبرهان ، لكنه يعلن أنه مؤمن بالآخرة ، فإذا دققت في حياته اليومية لم تجد أثراً لهذا الإيمان ، تماماً لو أنك ذهبت إلى طبيب ، وعالجك ، وكتب لك دواءً ، وأنت بلباقة عالية أثنيت عليه ، وعلى علمه ، لكنك لم تشترِ الدواء ، لأنك لست مقتنعاً بوصفته ، عدم شراء الدواء هو تكذيب بعلمه ، مع أنك بالغت في احترامه ، وفي الثناء عليه ، فما يقوله الإنسان ولا يعمل به لا قيمة له إطلاقاً ، لذلك لم يكن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم نفاق ، لأن المؤمنين كانوا ضعافاً ، فالنفاق متى يكون ؟ إذا أصبح المؤمنون أقوياء ، وهناك من له مصالح معهم ، فينافق لهم ، لم يكن هناك نفاق ، فلذلك كان التكذيب صريحًا ، وهذا ملمح خطير في أن الله عز وجل حينما أرسل أنبياءه كانوا في بداية الأمر ضعفاء ، لماذا ؟ لو جعلهم أقوياء لآمن الناس بهم جميعاً ، لا عن قناعة بدعوتهم ، ولكن خوفاً منهم ، لذلك أيعقل أن يمر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه ، وهو يعذب ، ولا يستطيع أن يفكه من هذا العذاب ؟ مهلاً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة .
حينما يكون موضوع التوبة سبباً من أسباب هلاك الأمم ، يكون حجم التوبة وثمارها كبير جداً في حياة المؤمن ، لأن هلاك الإنسان شيء مدمر ، فإذا تاب الإنسان من سبب من أسباب هلاكه فقد نجا من عذاب الدنيا وشقاء الآخرة ، فرداً كان أو مجتمعاً .
المذيع :
ذكرتم بأن التوبة حينما يكون موضوعها سبباً كبيراً من أسباب هلاك الأمم ، أي سبب هلاك الأمم من ذنب كبير ، وهذا الذنب كان موضوع التوبة ومنطلق التوبة .
من صدق وآمن تلافى سبب هلاكه :
الدكتور محمد راتب :
يقول ابن عباس كلاماً رائعاً : قال : " ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة " ، وحينما نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
سورة النساء : 147] أي إن الإنسان حينما يؤمن الإيمان الحق ، وحينما يشكر الشكر الحق ، فقد حقق سبب وجوده في الحياة ، عندئذ تنتهي المعالجات كلها ، سبب هلاك الأمم أن تقترف المعاصي والآثام ، وأن يكذب الأنبياء ، فحينما نصدق ونستقيم على أمر الله نكون قد تلافينا سبب هلاكنا .وهناك فكرة دقيقة جداً وهي أن الأمة أو الفرد إذا وقعوا فيما يوجب هلاكهم فهناك أنواع كثيرة جداً لهلاكها ، قد يكون بعارض طبيعي ، كزلزال ، أو فيضان ، أو صقيع ، أو جفاف، أو بمشكلات داخلية ، أو بعدوان خارجي ، هذه منوعة في أشكالها ، لكن متحدة في سببها ، حينما ترتكب الأمة سبب هلاكها ، قد يأتي الهلاك من طرق كثيرة ، ولا ينفع حذر من قدر ، ولكن ينفع الدعاء مما نزل ، ومما لم ينزل .
خاتمة وتوديع :
المذيع :
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي نتابع غداً بإذن الله تعالى استعراض أسباب هلاك الأمم ، وذلك انطلاقاً من تلافي هذه الأسباب بتوبة نصوح صادقة ، ونستعرض هذه الأسباب بعدما تحدثنا في منهج التائبين ، وفي سلسلة حواراتنا عن الذنوب التي يمكن أن تؤثر على الفرد ، الآن نتحدث عن الأمم ، وأسباب هلاك الأمم بذنوب كبيرة .
أشكركم ، وأشكر الأخوة المستمعين لحسن متابعتهم ، حتى الملتقى في الغد لكم التحية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .