وضع داكن
29-03-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 17 - العلاقة بين التوبة والدعوة 1 - لابد من أن تدعو إلى الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ زياد :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامج : "منهج التائبين" ، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، معنا في هذا البرنامج ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ زياد :
 فضيلة الشيخ ، ثمن العلاقة بين التوبة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، بل إن من أسباب ثبات التوبة النصوح الصادقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، كيف يكون ذلك ؟ وكيف لنا أن نوضح هذه العلاقة ؟

من خرج عن منهج ربه اختل توازنه :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 الحقيقة الأولى أن الإنسان فطر فطرة كاملة ، فالذي أمر به ، والذي نهي عنه متوافق توافقاً تاماً مع فطرته ، بل إن تطابق منهج الله مع فطرة الله تطابق ثابت وشامل وكامل وحتمي ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى قال :

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه﴾

[ سورة الروم: 30]

 أن تقيم وجهك للدين حنيفاً هو نفسه البرنامج الذي فطر عليه الإنسان ، ماذا نستنتج من هذه الحقيقة التي تؤكدها هذه الآية ؟ أن الإنسان إذا خرج عن بنيته الفطرية ، إذا خرج عن منهج ربه فكلاهما واحد ، إذا خرج عن مبادئ فطرته ، أو خرج عن منهج ربه يعاني من حالة نفسية اسمها اختلال التوازن ، يختل توازنه ، ولا شيء أصعب على النفس من أن تنهار من داخلها ، قد يكون الإنسان أمام الخلق متماسكاً ، لكنه إذا كان منهاراً من الداخل نشأ عنده أمراض كثيرة ، تظهر بقسوة بالغة ، أو ردود فعل قاسية جداً ، تظهر بضياع ، وتشتت ، وصراع مزمن مع كآبة ، وما هذه الكآبة التي يتحدث عنها الناس إلا هي مظهر لخروج الإنسان عن مبادئ فطرته .
 ماذا ينبغي أن يفعل الإنسان إذا خرج عن مبادئ فطرته أو خرج عن منهج ربه وكلاهما واحد ؟
 العلاج الناجع الذي يعالج به هذا الخلل هو أن تتوب إلى الله ، ولكن هناك من يحاول أن يستعيد هذا التوازن ، لا من خلال التوبة ، ولكن من خلال سوء الظن بالآخرين ، ليوهم نفسه أن الخطأ هو الأصل ، وأن الذين يظهرون للناس الصلاح ، وهم ليسوا كذلك ، هذا محاولة إصلاح الخلل ، ولكن محاولة ليست صحيحة ، أو أن يتعلق الإنسان بعقيدة زائغة لا أصل لها في الدين ليريح نفسه ، فبعض أهل الكتاب تعلقوا بأنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ، والمسلمون تعلقوا بمفهوم للشفاعة ساذج ، افعل ما شئت ، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشفع لك .

الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :

 الحقيقة أن التعلق بعقيدة زائغة ، أو سوء الظن بالآخرين مسلكان خاطئان لاستعادة التوازن الذي اختل من خروج الإنسان عن منهج ربه ، أو عن مبادئ فطرته ، هذا إن لم يكن المرء داعية إلى الله ، إن كان مؤمناً من مجموع المؤمنين ، مسلماً من مجموع المسلمين ، كيف إذا دعا إلى الله ولم يطبق ما يدعو إليه ؟ أعتقد أن الخلل الذي سوف يعاني منه أضعافاً مضاعفة .
 ورد في بعض الآثار : "ابن آدم عظ نفسك فإذا وعظتها فعظ غيرك وإلا فاستحِ مني":

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطـعتـــه  إن المحب لـمن يحب يطيــع
***

 ولكن يتوهم الأخوة المؤمنون أن الدعوة إلى الله قاصرة على الدعاة الكبار ، وعلى خطباء المساجد ، وعلى من يعمل في حقل الدعوة ، وعلى المنظِّرين الإسلاميين ، وعلى رجال الفكر المسلمين ، وهذه فكرة ليست صحيحة .
 أول مفاجأة لعل الأخوة المستمعين قد يفاجؤون بها أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ، وكل مسلم لا يدعو إلى الله هو لا يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكل من لا يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في حقيقة الأمر لا يحب الله ، وليس في الدين مجال كي ندلي بآراء شخصية ، إن هذا العلم دين ، دين الله ، ولا يسعه إلا النص الصحيح الموثق الواضح الدلالة .
الأستاذ زياد :
 يقولون : إن الدعوة في حق كل مؤمن فرض عين ، ولكن بتوضيح بسيط في حدود ما يعلم .

الدعوة إلى الله دعوتان :

الدكتور راتب :
 في حدود ما يعلم ، ومع من يعرف ، ما كلفك الله أن تكون عالماً كبيراً ، ولا أن تحمل أعلى شهادة في الشريعة ، ولا أن تكون خطيباً مفوّهاً ، أنت كمسلم في أي مستوى ثقافي ، وفي أي حرفة أنت فيها أنت مكلف بدعوة إلى الله من نوع فرض العين ، وسوف آتي بعد قليل على الدعوة إلى الله التي هي فرض كفاية .
 أنا الآن أتحدث عن الدعوة إلى الله كفرض عين ، لابد من أن تدعو إلى الله ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[البخاري عن ابن عمرو ]

 فيا رب مبلغ أوعى من سامع ، ولقول الله عز وجل :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108]

 فمن لم يدعُ إلى الله على بصيرة ، وكلمة بصيرة أن تدعو إلى الله بالدليل ، وبالتعليل ، وبأسلوب علمي ، وباللطف والإحسان .

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[ سورة آل عمران : 159 ]

 ادع إلى الله على بصيرة كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأساليبه اللغوية، والعلمية ، والتربوية ، والاجتماعية .
 فمن لم يدعُ إلى الله على بصيرة فليس متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس محباً لله بدليل قوله تعالى :

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 الأمر واضح كالشمس ، لكن هذه الدعوة التي هي فرض عين لا يطالب المسلم بها إلا في حدود ما سمعه من الحق ، ونحن في هذا الدين العظيم عندنا عبادة تعليمية هي خطبة الجمعة ، وأخوتنا الكرام يتوهمون أنهم إذا دخلوا إلى المسجد عقب انتهاء الخطبة ، وتابعوا مع الإمام ركعتين يتوهمون أنهم أدوا هذه الفريضة ، وأنا أصر على أن هذه الفريضة لم تؤدَّ بالمعنى الذي أراده الله ، ذلك أن الله عز وجل حينما قال :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾

[ سورة الجمعة: 9 ]

 أجمع علماء التفسير على أن ذكر الله خطبة الجمعة ، أية خطبة من دون استثناء فيها شرح آية ، أو شرح حديث ، أو بيان حكم ، أو معالجة موضوع إسلامي ، فهذا الذي يصلي، ويحضر خطبة جمعة ، وأخذ منها آية واحدة ، لو أنه بلغ هذه الآية طوال الأسبوع مع من يعرف، مع أقربائه ، مع أولاده الصغار ، مع بناته ، مع زملائه ، مع أصدقائه ، مع جيرانه ، مع من يلتقي ، في ندوة ، في سفرة ، في وليمة ، يكون قد أدى هذه العبادة ، الدعوة إلى الله كفرض عين، أما الدعوة إلى الله كفرض كفاية فهذه مهمة العلماء المتفرغين المتخصصين الذين آتاهم الله فكراً عميقاً ، ونفَساً طويلاً في الدعوة ، وفصاحة ، وبياناً ، وتفرغوا لشأن الدعوة ، هؤلاء معهم كل الأدلة التفصيلية ، ومعهم رد على كل الشبهات التي تطرح على الإسلام ، هؤلاء الدعاة الكبار مهمتهم كما قلت قبل قليل فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقطت عن الكل ، هذا الموضوع لا يعنينا في هذه الحلقة ، يعنينا الدعوة إلى الله كفرض عين ، المسلم العادي الذي ليس له أي نشاط دعوي إذا خرج عن مبادئ فطرته ، أو عن منهج ربه يختل التوازن ، فكيف إذا خرج من يدعو إلى الله ولو دعوة بمستوى فرض العين عما يقول ؟ إن اختلال توازنه أشد وأكبر .
الأستاذ زياد :
 بمعنى آخر ، وللتوضيح أكثر ، إنكم تدعون المسلم الذي يدعو لنقل أهل بيته وأولاده إلى أداء الصلاة ، والالتزام بما أمر الله به ، وهو يعمل عكس ذلك ، هنا يختل توازنه ، وهذا ما يظهر من اختلال توازنه الداخلي .

عظمة الأنبياء أنهم كانوا قدوة للناس سرائرهم كعلانيتهم :

الدكتور راتب :
 كما قال سيدنا علي : " بين الحق والباطل أربعة أصابع " ، بين أن تقول : رأيت ، وبين أن تقول : سمعت ، الحقيقة أن الناس لا يتعلمون بآذانهم ، بل بعيونهم ، لغة العمل أبلغ من لغة القول ، لو أن أباً متكلماً فصيحاً ألقى على ابنه ألف محاضرة في الصدق ، كل هذه المحاضرات تهدم إذا قال لابنه : إذا طرق الباب أحدٌ فقل له : أنا لست هنا في البيت ، فالإنسان لا يتعلم إلا بعينيه ، لذلك عظمة الأنبياء أنهم كانوا قدوة للناس ، كانوا مثلاً عليا ، ولا ينجح أبٌ في تربية أولاده إلا إذا كان قدوة لأولاده ، ولا ينجح معلم في تربية تلاميذه إلا إذا كان قدوة لهم ، جاء إلى البشرية آلاف المصلحين ألفوا الكتب ، لكن لم يحدثوا شيئاً في المجتمع ، لكن الأنبياء وهم قلة فعلوا فعل المعجزات لسبب بسيط جداً ، أنهم فعلوا ما قالوا ، لم يجد المدعو مسافة يبن أقوالهم وأفعالهم ، لم يجد مسافة بين سرائرهم وعلانيتهم .
الأستاذ زياد :
 فضيلة الشيخ الدكتور محمد رابت النابلسي ، عنوان هذه الحلقة وموضوعها علاقة التوبة ، وثبات التوبة النصوح الصادقة مع الدعوة إلى سبيل الله ، وبخاصة المسلم العادي الذي بحقه الدعوة إلى سبيل الله فرض عين ، في حدود ما يعلم ، وبحق من يعرف ، ما علاقة ذلك بالتوبة وثبات التوبة ؟

التطبيق والإخلاص يهبان الكلام قوة تأثيرية عجيبة :

الدكتور راتب :
 لأنه والله أعلم حينما سعد بقرب الله عز وجل ، فإذا خالف ما يدعو إليه اختل توازنه فشعر بضيق ، والحقيقة الدعوة إلى الله لا تقوم على معلومات فحسب ، بل تقوم على روحانية أساسها الاتصال بالله ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، الدعوة إلى الله لا يتمتع بمعلومات دقيقة ، بقدر ما يحتاج إلى صلة بالله عز وجل ، والحقيقة الثابتة الصارخة أن الإنسان لمجرد أن يقع في ذنب فقد حجب عن الله ، فإذا وقع من يدعو إلى الله لا سمح الله ولا قدر في مخالفة حجب عن الله ، وأصبح يتكلم مما في دماغه من معلومات ، وعندئذ لا يؤثر .
 الحقيقة أن الدعوة إلى الله أساسها إحداث أثر في المستمعين ، هذا الأثر لا يتأتى من معلومات دقيقة تحفظها ، بل يتأتى من حال مع الله تكتسبه من خلال اتصالك به ، فأنا أقول : لا يمكن أن يحدث أثراً في مجتمعه إلا بشرطين ، أن يكون مطبقاً لما يلقي على الناس ، وأن يكون مخلصاً فيما يلقي على الناس ، التطبيق والإخلاص يهب الكلام قوة تأثيرية عجيبة ، فكم تجد من عالم ينطوي على علم غزير ، ولأنه ليس مطبقاً لعلمه لا يحدث أثراً ولا في طفل صغير ، بينما الذي ينطوي على معلومات متواضعة ، لكنه مطبق لها بالتمام والكمال ، إذا نطق بها هز الصخر ، وهز أعتى الأشخاص ، وأثّر في أقسى القلوب ، القضية قضية تطبيق وإخلاص ، فالذي يدعو إلى الله يحتاج إلى هذا الإخلاص وهذا التطبيق ، وإلا اختل توازنه أشد مما يختل توازن المسلم إذا خرج عن منهج ربه أو مبادئ فطرته .

خاتمة وتوديع :

الأستاذ زياد :
 وهذا ما سنفصله بحديث عملي وتطبيقي لهذا الأمر ، علاقة ثبات التوبة النصوح بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في الحلقة المقبلة غداً بإذن الله .
 أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، إلى اللقاء في الغد بإذن الله تعالى ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم ، حتى الملتقى ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور