وضع داكن
23-04-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 11 - التوبة النصوح ( تحصين النفس من المعصية ودواعيها).
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ زياد :
  بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 إخوة الإيمان والإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، يتجدد اللقاء بحمد الله تعالى دائماً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من لبنان ، مع هذا البرنامج منهج التائبين يسرني دائماً أن أجدد اللقاء وأرحب بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ زياد :
 فضيلة الشيخ نتابع الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، تحدثنا أنه كيف يتوب المرء ، ويعود ويذنب ويعود ويتوب ، وطالما يتوب فإن الله سبحانه وتعالى يقبله ، ويقبل توبته ، فضيلة الشيخ كيف يحصن المرء نفسه من المعصية ومن دواعيها ؟

الابتعاد عن أسباب الذنب أكبر حصن للمؤمن التائب :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ))

[متفق عليه عن عبد الله رضي الله عنه ]

 أنا حينما أصدق في طلب الحقيقة أصل إليها ، وحينما أصدق في التوبة ألهم سبلها ، وحينما أصدق في العلم أصل إلى ينابيعه كأن هذا قانون إلهي ، كأن هذا من سنن الله الجارية في خلقه ، الصدق يهدي إلى البر ، وأن المرء لا يزال يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، أي يمارس الصدق ، وهناك رواية أن الصدق يهدي مطلقاً ، يهدي إلى كل شيء ، كيف أن الله عز وجل قال :

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾

[ سورة الإسراء :9 ]

 هذا مطلق ، والمطلق على إطلاقه ، وأحياناً تكون البلاغة في الإطلاق ، أنا حينما أصدق في التوبة أهتدي من قبل الله إلى مقوماتها ، عند العوام كلمة لها معنى لطيف ، الإنسان حكيم نفسه ، أنا حينما تزل قدمي في هذا البيت ينبغي ألا أدخله ، حينما أعصي مع هؤلاء الشباب ينبغي ألا أصاحبهم ، حينما أرتكب خطأً بمطالعة هذا الكتاب ينبغي ألا أطالعه ، حينما أحجب عن الله لمخالفة ألممت بها من متابعة هذا البرنامج ينبغي ألا أتابعه ، فلا يمكن أن أثبت على التوبة إلا إذا عرفت مصادر الذنب ، وابتعدت عن أسباب الذنب ، الابتعاد عن أسباب الذنب أكبر حصن للمؤمن التائب ، عندي شيء آخر هو البديل ، لابد من البديل ، أنا حينما تطوق نفسي كما أودع الله في من شهوات لأرقى بها إلى الله عز وجل تتوق نفسي إلى المرأة أتزوج ، تتوق نفسي إلى المال أعمل ، فحينما أبتعد عن مظان المعصية وأهيئ البديل أكون قد حصنت نفسي في هذه التوبة النصوح .

مفارقة نواحي الذنب :

 النبي عليه الصلاة والسلام له ملمح رائع ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ، قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ ، وَكَفُّ الْأَذَى ، وَرَدُّ السَّلَامِ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ))

[متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]

 إذاً لابد من مفارقة نواحي الذنب ، تحليل دقيق جداً في حياة المؤمن أنا هنا أخطأت بسبب هذا المجلس ، بسبب هذه الصداقة ، بسبب هذا الحفل ، بسبب هذا اللقاء ، أنا حينما أكشف أسباب الذنب أبتعد عن أسباب الذنب ، البديل أن يكون لي بيئة صالحة من المؤمنين ، قال تعالى :

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾

[ سورة الكهف: 28 ]

 هناك نقطة دقيقة جداً وهي أن الإنسان إذا جلس بين أربعة جدران دون أن يرى طعاماً، ودون أن يسمع به ، ودون أن يشم رائحته يجوع ، لأن الدافع إلى الطعام داخلي ، لذلك شرع لنا أن نأكل ما حرم الله علينا عند الضرورة ، قال تعالى :

﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾

[ سورة البقرة : 173]

الأمر الموجه إلى الأمة موجه حكماً إلى أولي الأمر في الأمة :

 لكن الدافع إلى الجنس ليس من داخل الإنسان من خارجه ، لذلك ليس في ديننا الزنا الاضطراري أبداً ، يأتي هذا الدافع من الإثارة الخارجية ، لذلك من غض بصره دخل في حصن حصين ، من ابتعد عن مجالس المنكر دخل في حصن حصين ، من ابتعد عن رفقاء السوء دخل في حصن حصين ، من ابتعد عن أدب إباحي دخل في حصن حصين ، من ابتعد عن أعمال فنية لا ترضي الله عز وجل دخل في حصن حصين ، من صحب الأتقياء دخل في حصن حصين ، فأنا حينما أعرف أسباب الذنب ، وأبتعد عن أسبابه أكون قد حصنت نفسي ، إلا أن الفكرة التالية ، والتي ألح عليها كثيراً ، أنه ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها ، أي إنه ليس في الإسلام حرمان إطلاقاً ، هؤلاء الشاردون الواهمون يتوهمون أنك إذا تبت إلى الله حرمت من كل شيء ، وكأن عدم التوبة فيها بحبوحة ، وفيها انطلاق ، وفيها اطلاع على ما في الحياة ، هكذا يتصور البعض ، أنت حينما تتوب إلى الله كل شيء أودعه الله فيك جعل له قناةً نظيفةً تسري خلالها فأنت لا تعاني الحرمان ، إذا كنت تائباً إلى الله عز وجل فأنا لا يسعني إلا أن أؤكد على البعد عن أسباب الذنب ، وتوفير البديل الشرعي حتى نكون سلكنا في طريق التوبة ، ذلك أن المجتمع المسلم ينبغي أن يحصن أفراده من كل معصية عن طريق هذا الأمر الإلهي :

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾

[ سورة النور: 132 ]

 قال علماء الأصول : حينما يأتي الأمر بواو الجمع هذا أمر موجه إلى كل الأمة ، فكل مجتمع ينبغي أن تبحث قيادته عن طريق إحصان الشباب ، هذا يعني توفير البيوت ، توفير الأعمال ، تيسير الأمور ، أن نتعاون على إحقاق الحق ، أن نتعاون على توفير فرص العمل للشباب ، أن نتعاون على تحصينهم وكلاً في نطاقه ومسؤوليته ، فهذا أمر موجه إلى الأمة بأكملها ، والأمر الموجه إلى الأمة موجه حكماً إلى أولي الأمر في الأمة :

﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾

[ سورة النور: 132 ]

تجفيف مصادر المعصية أهون بكثير من معالجة العصاة بعد ارتكاب المعصية :

 هناك تعبير يستخدم " تجفيف " ، لابد من أن نجفف مصادر المعصية ، أنا الذي يحيرني أن العالم الغربي بأكمله حينما يعالج قضية الإيدز يبحث عن مصول ، وعن أدوية ، ولا يفكر أحدهم ثانية واحدة أن البعد عن المعصية والزنا والشذوذ أكبر حجاب بين الإنسان وبين هذه الأمراض ، فهم يعالجون النتائج ، ولا يعالجون الأسباب .
 كأن مدينة فيها مياه ملوثة ، وهناك أمراض لا تعد ولا تحصى ، فكل همّ القائمين على هذه المدينة أن يأتوا بالأطباء والمستشفيات والأجهزة ، ويغيب عنهم أن هذه المياه الملوثة لو منعوها لانتهى الأمر ، فتجفيف مصادر المعصية أهون بكثير من معالجة العصاة بعد أن يرتكبوا المعصية ، شيء يحير في هذه المجتمعات ، كل دواعي المعصية في أبهى حللها ، في أبهى نشاطاتها ، ونقول للشباب : يجب أن تتوبوا ، إذاً لابد من أن يقوم المجتمع بأكمله على حفظ أخلاق الشباب ، وعلى تيسير الزواج ، أمة لا يستطيع الشاب أن يتزوج فيها إلا بعد الثلاثين ، إلا بعد الخامسة والثلاثين ، هذه أمة ينبغي أن تعاني ما تعاني .
الأستاذ زياد :
 إذاً لنعطي مثالاً آخر غير الزواج ، فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، البعض يقع في معصية التعامل مع المصارف الربوية ، أين البديل ؟ البديل تقول لي المصارف الإسلامية ، وهل من يضمن لي أنها تعطي وتجري عقوداً مطابقة للشريعة الإسلامية ، وهكذا دواليك ، ولكن هناك أموراً كثيرة مستجدة هي من الشبهات يحوم حولها المرء يقع فيها ويقع بمعصيتها أم لا ؟

ما من معصية في القرآن الكريم توعد الله مرتكبيها بالحرب مثل أكل الربا :

الدكتور راتب :
 أنت وضعت يدك على الجرح الحقيقة ، هناك مشكلتان كبيرتان يعاني منهما الإنسان اليوم ، قضية الجنس ، وقضية المال ، كسب المال أكبر مشكلة يعاني منها الشباب اليوم ، ثم الجنس ، الجنس ذكرت قبل قليل وسائل الاحتياط من الوقوع في معاصي الجنس ، أما المال فلابد من توفير الأعمال للشباب ، حينما قال سيدنا عمر لأحد ولاته : ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال : أقطع يده ، قال : إذاً ، إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك ، قال له : يا هذا إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك في المعصية ، كلام حكيم .
 شيء يلفت النظر ، ما من معصية في القرآن الكريم توعد الله مرتكبيها بالحرب مثل أكل الربا ، قال تعالى :

﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[ سورة البقرة : 297]

 ألا يلفت النظر الله يحارب آكل الربا ، ذلك لأن المال إذا ولد المال تجمع المال في أيدٍ قليلة ، وحرمت منه الكثرة الكثيرة ، عندئذ ينتشر الفسق والمجون ، وبيوت الدعارة ، والسرقة ، والاحتيال ، والغش ، وما إلى ذلك ، ماذا نفعل ؟ ينبغي أن تلد الأعمال المال ، لا أن يلد المال المالَ ، فنحن أمام طريقين ، إما أن نكسب المال من عمل ، وإما أن نكسب المال من ربا .
 كسب المال من عمل يوفر فرص عمل للشباب ، افتح محلاً تجارياً أنت تحتاج إلى موظف ، وإلى مراسل ، وإلى من يصلح لك مركبتك ، وإلى من تستأجر منه مستودعاً ، شئت أم أبيت ، أي عمل ستستخدم آخرين ، لذلك الدخل من الأعمال موزع بين الناس ، أما الدخل من الربا فيأخذه صاحبه وحده ، وكأن مشيئة الله أرادت أن يكون المال متداولاً بين الناس ، كما أننا نشجع الشباب على الزواج عن طريق تسهيل أسبابه ، وتأمين البيوت ، وتأمين الأثاث ، يجب أن نشجع على استثمار المال من خلال الأعمال لا من خلال الربا ، إذاً نحن حينما نحصن شبابنا من الزنا ، ونحصن شبابنا من الحاجة والفقر نكون قد قدمنا أسباب التوبة .

خاتمة وتوديع :

الأستاذ زياد :
 إذاً البعد عن دواعي المعصية هو العلاج السليم لاستمرار التوبة ، وأن تكون هذه التوبة نصوحاً ، ومطابقةً ، وثابتة .
 بإذن الله تعالى نتابع غداً ، ونتناول شقاً آخر من التوبة النصوح ، وكيفية الاستمرار عليها ، ألا وهو دوام الاستغفار ، هذا من دواعي تثبيت التوبة النصوح الصادقة ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم حتى الملتقى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور