وضع داكن
24-04-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 05 - حقيقة التوبة 1 - هل يعذر المرء بجهله؟.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

 دار الفتوى إذاعة القرآن الكريم من لبنان منهج التائبين حوار يومي حول التوبة ومعانيها مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي مع تحيات زياد دندن .
الأستاذ زياد :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 أيها الأخوة المستمعون ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم ، ونرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي معنا في هذا البرنامج ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 نتابع حديثنا عن التوبة ، لنتحدث اليوم بإذن الله تعالى عن حقيقة التوبة ، التوبة علم، وحال ، وعمل ، كيف لنا أن نترجم هذه المعاني ؟

معرفة منهج الله :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في كلامه الموجز والبلاغة في الإيجاز :

((النَّدَمُ تَوْبَةٌ))

[أحمد عن أنس بن مالك]

 ولكن علماء الحديث الذين شرحوا هذا الحديث قالوا : لابد من علم كان سبب هذا الندم ، ولابد من عمل يبنى على هذا الندم ، فكأن الندم مركز سبقه علم ، وانتهى إلى عمل ، فعند المحققين من العلماء أن التوبة علم وحال وعمل .
 أما أنها علم فكيف يتوب الإنسان من ذنب لا يعلم أنه ذنب ؟ أنت حينما تدرس اللغة العربية ، وتستمع إلى نص يقرأ عليك تكشف الأخطاء ، أما إن لم تدرس هذه اللغة فلا ترى الأخطاء ، فالإنسان قد يرتكب ذنوباً لا حد لها ، ولا حصر ، ولأنه لم يطلب العلم الشرعي ، ولم يعرف منهج الله عز وجل فيرتكب هذه الذنوب ، ويظن أنه لم يفعل شيئاً ، فلابد من أن تعرف منهج الله عز وجل ، افعل ولا تفعل .
الأستاذ زياد :
 هل يعذر المرء بجهله ؟

التوبة من الذنب لا تكون إلا بمعرفة دقائق الشرع :

الدكتور راتب :
 لا يعذر ، لأن الله عز وجل يحاسب على الجهل عندئذٍ ، لكن حينما يكون الإنسان مؤمناً طائعاً منيباً ، وقد غفل عن مخالفة بسيطة :

﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة الأنعام : 54]

 حينما تكون في الطريق إلى الله ، وأنت تتحرى أمر الله ونهيه ، وغفلت عن مخالفة بسيطة بجهل غير مقصود ، فرحمة الله عز وجل تسعُ هذا الذنب .

﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة الأنعام : 54]

 إذاً لا يمكن أن يتوب المؤمن من ذنبه إلا إذا عرف منهج ربه ، حينما تعرف دقائق الشرع ينبغي أن تكشف الذنب ، ولكن ما من عمل بعد الإيمان الحق الذي يحملك على طاعته ، ما من عمل أعظم من معرفة منهجه ، إنك بالكون تعرفه ، وبالشرع تعبده ، منهج الله عز وجل دقيق جداً ، لكن المسلمين اليوم اختصروه إلى عبادات شعائرية ، الدين منهج متكامل ، يبين علاقات الإنسان مع نفسه ، ومع جسمه ، ومع زوجته وأولاده ، في حلّه وترحاله ، في إقبال الدنيا عليه وإدبارها عنه ، في صحته ومرضه ، قبل الزواج وبعد الزواج ، في كسب المال وفي إنفاقه ، منهج الله دقيق جداً ، ومنهج الله لا يحتمل أن تحذف منه شيئاً ، ولا تضيف عليه شيئاً ، إنه من عند الله عز وجل .

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾

[سورة المائدة : 3]

العلم الذي ينبغي أن يعلم بالضرورة :

 ولكن ما دام الحديث عن العلم الذي تعلمه حتى تتقي أن تقع في الذنب ، أو أن تتوب منه ، فسمّاه العلماء : العلم الذي ينبغي أن يعلم بالضرورة ، وأنا أسوق هذا المثل دائماً ، لأنه يؤكد هذه الحقيقة .
 لو أن مظلياً أراد أن ينزل من الطائرة بمظلة ، قد يجهل شكل المظلة ، هل هو بيضوي أو دائري ؟ مربع أم مستطيل ؟ قد يجهل نوع قماشها ، قد يجهل عدد حبالها ، قد يجهل نوع الحبال التي صنعت منها ، قد يجهل لون الحبال ، قد يجهل مئات المعلومات عن المظلة ، لكن حقيقة واحدة إذا جهلها نزل ميتاً ، إنها طريقة فتح المظلة ، فطريقة فتح المظلة هذه حقيقة يجب أن تعلم بالضرورة ، والدين واسع جداً ، لكن في الدين جزء من المعلومات يجب أن يعلمها أي مسلم ، وأي مؤمن على وجه الأرض ، فإذا غفل عنها وقع في الذنب ، وهو لا يدري .
 إنسان تزوج ، ينبغي أن يعلم أحكام الزواج ، حقوق الزوج ، حقوق الزوجة ، ما ينبغي فعله ، وما لا ينبغي فعله ، ما يجوز وما لا يجوز في العلاقات الزوجية ، أنجب الأولاد ، كيف يربيهم ، وما ثواب من يربي أولاده ، في شؤون الزواج يجب أن يعلم أحكام الزواج ، وأحكام الطلاق ، وتربية الأولاد .
الآن أراد أن يعمل في التجارة ، ينبغي أن يعلم أحكام التجارة ، من دخل السوق بغير فقه أكل الربا شاء أم أبى ، فمعرفة أحكام الزواج والطلاق وتربية الأولاد ، أحكام كسب المال الحلال ، أحكام إنفاق المال ضروري ، وإذا سافرت فللسفر أحكام ، يجب أن تتعلم من الأحكام الشرعية ما أنت بحاجة إليه ، وهذا العلم اسمه : علم ما ينبغي أن يعلم بالضرورة ، ما لم تعلم هذا العلم تركب الخطأ ، وأنت لا تدري أبداً ، فلذلك لا يمكن أن تنعقد توبة من قبل مؤمن إلا إذا عرف منهج الله عز وجل ، معرفة الله شيء ، ومعرفة منهجه شيء آخر ، أضرب لك مثلاً . . .
 لو أن إنسانًا عرض عليك أن تقرضه مبلغاً من المال ليشتري بيتاً ، وأنت طلبت أن يضمن هذا المبلغ ، أن يؤدى لك بعد عامين بالتمام والكمال ، ولك أن تطلب أجرة على البيت ، لأنك ضمنت مالك بعد عامين دون زيادة أو نقصان ، لأنك طلبت أجرة لهذا البيت فهذه الأجرة رباً مئة بالمئة ، لأنك ضمنت المبلغ ، أما لو أنك ساهمت مع هذا الإنسان بشراء بيت لك منه الربع ، وأعطاك أجرة فتأخذها حلالاً ، بشرط أن مبلغك الذي في البيت خاضع للزيادة والنقصان بحسب سعر البيت حينما تريد أن تبيعه ، فهناك أحكام كثيرة في كسب الأموال ، وأحكام كثيرة في إنفاق الأموال ، فالمبذر أخ للشيطان ، الإسراف في المباحات ، والتبذير في المعاصي ، فما لم نتعلم أصول كسب المال وإنفاق المال ، ما لم نتعلم أحكام الزواج وأحكام الأسرة الزوجية ، وأحكام تربية الأولاد ، ما لم نتعلم أحكام السفر ، قد نقع في ذنوب كثيرة جداً ، فلا يمكن أن تعرف أنك مذنب إلا إذا عرفت أصل التشريع ، إذاً التوبة تبدأ بالعلم ، وكم من مؤمن التحق ببيت من بيوت الله وبدأ يستمع إلى المدرس ، إلى أحكام الشريعة ، قد يشعر أن هناك مخالفات كثيرة وقع فيها دون أن يشعر ، إذاً إن أردنا الحديث عن التوبة لابد من أن نبدأ بمعرفة منهج الله ، إن معرفة منهج الله تكشف لك عن الأخطاء التي نرتكبها دون أن نشعر ، وكمثل طبي : لا يمكن أن تعالج ضغطك المرتفع إلا إذا علمت أن معك ضغطاً مرتفعاً ، ولابد لمعرفة هذا الضغط المرتفع من مقياس تقيس به ضغطك ، هذا شيء مبسط .
الأستاذ زياد :
 إذاً هذا هو العلم بالذنب .

التوبة علم :

الدكتور راتب :
 العلم بالذنب ، لابد من أن تعرف منهج الله كي تكشف الذنوب ، أما الذي لا يعلم فيرتكب أكبر الذنوب ، يقول : ماذا فعلت ؟ لم أفعل شيئاً ، العلم حارس ، لذلك سيدنا علي كرم الله وجهه يقول : " يا بني ، العلم خير من المال ، لأن العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، يا بني ، مات خزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة " .
 هذا الذي يبيع الدجاج دون أن يعلم حقيقة الذبح ، وكيف يعامل الحيوان ، حينما يذبح يقع في أخطاء كبير ، أنا رأيت مرة في الشام من يذبح الدجاجة ، ويضعها في ماء يغلي فوراً ، كي يزيل عنها ريشها ، ارتكب خطأ كبيرًا جداً لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى صحابيًّا يذبح شاة أمام شاة غضب ، قال : أتريد أن تميتها مرتين ، هلّا حجبتها عن أختها .
 مثلاً : الخروف حينما نذبحه ينبغي أن نقطع أوداجه فقط ، ومن قطع رأسه كلياً وقع في مخالفة شرعية ، ذلك أن القلب يتلقى أمراً بالنبض من مراكز كهربائية ، هذا الأمر يعطيه النبض النظامي ، ثمانون نبضة في الدقيقة ، لكنه يتلقى الأمر الاستثنائي عن طريق الدماغ ، فالقلب عند الذبح مهمته إخراج الدم كله ، فإذا بقي ينبض نبضاً نظامياً يخرج بعض الدم ، أما إذا بقي الرأس مربوطًا بالجسم فيأتيه الأمر الاستثنائي ، فينبض مئة وثمانين نبضة ، هذه النبضات كافية لإخراج الدم كله من الجسم ، إذاً النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهاته لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فما من مصلحة إلا تحتاج إلى معرفة المنهج الإلهي ، فأنا أذنب لأنني أجهل ، لو أنني أردت أن أطيع الله ، متى أذنب ؟ حينما أجهل ، بل إن أزمة الكافر يوم القيامة هي الجهل .

﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾

[سورة الملك : 10]

 إذاً أنا حينما أطلب العلم أطلب علمين ، معرفة بالله عز وجل ، ومعرفة بمنهجه ، المعرفة بمنهجه تقيني أن أقع في الذنب ، وإن وقعت في الذنب غلبةً كما قلنا في حلقة سابقة فسريعا ما أرجع ، معرفة أن هذا ذنب ممكن أن أتوب منه ، أنت لا يمكن أن تتوب من ذنب لا تعلم أنه ذنب ، إذاً التوبة علم .
الأستاذ زياد :
 أما بالنسبة للتوبة حال .

التوبة حال :

الدكتور راتب :
 حال : الإنسان فطر على حب وجوده ، وعلى حب سلامة وجوده ، وعلى حب كمال وجوده ، وعلى حب استمرار وجوده ، فأنت حينما توقن يقيناً قطعياً أن هذا ذنب ، وأن الله سيعاقب عليه في الدنيا والآخرة فتندم أشد الندم على الوقوع فيه ، علامة إدراك الذنب الندم عليه ، كأن علاقتنا مع المحيط أساسها قانون كشفه عالم اجتماع ، إدراك ، انفعال ، سلوك .
 مثلاً : أفعى في بستان ، أنا حينما أدرك أنها أفعى بحسب مفهومات قديمة متراكمة في الدراسة ، وفي التجارب ، وفي متاحف الأفاعي ، وحينما أستمع إلى قصص كثيرة عن الأفعى، وعن مضارها ، مجموعة هذه القصص والمشاهدات والدراسات تكوّن مفهوم الأفعى ، فالإنسان حينما يرى أفعى في بستان بحسب مفهوماته عن الأفعى يدرك خطرها ، علمه أنها مخلوق قاتل ، أو مؤذٍ ينقله إلى الاضطراب ، واضطرابه منها ينقله إلى عمل ، وهو أن يقتلها ، أو يهرب منها ، لكنْ تصوَّرْ إنسانًا على كتفه عقرب ، وقلت له أنت بالحرف الواحد : احذر ، على كتفك عقرب ، فبقي هادئاً ، وبقي مبتسماً ، والتفت نحوك ، وقال لك : شكرًا على هذه الملاحظة ، أنا أتمنى أن أكافئك عليها ، بربك هل فهم ما قلته له ؟
الأستاذ زياد :
 بالطبع لا ، لم يحسب حسابَ المخاطر .
الدكتور راتب :
 لا يمكن أن يكون الحال إلا بعد الإدراك السليم ، ولا يمكن أن يكون السلوك إلا بعد الحال الصحيح ، إذاً تدرك فتضطرب فتسلك ، أنا حينما أدرك أنا هذا ذنب يجب أن أندم عليه ، وأن أضطرب له ، ندمي الصحيح ، واضطرابي الصحيح يحملني على أن أقلع عنه ، إذاً هو حال بعد العلم .
الأستاذ زياد :
 حال من الندم ، وخوف من عقاب الله سبحانه وتعالى ، واستعظام هذا الذنب ، استعظم ذنبك ، ولو صغر هذا الذنب .

التوبة عمل :

الدكتور راتب :
 بقي العمل . . . أنا علمت أنه ذنب ، فاضطربت ، صحة علمي تنقلني إلى الاضطراب ، الندم ، وحقيقة اضطرابي وندمي تنقلني إلى العمل ، فالعمل متعلق بثلاثة أزمنة ، إن كان هذا الذنب قد وقع في الماضي فعليّ أن أصلحه ، وفي الحاضر أقلع عنه ، وفي المستقبل أعزم على ألا أقع فيه ثانية ، فإصلاح في الماضي ، و إقلاع فوري ، وعزيمة في المستقبل ألا أقع فيه ، إذاً التوبة علم ، وحال ، وعمل ، إلا أن العمل إن كان - كما قلنا في حلقة سابقة- موجّهاً للإنسان فينبغي أن أستسمح منه ، أن يعفو عني ، أن أؤدي الحق ، أن أستغفره ، إن اغتبته مثلاً ، إذاً العمل متعلق بالماضي ، إصلاح في الحال ، إقلاع في المستقبل ، عزيمة على ألا أعود إليه .

خاتمة و توديع :

الأستاذ زياد :
 وهذا ما سنفصله غداً بإذن الله تعالى في إطار حديثنا عن حقيقة التوبة .
 أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الأخوة المستمعين على حسن إصغائهم ، حتى الملتقى في الغد لكم التحية .
 والسلام عليكم ورحمة وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور