وضع داكن
29-03-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 03 - أنواع الذنوب - الذنب بين العبد وربه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

  دار الفتوى إذاعة القرآن الكريم من لبنان منهج التائبين ، حوار يومي حول التوبة ومعانيها ، مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، مع تحيات زياد دندن . بسم الله الرحمن الرحيم .
الأستاذ زياد :
 بسم الله ، والحمد لله ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ، ومن والاه .
 أيها الأخوة المستمعون ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، يتجدد اللقاء ، أرحب في مستهله بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أحد أبرز دعاة دمشق وعلمائها ، أهلاً ومرحبا بكم فضيلة الشيخ .
 وعدنا الأخوة المستمعين أن نتابع سلسلة حواراتنا عن التوبة ، وهذا معنى آخر لشرح الذنب ، ذكرنا فيما سبق الذنب الذي لا يغفر ، ألا وهو الإشراك بالله سبحانه وتعالى - والعياذ بالله - إلا أن يتوب المشرك من إشراكه ، والذنب الذي لا يترك ، وهو الذنب الذي بين العبد وأخيه الإنسان ، الذي لا يغفر إلا بأدائه ، أو بالتسامح به ، الآن نتحدث عن الذنب الذي يغفر ، وهو الذنب الذي بين العبد وربه ، بداية ما هو هذا الذنب ؟

الفرق بين الذنب و الإثم :

الدكتور راتب :
 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 فرض الله علينا العبادات كالصلاة والصيام والحج والزكاة ، وفرض علينا أن نغض أبصارنا ، وأن نضبط ألسنتنا ، وهناك معاصٍ من نوع الإثم ، في القرآن الكريم مصطلحان دقيقان؛ الإثم والعدوان ، العدوان أن تعتدي على أخيك ، على حياته ، أو على ماله ، أو على سمعته ، الإثم كمَن شرب الخمر فيما بينه وبين الله ، دخل إلى غرفة ، وشرب الخمر فهو آثم ، نظر إلى امرأة لا تحل له في الطريق فرضاً ، تكلم كلاماً لا يرضي الله عز وجل ، هذه المعاصي التي لا تتعلق بحقوق العباد ، تتعلق بحقوق الله عز وجل .
الأستاذ زياد :
 إذاً هل هناك فرق بين الذنب والإثم ؟
الدكتور راتب :
 عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))

[ الترمذي عن أنس بن مالك]

 إذاً : الذنب خطأ ، وهناك الإثم والعدوان ، فما الفرق بينهما ؟ العدوان تجاوزت حدود الله فاعتديت على أخيك الإنسان ، أي إنسان - مسلم أو غير مسلم - أبداً ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا ، فَقَالَ : يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ، مَا هَذَا ؟ قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ ؟ ثُمَّ قَالَ : مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا ))

[ الترمذي عن أبي هريرة]

 وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((.. وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 لكن : مَنْ غَش أوسع .
 وفي حديث آخر عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))

[ متفق عليه عن أنس]

 من أوسع معاني هذا الحديث حتى يحب لأخيه في الإنسانية ما يحب لنفسه ، فنحن مبدئياً العدوان أن تعتدي على حق إنسان ، كائناً من كان ، ولو كان هذا الإنسان غير مسلم ، بل إن الإنسان غير المسلم العدوان عليه أشد من العدوان على المسلم ، والدليل أن المسلم إذا اعتدى على مسلم يقال : فلان اعتدى عليّ ، أما إذا اعتدى مسلم على غير مسلم فيتهم الإسلام كله بهذا العدوان ، وأنت على ثغرة من ثغر الإسلام ، فلا يؤتين من قِبلك ، المسلم سفير هذا الدين في تصرفاته ، وحركاته ، وسكناته ، ومواقفه ، وعقوده ، وبيعه ، وشرائه ، هذا كله تحت منظار مكبر.
الأستاذ زياد :
 هذا كله دليل على إسلامه .
الدكتور راتب :
 لذلك :

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا ﴾

[ سورة المائدة : 8]

 من هو الخصم الأول للمؤمن ؟ الكافر ، ومع ذلك لا يحملنكم كراهيتكم لهذا الكافر أن تظلموه .

﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

[ سورة المائدة : 8]

 بل إن الله سبحانه وتعالى يستجيب للمظلوم ولو كان كافراً ، لا بأهلية الداعي ، بل بعدل الله عز وجل ، يستجيب الله للمظلوم ولو كان كافرًا ، ويستجيب للمضطر ولو كان غير مؤهل للدعاء ، المظلوم يستجيب له باسم العدل ، والمضطر يستجيب له باسم الرحمة ، فالعدوان على أي مخلوق هذا إثم لا يغفر .
 أما الإثم فكإنسان دخل غرفته ، وعصى الله فيما بينه وبين الله ، فحينما يقع الإنسان في الإثم فلابد من أن يستغفر الله عز وجل ، الذنب المتعلق بحق الله ، الصلاة حق لله عز وجل، الصيام حق لله ، الزكاة حق لله ، الحج حق لله ، فهذه الذنوب إذا وقعت ، وعلم الله من العبد صدق توبته ، وإخلاصه في توبته ، وإصراره على توبته ، غفر الله هذه الذنوب مهما كانت كثيرة.
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

(( يَا بْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي ، وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا بْنَ آدَمَ ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا بْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))

[ الترمذي عن أنس بن مالك]

 وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى ، وهي أرجى آية في القرآن :

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[ سورة الزمر: 35 ]

رحمة الله متوقفة على أن نعود إليه :

 ولكن . . .

﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾

[ سورة الزمر: 54]

 هذه النقطة أنا متأثر بها كثيراً ، أن معظم المسلمين يأخذون شطر الآيات ، قسمها الأول ، مثلاً .

﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[ سورة الحجر : 49 ]

 أكمل الآية :

﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾

[ سورة الحجر : 50]

 ثم :

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾

[ سورة الزمر: 53]

 أتمم الآية :

﴿اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾

[ سورة الزمر: 53-54]

 كل معاني التوبة ، وكل وعود الله عز وجل بالمغفرة ، وكل رحمة الله منوطة برجوع العبد إلى الله ، أما ألا يرجع فمستحيل أن ينال شيئاً من هذه الرحمات ، رحمة الله متوقفة على أن تعود إليه .

الحجاب أكبر عقاب للمؤمنين وهو العقاب الأكبر يوم القيامة :

 هناك شاب له شيخ ، قال له : يا بني ، إن لكل سيئة عقابًا ، فهذا الشاب زلت قدمه في معصية فيما بينه وبين الله ، وقع في الحجاب ، بالمناسبة الإنسان الذي له صلة بالله عز وجل أكبر عقاب له أن يحجبه الله ، الابن المربى تربية عالية جداً أكبر عقاب له من أبيه أن يعرض عنه ، فالذي على مستوى راقٍ جداً عقابه دقيق جداً ، فهذا الشاب الذي عصى الله عز وجل فيما بينه وبين الله حجب عن الله ، شعر بضيق لا يحتمل ، وهذا مع الله شيء لا يحتمله مؤمن ، مرة ناجى ربه فقال : يا رب ، لقد عصيتك فلم تعاقبني ، ما عاقبه عقابًا ماديًّا ، قال : عبدي قد عاقبتك ولم تدر ، وقع في قلبه- كما يقول بعض علماء القلوب - أن يا عبدي لقد عاقبتك ، ولم تدر ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟ فيما بينك وبين الله هناك أنواع من العقابات يعرفها المؤمنون منها أنه يحجبك .
 لو فرضنا إنسانًا له دعوة ، وأخطأ فيما بينه وبين الله ، كيف يعاقَب ؟ الله حكيم ، لا يعاقبه عقاباً يفضحه به ، يعاقبه بالحجاب ، يحجبه ، لذلك قال الحسن البصري : " من صلى فلم يشعر بشيء ، ومن قرأ القرآن فلم يشعر بشيء ، ومن ذكر الله فلم يشعر بشيء ، فهو في حجاب مع الله " ، والحجاب أكبر عقاب للمؤمنين ، بل إنه العقاب الأكبر يوم القيامة .

﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾

[سورة المطففين:15]

 بالمقابل :

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾

[ سورة القيامة: 22-23]

 المؤمن حينما يسلك إلى الله عز وجل في الدنيا ، أكبر عقاب يعاقبه الله به أن يحجبه عنه ، هو أمام الناس سليم معافى ، محترم موقر ، لكن إذا أراد أن يصلي كان الطريق مسدودًا ، هذا عقاب المؤمنين الراقين ، يعاقَبون بالحجاب ، فحينما يكون الذنب بينك وبين الله ، الله عز وجل بحكمته الرائعة يختار لك طريقة للتأديب ، منها الحجاب ، منها الهم ، منها الخوف، هذا كله من عقاب الله عندما كان ما بينك وبين الله .
 بالمناسبة : ورد في بعض الأحاديث :

(( ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يعفو الله أكثر ))

[ابن عساكر عن البراء ]

 وكلما فهمت على الله ، وكلما ألمّ بالمؤمن شيء فسأل نفسه : بماذا جاء هذا الشيء ؟ ماذا فعلت حتى جاءني هذا الشيء ؟ يكون على الطريق الصحيح ، أنت حينما تتهم نفسك دائماً أنت على الطريق الصحيح .
الأستاذ زياد :
 إنها النفس اللوامة .

النفس اللوامة من أرقى النفوس :

الدكتور راتب :
 أبداً ، وهذه من أرقى النفوس ، طبعاً فوقها المطمئنة .

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾

[سورة الفجر : 27]

 وقد أقسم الله بها :

﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

[سورة القيامة: 1-2]

 لذلك أنا أقول دائماً في نهاية كل خطبة : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حاسباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة حسابًا يسيراً ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حاسباً يسيراً كان حاسبه يوم القيامة حاسباً عسيراً ، الذنب الذي يغفر ما كان بينك وبين الله ، ومن أبرز هذه الذنوب التقصير في العبادات ، لكن كل رحمة الله ، وكل مغفرة الله ، وكل قبول الله ، وكل ما عند الله من عطاء لا يناله المؤمن إلا إذا أناب إلى الله ، وعاد تائباً مستغفراً .
الأستاذ زياد :
 فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، هل لنا أن نصنف الذنوب التي هي بين العبد وربه إلى صغيرة وكبيرة ، والإصرار على الصغيرة كيف يكون ؟ وما هي عواقبه ؟ وكل ما يتشعب عن أمر الذنوب بين العباد وبين الله سبحانه وتعالى ، ونسأل الله عز وجل أن يغفر الذنوب جميعاً .

الذنب لا يقاس بحجمه يقاس على من اجترأت به :

الدكتور راتب :
 الحقيقة النقطة الدقيقة الأولى أن سيدنا بلالاً رضي الله عنه له كلمة رائعة ، قال : " لا تنظر إلى صغر الذنب ، ولكن انظر على من اجترأت ".
 الحقيقة أن الذنب لا يقاس بحجمه ، يقاس على من اجترأت به ، على خالق الأكوان، فكلما ارتقى إيمان الإنسان بربه ، وكلما كان إيمانه متعلقًا بالإحساس أنه مع الله ، ألم يقل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :

(( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ))

[ مسلم عن عمر ]

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾

[ سورة الحديد: 4 ]

 فكلما شعرت أن الله معك تستحي منه ، وكلما شعرت أن الله عظيم ترى الذنب الصغير في حقه عظيمًا ، والقاعدة الأساسية التي قالها العلماء : كلما عظم الذنب عندك صغر عند الله ، وكلما صغر الذنب عندك كبر عند الله ، بل إن المؤمن ذنبه كالجبل جاثمًا على صدره، وإن المنافق ذنبه كذبابة دفعها ، فأنا أعرف المؤمن من المنافق من حجم الذنب عنده ، فقد يقول المؤمن كلمة لا ينام الليل ، الكافر قد يرتكب جريمة وينام ، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

 وقد قيل : قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة ، امرأة عفيفة طاهرة تتكلم في عرضها بلا دليل ، بلا سبب ، هكذا لمجرد أن تتسلى ، قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة ، ومن عدّ كلامه من عمله نجا يوم القيامة ، الكلام عمل ، حينما تعد كلامك من عملك نجوت ، وحينما تظن الكلام لا علاقة له بالعمل والاستقامة هلكت ، إذاً لا تنظر إلى صغر الذنب ، ولكن انظر على من اجترأت ، إذاً كلما عظم الله عندك عظمت معصيته ، وكأنها علاقة طردية ، وكلما صغر مفهوم الألوهية عندك رأيت الذنب الكبير صغيراً ، إذاً الذنب كلما صغر في نفسك كبر عند الله ، وكلما كبر في نفسك صغر عند الله ، هذه علامة طيبة جداً ، المؤمن يرى ذنبه كالجبل جاثمًا على صدره ، يخاف أن يقع عليه ، أما المنافق فيرى ذنبه كالذبابة ، هذه الفكرة الأولى .
الأستاذ زياد :
 التساؤل الذي يرد عند كثير من الشباب يقول : ما هو ذنبي أمام ذنوب الآخرين ، وها هم لا بأس عليهم ، والأمور تسير معهم بشكل طبيعي ؟ وهكذا يحدث نفسه ، أو أن الشيطان يوسوس له بهذا الحديث ، وبهذه التساؤلات ، يقول : إن ذنبي ما هو شيء أمام ذنوب الآخرين .

الابتعاد عن الموازنة بين مؤمن ورع يخاف من ذنبه وبين إنسان جاهل :

الدكتور راتب :
 هذا له جواب دقيق ، أنت كطبيب ، لو جاءك مريض معه التهاب بالمعدة تعطيه قائمة صارمة من المطعومات التي ينبغي أن يأكلها ، فإذا أكل شيئاً نهيته عنه تقيم عليه النكير ، لأن التهاب المعدة قابل للشفاء ، أما حينما يأتي مريض معه ورم خبيث فتقول له : كُلْ ما شئت ، هؤلاء الذين شردوا عن الله عز وجل لا يحاسبون على ذنوبهم ، كأن تسوق إنساناً إلى المشنقة وعليه مخالفة سير ، فبربك هل تحاسبه على هذه المخالفة ؟ لا يحاسب ، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾

[ سورة القصص: 78]

 فهذا الشارد الجاهل كأن الله عز وجل قال له : خذ الدنيا وأنت مطرود من رحمتي :

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 44]

 الطالب في المدرسة حينما يشكو صعوبة المناهج ، وصعوبة الكتب ، والأستاذ الصعب ، والأسئلة الكثيرة ، والأطروحة التي لابد من أن تقدم كل شهر ، يشكو همه لشاب ليس في مدرسة ، يقول له : أنا أنام لأذان الظهر ، أنا مرتاح ، هذا معدّ ليأخذ دكتوراه ، ويكون في منصب قيادي ، وهذا معدّ ليكون من حثالة البشر ، فلا يوازن إنسان يرتكب المعاصي ، ولا يعاقب عليها ، مع إنسان يخاف أن يتكلم كلمة لا ترضي الله عز وجل ، هذا في العناية المشددة، وذك خارج العناية المشددة .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأنعام : 44]

﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾

[ سورة القصص: 78]

 هذا مصيره إلى النار ، المؤمن حينما يرى شابًا شاردًا يعصي ، ويرتكب الموبقات ، وهو يضحك ويلعب ، هذا الذي يسلك طريق الباطل الشيطان راض عنه ، يريحه ، ألم يقل الشيطان :

﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

[ سورة الأعراف: 16]

 لمجرد أن يسير المؤمن في طريق الحق يوسوس له ، فلا يوازن مؤمن ورع يخاف من ذنبه الصغير أن يغضب الله عليه ، لا يوازن مع إنسان جاهل .
 بالمناسبة ، مرة هكذا طالب قال لي : أنا لا أخاف من الله ، قلت له : أنت معك الحق ، قال : كيف ؟ عجب لهذا الجواب ، قلت : الفلاح حينما يأخذ ابنه إلى الحصيدة وعمره سنتان ، قد يمشي إلى جانبه ثعبان ، لو رآه رجل لخرج من جلده خوفاً ، هو يضع يده عليه ، لماذا لا يخاف منه ؟ لأنه لا يدرك ، الذي لا يدرك لا يخاف ، الذي يخاف هو الذي يدرك ، لو أن مهندساً رأى تصدعاً في جسر في البناء يقول : هذا البناء على وشك السقوط ، لو رآه إنسان يطلي البناء يضع له معجوناً ، ويتابع ، شتان بين من يرى هذا شق الجسر دليلاً لقرب انهدام البناء ، وبين من يرى هذا الشق يحتاج إلى أن يملأه بالمعجون ، مسافة كبيرة جداً بين العلم والجهل ، الطبيب حينما يغسل الفاكهة لماذا ؟ لعلمه بالميكروبات والعدوى ، وما إلى ذلك ، أمّا الجاهل فيقول لك : كُلْها وسمّ بالله ، هذا الذي نحن نحتاج إليه ، نحتاج إلى علم مع ورع ، إذاً الذنب الذي يغفر ما كان بينك وبين الله عز وجل ، ولا تنظر إلى صغر الذنب ، لكن انظر على من اجترأت .
الأستاذ زياد :
 والشرط دائماً بالتوبة والإنابة .
الدكتور راتب :
 أبداً ، كل وعود الله بالتوبة والمغفرة ، لا ينالها إلا من عاد إلى الله تائباً منيباً ، مخلصاً راجياً .

خاتمة و توديع :

الأستاذ زياد :
 أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، نتابع غداً بإذن الله تعالى هذه السلسلة من الحوارات عن معاني التوبة .
 أشكر الأخوة المستمعين لحسن إصغائهم ، حتى الملتقى إن شاء الله تعالى .
 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور