وضع داكن
19-04-2024
Logo
منهج التائبين - الحلقة : 02 - الذنب وطبيعته.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

 دار الفتوى إذاعة القرآن الكريم من لبنان نهج التائبين ، حوار يومي حول التوبة ومعانيها ، مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، مع تحيات زياد دندن .
الأستاذ زياد :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله ، والحمد لله ، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ، ومن والاه .
 أيها الأخوة المستمعون ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحيّيكم في مستهل هذه الحلقة ، أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ زياد :
 فضيلة الشيخ ، وعدنا الأخوة المستمعين أن نتناول موضوع الذنب ، هل لنا أن نحدد طبيعة الذنب ، منطلقات الذنب ، هل هو إجباري أم اختياري ؟ وكيف يحاول المرء أن يتخلص من هذا الذنب ؟ وبتوضيح ذلك قد يلزمنا عدة حوارات .

أنواع الذنوب :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ))

[ أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه]

 أنا لا أقول : إن الذنب ينبغي أن يرتكبه الإنسان ، معاذ الله ، ولكن من جبلّة الإنسان أن الله أودع فيه الشهوات ، ففي أية غفلة عن الله قد تغلبه نفسه .
 ولكن بادئ ذي بدء أبيّن لكم وللأخوة المستمعين أن هناك ذنباً لا يغفر ، إنه الشرك بالله ، وهناك ذنب يغفر ، ما كان بينك وبين الله ، وهناك ذنب لا يترك ، ما كان بينك وبين العباد.
الأستاذ زياد :
 هذه المعاني دقيقة جداً ، وحساسة ، لنبدأ بالذنب الذي لا يغفر :

﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾

[ سورة النساء : 48 ]

1 ـ الذنب الذي لا يغفر :

الدكتور راتب :
 أجمع علماء التفسير على التعقيب التالي : ما لم يتب ، لو أن الذي أشرك بالله تاب قبِله الله عز وجل ، العبرة ألا يموت مشركاً .
 الحقيقة أن هذا المعنى يحتاج إلى توضيح ، ما معنى أن الله لا يغفره ؟ أي ضاقت رحمة الله على أن يغفر ذنب المشرك ؟ لا ، ليس هذا هو المعنى ، رحمة الله وسعت كل شيء ، لكن أردت أن تذهب مثلاً إلى طرابلس ، وهناك مبلغ كبير وُعِدتَ أن تأخذه ، لو ركبت سيارة ، وهناك عدة متاعب في أثناء هذه السفرة ، هذه المتاعب مقبولة ، لكن السيارة في الطريق إلى طرابلس ، وسوف تأخذ المبلغ هناك ، أمّا الخطأ الذي لا يغتفر فأن تركب سيارة تتجه إلى صيدا ، من هو المشرك ؟ الذي اتجه إلى غير الله ، غير الله لا يوجد عنده شيء ، لا عنده عطاء ، ولا عنده توفيق ، ولا عنده قبول ، ولا عنده شيء ، فكأن الذي يشرك يتجه إلى جهة لا تملك شيئاً ، إنسان مريض مرضاً شديدًا ينبغي أن يتجه إلى مستشفى كي يعالج ، أمّا إذا اتجه إلى معمل فالمعمل فلا يعالجه ، فمعنى قول الله عز وجل :

﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾

[ سورة النساء : 48 ]

 أي إنك إذا اتجهت إلى غير الله كيف تنتظر من الله العطاء ؟ إنك متوجه إلى غيره، ترضي غيره ، ترجو غيره ، تخاف من غيره ، تعقد الأمل على غيره ، إن هذا الطريق مسدود ، ليس المعنى جبري ، لكن المعنى تقريري ، أنه إذا اتجهت إلى غير الله فلن تجد شيئاً ، فالذي تتجه إليه لا يملك أن يغفر لك الذنب .
 مرة أحد الخلفاء دخل الحرم المكي ، والتقى بعالم جليل ، قال : سلني حاجتك ؟ أي تقرب إليّ ، قال : والله إني لأستحي أن أسأل غير الله في بيت الله ، فلما لقيه خارج البيت قال له: سلني حاجتك ؟ قال : والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها ؟ فلما أصر عليه قال: أدخلني الجنة ، قال : هذه ليست لي ، قال له : إذاً ليس لي عندك حاجة ، حاجتي بلوغ الجنة .
 إذاً : الإنسان حينما يتجه إلى غير الله يتجه إلى لا شيء ، وهذه مشكلة المشرك ، يعقد عليه الآمال ، يرجو رحمته ، يخشى عذابه ، ينتظر عطاءه ، فلما وصل إليه وجده لا شيء، هذه الحالة في علم النفس خطيرة جداً ، اسمها حالة الإحباط ، هؤلاء المشركون حالاتهم حالات إحباط مستمر ، فكلما اتجهوا إلى غير الله خاب ظنهم .

﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾

[ سورة فاطر: 14]

 لذلك هذا الذي يدعو الله هو حتماً مؤمن بوجوده ، هو حتماً مؤمن أنه يسمعه ، هو حتماً مؤمن أنه قادر على تلبية طلبه ، هو حتماً مؤمن أنه يحب أن يلبي طلبه ، إيمان بوجوده ، وبسمعه ، وبقدرته ، وبرحمته ، لذلك قال تعالى :

﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾

[ سورة الفرقان : 77]

 لأنكم تدعون الله فالله يعبأ بكم ، ويغفر لكم ، ويقربكم ، أما الذي يدعو غيره فإنه يتجه إلى لا شيء ، هنا المشكلة ، فهذا الذنب لا يغفر ، ليس معنى هذا أن هذا الذنب لا يتاب منه ، يتاب منه إذا تاب الإنسان من الشرك غفر الله له ، أما أن يبقى مصراً على شركه ، وتغفر ذنوبه ، فهذا هو المستحيل .
الأستاذ زياد :
 إذاً الذنب الذي لا يغفر هو الشرك ، ما لم يتب منه الإنسان ، وهنا ينطبق عليه حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))

[ ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود]

2 ـ الذنب الذي لا يترك :

الدكتور راتب :
 أما الذنب الثاني فهو الذنب الذي لا يترك ، حقوق العباد مبنية على المشاححة ، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة ، وحينما تقرأ القرآن الكريم تعجب من كلمة مِنْ :

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

[ سورة نوح : 4]

 ومن للتبعيض ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم ، أما بعضها الآخر فلا يغفره الله إلا أن تؤدي هذا الحق إلى صاحبه ، أو يسامح هذا الذي له عليك الحق ، لذلك وقع السلمون في وهم خطير ، يظن أحدهم أن يفعل المعاصي ما شاء ، ثم يذهب إلى الحج ، وفي الحج يتوهم أن الله غفر له كل ذنوبه ، من قال لك ذلك ؟ في الحج وفي العمرة ، وفي الصيام وفي القيام ، وفي التوبة وفي الهجرة ، هذه كلها مناسبات أن يعود الإنسان كيوم ولدته أمه من الذنب الذي بينه وبين الله فقط ، الحج ، العمرة ، صيام رمضان ، قيام رمضان ، الهجرة ، التوبة النصوح ، هذه كلها مناسبات للمغفرة ، ولكن ما كان بينك وبين الله فقط ، أما ما كان بينك وبين العباد فالذنب لا يغفر إلا أن تؤديه لصاحبه ، أو يسامحك به صاحبه ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يصلي على أحد صحابته الكرام وهم أكرم البشر يقول : أعليه دين ؟ فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَقَالُوا : صَلِّ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا قَالَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قِيلَ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا قَالُوا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا صَلِّ عَلَيْهَا قَالَ هَلْ تَرَكَ شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ))

[البخاري عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ]

 وعَنْ جَابِرٍ قَالَ :

(( تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ ، وَحَنَّطْنَاهُ ، وَكَفَّنَّاهُ ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ ، فَقُلْنَا : تُصَلِّي عَلَيْهِ ، فَخَطَا خُطًى ، ثُمَّ قَالَ : أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قُلْنَا : دِينَارَانِ ، فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهُمَا ، أَبُو قَتَادَةَ ، فَأَتَيْنَاهُ ، فَقَالَ : أَبُو قَتَادَةَ ، : الدِّينَارَانِ عَلَيَّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُحِقَّ الْغَرِيمُ ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ : مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟ فَقَالَ : إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ ، قَالَ : فَعَادَ إِلَيْهِ مِنْ الْغَدِ ، فَقَالَ : لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ ))

[أحمد عن جابر]

 يا أخ زياد ، هذا الذي قدم روحه في سبيل الله ، هل يملك الإنسان أثمن من روحه ؟ والجود بالنفس أقصى غاية الجود ، ومع ذلك يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين .
الأستاذ زياد :
 إلا الذي بحق الآخرين .
الدكتور راتب :
 أبداً ، هذا الوهم الذي يقع فيه معظم المسلمين ، يذهب إلى الحج فيعود كيوم ولدته أمه ، والله هذا وهم خطير جداً ، حقوق العباد لابد من أن تؤدى ، تامة غير منقوصة ، هذا الذنب الذي لا يترك .
الأستاذ زياد :
 وهناك تفاصيل فقهية ، إذا كان الإنسان يؤدي ديناً منتظماً على مدة طويلة ، هذا لا يعتبر من المقصرين ، وكذلك أن يؤدي الحقوق ليست فقط المادية ، وكذلك المعنوية ، إذا اغتاب أحداً فليذهب ويطلب منه السمح والصفح .

حقوق العباد خطيرة جداً ولابد من أن تؤدى :

الدكتور راتب :
 شخص سأل أحدهم : لقد اغتبتني ، قال له : ومن أنت حتى اغتابك ؟ من أنت ؟ لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت أبي وأمي ، لأنهم أولى بحسناتي منك ، المؤمن يعتقد اعتقاد يقينياً أنه إذا اغتاب مؤمناً فسيأخذ هذا المؤمن من حسناته ، لذلك يوجد موضوعات دقيقة جداً الناس في أمسّ الحاجة إليها .
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ ، وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

[الترمذي عن أبي هريرة]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ :

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ ))

[أحمد عن أبي هريرة]

 عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ ـ فما قولك فيما فوق الهرة ـ رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ))

[متفق عليه عن ابن عمر]

 أنا أريد أن أؤكد للأخوة المستمعين أن حقوق العباد خطيرة جداً ، لابد من أن تؤدى .

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

.

[ سورة الحجر: 92-93]

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَذَاكَرْتُهَا حَتَّى ذَكَرْنَا الْقَاضِيَ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ ))

[أحمد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ ]

 فيجب أن نحذر أن نأخذ ما ليس لنا .
الأستاذ زياد :
 هذا هو الذنب الذي لا يترك حتى يؤدى ، ومن ثم تكون التوبة ، أو يُسامح صاحبه، نعم .

العبادات الشعائرية لا تقبل إلا إذا استقامت العبادات التعاملية :

الدكتور راتب :
 طبعاً هذه الذنوب التي لا تترك لا تغفر إلا بالأداء أو المسامحة ، وكأن الله جلّ جلاله إذا اصطلح اثنان وتسامحا لا يتدخل ، لك عندي مبلغ ، سامحتني به ، انتهى الأمر ، أو أديته لك ، أما هذا الوهم الساذج ، هذه الفكرة السخيفة ، أنني أحج إلى بيت الله الحرام ، وأعود ، وقد غفرت لي كل ذنوبي ، فلا ، ما كان بينك وبين العباد لا يغفر إلا بالأداء والمسامحة ، هذا الذنب الذي لا يترك .
 بالمناسبة ، هناك عبادات شعائرية ، وهناك عبادات تعاملية ، وأنا أوقن ومعي دليل قوي أن العبادات الشعائرية لا تقبل - كالصلاة والصوم والحج- إلا إذا استقامت العبادات التعاملية لذلك .
الأستاذ زياد :
 حتى إن بعضهم ذهب إلى أن ما يتعارف عليه بالتعريف الشرعي عبادات ومعاملات، أن المعاملات هي عبادات .

الدين مجموعة قيم أخلاقية :

الدكتور راتب :
 نعم ، عبادة من نوع آخر ، أنا سميتها عبادة تعاملية ، فما لم تصح العبادة التعاملية لا تقبل العبادة الشعائرية ، كأن العبادة التعاملية العام الدراسي ، فيه حضور ، وفيه انتباه للمدرس، وكتابة وظائف ، ومذاكرات ، وامتحان ، أما العبادة الشعائرية فساعات الامتحان الثلاثة ما قيمتها إن لم تكن قد حضرت المنهج ؟ العبادات الشعائرية هي مناسبة لقبض ثمن العبادات التعاملية ، فمن لم يؤدِّ العبادة التعاملية لم تقبل العبادة ، ألم يقل سيدنا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ للنجاشي :

(( أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ، وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ـ الآن دققوا ـ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصِّيَامِ ))

[أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

 فكأن الدين مجموعة قيم أخلاقية ، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان .
 أنا ألح على العبادات التعاملية ، هي مشكلة المشكلات ، هنا المطب الأكبر الذي وقع فيه المسلمون - وما أحوجنا إلى ذلك - الصلاة :

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

[ سورة العنكبوت: 45 ]

 الصوم ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

 الإنفاق :

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 53 ]

 الحج ؛ من حج بيت الله الحرام بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب وقال : لبيك اللهم لبيك ، يناديه مناد أن لا لبيك ، ولا سعديك ، وحجك مردود عليك .
 هذه العبادات الشعائرية لا يمكن أن تقبل عند الله إلا إذا استقامت العبادات التعاملية، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الأخلاق كلها في ثلاث نقاط ، قال جعفر : نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، إذا حدثك فهو صادق ، وإذا عاملك فهو أمين ، وإذا استثيرت شهوته فهو عفيف .

خاتمة و توديع :

الأستاذ زياد :
 إذاً الذنب الذي لا يغفر الذنب الذي لا يترك ، وبقي الذنب الذي يغفر - ما كان بينك وبين الله - وهذا ما سنفصله في الغد إن شاء الله تعالى .
 نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، شكراً فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن إصغائهم ، حتى الملتقى في الغد .
 سلام من الله عليكم ورحمة من لدنه تعالى وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور