وضع داكن
20-04-2024
Logo
الموضوعات الأدبية - درس تلفزيوني : 27 - الأدب الإجتماعي الإصلاحي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أعزائنا المشاهدين أسعدتم مساء وأهلاً بكم ومرحبا في هذا اللقاء الجديد.
 وعتكم في لقاء سابق أن أتابع الحديث في موضوع الأدب الاجتماعي الإصلاحي وقد كنت عالجت منه تخلف الوعي والفكر وصراع الحضارات، وهاأنا ذا اليوم أعالج موضوعات الأخلاق والعادات والشقاء الإنساني، فالموضوع الأول في لقاءنا هذا هو الأخلاق:
 الأخلاق هي جانب في شخصية الإنسان تؤكد فيه إنسانيته، وإذا خلت حياة الإنسان من القيم الأخلاقية كان هذا الإنسان إلى وحش الغابة أقرب، والأخلاق عماد الأمة وجوهر حياتها، وهي السياج المنيع الذي يصون أبناءها من الذلل، والأخلاق عنوان حضارة أمتنا العربية، فالكرم مثلاً قيمة خلقية أصيلة في تاريخ أمتنا، والشاعر الحطيئة يقدم صورة أدبية من خلال قصة شعرية يتحدث فيها عن جانب من هذه القيمة الخلقية يقول:

وطاوي ثلاث عاصب البطن برميل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة يرى البؤس فيها من شراسته نعمة
وأفرد في شعب عجوزاً إيذائها ثلاثة أشباح تخالهم بهمـــــة
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة ولا عرفوا من بر منذ خلقوا طعما
رأى شبحاً وسط الظلام فراعاه فلما بدا ضيفاً تشمر واهتــــم
وقال هيا رباه ضيف ولا قراً بحقك لا ترحمه الليلة اللحـــمة
فقال ابنه لما رأه بحـــيرة أي أبي أذبحني ويسر له طــعم
ولا تعتذر بالعبل عل الذي طرى يظن لنا مالاً فيوسعنا شتــــما
فبينهما عنت على البعد عانتـة قد أنتظمت من خلف مسحلها نظما
عطاشاً تريد الماء فنساب نحوها على أنه منها إلى دمها أظمـــا
فأمهلها حتى تروت عطاشهـا فأرسل فيها من كنانة سهــــما
فيا بشره إذا جرهـا نحو أهله ويا بشرهم لما رأوا كلــمها يدما
وباتوا كرام قد قضوا حق ضيفهم وما غرموا غرماً وقد غنــموا غنما
وبات أبوهم من بشاشـــته أباً لضيفهم والأم من بــــشرها أما

 هذه القصة الشعرية تؤكد قيمة الكرم الخلقية التي كانت سائدة في تاريخ الأمة العربية.
أيها الأخوة الكرام:
 لقد صور الأدب الاجتماعي الإصلاحي الأخلاق التي شاعت في عصور الانحطاط، في عصور الاستبداد السياسي، والقهر الاجتماعي عند فئة من الناس أعمت المادة أبصارها فانهارت في نفوسها كل القيم الخلقية والاجتماعية، هكذا فعل الأدب الاجتماعي الإصلاحي، قدم صوراً من فساد الخلقي ولا سيما في عصر الانحطاط، يقول الكاتب عبد الرحمن الكواكبي يصور لوناً من هذا الفساد الخلقي:
 وهؤلاء الواهنة ؛ أي الضعاف، وهؤلاء الواهنة يحق لهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم، كما قد يألف الجسم السقم، فلا تلذ له العافية فصاروا يسمون التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضاء بالظلم طاعة، كما يسمون دعوى الاستحقاقي غروراً، والخروج عن الشأن الذاتي فضولاً، ومد النظر إلى الغدي أملاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحب الوطن جنون.
 هذه القيم السائدة في عصور الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي صورة ثانية يا أخوتنا المشاهدين من صور الفساد الأخلاق كما صورها بعض الأدباء المعاصرين، يقول هذا الأديب المعاصر وهو كاتب مسرحي كبير:
ناموس اليوم وطئ الفكرة بالأقدام، ركضاً خلف الجاهز زائف والمال الزائل، وإنكار الرأي والجبن عن إعلانه حرصاً على الراحة وإيثاراً لطمأنينة.
صورة ثالثة يقدمها الأدباء لذا الفساد السياسي، وهذا الفساد الاجتماعي والخلقي، يقول أحد هؤلاء الأدباء على لسان أحد أبطال قصصه:
إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالكذب والرياء ولا تنسى نصيبك من الغباوة والجهل، والمقصود بالغباوة والجهل التغابي والتجاهل.
أيها الأخوة المشاهدون:
 انطلاقاً من هذه الصور المأساوية للفساد الخلقي أستنتج الأدباء حقيقة أصيلة وهي: أن الأخلاق عماد كل أمة، وأنه بانهيار الأخلاق تنهار الأمة، يقول الشاعر:

 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت  فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ويقول شاعر آخر:

 

 

قد ولي الحياة من كل باب  فوجدنا الأخـــلاق باب النجاة

وفي هذه المناسبة يحضرني قول للإمام علي كرم الله وجهه يتحدث عن بعض القيم الخلقية التي تعد أساساً للحياة الاجتماعية السليمة يقول وهو ينصح ابنه الحسن:
 يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضى مكن الناس ما تراضه من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك، يا بني أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعضاد بما تبذل من نفسك عوضا، ولا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً، واحفظ يا بني ما في يديك فإن حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك، والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور، أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، فالعن الرفيق قبل الطريق، واعني الجار قبل الدار.
يا طلابنا الأعزاء:
نتقل إلى الفكرة الأساسية في الدرس وفي هذا اللقاء وهي العادات والتقاليد.
 لقد صور الأدب الاجتماعي الإصلاحي بعض العادات والتقاليد السيئة التي تفشت في المجتمع العربي، وأقول بعض العادات والتقاليد السيئة وأعني ما أقول، لأنه ليست كل العادات والتقاليد سيئة، من هذه العادات السيئة مثلاً أن يقول الرجل لزوجته التي يكثر ذمها أنا رجل أنا الآمر الناهي، لا أقبل على سلوكي أية ملاحظة، وما عليك إلا الطاعة هذا القول يسوقه كاتب معاصر على لسان أحد شخصيات قصصه، إنها سيطرة الزوج التعسفية التي تعبر عن جهل فاضح لحقوق الزوجة شريكة الحياة، وقد أجرى بعض الخبثاء تعديلاً طفيفاً على هذا النص ليكون موافقاً للتطور الجديد الذي أصاب العلاقات الزوجية، أنا امرأة أنا الآمرة الناهية، لا أقبل على سلوكي أية ملاحظة، وما عليك إلا الطاعة.
عادة ثانية من العادات السيئة التي تفشت في مجتمعنا، هذه العادة إنها القمار، الذي يزرع الدمار في حياة الأسرة، ويشرد أبنائها ويوقعها في الفقر والعوز، ولقد أحسن الشاعر نجيب حداد حينما وصف القمار فقال:

 

 

هو الداء الذي لا برء منه  وليس لذنب صاحبه اغتفــار
تشاد له المنازل شاهقات  وفي تشيد ساحــــتها الدمار
نصيب النازلين بها سهـاد  وإفلاس فيأس فانتحــــار

يا أخوتنا المشاهدين:
 عادة سيئة ثالثة تفشت في المجتمع العربي، إنها الانغماس في الملذات الرخيصة، ولعل الشاعر الأخطل الصغير قدم صورة حية لآثار هذه العادة وما ينتج عنها من مضاعفات تمس الفرد والمجتمع، يروي لنا قصة شاب انغمس في حب فتاة رخيصة، فضيع شبابه وماله ثم ضيع حياته، يقول الشاعر:

 

 

هذا الفتى بالأمس صار إلى رجل هذيل الجسم منجرد
متلذلذ الألفاظ مضطرب متواصل الأنفاس مضطــرب
عيناه عالقتان في نفق كسراج كوخ نصف مـــتقد
تهتز أنمله فتحسبها ورق الخريف أصيب بالبـــرد
ويمد أحياناً دماً فعلى من منديله قطع من الكبــــد
قطع تقول له تموت غداً وإذا ترق تقول بعد غـــد
أما الحبيب منذ خاف انتقال الداء لم يعـــــــد
مات الفتى فأقيم في جدف مستوحش الأرجاء منفـرد
كتبوا على حجراته بدم ستراً به عظة لذي رشـــد
هذا قتيل هوى ببنت هوى فإذا مررت بأختها فحــد

أسماعون أنتم أيها الطلاب:
إنها قصة شاباً وقع في شرك امرأة مستهترة، فخسر صحته وشبابه، ومستقبله، وحياته، والآن ننتقل إلى الفقرة الأساسية الثالثة من لقائنا هذا وهي الشقاء الإنساني.
 الشقاء الإنساني قديم قدم الإنسان ولكننا في هذا اللقاء نقتصر على الحديث على شقاء الكادحين من عمال وفلاحين وعلى شقاء الأولاد وعلى شقاء المرأة، وسوف أقدم لكم لكل نوع من هذه الأنواع صورة أدبية مؤثرة، فشقاء الإنسان كما قلت قبل قليل قديم قدم الاستبداد والظلم والاستغلال والكادحون من عمال وفلاحين وغيرهم يعملون ولا يأكلون يشقون ولا ينالون، وإليكم بعض الصور التي تعبر عن شقاء الكادحين شقاء الفلاحين، يقول الأديب أديب إسحاق:
 تخيلتكم من السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم لتستمعوا على القصعة السوداء، فتلتهموا فتات الشعير وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر، تحصدون البر ولا تأكلون وتملكون الأرض ولا تسكنون.
هذه لقطة وصورة مؤثرة من شقاء الفلاحين.
 أما عن شقاء العمال فالأدباء قدموا صوراً أخرى من شقاء العمال يقول الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي من خلال بعض الأبيات الشعرية مصوراً شقاء العامل يقول على لسان أحد العمال.

 

 

أقضي نهاري مقبلاً مـدبراً  كأنني الآلة في المعمـل
وصاحب المعمل لا يرتضي  مني بغير الفادح المثقـل
فإن شكون الندرة من أجـره  برح بي شتماً ولم يجمل

 قطعة أخرى للشاعر أحمد شوقي مصور فيها شقاء العمال من جهة ويتضح من خلال أبياته الأسلوب الإصلاحي الذي يعتمد على النصح والإرشاد، يقول الشاعر أحمد شوقي:

 

 

أيها العمال أفنوا العمر كداً واكتسابا  وأعمروا الأرض فلو سيعكم أمست يبابا
اطلبوا الحق برفق واجعلوا الواجب داب

الاتجاه الإصلاحي يتضح أكثر ما يتضح في هذه الأبيات.
اطلبوا الحق برفق واجعلوا الواجب داب أي دئباً مسهلا.
 وأما شقاء الأولاد فإنه يترك أثراً بليغاً في النفس، لأن مجتمعاً يشقى أولاده يشقى هو نفسه، من شقاء الأولاد اخترت لكم صورتين صورة اليتيم يصفه معروف الرصافي فيقول:

 

 

وقفت أذيل الطرف فيهم فراعن  هناك صبي بينهم مترعرع.

عليه دريس أي لباس

 

 

عليه دريس يعصر اليتم ربنه  فيقطر فقر من حواشيه مدقع
يليح بوجه للكآبة فوقـــه غبار  به هبت من اليتم زعزع
له رجفة تنتابه وهو واقف على  جانب والجو بالبرد يلسع

 إنها صورة اليتيم الذي يعاني الحرمان والعوز بشكليه الروحي والمادي.
ويا أيها الطلاب الأعزاء:
 ليس اليتيم من فقد والديه أو من فقد أحدهما، ولكن اليتيم من لا يلقى الرعاية الكافية ولا تتوافر له الحاجات الأساسية.
الصورة الثانية من شقاء الأولاد المشردون وقد أحسن علي الجارم حينما وصف المشردين فوصف أحدهم فقال:

 

 

مشرد يأوي إلى همــه إذا أوى الطير إلى وكــره
بردته الليل على بــرده وكنه القيظ على حــــره
ما ذاق حلو اللثم في خـده ولا حنان المس في شعـره
ولا حوته الأم في حـجرها ولا أب ناغاه في حــجره
إن نام أبصرت به كــتلة تجمع ساقيه إلى نـــحره
البطن مهضوم طواه الطوى ونام أهل الأرض عن نشـره
لا يجد المأوى ولو رامــه أحاله الدهر على قبــــره
إذا هوى الخلق وضاع الحج فكل شيء ضاع في إثــره
من يصلح الأسرة يصلح بها ما دمر الإفساد في قطــره

 بقي علينا من صور الشقاء الإنساني شقاء المرأة وقبل الحديث عن شقاء المرأة تعليق طفيف على شقاء الأولاد، إن التشرد كما يصفوه بعض الأدباء جوع ينهش الأحشاء، وبرد يقرص الأعضاء والفراش أرض العراء، والدثار جو الفضاء، والمآل الرذيلة والجريمة والشقاء أما شقاء المرأة فقد قدم الأدباء صور مؤثرة لشقائها، وأكثر هذه الصور تأثيراً ذلك الشقاء الذي ينتج عن جهل فاضح من قبل الأزواج، إن الرصافي يتحدث عن الطلاق التعسفي الذي لا يتصل بسبب من أسباب العلاقة الزوجية، الرصافي يتحدث عن الطلاق التعسفي فيقول في بعض الأبيات:

 

 

فغاضب زوجها الخلفاء يوم لأمر للخلاف به نشـــوب
فأقسم بالطلاق لهم يمــين وتلك أزلية خطأ وحـــوب
وطلقها على جــهل ثلاث كذلك يجهل الرجل الغضوب
فذلت وهي باكــية تنادي بصوت منه ترتجف القلوب

أيها الأخوة الأكارم:
إن يمين الطلاق الذي لا علاقة للمرأة به ليس طلاقاً، فهذا الطلاق لا يقع لأن المرأة لا علاقة لها به.
بقي علينا حديث تحدثت عن شيء منه في لقاء سابق، وأعيد الحديث عنه بسبب وجيه يتصل بطبيعة الدرس.
 الحقيقة أننا لا نستطيع أن نطالب الأديب بأكثر مما يملك، وفاقد الشيء لا يعطيه، لقد كانت مع الأسف رؤية الأدباء الإصلاحيين إلى قضايا المجتمع الكبرى رؤية محدودة قاصرة، ومعنى محدودة قاصرة أي أنهم لم يصلوا من خلال رؤيتهم إلى السبب الحقيقي الذي يقف وراء الشقاء الإنساني، إنهم رواء أسباب ليست هي الكبرى وليست هي الأصيلة، والحقيقة الثانية أن هؤلاء الذين هو سبب الشقاء الإنساني لا تجدي معهم النصيحة ولا القول الحسن، إنهم آثروا أن يبنوا مجدهم على أنقاض الأخريين، وعزهم على ذل الأخريين، هؤلاء الذين هم وراء الشقاء الإنساني، ماتت من نفوسهم كل القيم الإنسانية والاجتماعية والحضارية.
يا طلابنا الأعزاء، ويا أخوتنا المشاهدين:
أرجو أن تكونوا قد أفدتم من هذا اللقاء وإلى لقاء آخر وشكراً لإصغائكم.

 

إخفاء الصور