وضع داكن
18-04-2024
Logo
الموضوعات الأدبية - درس تلفزيوني : 19 - النص العلمي والأدبي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أعزائي المشاهدين أسعدتم مساء و أهلاً بكم و مرحباً في هذا اللقاء الجديد .
ليس الأدب علماً وليس الأدب فلسفةً بل هو فن جميل قوامه الألفاظ وإذا تعلق العلم بما هو كائن وإذا تعلقت الفلسفة بما يجب أن يكون تعلق الفن بما هو ممتع ونازع .
ويعد الأدب من أهم هذه الفنون ومن أوسعها انتشاراً ومن أكثرها لصوقاً بالإنسان والحياة، ومن أقدرها على التعبير الدقيق عن الإنسان في ارتفاعه وانحطاطه في قوته وضعفه وعن المجتمع في تقدمه وتأخره في تفتته وتماسكه .
 إذاً فالأدب فن جميل قوامه الألفاظ، والأدب هو التعبير المثير عن حقائق الحياة، ولكن ما نوع هذا التأثير ؟ إذا طالعت أثراً فنياً وشعرت بعدئذ أنه حرك مشاعرك العليا وتفكيرك المرتفع فأنت أمام فن رفيع، فإذا لم يحرك إلا المبتذل من مشاعرك والتافه من تفكيرك فأنت أمام فن رخيص .
الفن الرفيع هو الذي يحرك مشاعرك العليا وتفكيرك المرتفع والفن الرخيص هو الذي يحرك مشاعرك المبتذلة والتفكير السخيف .
ونطالع أيها الإخوة المشاهدون:
نطالع الأدب عادةً لما نجد فيه من تحريك لمشاعرنا، وغذاء لعقولنا وإغناء لتجاربنا، وحفز لخيالنا، وقفز لأذواقنا الفنية، وتنمية لقدراتنا التعبيرية، هذه بعض الأهداف التي نطالع الأدب من أجلها عن وعي أو عن غير وعي .
 والمعني في هذا اللقاء هو توضيح طبيعة النص الأدبي وخصائصه وسوف أستخدم منهج الموازنة لبلوغ هذا الهدف، الموازنة بين النص العلمي وبين النص الأدبي لتوضح خصائص كل منهما، وقديماً قيل وبضدها تتميز الأشياء، إليكم بادئ ذي بدء نصاً علمياً جمعت فقراته من كتاب الكون العجيب لقدري حافظ طوقان، وينطوي هذا النص على بعض الحقائق المتعلقة بالشمس .
 يقول مؤلف الكتاب الشمس نجم متوسط الحجم إذا قيست بالشموس الأخرى ومع أنها تكبر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة وتبعد عنها مائة وخمسين مليون كيلو متر فهناك نجوم يزيد حجمها عن حجم الشمس والأرض مع المسافة بينهما، وأما عن حرارتها فهي تصل إلى عشرين مليون درجة مئوية في مركزها فإن ألقيت الأرض بكاملها في جوف الشمس لتبخرت في زمن قصير، وتنتج الشمس من الطاقة في كل ثانية ما يعادل إحراق ألفي مليار طن من الفحم الحجري، وتفقد الشمس كل يوم من كتلتها ما يعادل ثلاثمائة وستين ألف مليون طن، ولو انطفأت الشمس فجأةً لغرقت الأرض في ظلام دامس ولهبطت درجة حرارتها إلى ثلاثمائة وخمسين درجة تحت الصفر وانعدام الدفء والنور كافيان لقتل كل مظهر من مظاهر الحياة على سطح الأرض وعندئذ تتحول الأرض إلى قبر جليدي هائل .
هذه فقرات مجمعة من كتاب الكون العجيب تتحدث عن بعض الحقائق المتعلقة بالشمس هذا هو النص العلمي وأما النص الأدبي فهو لأحمد شوقي الشاعر، يقول أحمد شوقي:

سل الشمس من رفعها ناراً  ونصبها مناراً وضربها ديـناراً
ومن علقها في الجو ساعةً  يدب عقرباها إلى قيام الساعـة
ومن الذي آتاها معراجها  وهداها أدراجها وأحلها أبراجها

ونقل في سماء الدنيا سراجها
 الزمان هو شبه الفصول ومتشعب فروعه وأصوله وكتابه بأجزائه وفصوله ولد على ظهرها ولعب في حجرها وشاب في طاعتها وبرها لولاها ما اتسقت أيامهم ولا انتظمت شهوره وأعوامه ولا اختلف نوره وظلامه
ذهب الأصيل من مناجمها والشفق يسيل من محاجمها .
تحطمت القرون على قرنها ولم يعلُ تطاول السنين بسنها ولم ينفذ تقادم لمحة حسنها .
هذا النص الأدبي للشاعر أحمد شوقي في الموضوع نفسه الذي تعلق به النص العلمي ثبتنا الموضوع لنحرك الأسلوب .
إخوتي المشاهدين:
النص كما أسلفت قبل قليل الأول علمي والنص الثاني أدبي وهأنذا أُقيم موازنة في طبيعة النصين وفي خصائصهما وأسلوبهما:
أولاً: النص العلمي يغذي عقولنا والنص الأدبي يحرك مشاعرنا .
 وتوضيح ذلك النص العلمي يقدم لنا حقائق علميةً نجهلها فقد عرفنا من خلال النص العلمي الآنف الذكر بعد الشمس عن الأرض وحجم الشمس بالنسبة إلى الأرض ودرجة حرارة مركزها والطاقة الحرارية التي تشعها والآثار المترتبة عن انطفائها والكتلة التي تفقدها، بهذه المناسبة هذه ألسنة اللهب التي تخرج من الشمس يزيد طولها عن نصف مليون كيلو متر هذا عن النص العلمي يعطينا حقائق علمية نجهلها يعطينا حقائق تضاف إلى معلوماتنا، بينما النص الأدبي يحرك مشاعرنا من دون أن يضيف إلى الحقائق التي نعرفها حقائق جديدة فقول أحمد شوقي مثلاً:

سل الشمس من رفعها نار اً ونصبها مناراً وضربها ديناراً
ومن علقها في الجو ساعةً  يدب عقرباها إلى قيام الساعة

القصد من هذا النص تحريك المشاعر وتحريك الوجدان يقول أحد النقاد:
الشعر مصباح كمصباح علاء الدين يكشف لك عن كنوزك أنت المخبوءة في أعماق نفسك ولكنه ليس بالكيس المملوء الذي يفرغ في خزائنك الخاوية وهكذا الأدب .
ننتقل أيها الإخوة المشاهدون إلى الحقيقة الثانية وهي:
أن النص العلمي يحدث فينا قناعةً والنص الأدبي يحدث فينا موقفاً، وتوضيح ذلك: النص العلمي يقدم لنا الحقائق المدعمة بالأدلة والبراهين تَجَارِب لا تَجَارُب لأن تَجَارُب معناه العدوى بالجرب صوابها تَجَارِب .
 النص العلمي يقدم لنا الحقائق المدعمة بالأدلة والبراهين تَجَارِب والإحصاءات بحيث تتوافق مع مبادئ العقل المتمثلة في السببية وفي الغائية وفي الهوية أي عدم التناقض، فلكل ظاهرة سبب ولكل ظاهرة غاية ولكل ظاهرة هوية هكذا يفهم العقل الظواهر المحيطة به إذاً فمن الطبيعي أن يحدث النص العلمي فينا قناعة حيال موضوع ما من دون أن يتدخل في مشاعرنا، فعن طريق التجارِب مثلاً عرف العلماء أن المعادن تتمدد بالحرارة وبينوا أسباب هذه الظاهرة وبينوا نتائجها وهذا هو الطريق العلمي في معرفة الواقع بينما النص الأدبي يحدث فينا موقفاً تجاه موضوع ما والموقف أن يقف الإنسان في اتجاه هدف معين ثم يتحرك نحوه وذلك بسبب أنه يعتمد على تحريك المشاعر، مشاعر المحبة أو الكراهية، مشاعر الإيذاء أو الإزدراء، ولا يخفى ما للمشاعر من أثر كبير في سلوك الإنسان وربما كان عامل الشعور أبلغ في توجيه السلوك من عامل القناعة، لذلك يعد الأسلوب العلمي هو القالب المناسب للأفكار ويعد الأسلوب الأدبي هو القالب المناسب للمشاعر فإذا أردت أن تقنعنا فتكلم أو فاكتب بأسلوب علمي وإذا أردت أن تثير مشاعرنا لتحملنا على موقف معين وسلوك معين فتكلم أو اكتب بأسلوب أدبي فلكل مقام مقال ولكل هدف وسيلة ولكل غرض أسلوب وأرجو يا إخوتي المشاهدين ألا يفهم من هذا أن النص الأدبي عاطفة فحسب وإنما هو عاطفة مرتكزة على أفكار، كذلك أرجو ثانيةً ألا يفهم أن النصوص العلمية لا تحرك المشاعر، إن عرض الحقيقة العلمية عرضاً بأسلوب مباشر ولما تنطوي عليه من حقائق مذهلة قد يحرك مشاعر الإعجاب أو مشاعر الفزع للحقيقة العلمية، وهج يبعث الدفء في النفس هذان تعقيبان من أجل أن أوضح أن تقسيم النصوص إلى نص علمي ونص أدبي من أجل التسديد والدراسة .
 ثالثاً: في النص العلمي تحديد ودقة واستقصاء، وفي النص الأدبي تفخيم وتعميم ووقوف عند الجماليات . توضيح ذلك في النص العلمي تحديد والتحديد يعني أن يسمى الشيء باسمه الحقيقي الذي وضع له في أصل اللغة وأن تكون الكلمة على قدر المعنى فلا يفهم القارئ الكلمة أكثر مما تعني ولا أقل مما تعني فلا مجال في النص العلمي للمجاز والاستعارة والكناية فالنجم شيء والكوكب شيء آخر، النجم جرم ملتهب والكوكب جرم منطفئ، الشمس نجم والأرض كوكب، وفي النص العلمي دقة وهي اهتمام بالجزئيات والتفاصيل فبعد الأرض عن الشمس ثماني دقائق وثماني عشرة ثانيةً ضوئيةً بالضبط، علماً بأن الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو متر، في النص العلمي استقصاء فقد تناول كاتب النص العلمي بعد الأرض عن الشمس وحجم الشمس وحرارتها وطاقتها وآثار انطفائها .
وأما في النص الأدبي ففيه تفخيم أو مبالغة، فالشمس نار ملتهبة في السماء ومنارة منصوبة في العلياء ودينار متألق في جو الفضاء هذا التفخيم، والتعميم يبدو في جعل الشمس سبباً وحيداً للزمن وتعلمون أن الزمن هو البعد الرابع للأشياء فالخطوط لها بعد واحد والسطوح لها بعدان والحجوم لها ثلاثة أبعاد وكل شيء متحرك له بعد رابع وهو الزمن فكل متحرك في الكون له زمن وليس الشمس وحدها مصدر الزمن هذه الحقيقة ثابتة ولكن نظرة الشاعر إلى الكون تختلف عن نظرة العالم. وفي النص الأدبي أيضاً وقوف عند الجماليات، إن الأديب تعنيه المواطن الجمالية في الشيء أكثر مما تعنيه الخصائص الأساسية له:
ذهب الأصيل من مناجمها والشفق يسيل من محاجمها .
هذا الذي يعني الأديب أكثر مما تعنيه الحقائق الأساسية عن الشمس .
 ننتقل إلى البند الرابع في الموازنة بين النص العلمي والنص الأدبي وهو أن في النص العلمي مصطلحات علمية وعلاقات رياضيةً وتحديداً كمياً عددياً وفي النص الأدبي صور وصفية وبيانية ومجاز ومحسنات بديعية وتأنق في الصياغة اللفظية توضيح ذلك:
ففي النص العلمي مصطلحات النجم مصطلح والكوكب مصطلح والدرجة المئوية مصطلح علمي والفحم الحجري اسم لعنصر في الأرض.
 وفيه علاقات رياضية فالعلم يبحث عن القانون والقانون هو علاقة رياضية ثابتة بين ظاهرتين هناك قانون التجاذب جداء الكتلتين مقسوم على مربع المسافة، وقانون السقوط وقانون التمدد والهدف من بحث العلم عن القانون هو وصوله إلى القدرة على التنبؤ، فإذا عرفت قانون الحركة وما يؤثر في الجسم المتحرك من قوى الجاذبية والاحتكاك تعرف أين تسقط القذيفة بل إنك عندئذ تصحح مسارها لتعديل زاوية إطلاقها وليس العلم تقتصر تطبيقاته على ما فيه رخاء الإنسانية وسعادتها .
فالنص العلمي عدد كمي رياضي ما تطلقه الشمس من حرارة في ثانية واحدة يعد إحراق ألفي مليار طن من الفحم الحجري .
 وفي النص الأدبي بالمقابل صور وصفية وبيانية ومحسنات بديعية فالأدب نوع من أنواع التصوير الذي يعتمد على الكلمة أداةً ويتوخى الإمتاع هدفه فمن صور النص الأدبي مثلاً الشمس كالدينار وكالمنار وكالساعة وكالسراج والزمان طفل ولد على ظهرها ولعب في حجرها وشاب في طاعتها وبرها وأشعتها، ذهب استخرج من مناجمها وشفقها دموع سالت من محاجمها . في النص الأدبي صور وفي النص الأدبي محسنات أدبية:

سل الشمس من رفعها ناراً  ونصبها مناراً وضربها ديناراً
ومن علقها في الجو ساعةً  يدب عقرباها إلى قيام الساعة

 في هذا النص سجع وهو توافق الفواصل، وفي النص جناس وهو تشابه كلمتين في اللفظ واختلافهما المعنى من علقها في الجو ساعة يدب عقرابها إلى قيام الساعة، ساعة وساعة هو الجناس .
ننتقل إلى الحقيقة الخامسة في موازنة بين النصين العلمي والأدبي:
 كلمات النص العلمي وتراكيبه سهلة واضحة محددة دقيقةٌ على قدر المعنى كما أسلفنا من قبل، وكلمات النص الأدبي جزلة ذات جرس موسيقي متسق . فمن كلمات النص الأدبي النار والمنار والدينار والمعراج والأدراج والأبراج والسراج والمناجم والمحاجم والقرون والسنون والتراكيب متينة موحية يتأنق الأديب في تأليفها حتى تبدو كأنها تحفة فنية من علقها في الجو ساعة يدب عقرباها إلى قيام الساعة .
أيها الإخوة المشاهدون:
 ليس في النص العلمي تكرار فالفكرة والواحدة تؤدى مرةً واحدة بأسلوب واحد هو الأسلوب المباشر، بينما في النص الأدبي تؤدى الفكرة الواحدة بعشرات الأساليب والأشكال الفنية، فالشمس نار ومنار ودينار وكل هذه الصور تنطلق من فكرة واحدة وهي أن الشمس نجم ملتهب .
وفي النص العلمي لا يجوز أن تقول في المسألة قولان لأن العلم مطلق وشامل وموضوعي بينما في النص الأدبي لك أن تقول في المسألة ألف قول وقول ولا غبار عليك، لأن الأدب فن والفن نسبي وخاص وذاتي وللناس فيما يعشقون مذاهب .
ومجمل القول أيها الإخوة المشاهدون:
 إن خصائص النص العلمي هي مظهر من مظاهر العقل المدقق وإن خصائص النص الأدبي هي مظهر من مظاهر الانفعال العميق وهل العقل والعاطفة إلا جانبان متكاملان من جوانب الإنسان ذلك المخلوق الأول الذي يسمو ويسمو ويكبر ويكبر فيتضاءل أمامه كل كبير ويسفل ويسفل ويصغر ويصغر فيعظم أمامه كل صغير، وهل العلم إلا نضارة ذات عدسات بيضاء تريك الأشياء كما هي، وهل الأدب إلا نضارة ذات عدسات ملونة تريك الدنيا باللون التي تحب وتختار .
أرجو أيها الإخوة المشاهدون أن أكون قد قدمت إليكم شيئاً ذا قيمة من المعرفة الأساسية في موضوع العقل والعاطفة وموضوع العلم والأدب من خلال النص العلمي والنص الأدبي وشكراً لإصغائكم ولصبركم وإلى لقاء آخر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

إخفاء الصور