وضع داكن
28-03-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 26 - أسباب ضعف الإيمان4 - الانغماس بأمور الدنيا.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 بسم الله نستفتح بالذي خير، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، إخوة الإيمان والإسلام، أرحب بكم أجمل ترحيب، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومعاً نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي معنا في هذا البرنامج، أهلاً، ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ، سبب آخر من أسباب ضعف الإيمان، ألا وهو الانغماس والانشغال بأمور الدنيا، وحصر كل همنا ومبلغ علمنا في هذه الهموم، همّ الدنيا، فكيف علينا أن نقوي إيماننا بالابتعاد عن هذا السبب من أسباب ضعف الإيمان ؟
 الأستاذ:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أستاذ زياد، المسلم من السهل أن ينجرف إلى جهة ما، أو يعتني بصحته عناية فائقة، وينسى عقله وقلبه، وقد يعتني بعقله، وينسى جسمه، وقد يعتني بقلبه، وينسى عقله.
 المذيع:
 قلتم: المسلم، هذا شأن الإنسان.
 الأستاذ:
 شأن الإنسان سهل جداً أن يتطرف، وأن ينساق إلى جهة واحدة، ومن السهل جداً أن يكون عنيفاً قاسياً، أو أن يكون مسيّباً، لكن البطولة في التوازن، أن تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وأن تجمع بين الاهتمام بجسمك وعقلك وقلبك، وأن تجمع بين الاهتمام ببيتك وعملك ودنياك وآخرتك، إن أعظم ما في هذا الدين التوازن والوسطية، فالتطرف شأن المنحرفين، وشأن الأغبياء، وشأن الغارقين في شهواتهم، أما التوازن فشأن المؤمنين، من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ ))

 لابد من صلاح الدنيا والآخرة والدين، فالتوازن شيء مهم جداً، الله عز وجل ما لام مَن يعمل في التجارة، قال تعالى:

 

﴿رِجَالٌ﴾

 

[ سورة النور: الآية 37 ]

 وكلمة رجال في القرآن لا تعني أنه ذكر، تعني أنه بطل:

 

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾

 

[ سورة النور: الآية 37 ]

 معنى هذا أنه يوجد توازن، أما هذا الذي ينجرف إلى الانغماس في الدنيا، أو في عمله، وأنا أقول دائماً: العمل الذي يمتص كل وقتك صاحبه خاسر لا محالة، لأنه أهمل وجوده الإنساني، أهمل بيته، أهمل زوجته، أهمل أولاده، أهمل آخرته، من السهولة جداً أن أنجرف، وأن أستغرق.
 يوجد أعمال فيها سلاسة، كالتجارة مثلاً، فقد تسهر إلى أنصاف الليل، وقد تأتي إلى المحل في وقت مبكر، وينشغل ذهنك في كل شيء متعلق بالتجارة، فإذا جاء الموت فجأةً وجد مثلاً هذا الإنسان أن يديه خاليتان من كل خير، ويندم ندماً لا يتصور.
 أنا ألح لا على ترك الدنيا، ولا على ترك الآخرة، أن نجمع بينهما بشكل متوازن.
 ورد في الأثر أنه ليس بخيركم من ترك دنياه لأخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا يأخذ منهما معاً، فإن الأولى مطية للثانية.
 المؤمن القوي، قوي بعلمه، معنى هذا أنه حصل شهادات، وقوي بماله، وقوي بمنصبه، خير وأحب إلى الله تعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ))

[ مسلم، ابن ماجة أحمد ]

 بل إن القوة في الدنيا قوة في الآخرة، القوة في المال قوة في إنفاقه، القوة في العلم قوة في إنفاقه، القوة في المنصب قوة في إنصاف الضعيف، أنا لا أدعو إلى أن ننسحب من الحياة، أنا لا أدعو إلى السلبية، وأن نزهد في الدنيا، أدعو إلى التوازن، إلى أن يكون الإنسان بصيراً بأمر دنياه، يسعى لآخرته، وقد ورد في بعض الآثار: أنْ أصلح دنياك، واعمل لآخرتك، لابد من صلاح الدنيا، لابد من عمارة الأرض، ولكن بتوازن مع الآخرة، هؤلاء الذين انغمسوا إلى قمة رؤوسهم في أعمالهم اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم قد أخطؤوا، قال تعالى:

 

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103)﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 103 ]

 التسابق المحموم إلى كسب المال ينتهي بالموت، فالفقير يموت، والغني يموت، والقوي يموت، والضعيف يموت، والصحيح يموت، والمريض يموت، والوسيم يموت، والذميم يموت، فالموت ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، وصحة الصحيح، ومرض المريض، لا يبقي شيئاً، فلا بد من أن نعمل للآخرة، ولاسيما أن هذا الوقت الذي نعيشه هو أخطر شيء في عمرنا الأبدي، نحن خلقنا، ولن نموت، نذوق الموت، ولا نموت، معنى دقيق جداً، قال تعالى:

 

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 185]

﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

[ سورة الزخرف: الآية 77]

 نحن خلقنا إلى أبد الآبدين، ولكن إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفذ عذابها، فالبطولة أن نتوازن، أما هؤلاء الذين انغمسوا إلى قمة رؤوسهم في أعمالهم المشروعة وغير المشروعة فهم خاسرون.
 لو أن العمل مشروع، تجارة حلال في الأقمشة، مثلاً، وانغمس فيها المؤمن إلى قمة رأسه، ماذا أبقى لآخرته ؟ لا شيء، ماذا أبقى لربه ؟ ماذا أبقى لدينه ؟ ماذا أبقى لعمل صالح ؟ أنا أقول: العمل الذي يأخذك كلك، أو يستهلك وقتك كله خسارة محققة، ولو درّ عليك ألوف الملايين، لأن هذه الملايين تبقى في الدنيا، ويذهب الإنسان إلى الآخرة صفر اليدين.
 إذاً لابد من التوازن، هناك وقت لله لا ينبغي أن يطغى عليه وقت آخر، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، إن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل، لو أنك أهملت أولادك، ونجحت في تجارتك ما النفع ؟ قلت مرة في أمريكا لبعض الإخوة المؤمنين هناك لو أنك حصلت منصباً كرئيس أمريكا، وهو أعلى منصب في العالم، أو حصلت مالاً كأنوسيس، أو علماً كأنشتاين، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس، فحينما أنهمك في التجارة، وأهمل أولادي، حينما أنهمك بالتجارة وأهمل زوجتي، حينما أنهمك في التجارة ولا أطلب العلم الشرعي فأنا في تصحر، في ضياع، إذاً البطولة تنظيم الوقت، لابد من شحنة دينية روحية كل أسبوع مرة أو مرتين، لابد من جلسة مع الأهل والأولاد، لابد من علاقة مع المؤمنين الصادقين، لابد من عمل صالح تتألق به، لابد من إنفاق مال، لابد من دعوةً إلى الله.
 أنا أدعو إلى الوسطية، والتوازن، أقول لك: من السهل جداً التطرف، بل إن العبادة في أدق معانيها: طاعة طوعية، تسبقها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، هذا التعريف لعلة وجودنا، وهي العبادة، يوجد معنى علمي سلوكي وجمالي.
 إذاً لابد في اليوم الواحد من أن تكون على خط العلم، وخط السلوك، وخط الجمال، الجمال يعطيك حافزًا إلى المتابعة، الجمال جمال القرب من الله، جنة القرب من الله، الإقبال على الله، تنزل السكينة على قلبك، هذه كلها نواحٍ جمالية عالية جداً لا يعرفها إلا من ذاقها، ويوجد الانضباط السلوكي والمعرفة، أنا حينما أتوازن أحقق الهدف وأتفوق، وحينما ينمو جانب على جانب أبتعد عن الصواب وأتطرف، هذا هو التطرف.
 الانغماس في شؤون الدنيا سبب من أسباب ضعف الإيمان، يلهيه عن تذكر الله، وذكر الله، والعمل الصالح.
 أنت افترض الإيمان شهادة جامعية، ليسانس، هذا الذي اهتم بمظهره وألبسته وطعامه وشرابه ووسائل راحته في بيته طوال العام، ولم يقرأ كتاباً واحداً، كيف ينجح ؟ لا ينجح، بالضبط تماماً، أنا عندما أهتم بشؤون الدنيا فقط لكسب المال، وترتيب البيت، والاهتمام بمتع الحياة، وأنسى أن أطلب العلم، أن أقرأ القرآن، أن أتعلم سيرة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، أنسى أن أعمل صالحاً، أن آمر بالمعروف، أن أنهى عن المنكر، أنا اختلّ توازني، تطرفت فاختل توازني حقيقةً، قال تعالى:

 

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾

 

[ سورة النور: الآية 37 ]

 بالمقابل هذا الذي لا يعمل يكون عالةً على الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم ذمّه، رأى شاباً في وقت العمل في المسجد، قال: من يطعمك ؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك.
 أنا لفت نظري أن شريكاً شكا شريكه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: لعلك ترزق به، وكان الشريك يطلب العلم، والعلم لغيره، قال له النبي: لعلك ترزق به، أما العبادة ففيها حظ نفس، قال: أخوك أعبد منك، الذي يكسب المال، إذاً الشيء الدقيق هنا ألاّ ينغمس الإنسان إلى قمة رأسه في متع الحياة الدنيا، والآية الكريمة:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾

 

[ سورة المنافقون: الآية 9]

 ما هو اللهو أستاذ زياد ؟ اللهو أن تشتغل بالخسيس عن النفيس، أن تشتغل بالأدنى عن الأعظم، أنت مخلوق في الدنيا لمعرفة الله، فإن اشتغلت في الدنيا فقد لهوت، لأنك اشتغلت بالخسيس الفاني، المنقطع عن النفيس الأبدي الباقي، الحقيقة أنّ أكبر خسارة على الإطلاق أن يخسر الإنسان نفسه وآخرته، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

 

[ سورة الزمر: الآية 45]

 فنحن حينما ننحاز كليًّا إلى أعمالنا، إلى متعنا، إلى شهواتنا، قد ذكرت لكم سابقاً أن الشيطان ذكي جداً، يدعو الإنسان إلى المباحات، لكن يبالغ بها، أنا أعرف أناساً كثيرين جاءهم ملك الموت، لم يسكن البيت، لم يستفد من هذه المزرعة الفخمة جداً، عند افتتاحها جاءه ملك الموت، فهذا الذي يبقى بيد الشيطان آخر ورقة رابحة ؛ أن تنغمس في الدنيا إلى قمة رأسك، وأن تنسى أن هذا القلب لمجرد أن يقف ينتهي كل شيء، وانتقل من بيت منيف إلى قبر ضيق، والله الذي لا إله إلا هو لو فكر الناس في مصيرهم المحتوم لما أكلوا طعاماً عن شهوة،

(( يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ))

[ متفق عليه عن عائشة ]

 لو تعلمون ما أعلم ما أكلتم طعاماً عن شهوة، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به، ولذهبتم إلى الصعداء تلومون أنفسكم.
 ما من بيت إلا وملك الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات، فإذا وجد أن العبد قد انتهى رزقه، وانقطع أجله ألقى عليه غمّ الموت، فغشيته سكراته، فمن أهل البيت الضاربة وجهها، والممزقة ثوبها، والنادبة بويلها، يقول لهم ملك الموت: فيمَ الفزع ؟ وممَ الجذع ؟ ما أذهبت بواحد منكم رزقه، ولا قربت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودة وعودة، حتى لا أبقي منكم أحدا.
 ورد في بعض الأحاديث:

(( هو الذي نفس محمد بيده لو يرون مكانه، ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم، ولاشتغلوا في أنفسهم ))

[ورد في الأثر ]

 هذا الطريق، طريق الدنيا طريق مسدود، والذي يجمعه الإنسان في عمر مديد يخسره في ثانية واحدة، فكل بطولة الإنسان، وكل مكانته، وكل هيمنته، وكل استمتاعه على ضربات قلبه، فإذا توقف القلب لضعف نظمه انتهت الحياة، أو على ضيق شريانه التاجي، أو على سيولة دمه، أو على نمو خلاياه، الذي يقول: أنا، ويضع كل الثقل، التجار الكبار يوزعون أموالهم، لا يجعلونها في عمل واحد، فلو أصاب هذا العمل خطر صار فقيراً، والمؤمن حينما يضع كل ثقله في الدنيا يأتيه الموت فجأةً يخسر.
 أنا أضرب مثلاً تركيبياً، لو تصورنا أن بلداً نظام الإيجار فيه أن المؤجر يطرد المستأجر في أي لحظة شاء، وبلا إنذار مسبق، وبلا مقدمات، ولا يحق إلى ساكن هذا البيت أن يأخذ معه حاجة من هذا البيت، كل شيء اشتراه من أثاث يبقى في البيت، التزيينات تبقى في البيت، الثريات، فهل من عقل لمستأجر له دخل كبير أن يضع كل دخله في هذا البيت ؟ بالطبع لا، وفي أية لحظة يطرد منه، وله بيت في أطراف المدينة على الهيكل، أليس العقل أن تكسو ذلك البيت، وأن تعتني بذلك البيت الذي ستنتهي إليه، وفي أية نعي ماذا يكتب عليه ؟ سيشيع إلى مثواه الأخير، إذاً مثوانا في الدنيا مثوى مؤقتاً، إذاً الانغماس في الدنيا إلى قمة الرأس على حساب الدين هو الذي يضعف الإيمان، بينما التوازن لا شيء عليه، لأنه ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، المؤمن يعمل، ويتاجر، ويتزوج، ويؤسس شركة، لكن ضمن منهج، ضمن حدود، يوجد حد للدنيا وحدود للآخرة، قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)﴾

[ سورة الإسراء: الآية 19]

 أنا أتمنى على كل أخ كريم مستمع مؤمن أن يوازن، لابد من شحنة روحية كل أسبوع، لابد من درس علم أحضره، لابد من تلاوة أقرؤها، لابد من علم أحصله لابد من عمل صالح لابد من صلة رحم، لابد من زيارة عالم، لابد من بذل مالٍ، لابد، ولابد من أن أعمل، فأجمل آية في هذا الموضوع:

 

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾

 

[ سورة النور: الآية 37 ]

 وهذا ينسحب أيضاً على من ينشغل إلى قمة رأسه بالزوجة والأولاد، وشؤون أسرته، وتأمين حياته، ومتطلباتها اليومية، أيضاً سبب آخر من أسباب ضعف الإيمان.
 صحابي جليل طلبت منه زوجته حاجةً لا يقوى على تلبيتها، فقال لها: اعلمي يا أمة الله أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بكِ من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلكِ.
 ذكرنا شيئاً عن الزوجة والأولاد، ولكن لابد من توضيح حقيقة، كيف يقول الله عز وجل:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

 

[ سورة التغابن: الآية 14 ]

 آية تحير، أقرب إنسان لك زوجتك، الوفاء الزوجي والمحبة والاندماج الكامل ممكن، ما من علاقة على وجه الأرض أقوى من علاقة الزوج بزوجته، والله عز وجل يقول:

 

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾

 

[ سورة الروم: الآية 21]

 المودة والرحمة من خلق الله، فكيف في آية ثانية يقول:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

 

[ سورة التغابن: الآية 14 ]

 الحقيقة أروع شيء في الآية الكريمة من للتبعيض، يعني بعض أزواجكم إذا حملنكم على معصية الله، كلفنكم ما لا تطيقون، دفعنكم إلى الانغماس في الحرام من أجل تلبية طلبات الزوجة وغرورها، هذه الزوجة يوم القيامة تراها أعدى أعدائك، لأنها سببت لك دخول النار، فهذه عداوة مآل، وليست عداوة حال، هذا الذي تحمله زوجته على معصية، تدعوه إلى كسب مال حرام، يدعوه أولاده إلى أن يأتي بالمال من أي طريق شاء، فيأخذ ما ليس له ليرضي غرورهم وغرور زوجته، هؤلاء يوم القيامة أشد أعدائه، لأنهم سبب هلاكه، فلا بد من التوازن.
 كانت الصحابية الجليلة تقول لزوجها: إذا غادر البيت ليعمل: اتق الله فينا، فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام، فاتق الله فينا، هكذا كانت الزوجة، الآن تدفعه إلى أن يكسب المال الحرام، تدفعه إلى أن يأخذ ما ليس له، تدفعه إلى أن يقبل الرشوة، تدفعه كي يجدد البيت، ويأتي بأثاث جميل، ونسيت أنها حطمته، وأنه سقط من عين الله، ومن عين الناس حينما دفعته لما تريد، فلذلك روي عن النبي الكريم:

(( أعظم النساء بركةً أقلهن مهراً ))

((أعظم النساء بركةً أقلهن مؤونةً ))

[وردا في الأثر]

 طلباتها خفيفة، والمرأة إذا صلت خمسها، وحفظت نفسها، وأطاعت زوجها، وصامت شهرها دخلت جنة ربها، باب الجنة مفتوح على مصراعيه لكل زوجة مؤمنة تتقي الله في زوجها، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله ))

[ورد في الأثر]

 إذاً نحن نريد من هذا المسلم التوازن أن يعطي كل ذي حق حقه، إن لزوجك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لجسمك حقاً، فأعطِ لكل ذي حق حقه، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:

(( آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ ))

[ البخاري، الترمذي ]

 بل إن هؤلاء الذين انصرفوا عن الدنيا، وانسحبوا منها، وزهدوا فيها النبي عليه الصلاة والسلام ما أقرهم على ذلك.
 جاءت امرأة رثة الهيئة إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، سألتها عن حالها قالت: زوجي صوام قوام، يعني يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا شأن له بالزوجة، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فجاء به النبي، وقال له: يا عثمان، أليس لك بي أسوة ؟ ألست قدوتك ؟ وبخه، وحمله على أن يتوازن، فجاءت زوجته إلى السيدة عائشة بعد أيام كما تروي الكتب عطرة نضرة فقالت: أصابنا ما أصاب الناس.
 ما رضي النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
 بالمقابل إذا قال الله عز وجل:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾

 

[ سورة المنافقون: الآية 9]

 بالمقابل ما رضي النبي صلى الله عليه وسلم من زوج يهمل زوجته، أو ينصرف عنها، أو من أب يضيع أولاده، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ))

[ مسلم، أحمد، أبي داود ]

 يعني أن تهمله هذه أكبر معصية.
 أعود وأقول: التوازن أو بالتعريف الآخر الوسطية في الإسلام أن تجمع بين الدنيا والآخرة: وبين الاهتمام بجسمك وقلبك وبين الاهتمام بدنياك وأخراك: وهكذا.
 المذيع:
 ومن أسباب ضعف الإيمان الانشغال والانغماس في شؤون الدنيا، ونسأل الله العلي العظيم ألاّ يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وأشكركم فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، ونتابع غداً بإذن الله تعالى حديثنا عن أسباب ضعف الإيمان.
 أشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم، و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور