وضع داكن
25-04-2024
Logo
طريق الهدى - الحلقة : 24 - أسباب ضعف الإيمان2 - الابتعاد عن القدوة الصالحة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع:
 بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 إخوة الإيمان والإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرحب بكم في لقاء جديد مع برنامج طريق الهدى، نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي أحد أبرز علماء دمشق ودعاتها، أهلاً ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ، نتابع الحديث عن أسباب ضعف الإيمان، بعد أن تحدثنا أن السبب الرئيسي هو الابتعاد عن الأجواء الإيمانية، اليوم ليتنا نتحدث عن الابتعاد عن القدوة الصالحة كسبب من أسباب ضعف الإيمان، ما الفرق بين حديثنا بالأمس عن الابتعاد عن الجو الإيمانية وحديثنا اليوم عن الابتعاد عن القدوة الصالحة ؟
 أولاً: يوجد في الإنسان خصائص نفسية، سأسميها ابتداءً الغيرة، هذه خصيصة، وقد درسنا في الجامعة أن للإنسان صفات كثيرة، وإن للإنسان سمات قليلة، السمات مجموعة صفات تعود إلى سمة واحدة، فهناك سمة عميقة جداً في شخصية كل إنسان، وهي الغيرة، يتمنى أن يكون ما عند الذي تفوق عليه في أي مجال، هذه عامة، سمة جُبِل عليها في أصل خلقه، وهي حيادية، يمكن أن تستخدم في شؤون الآخرة، فيعود خيرها على الإنسان بشكل مريع، ويمكن أن تستخدم للدنيا، فتكون أحد أسباب الشقاء، إن استخدمت لشؤون الآخرة كانت غبطة، وإن استخدمت لشؤون الدنيا كانت حسدًا، الفرق شاسع.
 فأنت حينما ترى إنساناً أرقى منك خلقاً، وأعمق منك علماً، تتمنى أن تكون مثله، فالإنسان مجبول ومفطور على أن يقلد من فوقه، أو أن يسير بطريق من فوقه، وكلام عام جداً، لأنه مخير فهذه الخصيصة التي في أعماق نفسه عامة تشمل الدنيا والآخرة، وتشمل الخير والشر، فحينما يأتي المؤمن، ويستخدم هذه الخصيصة في الخير فيعيش مع أناس صالحين، مع أناس متفوقين، مع أناس أبطال، بحكم فطرته، وحكم جبلته، وحكم خصائص نفسه يتمنى أن يقلدهم، ويتمنى أن يكون مثلهم، ويمشي في طريقهم.
 الأمر لو كان بالعكس، لو جلس مع أهل الدنيا، مع المنحرفين، مع المنغمسين في شهواتهم، وانحطاطهم، وضعهم يغريه، فيتمنى أن يكون مثلهم، قضية الغيرة، أي هذه الخصيصة في الإنسان تدعو إلى تقليد المتفوق، إن في الدنيا، وإن في الآخرة، إن في السعادة الروحية، وإن في الملذات الشخصية.
 أثر القدوة كبير جداً، وأنا أرى أن الأنبياء العظام حينما جاؤوا بأمر ربهم لهداية الخلق معهم مهمتان، الأولى: التبليغ، ولكن أعتقد أن أي إنسان طليق اللسان، قوي الذهن بإمكانه أن يبلّغ، لكن مهمة الأنبياء الكبرى التي لا تعدلها مهمة، والتي ينفردون بها أن مهمتهم هي القدوة، أن يكونوا قدوةً للآخرين، لذلك ما أثر على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال شيئاً ولم يطبقه، كان سباقاً إلى ما يقول، فكان صلى الله عليه وسلم قدوةً بحق، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ ))

[الترمذي، ابن ماجه، أحمد ]

 كان قدوةً في الصبر، وكان قدوةً في العفو، وكان قدوةً في الشجاعة، وكان قدوةً في الرحمة، وكان قدوةً في اللين، وكان قدوةً في السخاء، هو مثل أعلى، فالمؤمن في آخر الزمان حينما يصحب من تفوق عليه في الإيمان يرى من ورعه، يرى من خلقه، يرى من استقامة لسانه، يرى من اتساع قلبه، يتمنى أن يكون مثله، بحسب الفطرة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( لا حَسَدَ إِلا عَلَى اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ))

[متفق عليه ]

 وقد استخدم الحسد بمعنى الغبطة،

(( رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ))

 أنت كمؤمن حينما تحيط نفسك بأناس كبار مؤمنين صادقين، شئت أم أبيت، أحببت أم كرهت، تتمنى أن تكون مثلهم، ولعلك تسلك طريقهم، ولعلك تنضبط بقيمهم، ولعلك تتمنى صلاح حالهم، والعياذ بالله لو أن الإنسان صاحب الأشرار، صاحب أهل الشهوات، صاحب المتفلتين، ورأى انغماسهم في الملذات يتمنى أن يكون مثلهم، ويسلك طريقهم، لذلك أخطر شيء على الشاب الرفيق السيئ.
 يا أيها الآباء الكرام، يا من تحرصون على أبنائكم، الشيء الذي يدمر ابنك رفيق السوء، فينبغي أن تعتني بأصدقاء ابنك عنايةً تفوق حد الخيال، ينبغي أن تعرفهم واحداً وَاحداً، ينبغي أن تعرف منبتهم، أن تعرف بيئتهم، أن تعرف أهلهم، وإلا الآن الفساد واسع جداً، وشاب طاهر عفيف يمكن أنه لو رأى شيئاً مثيراً ينحرف مئة وثمانين درجة، لو أطلعه صديقه على شيء لا يرضي الله، أو لو أعطاه شيئاً لا يرضي الله، أو لو دله على معصية لا ترضي الله، لكان قد دمره، لذلك أحد أكبر أسباب ضعف الإيمان أن يحاط الإنسان بأناس متفلتين، بأناس ليسوا قدوةً له، فنحن بحاجة ماسة إلى مجتمع مؤمن، والحقيقة أن الطرف الآخر يطالبنا دائماً: أين مجتمعكم الإيماني ؟ سمعت أن في أحد أحياء نيويورك في أمريكا حي مسلم، لكنه متميز جداً في انضباطه، لا يوجد فيه مخدرات، ولا زنا، ولا فيه أي انحراف، ولا ربا، ولا أي شيء من هذا القبيل، وهذا الحي له حراسة، وله مبادئ، وله قيم، كل الشركات في أمريكا تتهافت على أن تفتح فرعاً في هذا الحي.
 الحقيقة أكبر دعوة للإيمان ليست باللسان، بل بالعمل، فنحن حين نحيط أنفسنا بأناس طيبين نتمنى أن نكون مثلهم، وكما تعلم ما الذي جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألقون ؟ لأن قدوتهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، ما الذي جعل التابعين يتألقون ؟ أن قدوتهم الصحابة، ما الذي جعل ما بعد التابعين يتألقون ؟ لأن قدوتهم التابعون، لكن حينما نكون في مجتمع ليس هناك قدوة، القدوة هي الشهوات والموبقات والانحرافات والمعاصي والآثام، فعندئذ هناك ـ والله ـ خطر كبير.
 القدوة الصالحة هي التي علينا أن نتمثل بها، أين نجدها ؟ لقد دلَّنا عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ))

[ مسلم، ابن ماجه، أحمد ]

 مرة سألني سائل قال لي: أنا أشعر بالغربة، قلت له: هذا الشعور صحي، وهذا ينبغي أن تشعر به دائماً، إذا الفساد عم، والمعاصي انتشرت، وصار الإنسان الشهواني هو المتفوق، الإنسان الذي جمع مالاً طائلاً من دون أن نحاسبه كيف جمعه هو المتميز في المجتمع، هو الذي له الوجاهة، إذا أصبحت القيم المادية هي الأساس في المجتمع، هناك مشكلة كبيرة.
 الإمام علي رضي الله عنه يقول: " قيمة المرء ما يحسنه ".
 لكن في آخر الزمان تكون قيمة المرء متاعه، نوع مركبته، مساحة بيته، في أي حي بيته، رصيده في المصرف، هذه القيم المادية، حجمه المالي، مركبته، مسكنه، أناقته، إنفاقه، تفلته، في آخر الزمان قيمة المرء متاعه، وأنا من باب الطرفة قيمته لا تأتي من نوع مركبته، من رقم يوضع إلى جانب مركبته، يوجد ست مئة، ويوجد مئتان وثمانون، وأربعمئة، وثلاثمئة، فقيمة المرء متاعه، بينما قيمة المرء ما يحسنه.
 أنا لا أنسى أن أحد التابعين اسمه الأحنف بن قيس كان ذميم الخلق، وصفه بعض الكتاب أنه كان قصير القامة، أسمر اللون، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، أحنف، الرجل ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضب غضب لغضبته مئة ألف سيف، لا يسألونه فيما غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه.
 الرجل قيمته بعلمه، وعمله هذه القيم الأصيلة في المجتمع، أي إنسان قيمه ومبادؤه وعمله الطيب هو الذي يرفعه، أما في مجتمع متفلت فوسامته، وماله الكثير، وانغماسه في الشهوات هو الذي يرفعه، فنحن بحاجة ماسة إلى تأكيد القيم الدينية، وتأكيد القيم الأخلاقية لئلا ينجرف الناس وراء من يتفلتون من منهج الله، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
 أستاذ زياد، هناك مشكلة دقيقة جداً، القيم التي تواضع الناس على أنها قيم في الحياة الدنيا لم يعترف بها القرآن أبداً، قيمة المال، قيمة النسب، قيمة الوسامة، قيمة القوة، قيمة الذكاء، القرآن اعترف بقيمتين فقط، قال تعالى:

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

 

[ سورة الأنعام: الآية 132]

 قيمة العمل.
 واعترف بقيمة العلم، قال تعالى:

 

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾

 

[ سورة المجادلة: الآية 11]

 وقال تعالى:

 

﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾

 

[ سورة الزمر: الآية 9]

 فنحن نؤكد في المجتمع العالم العامل كيف ينبغي أن يكون هذا القرآن في مكان عالٍ، وحينما تسود المجتمع قيم آخر عندئذ اقرأ على الأمة السلام.
 نحن حريصون جداً على تأكيد القيم الدينية والأخلاقية، وإلا ضاع أولادنا، وضاع شبابنا، وضاع مجتمعنا، تصور شاباً في الثامنة عشر من عمره، أين تجده كل يوم ؟ قد تجده في الملاهي، تصور أسامة بن زيد الذي قاد جيشاً فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، شاب في الثامنة عشر، بين أن يكون الشاب شيئاً متميزاً بخلقه بعلمه باندفاعه بورعه، وبين أن يكون متخلفاً عن أقرانه، غارقاً في معاصيه وفي شهواته.
 إذاً نحن بحاجة إلى القدوة، ولاسيما لشبابنا، في علم النفس الشاب في سن المراهقة أكثر شيء يلفته القدوة، فبدل أن يكون للشباب قدوة من أهل الضياع، ومن أهل الفجور والانحراف ينبغي أن تكون قدوتهم الناس الصالحون المتفوقون في دينهم، فنحن بحاجة إلى أن نصاحب من يرقى بنا إلى الله حاله، نحن بحاجة أن نصاحب من يدلنا على الله مقاله، نحن بحاجة أن نصاحب أناساً مؤمنين أطهار، وإلا فهناك مشكلة، هذا الكلام كله ينسحب على الخط العريض في المجتمع، وهناك أناس مستثنون متفوقون، لا يهتزون لا لبيئة متخلفة، ولا لقدوة سيئة، إنهم هم القدوة، وهم البيئة، هؤلاء لا ينسحب الحكم عليهم لضآلة حجمهم في المجتمع، أما الأكثرية فتحركها القدوة الصالحة والمثل الطيب.
 ذكر لي صديق مقيم في واشنطن أن سائقاً في واشنطن وجد محفظة فيها مبلغ كبير من المال، فاتصل بالشرطة، وسلمها هذه المحفظة بما فيها من مبلغ، ذكر لي أن حاكم الولاية جمع طلاب المدارس في احتفال، وسألهم هذا السؤال: ماذا تفعلون إن وجدتم محفظةً فيها مثل هذا المبلغ ؟ والمبلغ كبير جداً، فقالوا بصوت واحد: نأخذها، ماذا قال هذا الحاكم ؟ قال ولكن إنساناً مسلماً ردها إلى صاحبها.
 هذا قدوة في الأمانة، وفي العفة، سيدنا يوسف قدوة لكل شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، إنسان قد يجد مبلغاً كبيراً جداً فيعيده إلى صاحبه.
 سمعت قصة أن إنساناً وجد في مركبته ثمانية عشر مليوناً، وهو مبلغ ضخم جداً، في كيس أسود، بحث عن صاحبه عشرين يوماً حتى وجده، وسلمه إياه، هذا قدوة، فنحن دائماً نحتاج إلى قدوة، القدوة تعلّم، قد يقول قائل: القدوة حقيقة مع البرهان عليها، لأن القيم الأخلاقية من دون قدوة تغدو حبراً على ورق، وتغدو شيئاً موهوماً، فحينما تجد أن هذا الخلق موجود في فلان تقتدي به، لذلك حينما قالوا: الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، أنا أريد مسلماً يمشي بورعه وعفته واستقامته وأمانته.
 وأول قدوة للمرء هو والده والدته، وهكذا، إذاً علينا أن نتوجه إلى أولياء الأمور لكي يحسنوا القدوة بالنسبة لأولادهم، وهكذا من خلية الأسرة ينمو المجتمع مجتمعاً صالحاً ذا قدوة طيبة.
 كيف ينتظر الأب من ابنه أن يكون مستقيماً إذا كان هو غير مستقيم ؟ كيف ينتظر الأب من ابنه أن يكون عفيفاً إذا كان الأب غير عفيف ؟ كيف ينتظر الأب من ابنه أن يكون صادقاً إذا كان الأب غير صادق ؟ قل لهم: يا بني، أنا لست في البيت ‍‍‍‍‍، أنت كذبت أمام ابنك، فأنا أقول ما أفعل، ومن أنواع التربيةِ التربيةُ بالقدوة، أفعل أسلوب في التربية الأب الذي يكون قدوةً لأولاده، يقطع أربعة أخماس الطريق إلى تربيتهم إذا كان قدوةً لأولاده، أما إن لم يكن قدوةً لهم يسقط من أعينهم، أو قلدوه فيما هو عليه، وظنوا أن هذا هو الصواب.
 المذيع:
 إذاً الابتعاد عن القدوة الصالحة هذا سبب مباشر من أسباب ضعف الإيمان، هل تكفي القدوة، أم أن هناك ثقافة يجب أن يتحلى بها المرء ليكون بالتالي قوي الإيمان، ويبتعد عن أسباب ضعف الإيمان ؟
 الأستاذ:
 اسمح لي أستاذ زياد أن أشبه الإنسان بوعاء الماء له فتحة من أعلاه، وله صنبور من أسفله، فالشيء الذي تضعه فيه يخرج من الصنبور في النهاية، فما الذي يغذِّي الإنسان ؟ الإنسان كائن عنده حواس، وعنده إدراك، هذه الحواس وذاك الإدراك يستقبلان من المحيط الخارجي كل شيء، فلو أن شاباً له قدوة صالحة، لكن ثقافته ليست صالحة، ثقافته مثلاً ثقافة جنسية، أو قصصه قصص عابثة، أو مطالعاته مطالعات رديئة، أو البرامج التي يراها برامج هابطة، فهو يتغذى تغذيةً سيئةً جداً، فماذا تنتظر من إنسان يتابع قصصاً ومسرحيات وأعمالاً فنيةً ليس فيها أي قيمة أخلاقية، بالعكس فيها قيم شهوانية فقط، فهذه الثقافة التي يجترّها تسهم في انحرافه، إنه وعاء، فالشيء الذي يغذى به من أعلى يتصرف به بطريقة أو بأخرى، لذلك حينما نبتعد عن الأجواء الإيمانية هذا موضوع الحلقة الأولى، وحينما نبتعد عن القدوة الصالحة أيضاً نقع في مطب كبير، إلا أننا اليوم يجب أن نبتعد عن الثقافة الهابطة والكتاب حينما يثيرون الغرائز المادية في الإنسان، أو يثيرون شهواته الهابطة، فيدمرون مجتمعاً وهم لا يشعرون.
 يجب أن ننتبه إلى أولادنا إلى التغذية التي يتغذونها، هذه مهمة جداً، لأن في الأعمال أحياناً يمكن نبرز شخصاً بقصة أو بمسرحية، وهذا مهم جداً، لكنه متفلت من الدين، والكاتب أسبغ عليه كل صفات البطولة، وفي الوقت نفسه صوّره تصويراً هابطاً دينياً، فهذا الشاب إذا قرأ هذه القصة، أو شاهد هذه المسرحية، أو تابع هذا المسلسل ما الذي يحصل له ؟ تتسلل القيم الهابطة إليه دون أن يشعر، ذلك أن الإنسان عنده خطوط دفاع كبرى، الأعمال الذكية والهابطة تستطيع أن تخترق خطوط دفاعه، وأن تصل إلى منطقة التأثير فيه.
 أنا أضرب مثلاً، أنت إذا ألقيت على إنسان نصيحة بلغة فصيحة عن مضار السرعة العالية في القيادة، قد لا يستجيب لك، وقد يهزأ، وقد يرى أنه متمكن من القيادة، أما حينما يرى حادثاً مروعاً، والجثث ملقاة حول المركبة، هذا المشهد الواقعي يفعل فعل السحر في نفسه، الذي أريد أن أقوله أنك كحاجة إلى تغذية صحيحة.
 المذيع:
 قلت: إن البيئة الصالحة تغذية، والقدوة تغذية، لكن الثقافة تغذية كبيرة جداً، خاصةً عندما لا يعلم، لأن المشكلة في الجهل، تقولون: إنه بحاجة إلى ثقافة صحيحة ضدها الجهل.
 الأستاذ:
 أنا حينما أسمح لأولادي بأن يقرؤوا، أو حينما يقرؤون هم ما طاب لهم أن يقرؤوا، وتأتيهم القيم المنحطة دون أن يشعروا تسللاً، وأنا أؤكد على هذه الناحية، الإنسان في وعيه عنده خطوط دفاع، أما حينما ينسجم مع عمل فني تتسلل القيم الهابطة إلى منطقة التأثير فيه دون أن يشعر، قضية المطالعة قضية مهمة جداً مثلاً: أنت حينما تقرأ عن الأبطال الذين جاؤوا في العصور الذهبية في الإسلام، وتقرأ تفاصيل حياتهم، تفاصيل قيمهم، تقرأ عن رحمتهم، عن شجاعتهم، عن جرأتهم، عن نزاهتهم، عن عفتهم، عن علاقاتهم الاجتماعية، تؤخذ بهذه الشخصيات، وهذه تغذية إيجابية جيدة جداً، فحينما نسمح أن نغذي أنفسنا بثقافة هابطة ندمَّر.
 الحقيقة أنه مسموح للمؤلف أن يصور الرذيلة، لكن على نحو نشمئز منها، أما إذا صورها على نحو نحبها، ونعجب بأبطالها فغير مسموح، لإن مجتمعاً بأكمله يسقط من خلال هذا الأدب.
 كتب ومسرحيات وقصص وأعمال فنية ومسلسلات أساسها الإثارة، ولن تكون الإثارة إلا عن طريق القيم الهابطة، إلا عن طريق الانحراف، والزنا، والخيانة الزوجية، وما إلى ذلك.
 فهذه الثقافة الهابطة تسهم في ضعف الإيمان، أنت لك ساحة، هذه قد تملأ هذه الساحة بالمواقف المخزية ـ لا سمح الله ولا قدر ـ إذاً كيفما تحركت، وكيفما تكلمت، وكيفما تصرفت عمل غلط فيه انحراف، أما حينما تملأ ساحتك ببطولات رائعة، وبقيم خالدة كيفما تحركت قدوتك هؤلاء.
 قلت في حلقة سابقة: إن للإنسان شخصية يكونها، وشخصية يتمنى أن يكونها، وشخصية يكره أن يكونها، فلنحرص جميعاً على أن تكون الشخصيات التي نتمنى أن نكونها شخصيات متوازنة، شخصيات أخلاقية، شخصيات علمية، شخصيات من أصحاب المبادئ والقيم، لا من أصحاب الشهوات والانحرافات.
 المذيع:
 سنتحدث عن معالم هذه الثقافة الصحيحة، أو من ناحية أخرى نتحدث عن سبب آخر من أسباب ضعف الإيمان، ألا وهو الابتعاد عن معالم هذه الثقافة الصحيحة، نتحدث عن ذلك فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي في حلقة الغد بإذن الله تعالى.
 أشكركم، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور