وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0266 - الهجرة1 - النمل.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الهجرة هي المظهر العمليُّ للإيمان :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرَّت ذكرى الهجرة ، وهي الذكرى العزيزة على كل مؤمن، كيف لا وقد جُعِلَت بداية التاريخ الإسلامي . حدث الهجرة من أكبر أحداث الدعوة الإسلامية ، وقد جُعِلَت بدايةً للتاريخ الإسلامي ، وحُقَّ لها أن تُجْعَل بداية التاريخ لأنها المظهر العملي للإيمان ، الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه اللسان ، والإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام :

((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقته الأعمال))

[ من الدر المنثور عن الحسن ]

 وفي روايةٍ :

(( ما وقر في القلب ، وأقرَّ به اللسان ، وصدَّقه العمل ))

[الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال كبير]

 فالهجرة يا أيها الأخوة المؤمنون مِصْداق الإيمان ، المظهر العمليُّ للإيمان ، تجسيدٌ للإيمان ، ترجمةٌ للإيمان .

 

الإيمان مواقف و عمل :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ في كتاب الله تتحدَّث عن الهجرة ، وتتحدث عن دورها الخطير ، يقول الله عزَّ وجل :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72]

 أي أنَّ الإيمان مواقف ، الإيمانُ عمل ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى في أكثر من مئتي آية يقول :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾

[ سورة محمد : 2 ]

 والدليل أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾

[ سورة آل عمران : 133-134]

 دليلٌ آخر :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 لو تتبعت أيها الأخ الكريم الآيات الكريمة التي تربط القول بالعمل ، وتجعل العمل دليلاً على صحة القول ، وتربط السلوك بالإيمان لوجدت هذه الآيات أكثر من أن تُحْصَى ، وأعظم من أن تستقصى .
 الهجرة مظهرٌ عمليٌ للإيمان ، هذا النموذج الذي يشيع في هذه الأزمان ؛ إنسان يتعاطف مع الإسلام ، ولكنه لا يقف في بيته ، وفي بيعه ، وفي شرائه ، وفي علاقته الموقف الإسلامي ، متعاطفٌ مع الإسلام بعواطفه ، متَفَهمٌ للإسلام بعقله ، ولكن عقله وعواطفه في واد وأفعاله ومواقفه في وادٍ آخر .
 إن لم يظهر الإسلام في بيتك ، في طريقة تعاملك مع أهلك ، في مظهر أهلك وبناتك ، إن لم يظهر الإسلام في طريقة بيعك وشرائك ، في علاقاتك بالآخرين ؛ تصل مَن ، وتقطع مَن ، في ضوء ماذا تقيم علاقة مع زيد وتقطع علاقةً مع عبيد ؟ ما الأساس ؟ المسلم الحق يبني علاقاته كلها على أساس إيمانه ، يصل ما أمر الله به أن يوصل ، ويقطع ما أمر الله به أن يُقْطَع ، ويعطي من أمر الله أن يعطى ، ويمنع عمَّن أمر الله أن يمنع ، ويقيم علاقةً حميمة مع الذي يرقى بعلمه وحاله ، ويبتعد عن الذي يفسد عليه عقيدته وإيمانه .

 

العبر المستنبطة من الهجرة النبوية الشريفة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما من مسلمٍ على وجه الأرض إلا ويعلم بالتفاصيل أحداث الهجرة ، ولكنني أؤثر في هذه الخطبة الحديث عن العَبَرِ والمواعظ التي تستنبط منها ..
 العبرة الأولى : أنَّ الهجرة موقفٌ عملي من مواقف الإيمان ، والمؤمن الحق ما لم يأخذ هذه المواقف ، ما لم يحدِّد علاقاته في ضوء إيمانه ، فإيمانه لا يقدِّم ولا يؤخِّر ولا ينفعه. .

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرَّةً ثانية أتلو على مسامعكم هذه الآية :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 لا شكَّ أن باب الهجرة أُغْلِقَ بين مكَّة والمدينة بعد الفتح ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

((لا هجرة بعد الفتح ))

[ متفق عليه عن ابن عباس]

 ولكننا إذا أردنا أن نوسِّع معنى الهجرة ؛ أي التحرُّك ، لابدَّ من أن تقف موقفاً جديداً ، في ضَوْء معرفتك الجديدة ، لابدَّ من أن تسأل نفسك هذا السؤال : ماذا ينبغي أن أفعل؟ هذا الأعرابي الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال : يا رسول الله علِّمني من غرائب العلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : فماذا صنعت في أصل العلم ؟ فقال : وما أصل العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ بيت القصيد في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سأله : هل عرفت الرب ؟ أجاب هذا السائل : ما شاء الله . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : فماذا صنعت في حقه ؟ هذا سؤال ، يجب على كل منا أن يسأل نفسه : ماذا صنعت في حق الله ؟ ماذا فعلت ؟ مَن قطعت ؟ مَن وصلت ؟ ماذا أعطيت ؟ ماذا منعت ؟ على من أقبلت ؟ عمَّن أعرضت في سبيل الله ؟ هل واليت فيَّ ولياً ؟ هل عاديت فيَّ عدواً ؟ هل امتنعت عن هذه النُزهة خشيةً من الله عزَّ وجل ؟ هل أقبلت على هذا العمل ولا مصلحة لك به إطلاقاً إلا أنه يرضي الله عزَّ وجل؟ هل حضرت مجالس العلم ؟ هل حافظت على حضورها ؟ هل كنت في مستوى هذا الكِتاب الكريم أم هناك بَوْنٌ شاسعٌ بينك وبينه ؟
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أحداث الهجرة وقعت وانصرمت ، وبقيت الدلائل والعِبَر، بقيت الدروس المُحْكَمَة ، فهذا السؤال الكبير : ماذا فعلتُ في حق الله ؟
 النبي عليه الصلاة والسلام سأل هذا الأعرابي سؤالاً آخر قال : هل عرفت الموت ؟ قال : ما شاء الله . قال : فماذا أعددت له ؟
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سؤالان دقيقان : إذا كنت تقول قد عرفت ربك . اسأل نفسك هذا السؤال : ماذا صنعت يا إنسان في حقِّه ؟ وإذا كنت تقول : لقد عرفت الموت ، اسأل نفسك هذا السؤال : ماذا أعددت له ؟ مَنْ منَّا على وجه الأرض ينكر الموت ؟ ما من حقيقةٍ صارخةٍ ، واقعيَّةٍ ، ليس في إمكان مخلوقٍ أن ينكرها كالموت ، ومع ذلك أعمال الناس في واد ، والإعداد للموت في وادٍ آخر . فالهجرة يا أيها الأخوة الأكارم درسٌ بليغ ، إنها انتقال إنسانٍ آمنٍ في سربه إلى بلدٍ لا يعرفه ، إنها اقتلاعٌ من الجذور ، إنها إهدارٌ للمصالح ، إنها نجاةٌ بالحياة ..

﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾

[ سورة النساء : 66 ]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الدرس الأول من دروس الهجرة : إنها موقفٌ عمليّ، وما لم تقف موقفاً عملياً بدءاً من علاقاتك الخاصَّة جداً ؛ بدءاً من علاقاتك بأهلك ، بدءاً من علاقاتك بأولادك ، من علاقاتك بجيرانك ، من طريقة خروج زوجتك وبناتك في الطريق .
 ما لم تقف الموقف الإسلامي في طريقة البيع والشراء ، في نوع الكلام ، نوع العلاقة .
 ما لم تبنِ حركتك في الدنيا ، ونشاطك في الدنيا ، وسعيك في الدنيا على أسسٍ إسلاميةٍ صحيحة ، فهذا الموقف النظري ، والتعاطف الفكري ، والمشاركة الوجدانية مع الإسلام لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، ولا تنفع ولا ترفع .

 

الدنيا دار عمل و ابتلاء و الآخرة دار تشريف وجزاء :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أعداد المسلمين فوق الحَصْر ، إنهم يزيدون عن ألف مليون، ولكن المواقف العملية التي ينبغي أن يقفوها قليلاً ما يقفوها ، فلذلك ليست كلمتهم هي العليا . .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

[ سورة التوبة : 38-40]

﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ﴾

 المؤمن ينْفِرُ في سبيل الله ، يُشَمِّر لأن الأمر جِد ، يتأهَّب لأن السفر قريب ، يضع ماله ، ووقته ، وخبرته ، وعلمه ، وعضلاته ، ووقته في سبيل الله ، لأن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، دار ابتلاء، منزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى .
 النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( إيَّاك والتنعُّم فإنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين ))

[ من الجامع الصغير عن معاذ ]

 أي أن هذه الدنيا دار عمل ، دار ابتلاء ، دار سَعْي ، دار تكليف ، بينما الآخرة دار تشريف ، هذه الدنيا دار تعلُّم ، دار عملٍ طَيِّب ، بينما الآخرة دار إكرام ، فإذا جعل الإنسان التمتُّع في الدنيا أكبر همِّه ، ومبلغ علمه فقد حَبِطَ عمله ، فقد عُدَّ من الأخسرين أعمالاً .

﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾

[ سورة الكهف : 104]

 هذا هو الدرس الأول ، ما لم تقف الموقف العملي ، ما لم تقف الموقف الصحيح، ما لم يظهر الإسلام في حديثك ؛ لا غيبة ولا نميمة ، لا سُخْرِيَة ولا استهزاء ، لا فُحْشَ ولا بذاءة، لا كذب ولا غِش ، لا تدليس ولا إغواء ، يجب أن يظهر الإسلام في حديثك ، في جوارحك ، هل تغضُّ بصرك عن محارم الله ؟

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ ﴾

[ سورة النور : 30]

 المسلم يغضُّ بصره عن محارم الله ، هل تمتنع عن سماع الغناء ؟ هل تطيع الله في هذه الجوارح ؟ هل تحفظ الله في لسانك ؟ هل تحفظه في بصرك ؟ هل تحفظه في يدك ؟ هل تحفظه في وقتك ؟ كيف تمضي الوقت أيها الأخ الكريم ؟ ماذا تقولون عن رجلٍ يوزِّع الأموال ، يلقيها في الطريق ؟ أليس هذا مجنوناً ؟ ألا يجب أن يُحْجَر عليه ؟ ألا يجب أن يُمْنَع من التصرُّف في ماله ؟ أيهما أغلى الوقت أم المال ؟ الحياة أم المال ؟ ألا يقدِّم الإنسان كل ماله من أجل حياته ؟ فهذا الذي يلقي بالمال في الطريق بعدُّ مجنوناً ، وهذا الذي يضيِّع أوقاته بلا هدفٍ ثمين يستهلِكُها استهلاكاً رخيصاً ، يُمضي الساعات الطوال في حديثٍ فارغ ، يمضي وقتاً طويلاً في كلامٍ لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، يمضي ساعاتٍ تلوَ الساعات في أعمالٍ لا تنفعه بعد الموت ، أليس هذا مجنوناً ؟ النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الطريق مجنوناً ، فسأل أصحابه سؤال العارف :" من هذا ؟ فقال أصحابه : هذا مجنون . قال : لا هذا مبتلى ولكنَّ المجنون هو الذي يعصي الله .

تعصي الإله وأنت تظهر حــبه  ذاك لعمـري في المقال بـديــعُ
لـو كـان حبك صادقـاً لأطعتـــــه  إنَّ المحبَّ لمـن يحـبُّ يطيع
* * *

الهجرة بمعناها الواسع تحرُّكٌ من المعصية إلى الطاعة ومن الجهل إلى العِلْم :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عودةٌ إلى الآية الكريمة :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 وبما أن باب الهجرة من مكة إلى المدينة أُغْلِقَ بعد الفتح ، فالهجرة بمعناها الواسع تحرُّكٌ من المعصية إلى الطاعة ، تحركٌ من الجهل إلى العِلْم ، تحركٌ من الضياع إلى الوجدان، تحركٌ من المخالفة إلى الالتزام ، تحركٌ من حظوظ النفس إلى معرفة الحق ، لابدَّ من التحرُّك ، لابدَّ من أن تقف الموقف الصحيح ، لابدَّ من أن يظهر الإسلام في بيتك ، وفي حديثك ، وفي نزهتك ، وفي عملك ، وفي تجارتك ، وفي جدِّك ، وفي لهوك ، وفي حِلِّك ، وفي ترحالك ، لابدَّ من أن يظهر المسلم ظهوراً صارخاً ، وإلا إذا كان هناك تعاطفٌ بالقلب ، ومشاركةٌ في العقل ، والسلوك كسلوك عامَّة الناس الجهلة ، فأين هو الإسلام ؟!
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ توسيعٌ لمعاني الهجرة ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه :

((عبادةٌ في الهرج ))

[الجامع الصغير عن معقل بن يسار ]

 في الفتن ؛ حيث الشهوات مُسْتَعِرَة ، حيث الفساد شائعٌ بين الناس ، حيث العَوْرات مكشوفة ، حيث أكل مال الناس بالباطل مستساغ ، حيث إيذاء الخلق لا ضَيْر على صاحبه ، حينما يعمُّ الفساد ، حينما تستعر الشهوات ، حينما تستيقظ الفِتَن ، حينما يصبح همُّ الرجل مصلحته الذاتية ، حينما يصبح إله الناس هواهم ، إذا كان الفساد قد عَمّ . .

((عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ ))

[الجامع الصغير عن معقل بن يسار ]

 أن تعبد الله في زمن الفِتَن ، أن تعبد الله في زمن الشهوات ، أن تعبد الله في زمنٍ يؤمر فيه بالمُنكر وينهى فيه عن المعروف ، أن تعبد الله في زمنٍ يُصبح المُسلم غريباً ؛ غريباً بين أهله ، غريباً بين أقرانه ، غريباً في حيِّه . .

(( عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إليّ ))

[الجامع الصغير عن معقل بن يسار ]

 هذا المعنى الواسع النبي عليه الصلاة والسلام أكَّده :

((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))

[البخاري عن عبد الله بن عمر]

 إذا كان باب الهجرة قد أغلق بين مكة والمدينة بعد الفتح ، فباب الهجرة من المعصية إلى الطاعة مفتوحٌ على مصاريعه إلى يوم القيامة .
 لابدَّ من التحرُّك ، الهجرة تعني التحرُّك ، يجب أن أقيم علاقةً مع هذا الأخ المؤمن ، ويجب أن أقطع هذا الصديق الفاسق ، هذا تحرُّك ، يجب أن أجعل من الإسلام منهجاً في بيتي ، هذا تحرُّك ، يجب أن أحمل زوجتي وبناتي على طاعة الله ورسوله ، في خروجهنَّ من البيت ، هذا تحرك ، لابدَّ من موقفٍ عملي ، لابدَّ من تحركٍ نحو ما يرضي الله عزَّ وجل ..

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 110]

ضرورة محاسبة النفس كل يوم :

 يا أيها الأخ الكريم ؛ تأمَّل في اليوم لبضع دقائق ، ماذا ينبغي أن أفعل ؟ ما المخالفات التي أنا واقعٌ فيها ؟ ما المعاصي التي أنا متلبسٌ فيها ؟ ما التقصيرات التي ينبغي أن أتجاوزها ؟ دقق ، تأمَّل ، ابحث ، اسأل نفسك هذا السؤال ، لابدَّ من خلوةٍ مع الله كل يوم ، لابدَّ من محاسبةٍ للنفس ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، لابدَّ من تقييمٍ للعمل ، لابدَّ من ضبطٍ للوقت ، لابدَّ من تخطيطٍ للمستقبل ، لابدَّ من أن تصل إلى درجةٍ دُنيا من المعرفة بالله عزَّ وجل.
 هذا الذي يستهلكه الوقت استهلاكاً رخيصاً ، تستهلكه الحياة ، من عملٍ إلى عمل، ومن همّ إلى هم ، ومن مشكلةٍ إلى مشكلة ، ومن ليلٍ إلى نهار ، تمضي الأيام سراعاً ثم يأتي ملك الموت ولا زاد لك ، ولا عمل لك ، هذه هي المصيبة الكبرى . هل عرفت الموت ؟ قال : ما شاء الله . قال عليه الصلاة والسلام : فماذا أعددت له ؟ ماذا أعددت للموت . هل عرفت الله ؟ قال : ما شاء الله . قال : فماذا صنعت في حقه ؟ الهجرة أيها الأخوة موقفٌ عملي، تجسيدٌ للإيمان . .

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 والهجرة بمعناها الواسع انتقالٌ من المعصية إلى الطاعة ، انتقالٌ من الجفوة إلى القُرب ، انتقالٌ من وحول الشهوات إلى جنَّات القُرُبات ، انتقالٌ من الضياع إلى الوجدان ، انتقالٌ من الجهل إلى العِلم ، انتقالٌ من البُعْد إلى القُرْب ، انتقالٌ من الشقاء إلى النعيم ، تحرُّك..

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 لابدَّ من أن تدقِّق ، لابدَّ من أن تتأمَّل .
 يا أيها الأخوة الأكارم :

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة التوبة : 105 ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

النّمل :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في القرآن الكريم آيةٌ في سورة النمل ، تتحدَّث عن النمل :

﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا﴾

[ سورة النمل : 18 ]

 سيدنا سليمان وجنوده . .

﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾

[ سورة النمل : 18 ]

 يستنبطُ من هذه الآية أن للنمل مجتمعاً يعدُّ من أرقى المجتمعات الحيوانية ، وأن للنمل لغةً دقيقةً تفصيليةً يتخاطب بها . .

﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾

[ سورة النمل : 18 ]

 وكلام الله حق . العلماء اكتشفوا أن النملة حشرةٌ اجتماعية راقية ، موجودةٌ في كل مكانٍ ، وفي كل الأوقات ، بل إن عدد أنواع النمل يزيد عن تسعة آلاف نوع ، تسعة آلاف نوعٍ من النمل ، والنمل ما دام الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾

[ سورة النمل : 18 ]

 النمل ما دام أنواعاً كثيرة ، بعضه يحيا حياةً مستقرَّة ، في مساكن مُحْكَمَة ، وبعض النمل يحيا حياة الترحال كالبدو تماماً ، وبعض أنواع النمل يكسب رزقه بجده وسعيه، وبعض أنواع النمل يكسب رزقه بالغزو والسيطرة والنَهْب . والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 38 ]

 للنمل ملكة كبيرة الحجم ، مهمتها وضع البيوض ، وإعطاء التوجيهات ، ولها مكانٌ أمينُ في مساكن النَمل ، وهي على اتصالٍ دائم بكل أفراد المَمْلَكَة ، لها مكانٌ أمين وعلى اتصالٍ دائم- وهذا من شروط القيادة - وتُعطي التوجيهات في الظروف الصعبة لأفراد النمل . وفي كل مجتمعٍ للنمل بضع مئاتٍ من الذكور ؛ مهمتها تلقيح المَلكة ، وبضع آلافٍ من العاملات العقيمات اللواتي لا تَلِد ، هذه العاملات مما يؤكد قوله تعالى :

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾

[ سورة الأنعام : 38 ]

 مِن مهمات العاملات تربية اليرقات - تربية الصغار - هذا قطَّاع التعليم ، ومن مهمات العاملات تنظيف المساكن ، ومن مهمات العاملات سحب جُثث الموتى من المساكن ودفنها في الأرض ، ومِن مهمات العاملات حماية الملكة - الحراسة - ، ومن مهمات العاملات تأمين الغذاء من خارج المملكة ، ومن مهمات العاملات زرع الفِطْريات – الزراعة - ، ومن مهمات العاملات تربية الماشية . هناك حشرات المَن يعيش النمل على رحيقها .
 فعاملاتٌ تربين حشرات المن لتأخذ رحيقها ، وحشراتٌ من النمل تزرع الفطريات ، وحشراتٌ من النمل تُعْشِبُ الأرض من حول المساكن ، تقتلع الأعشاب الضارة ، وحشراتٌ تؤمِّن الغذاء من خارج المملكة ، وحشراتٌ لحماية الملكة ، وحشراتٌ لدفن الموتى ، وحشراتٌ للتنظيف ، ونملاتٌ للتربية ، أليس هذا مما أكَّده علماء الحشرات مِصْداقاً لقوله تعالى :

﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾

[ سورة الأنعام : 38 ]

 أليس هذا مصداقاً لقوله تعالى :

﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾

[ سورة النمل : 18 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور