وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0251 - من سورة فاطر الوعود الإلهية - الجاذبية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الحكمة من خلق الخلق :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في سورة فاطر ، وفي الآية الخامسة ، يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 الخطابُ موجَّهٌ إلى الناس كافّة ، لأنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلْق كلّهم ليرحمهم، قال تعالى :

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

[ سورة هود:119]

 قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 لذلك جميع الناس كافّة ، أسودهم وأبيضِهم ، عربيّهم وعجميّهم ، مَدْعُوُّون إلى معرفة الله عز وجل ، مَدْعُوُّون إلى دُخول الجنّة ، عجِبَ ربّكم من قومٍ يُساقون إلى الجنّة بالسلاسل ، ما من مخلوقٍ إلا والله سبحانه وتعالى يدعوه إليه ، فأنت أيّها الإنسان مطلوبٌ من قبلِ الله عز وجل ، مطلوب إليه أن يسعدك ، مطلوبٌ إليه كي يرحمك ، يقول الله عز وجل :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 البعثُ حقّ ، والجنّة حقّ ، والنار حقّ ، والميزان حقّ ، والصّراط حقّ ، وأيّ شيءٍ وردَ في القرآن الكريم فيما يتعلّق بما بعد الموت فهو حقّ ، ومعنى حقّ أنّه واقعٌ لا محالةَ ، ومعنى حقّ أنّه ضدّ الباطل ، ومعنى حقّ أنّه جادّ هادف ، فالباطل هو الشيء الزائل ، والباطل هو الشيء الذي لا يتحقّق ، والوعد الباطل هو الوعْد الذي لا يقع ، ولكنّ وعْد الله حقّ ، لابدّ من وقْفةٍ بين يدي الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

 لابدّ من محاسبةٍ دقيقة عن كلّ همْسة ، وعن كلّ حركة ، وعن كلّ كلمة ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

معرفة الله عز وجل واجبة على كل مسلم :

 ماذا ينبغي عليكم أن تفعلوا ما دام وعْدُ الله حقًّا ؟ ومن أصدق من الله حديثًا ؟ ومن أوفى بعهده من الله ؟ قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

[سورة التوبة: 111]

 ومن أوفى بعهده من الله ؟ ومن أصدق من الله حديثًا ؟ هل تحقَّقت أيّها الأخ الكريم من أنّ وعد الله حقّ ؟ لو تحقّقت من أنّ وعد الله حقّ لا يمكن أن تعصيَهُ ، لا يمكن أن تخالف أمره ، لا يمكن أن تأخذ ما ليس لك ، لا يمكن أن تستطيل على أحدٍ من خلقه ، لا يمكن أن تغفل عنه ، الدّنيا زائلة وكلُّ آتٍ قريب ، ولابدّ مِن وَقْفةٍ بين يديّ الله عز وجل ، لماذا فعلْت كذا؟ لماذا أعطَيت ؟ لماذا منَعْت ؟ لماذا قطَعت ؟ لماذا وصَلْت ؟ ماذا فعلت في الدّنيا ؟ مالُكَ الذي أعْطَيتُك إيّاه ماذا فعلت فيه ؟ كيف اكْتسبْتهُ ؟ وفيم أنفقته ؟ شبابك فيم أفنيْتهُ ؟ عمرك فيمَ أبليْتَهُ؟ علمك ماذا فعلت به ؟ إنّ وعد الله حقّ ، لو تحقّق الإنسان من أنّ هذا الوَعْد حقّ ، أن تقرأ هذه الآية ، وأن تفهم معناها شيء ، وأن تعيش هذا المعنى شيءٌ آخر ، شتّان بين أن تقول مئة ألف، أو مئة مليون ، أو ألف مليون ، وبين أن تملك هذا المبلغ ، مسافةٌ كبيرة جدًّا بين الحقيقة وبين اسم الحقيقة ، بين أن تقرأ هذه الآية ؛ إنّ وعد الله حقّ ، وبين أن تكون متحقِّقًا من أنّ وعْد الله حقّ ، إذا قرأْت هذه الآية هكذا من دون تبصّر ، ومن دون تحقّق ، من دون تدبّر ، قد تأخذ ما ليس لك ، وقد تستطيلُ على عباد الله ، وقد تعصي ، وقد تخالف ، وقد تقطعُ في الوَهْد ، ولكنّك إذا تحقَّقْت أنّ وعْد الله حقّ ، وأنّ لكلّ سيّئة عقابًا ، وأنّ لكلّ حسنة ثوابًا ، وأنّ الله عز وجل يقول :

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر: 92-93]

 إذا تحقّقْت أنّه من يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره ، كما قال تعالى :

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة: 7-8 ]

 إذا تحقّقت من هذا فأنت إنسانٌ آخر ، إنسانٌ يخاف الله ، ورأْسُ الحكمة مخافة الله تعالى ، إذا تحقَّقت من هذا فأنت منضبطٌ على أمر الله ، مطبّق لِشَرع الله تعالى ، مقتفٍ لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لابدّ من التحقّق ، وليس من عملٍ أعظمُ عند الله تعالى، ولا أخطر لِمُستقبلك من أن تعرف هذا المنهج الذي وضعهُ الله لك ، ما الشيء الذي يطغى على أن تعرف كلام الله تعالى ؟ كسْبُ الدِّرهم والدِّينار ، تمْضيَةُ الوقت بِعَملٍ لا طائلَ منه ، الانهماك في القيل والقال ، وإضاعة المال ، أم ماذا كنتم تعملون ؟ ماذا فعلت في الدنيا ؟ ألا ينبغي أن تعرف الله عز وجل ؟ قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 وعدُهُ حقّ ، ولابدّ مِن أن يقَعَ ، لابدّ من أن تقف هذه الوقفة التي ذكرها الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾

[ سورة الواقعة : 90-91]

 قال تعالى :

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾

[ سورة الحاقة : 19-24]

الحقّ هو الشيء الثابت الذي لا يتغيّر :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ معنى كلمة حقّ أنّه واقعٌ لا محالة ، ومعنى كلمة حقّ أنّ هذا الوعد واقعٌ ، وهو وَعدٌ عادل ، لأنّ الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحقّ ، ولابدّ من أن يُعطِيَ كلّ ذي حقّ حقّه ؛ إنْ في الدّنيا ، وإن في الآخرة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ، كلمة الحقّ وردَت في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة أبرزُ معانيها أنّ الحقّ هو الشيء الثابت الذي لا يتغيّر ، ولا يتبدّل ، ولا يعدّل ، ولا يُلغى ، ولا يُجمّد، ولا ينقض ، ومن أبرز معاني الحقّ أنّه الشيء الهادف ، الحقّ ليس عبثًا ، وليس لعِبًا ، والحقّ ليس باطلاً ، وليس زائلاً ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 الناس جميعًا مَدْعُوُّون لمعرفة الله تعالى ، فماذا ينبغي علينا أن نفعل ؟

 

على الإنسان ألا تغره الحياة الدنيا و تكون معرفة الله هدفه الأسمى :

 ما دام وعد الله حقًّا فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ، قال تعالى :

﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 ما هو الغرور ؟ أن تظنّ شيئًا بِحَجمٍ أكبرَ من حجمه الحقيقيّ ، أن تنكبّ على علبةٍ في الطريق ، وأنت تحسبُ أن فيها شيئا ثمينًا ، فإذا فتَحتَ العلبة إذا فيها قمامة ، إنّ هذا مثلٌ صارخٌ وحادّ للغرور ، اغْتررْت بهذه العلبة ، ظننْتها بِحَجمٍ كبير ، وكثير من الناس تغرنّهم الحياة الدنيا ، يظنّون أنّ المال كلّ شيءٍ ، فإذا تقدَّم بهم العمر رأوا رأْيَ العَيْن ، وعلموا علْم اليقين أنّ المال شيء ، ولكن ليس كلّ شيء ، لا ينبغي للإنسان أن يضيّع من أجل المال دينهُ، لا ينبغي للإنسان أن يضيّع من أجل المال عرضهُ ، لا ينبغي للإنسان أن يعصيَ الله من أجل المال ؛ إنّه شيء ، ولكنه ليس كلّ شيء ، جعلهُ الله قوام الحياة الدنيا فقط ، وما جعل الحياة الدنيا من أجله ، جعلهُ وسيلة ، ولم يجعله غايةً ، جعلهُ أداةً ، ولم يجعلهُ محطّ الرّحال ، ومنتهى الآمال ، فهذا الذي يظنّ المال شيئًا عظيمًا هو إنسان مغرور ، غرَّتْهُ الحياة الدنيا ، وأعطى المال حجمًا أكبر من حجمه ، جاء خريف العمر فاكتشف الحقيقة المرّة ، وهي أنّ المال لا يُسْعد ، وهذا الذي ظنّ أنّ اللذَّة هي كلّ شيء ، فلمَّا انغمسَ بها إلى قمّة رأسِهِ ، ومرَّت الأيّام والسّنون عرف أنّ اللّذّة شيءٌ جعلها الله كي تشكرهُ ، ولكنّها ليْسَت كلّ شيء ، لا ينبغي أن تعصيَ الله من أجلها ، لا ينبغي أن تضيّع دينك من أجلها ، لا ينبغي أن تخالف أمْر الله من أجلها ، إنّها شيءٌ ولكن ليسَت كلّ شيء ، لا تغرنّكم الحياة الدنيا ، ولا تظننّ أنّ الحياة مديدة ، ما بين التفاتةٍ ، ما بين قبْضِ نفَسٍ فإذا الإنسان من أهل القبور ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 الدنيا - كما قال عليه الصلاة والسلام - تغرُّ وتضرّ وتمُرّ ، وقالوا : الدّنيا جيفةٌ طلاّبها كلابها ، الدنيا دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له ، خُذْ من الدّنيا ما شئْت ، وخُذ بِقَدرها همًّا ، ومن أخذ من الدّنيا فوق ما يكفيه ، أخذ من حتفهِ وهو لا يشعر ، لو أنّ الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها الكافر شرْبةَ ماء ! كُن في الدنيا كأنّك مسافر ، كُنْ في الدّنيا كأنّك غريب ، كُن في الدّنيا كأنّك عابرُ سبيل ، عِشْ ما شئت فإنّك ميّت ، وأحبب ما شئْت فإنّك مفارق ، واعْمَل ما شئْت فإنّك مَجْزيّ به .
 قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 لا تُعطوها حجمًا فوق حجمها ، لا تجعلوها محطّ الرِّحال ، لا تجعلوها منتهى الآمال ، لا تبذلوا كلّ وقتكم من أجلها ، عبدي خلقتُ لك السموات والأرض ولم أعْيَ بِخَلقهنّ، أفيُعييني رغيفٌ أسوقهُ لك كلّ حين ، لي عليك فريضة ، ولك عليّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك ، وعزّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمتهُ لك ، فلأُسلطنّ عليك الدّنيا تركض فيها ركض الوحش في البريّة ، ثمّ لا ينالك منها إلا ما قد قسمته لك ، ولا أبالي ، وكنت عندي مذمومًا ، لا تغرنّكم الحياة الدنيا ، لا تُعطوها حجمًا فوق حجمها ، لا تضيّعوا من أجلها صلاةً ، لا تضيّعوا من أجلها عملاً صالحًا ، لا تضيّعوا من أجلها مجلس علم ، لا تضيّعوا من أجلها مجلس ذِكْر ، إيّاكم أن تفعلوا هذا ؛ إنّها تافهة ، إنّها لا تعدل عند الله لا بعوضة ، ولكن جناح بعوضة ، ما قيمة جناح البعوضة بِربّكم ؟! لو أنّ الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء ، النبي عليه الصلاة والسلام مرّ مع أصحابه في الطريق بِشاة ميّتة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " انظروا إلى هذه الشاة الميّتة كم هيّنةٌ على أهلها ، والذي بعثني بالحقّ للدنيا أهْون على الله من هذه الشاة على أهلها ".
 لا تغرنّكم الحياة الدنيا ، ولِتَكن معرفة الله هدفكم الأسمى ، ولتكن الاستقامة على أمره هدفكم الكبير ، وليكن العمل الصالح مسعاكم الجليل ، لا تغرنّكم الحياة الدنيا .

 

تفسير كلمة الغرور :

1 ـ الغرور هو الشيطان :

 فما هو معنى قوله تعالى : ولا يغرنّكم بالله الغرور ؟ قبل أن نصل إلى الآية الثانية يقول سعيد بن جبير رضي الله عنه : " معنى قوله تعالى : لا تغرنّكم الحياة الدنيا ، أيْ أن يشتغل الإنسان بِنَعيمها ، ولذّاتها عن عمل الآخرة ، حتى يقول : يا ليتني قدَّمتُ لِحياتي ، إنّه يراها بِحجمٍ فوق حجمها ، أما قوله تعالى :

﴿ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 فالغرور هو الشيطان ، في بعض تفسيرات هذه الكلمة ، الشيطان يعِدُكم الفقْر ، يمنعكم من أن تنفقوا أموالكم ، يقف العبد يوم القيامة بين يدي الله عز وجل ، فيقول الله له : يا عبدي ، أعطيْتُك مالاً فماذا صنعتَ فيه ؟ يقول : يا ربّ ، لم أُنفق منه شيئًا على أحد مخافة الفقر على أولادي من بعدي ، فيقول الله عز وجل : ألَم تعلم بأنّي أنا الرزاق ذو القوّة المتين ؟ إنّ الذي خشيته على أولادك من بعدك قد ألحقتهُ بهم ، الشيطان يخوّفك من أن تحضر مجالس العلم ، الشيطان يخوّفك من أن تنفق مالك ، الشيطان يخوّفك من أن تعزم على طاعة الله ، يقول لك : أنت الآن حرّ ، فلا تقيِّد نفسك بالدّين ‍‍‍‍!! غدًا تتوب ، وبعد غدٍ تتوب ، وإذا تقدَّمَت بك السنّ تتوب ، وتحجّ وتتوب ، الشيطان يدعوكم إلى معصيَة الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 أو يقول الشيطان : غدًا يُشفعُ لنا ، والشفاعة حقّ ، ولكنّ المعنى الساذج الذي يفهمه عامّة الناس من الشفاعة ، مِن أنّ الإنسان يشرك بالله ، ويعصي أمرهُ ، ويطمعُ أن يشفع له النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا المعنى ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام أبدًا ، فهذا الذي طمعُ أن يقترف كلّ السيّئات ، ويأتي يوم القيامة ليشفع النبي له ، هذا قد غرَّه الشيطان ، يا فاطمة بنت محمّد ، ويا عباس عمّ رسول الله ، أنقذا نفسيكما من النار ، أنا لا أُغني عنكما من الله شيئًا ، من يبطئ به عمله ، لم يسرع به نسبهُ ، لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم.
 يقول عليه الصلاة والسلام :

(( أمَّتي أمتي ، فيقال له : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيقول : سحقاً سحقا ))

[ متفق عليه عن سهل بن سعد وأبي سعيد]

 الشيطان يُوَسوسُ للإنسان أنّ الله لن يحاسبك حسابًا دقيقًا ، أنّ الله عز وجل لن يعبأ بِعَملك ، قد تُطيعه طوال حياتك ، ويضعك في النار ، هذه أقوال تُسيءُ إلى العلاقة بين الإنسان وربّه ، ربّنا سبحانه وتعالى :

﴿ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 مثلٌ مقرِّبٌ لذلك : لو أنّ لك عند قاضٍ دعوى ، و هذه الدعوى كانت باطلة ، لو قال لك أحدهم : إنّ هذا القاضي لن يحكمَ عليك ، إنّه سيَحكم لك ، قدِّم له هديّة ، وكان هذا الكلام لا أساس له من الصحّة ، والقاضي إنسانٌ عادل ، ألم يغترّ بهذا القاضي ؟ اغترّ به أيْ ظنّ به ظنًّا سيِّئًا وهو ليس كذلك ، لو أنّ عليك امتحانًا صعبًا ، وقيل لك : لا تدرس سوف تنجح ، سوف تأخذ الأسئلة ، ألا يغترّ هذا الطالب الكسول بهذا الأستاذ القدير ؟ قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 الغرور هو الشيطان ، يُوَسْوسُ لكم مِن أنّ الله سيتجاوَز عن هذه السيّئات ولن يُحاسبكم .

 

2 ـ أن يعملَ الإنسان بالمعاصي ثم يتمنى الأماني :

 وقال سعيد بن جبير : الغرور بالله أن يعملَ الإنسان بالمعاصي ، ثمّ يتمنّى على الله الأمانيّ ، وهذا حالُ معظم المسلمين ! يعملون المعاصي ، ويتمنّون على الله دخول الجنّة ، يتفلّتون من شرع الله ، ويتمنَّون على الله أن يغفر لهم ، ينحرفون عن أمر الله ، ويطمعون أن يُشفع لهم ، هذا هو الغرور بِعَينه .

 

3 ـ الباطل :

 أيها الأخوة الأكارم ، الغرور في بعض التفاسير هو الباطل ، قد يأتي الباطل مزخْرفًا ، ومزيَّنًا ، قد يأتي الباطل بِشَكلٍ مُغرٍ ، قال تعالى :

﴿ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 الحقّ واحد ، وما سواه فهو باطل ، الحقّ لا يتعدّد ، فماذا بعد الحقّ إلا الضلال ؟ فقد تقرأ نظريّة ، أو فكرةً تعجبك تماسكها ، وما زيِّنتْ به من عبارات ، وإشارات ، فتغترّ بها ، وتنسى أنّ الحقّ خلافها ، هذا من الغرور أيضًا ، فالغرور أن تعمل بِمَعصيَة الله ، وترجو رحمته تعالى ، قال تعالى :

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾

[ سورة الكهف: 110]

 والغرور أن تسمح للشيطان أن يُوَسوس لك ، وأن يطمّعك في المعصية ، وأن يبعدك عن الطاعة ، والغرور الباطل الذي يزخرف ، ويزيّن لِيَحِلّ محلّ الحق ، وهو باطل ، والحقّ لا يتعدّد ، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال المبين ؟

 

أفضل محبوب المرء ما يدخلُ معه في قبره ويؤنسه فيه :

 أيها الأخوة الأكارم ، أحد التابعين خاطب نفسه فقال : " إنِّي نظرتُ إلى الخلق ، فرأيت لكلٍّ منهم محبوبًا يحبّه ، ويعشقهُ ، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبهُ إلى مرض الموت، والبعض الآخر إلى سفير القبر ، ثمّ يرجعُ كلّه ويتركُه فريدًا وحيدًا ، ولا يدخلُ معه في قبره منهم أحدًا ، فتفكَّرتُ وقلتُ : أفضل محبوب المرء ما يدخلُ معه في قبره ، ويؤنسُه فيه ، فما وجدتهُ في غير الأعمال الصالحة ، فأخذتها محبوبًا لِتَكون سِراجًا لي في قبري ، وتؤنسُني فيه ، ولا تتركني فريدًا " وهذا التابعي قال : " إنِّي رأيتُ الخَلق يقتدون بأهوائهم ، ويبادرون إلى مُراد أنفسهم ، فتأمَّلتُ قوله تعالى :

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النازعات:40-41]

 فتيقَّنتُ أنّ القرآن حق ّصادق ، فبادرْت إلى خلاف نفسي ، وتشمَّرتُ بِمُجاهدتها، وما متَّعتُها بِهَواها حتى رضِيَت بِطاعة الهخ سبحانه وتعالى ، ثمّ إنِّي رأيتُ كلّ واحدٍ من الناس يسعى في جمع حُطام الدنيا ، ثمّ يمسكه قابضًا بيَدَيه عليه ، فتأمَّلتُ قوله تعالى :

﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾

[ سورة النحل : 96]

 فلُذْت بالإيثار ، واسْتودعْتُ عند الله إعانة البائس ، وإسعاف الفقير ، لعليّ أُحشرُ في ظلّ صدقتي يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين .
 يا أيها الأخوة الأكارم ، الآية الخامسة من سورة فاطر :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[ سورة فاطر: 5 ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

 

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الجاذبية :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربّنا سبحانه وتعالى في سورة المرسلات يقول :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا﴾

[ سورة المرسلات: 25-26 ]

 كفاتًا مأخوذة من فِعْل كَفَتَ ، وكفَتَ يكْفِتُ كَفْتًا أيْ جذبهُ ، وقبضهُ ، وضمَّهُ ، فالأرض من صفاتها أنّها كفات ، أي تجذب ، وتضمّ ، وتقبضُ ، وهذه الآية فيها إشارةٌ واضحة جليّة إلى الجاذبيّة ، فكلّ شيءٍ على سطح الأرض ينجذبُ إليها ، وما وزنُ الأشياء إلا في حقيقة الأمر قوّة جذبِها نحو الأرض ، ووزْنُ الشيء يتناسبُ مع حجم الأرض ، فالشيء الذي على وجه الأرض ، والذي يزن مئة كيلو غرام ، يزن على القمر سُدس هذا القمر ، الإنسان الذي وزنهُ على سطح الأرض يقدر بستين كيلو غرام ، يزنُ على القمر عشرة كيلو غرامات ! فوَزنُ الشيء هو قوّة جذبه نحو الأرض ، وزن الشيء على سطح القمر هو قوّة جذبه إلى مركز القمر ، فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا﴾

[ سورة المرسلات: 25-26 ]

 كيف تكون الحياة لولا قوّة الجذب ؟ كيف يستقرّ الماء على وجه الأرض لولا جذب الأرض له ؟ كيف يبقى الهواء مرتبطًا بالأرض لولا جذب الأرض له ؟ لولا أنّ الأرض تجذب الهواء لأصبح الهواء ثابتًا ، والأرض متحرّكة ، ومع حركة الأرض ، وسكون الهواء تنشأ تيارات من الأعاصير تزيدُ سرعتها عن ألف وستمئة من الكيلو مترات في الساعة ، وهذه السرعة كافيةٌ لِتَدمير كلّ شيء على سطح الأرض .
 من جعل الهواء مرتبطًا بالأرض ؟ الجاذبيّة ، من جعل البحار مرتبطة بالأرض بفِعل الجاذبيّة ؟ من جعل كلّ شيء على سطح الأرض وفي جو الأرض ؟
إنّ انعدام الوزن حالةٌ لا تُطاق ، قال تعالى :

﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ﴾

[ سورة النمل: 61 ]

 جعلها تدور وهي مستقرّة ، وجعل الأشياء تستقرّ عليها ، تنجذب إليها ، وما الأوزان إلا قوّة للجذب ، قال تعالى :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا﴾

[ سورة المرسلات: 25-26 ]

 وقد توهَّم بعضهم أنّ الأرض في النّهاية تجذبُ الإنسان إليها لِيُقبرَ فيها ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا﴾

[ سورة المرسلات: 25-26 ]

 الإنسان الحيّ مرتبطٌ بالأرض ، منجذبٌ إليها ، وهذا هو وزنهُ ، ما معنى هذا الإنسان يزن ثمانين كيلو غرام ، أي قوّة جذبه للأرض تعادل هذا الرّقم ، قال تعالى :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا﴾

[ سورة المرسلات: 25-26 ]

 أليس هذا كلام الله عز وجل ؟ هذه النظريّات العلميّة ، أو هذه الحقائق العلميّة التي قُطِعَ بها إنّما وردَت الإشارة إليها في القرآن الكريم .
 يا أيها الأخوة الأكارم ، في القرآن الكريم إعجازٌ علمي ، وهذه الآية من إعجاز القرآن العلمي ، وفي القاموس كفتَ يكْفتُ كفْتًا ؛ جذبَهُ ، وقبضهُ ، وضمّه ، والكِفات الموضِعُ الذي يكفتُ فيه الشيء ، والأرض كفات أيْ جاذبةٌ لما عليها ، ولا تستقيم الحياة لولا الجاذبيّة، ولا تستقيم الحياة على وجه الأرض لولا هذه الأوزان التي نتعامل بها .

 

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
 اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا. اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ارزقنا حجاً مبرورا ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفورا . اللهم اكتب الصحة والسلامة للحجاج والمسافرين ، والمقيمين والمرابطين ، في برّك و بحرك من أمة محمدٍ أجمعين. اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور