وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0246 - وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً - موضوع النمل .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

خُلق التواضع :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم هو خُلُق التواضع ، وخلق التواضع من أخلاق المؤمن ، يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾

[ سورة الفرقان: 63 ]

 قال علماء التفسير : كلمة هوناً تعني أنّهم يمشون في سكينة ، ووقارٍ ، متواضعين، غير أشِرين ، ولا مرحين ، ولا متكبّرين .
 وقال الإمام الحسن : أيْ هم علماء حكماء ، وقال بعض العلماء : أيْ أصحاب وقارٍ وعفّة ، لا يسفهون ، وإن سُفِهَ عليهم يحلمون ، هذا معنى قوله تعالى يمشون على الأرض هونًا .
 والهَوْنُ أيّها الأخوة بِفَتح الهاء ؛ الرُّفْق واللّين ، ولكنّ الهُون هو الهوَان وشتّان بين الهَون والهُون ، فالهَون صِفَة أهل الإيمان ، ولكنّ الهُون صفة أهل الكفران ؛ الذين مصيرهم إلى النِّيران .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ أخرى تُشير إلى التواضع ، وهي قوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾

[ سورة المائدة : 54 ]

 أذِلَّة تعني أنّه ذُلّ رحمةٍ وعطفٍ وشفقةٍ وإخبات ، وليس ذلّ هوان ، ذُلّ رحمةٍ وعطفٍ وشفقةٍ وإخبات ، صاحبهُ ذلول ، وليس ذليلاً ، ولكنّ ذلّ الهوان صاحبهُ ذليل ، وشتّان بين الذّلول ، وبين الذليل ، الذلول سهل الانقياد ، لكنّ الذليل الذي يفعل الدناءات ، يستحقّ غضب ربّ الأرض والسموات .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حديث للنبي عليه الصلاة والسلام يوضّح معنى هذه الآية ؛ أذلّة على المؤمنين ، أعزّة على الكافرين ، يقول عليه الصلاة والسلام : " المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل ".
 مرَّةً ثانية ؛ شتّان بين الذلول وهو المؤمن سهل الانقياد ، ليّن الجانب ، مؤنتهُ خفيفة، وبين الذليل الذي يفعل الدناءات فيسقط من عين الله تعالى ، فهو ذليل ذِلَّة خِسَّة ودناءة، بينما المؤمن ذلول لأنّه ينقادُ إلى الحقّ ، ولا يتكبّر على خلق الله سبحانه وتعالى ، المؤمن - كما قال عليه الصلاة والسلام - كالجمل الذلول ، والمنافق والفاسق ذليل .

 

تناقض الكبر مع العبودية لله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هاتان آيتان من القرآن الكريم تُشيران إلى خلق التواضع ، وخلق التواضع من صفات المؤمنين ، فمن كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر فقد انْسلخَ عن الإيمان . وفي صحيح مسلم أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد ))

[ رواه مسلم عن عياض بن حمار]

 ربّما كان الكِبر كما جاء في هذا الحديث الشريف سببًا للاستعلاء ، وسببًا للطّغيان، الأرض الخِصبة للطُّغيان هي الكِبْر .
 وفي صحيح مسلمٍ أيضًا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال ، وهذا حديث خطير:

(( لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر ))

[ رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود]

 لماذا ؟ لأنّ الكِبْر يتناقض مع العبودية ، لن تدخل الجنة إلا إذا كنت عبدًا لله ، من كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر فإنّ هذا الكِبر يتناقض مع العبودية ، وبالتالي لا يستحقّ صاحبهُ دخول الجنّة ، هذا الحديث في صحيح مسلم ، وصحيح البخاري ومسلم أصحّ كتابين بعد كتاب الله ، قال :

(( لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر ))

[ رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود]

 وفي الصحيحين معًا ؛ في صحيحي البخاري ومسلم ، أنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( ألا أُخبركم بأهل النار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال : كُلُّ عُتُلّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر ))

[ متفق عليه عن حارثة بن وهب الخزاعي ]

 الاستكبار من صفات أهل النار .
 وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال :

((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار))

[البخاري عن أبي هريرة ]

 وفي جامع الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام :

(( لا يزال الرجل يذهب بنفسه ، لا يزال الرجل يتحدّث عن نفسه ، لا يزال الرّجل يُعجب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين فيُصيبُه ما أصابهم ))

[ رواه الترمذي عن سلمة بن الأكوع]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا من السنّة القوليّة ، فماذا في السنّة العمليّة ؟

 

مواقف عمليّة من السنة النبوية عن تواضع النبي الكريم :

 كلّكم يعلم أنّ السنّة النبويّة المطهّرة هي أقوال النبي ، وأفعاله ، وإقراره ، وصفاته ، فماذا في السنّة العمليّة ؟ كان عليه الصلاة والسلام يمرُّ على الصّبيان فيُسلِّمُ عليهم ، وهو سيّد الخلق ، وحبيب الحق ، وسيّد ولد آدم ، وليس أحد فوقه من بني البشر ، كان يمرّ على الصِّبيان فيُسلّم عليهم تواضعًا لله عز وجل .
 حينما دخل مكّة دخلها مُطأطئ الرّأس حتى كادَت ذُؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، تواضعًا لله عز وجل ، وكانت الأَمَة تأخذ بيدِه فتنطلق به حيث تشاء ، هذا مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم .
 وكان إذا أكل لعق أصابعه الثلاثة ، وهو في بيته في خدمة أهله ، لا يفنيه عن هذه الخدمة أنّه سيّد الخلق ، لا يُفنيه عن هذه الخدمة أنه رجل البيت ، وكان إذا دخل بيته بسَّامًا ضحَّاكًا ، وكان في خدمة أهله ، ولم يكن ينتقم لنفسه قطّ ، كان يخصف نعْلهُ ، ويرقعُ ثوْبهُ ، ويحْلِبُ شاته لأهله ، ويعْلف بعيرهُ ، وهو سيّد الخلق ، وحبيب الحقّ ، وكان يأكل مع الخادم ، ويُجالسُ المسكين ، ويمشي مع الأرملة والمسكين ، ويبدأ من لقِيَهُ بالسّلام ويُجيبُ من دعاه ولو إلى أيْسَر شيء يقدّم للضّيف .
 كان عليه الصلاة والسلام هيِّن المؤنة ، طلباته قليلة ، وعبؤُه خفيف ، ليّن الخُلُق ، كريم الطَّبع ، جميل المعاشرة ، طلْق الوَجه ، وبسّامًا ، متواضعًا مِن غير ذِلّة ، جوادًا من غير سرفٍ ، رقيق القلب ، رحيمًا بكلّ مسلم ، خافض الجناحَين للمؤمنين ، ليّن الجانب لهم .
 روى الترمذي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ ))

[ رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود ]

 وروى البخاريّ في صحيحه أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( لو دُعيتُ إلى ذراعٍ ، أو كراعٍ ، لأجبْتُ ، ولو أُهدِيَ إليّ ذراعٌ ، أو كراعٌ لقبِلْتُ))

[ رواه البخاري عن أبي هريرة ]

 تواضعًا لله عز وجل ، وكان عليه الصلاة والسلام على عِظَم شأنه يعود المريض ، ولو كان عبدًا ، ويسأل عنه ، ويتفقّد أحواله ، ويشهد الجنازة ، ويركبُ الدابّة ، ويجيبُ دعوة العبد.

 

أقوال العلماء الفضلاء عن التواضع :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا من السنّة العمليّة ، فماذا من أقوال العلماء الفضلاء عن التواضع ؟
 يقول الفضيل بن عياض : التواضع أن تخضع للحق ، وأن تنقاد له ، وأن تقبلهُ ممّن قاله ، كائنًا من كان ، ولو أنّ طفلاً صغيرًا نطق بالحق ، يجبُ أن تقبلهُ منه إذا كنت متواضعًا .
 ويقول بعض العلماء : التواضع ألا ترى لنفسك قيمةً ، فمن رأى لنفسه قيمةً فليس له في التواضع نصيب .
 ويقول الإمام الجُنيد رحمه الله تعالى : التواضع خفض الجناح ، ولينُ الجانب .
 ويقول أبو يزيد البسطامي : التواضع هو ألا ترى لنفسك مقامًا ، ولا حالاً .
 ويقول ابن عطاء الله السكندري : التواضع قبول الحق مِمَّن كان .

العِزّ الحقيقي في التواضع :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العِزّ الحقيقي في التواضع ، فمن طلبهُ في الكِبر ، كمن طلب الماء في النار ، والنار تتناقض مع الماء ، والشّرف في التواضع ، والعزّ في التقوى ، والحريّة في القناعة ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربّه : " أحبّ ثلاثا وحبي لثلاث أشدّ ؛ أحبّ المتواضعين ، وحبّي للغني المتواضع أشدّ ، وأُحبّ الكرماء ، وحبّي للفقير الكريم أشدّ ، وأحبّ الطائعين وحبي للشاب الطائع أشدّ ، وأبغض المتكبّرين وبغضي للفقير المتكبّر أشدّ، وأبغض البخلاء ، وبغضي للغني البخيل أشدّ ، وأبغض العصاة ، وبغضي للشيخ العاصي أشدّ " .
 روى عروة بن الزبير قال : رأيت أمير المؤمنين عمر على عاتقه قربة ماء ، فقلتُ يا أمير المؤمنين : لا ينبغي لك هذا ! أي أنت أمير المؤمنين وتحمل الماء على عاتقك ؟ فقال سيّدنا عمر : لمّا أتَتْني الوفود سامعين مُطيعين ، دخل في نفسي عُجبٌ فأردْتُ أن أكسرها ، مرَّةً كان يخطب على المنبر ، فقال : يا بن الخطاب ، كنتَ فقيرًا فأغناك الله تعالى ، وكنت ذليلاً فأعزَّك الله تعالى ، وكنت راعيًا ترعى شياهًا لبنات خالتك على حفنةٍ من تمر ، أقْحم هذه الكلمة في وسط الخطبة ، فلمَّا نزل سأله بعض أصحابه ، وهو عبد الرحمن بن عوف ، يا أمير المؤمنين لم قلت هذا ؟ قال : قالَت لي نفسي وأنا أخطب ، أنت أمير المؤمنين ، وليس بينك وبين الله أحد ، فأردتُ أن أُعرّفها قدرها .
 وركب زيدُ بن ثابت مرَّةً على دابّته فدنا منه ابن عباس ابن عمّ النبي عليه الصلاة والسلام لِيَأخذ بِرِكابه ، فقال : مَهْ ، يا بن عمّ رسول الله ، فقال هذا : هكذا أُمِرنا أن نفعلَ بِكُبرائِنا ، فقال : أرِني يدك ، فأخرجها إليه فقبّلها ، وقال : هكذا أُمِرنا أن نفعل بِبَيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقسم عمر بعض الحلل بين الناس ، فأصاب بدويًّا حلّةً لم تعجبهُ ، فغضبَ وقال : والله لأضربنَّ بها وَجه عمر ، وقد حلف يمينًا ، بلغَ ذلك عمر فقال : اُدْن منِّي ، ولا تحنث بيمينك ، وارْفق بي فإنِّي شيخ ! المؤمن من صفاته التواضع .
 ويُروى أنّ أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام عيَّر بلالاً بِسَواده فلمّا بلغ ذلك النبي ، غضب غضبًا شديدًا ، وقال لهذا الذي عيَّر بلالاً : " إنَّك امرؤٌ فيك جاهليّة " فما من هذا لأصحابي الجليل إلا ألقى بنَفسه على الأرض ، وحلف ألا يرفع رأسه حتى يطأ بلالٌ خدَّه بقدمه ، فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال ذلك ، هكذا كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام .
 ثياب عمر بن عبد العزيز قُوِّمَت وهو أمير المؤمنين ، فلم يزد ثمنها عن اثنَي عشر دِرهمًا ، وهي قباءٌ ، وعمامةٌ ، وقميصٌ ، وسروال ، ورداءٌ ، وخفّين ، وقلنسوة .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال بعضهم : رأيتُ في الطواف رجلاً بين يديه أُناسٌ كُثُر ، يمْنعون الناس من أجله ، ثمّ رأيتهُ مرّةً على جِسْر في الكوفة يسأل الناس مالاً ، يتسوَّل ! فتعجَّبت منه ، وقلتُ له : ألسْت أنت فلاًنًا ؟ فقال : نعم ، إنِّي تكبَّرتُ في مَوضِعٍ يتواضع فيه الناس فأذلّني الله في موضعٍ يعتزّ به الناس .
 سيّدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، ورضي الله عنه ، بلغهُ أنّ ابنًا له اشترى خاتمًا ، بألف درهم ، فكتب إليه ، بلغني أنَّك اشْتريْت فصًّا أي خاتمًا بألف درهمًا ، فإذا أتاك كتابي هذا فبِعِ الخاتم ، وأشْبِعْ به ألف بطنٍ ، واتَّخِذ خاتمًا بدِرهمَين ، واجعل فصَّه - سطحه الأملس من الحديد - واكتب عليه : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه ، هكذا أمر سيّدنا عمر بن عبد العزيز ابنه الذي اشترى خاتمًا بألف درهم .

 

النار المحرقة مصير المتكبّرين :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول العلماء : التكبّر شرّ من الشّرك ؛ لأنّ المتكبّر يتكبّر عند عبادة الله عز وجل ، بينما المشرك ربّما عبد الله ، وعبد غيره ، لكنّ المتكبّر يستنكف أصلاً أن يعبد الله عز وجل ، لذلك جعل الله النار المحرقة مصير المتكبّرين ، فقال تعالى :

﴿ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾

[ سورة الزمر: 72 ]

 وفي سورة النحل قال تعالى :

﴿ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾

[ سورة النحل: 29]

 أليس في جهنّم مثوى للمتكبرين ؟ قال تعالى :

﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾

[ سورة غافر : 35]

 والله سبحانه وتعالى يعاقب المتكبرين بِشَيئين خطيرين ؛ الأول يبقيهم في حال الجهل ، قال تعالى :

﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 146 ]

 وفي آيةٍ أخرى ، قال تعالى :

﴿ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾

[ سورة الأحقاف : 20 ]

 كأنّ عقاب المتكبّر أن يُذلّه الله ، وأن يهينه .

 

الكبر أشدّ من الشّرك :

 أيها الأخوة الأكارم ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾

[ سورة النساء : 48]

 لذلك استنبط العلماء أنَّه لا يغفر للمتكبّر ؛ لأنّ كِبْره فوق الشّرك ، فإذا كان الله لا يغفر للمشرك فلأَن لا يغفر للمتكبّر من باب أولى ، لأنّ الكبر أشدّ من الشّرك ، وقد قيل : من تواضع لله رفعه ، ومن تكبّر على الله أذلّه ووضَعَه ، وصغَّره وحقّره ، ومن تكبّر عن الانقياد إلى الحقّ ، ولو جاء الحق على يد صغير ، أو على يد إنسانٍ تبغضهُ ، أو على يد إنسانٍ هو عدوّ لك ، يجبُ أن تنقاد إلى الحقّ ، فالحق فوق كلّ شيء ، الله سبحانه وتعالى هو الحق ، وكلامه حقّ ، ودينهُ حقّ ، والحقّ صفتهُ ، والحق فيه ، والحق إليه ، فمن تكبّر على الحقّ فقد تكبّر على الله عز وجل .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ عرّف النبي عليه الصلاة والسلام الكِبر فقال : " الكِبر بطر الحقّ ، وغمض الناس " أن تقلّل ما عند الناس ، أن تحتقر ما عند الناس ، أن تطْمس ما عندهم من فضائل .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

النمل من الآيات الدالة على عظمة الله :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من الآيات الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى أنَّ النَّمل يتشابهُ مع الإنسان في أشياء كثيرة ، فالنَّمْل كما قال بعض العلماء المتخصّصين في الحشرات ؛ النّمل يبني المُدن ، ويشقّ الطرقات ، ويحفر الأنفاق ، ويخزّن الطعام ، في مخازن ، وفي صوامع ، أو في مستودعات ، وبعض أنواعه يقيم الحدائق ، ويزرعُ النباتات ، ومن النّمل نملٌ يحتفظ بِمَواشٍ خاصّة له يأخذ من رحيق ما في بطنه ، وبعض قبائل النّمل تشنّ حروبًا على قبائل أخرى ، ويأخذ المنتصر من هذه القبائل بعض الأسرى من النّمل الضعيف المهزوم ، وبعض أنواع النّمل يستأنس الحشرات ، ففي أوكار النَّمل ما يزيد عن ألفي نوعٍ من الحشرات التي تستأنس بالنَّمل .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك حشرةٌ تمتصّ رحيقًا حُلوًا ، النّمل يحبّ هذا الرحيق ، هذا النّمل يرعى هذه الحشرة ، ويبني لها بيوتًا خاصّة ، ويستخدمها ليأخذ من رحيق بطنها ، وكأنّها مواشٍ يربّيها الإنسان ليأكل مِمَّا في بطونها ، هناك في النّمل عساكر لها حجمٌ أكبر ، ولها رأسٌ أصلب ، وهناك من النّمل عاملات تخزن الرحيق .
 كلّ هذا يجعلنا نتنبّه لقوله تعالى :

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾

[ سورة الأنعام : 38]

 يبني المُدن ، ويشقّ الطرقات ، ويحفر الأنفاق ، ويخزّن الطعام في المخازن ، وفي الصوامع ، وفي المستودعات ، بعض أنواع النّمل يقيم الحدائق ، ويزرع النباتات ، ونوعٌ يحتفظُ بمواشٍ خاصّة به يرعاها ، بعض أنواع النّمل يشّ حروبًا على قبائل أخرى يأخذ الأسرى من ضعاف النّمل المهزوم ، وبعض أنواع النّمل يستأنس الحشرات ، وبعض أنواع النّمل يرعى حشرةً يتغذّى من رحيقها ، له عساكر ، وله عاملات ، لفت نظري في قوله تعالى :

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 38]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى بثّ في الأرض آيات للموقنين حيثما وأينما ذهبت ، في حركاتك ، وفي سكناتك ، في حفلك ، في بيتك ، في دكّانك ، في معملك ، إذا مشَيت على الأرض ، أو ركبت البحر ، أو ركبت متن الطائرة ، إنّ الآيات الكونيّة هي معك في كلّ مكان ، وما عليك إلا أن تفكّر بها ، وإذا فكَّرت بها تعرّفت إلى الله عز وجل فخشَعَ قلبك، فإذا خشعَ قلبك ، اسْتقمْت على أمره ، يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور