وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0383 - التقوى - تقوى الله هي الفلاح والنجاح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

التّقوى :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن على أبواب رمضان ، ورمضان شهر العبادة ، شهر التقوى ، شهر الزلفى ، شهر المغفرة ، شهر العتق من النار . والإنسان أيها الأخوة كائنٌ أودع الله فيه عقلاً ، والعقل جهازٌ لا يفهم الأشياء إلا وَفْقَ مبادئ معيَّنة ، من هذه المبادئ مبدأ الغائيَّة ، فالعقل البشري لا يفهم شيئاً من دون غاية عظيمةٍ راجحةٍ ، إذاً يُقْبِلُ عليها . والصوم أيها الأخوة من العبادات .
 وفي الإسلام عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وأخلاق . الصوم من العبادات ، وهذه العبادة جاءت في القرآن الكريم معلَّلةً ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 في آيةٍ محكمةٍ ، واضحةٍ ، قطعية الدلالة ، يؤكِّد الله سبحانه وتعالى أن الصيام من أجل التقوى ، ما التقوى ؟ التقوى وردت في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمئة موضع ، لها شأنٌ عظيم ، الصيام من أجل التقوى بنصِّ القرآن الكريم :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 التقوى مِن وقى ، ووقى مِن مصدر الوقاية ، ولا تكون الوقاية إلا من خطر . لعلكم تتقون عذاب الله ، لعلكم تتقون سخطه ، لعلكم تتقون النار ، لعلكم تتقون شقاء الدنيا ، لعلكم تتقون الخَوف ، الفعل إذا أُغفِل المفعول به أُطْلِقْ . .

﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 أيْ لعلكم تتقون كل خطر ، والإنسان مفطورٌ على حبّ السلامة ، حبّ السلامة مركبٌ في ذات الإنسان ، من جِبلَّته ، من طبيعته ، فالقرآن الكريم يبيِّن أن الإنسان إذا صام كما أراد الله ، كما ينبغي أن يصوم ، إذا صام كما أراد الله وكما ينبغي اتقى كل خطر ، وهل من هدفٍ عظيم وهل من رغبةٍ جامحة في أعماق أعماق نفس الإنسان كأن يكون سليماً معافىً ؟ وما السلامة وما المعافاة إلا خطوةٌ نحو طريق السعادة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان في الدنيا إن لم يتبع هدى ربه وقع في مخاطر كثيرة، قد يضيع الإنسان في متاهة جمع الأموال والثروات ، فإذا جاء مَلَكُ الموت رأى أن المال ليس بشيء ، وأن العمل الصالح كل شيء ، ولكن متى ؟ بعد فوات الأوان ، قد ينجذب الإنسان إلى بعض الفِتَنِ المُهْلكات ، يهلك ويقول :

﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾

[ سورة الزمر : 56 ]

 قد ينغمس الإنسان في شهواتٍ تبعده عن رب الأرض والسموات ، حينما يأتيه مَلَكُ الموت يجد أنه ضيَّع ضياعاً كبيراً ، قد ينغمس الإنسان في حمأة المُزاحمة على حُطام الدنيا ، الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، الدنيا جيفة طلابها كلابها . الدنيا أمدها قصير ، خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً ، كيف يرى الإنسان الحق حقاً ؟ كيف يستنير قلبه ؟ كيف يرى رؤيةً صحيحة ؟ كيف يكون بصره حاداً وحديداً ؟ كيف يرى بواطن الأمور ؟ كيف يرى المؤدَّى - النتائج -؟ إنها التقوى .

 

الله عز وجل يأمرنا بالتقوى لأنه بكلّ شيء عليم :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ موضوع التقوى موضوعٌ دقيق ، ولكن بادئ ذي بَدْء إذا بَنَيْتَ تصوراتك عن الكون والحياة والإنسان وفق ما جاء في القرآن الكريم ، فقد أسست بُنيانك العقائدي على أرضٍ صلبة ، أما إذا استقيت فلسفةً وضعيةً لا أساس لها ، ولا قوائم تقِف عليها، كثيراً ما تنهار بعد حين ، أما إذا استقيت فلسفتك ، أو تصوّراتك ، أو عقيدتك من أقوالٍ لا تستند إلى سُلطانٍ مبين ، فقد بَنَيت بُنيانك على شفا جُرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم . لذلك من الجهة التي نستقي منها الحقيقة ؟ إنها الله عزَّ وجل ، يقول الله عزَّ وجل :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 إذاً ليس في الكون إلا جهة واحدة يمكن أن تستقي منها عقيدتك ، وفلسفتك ، وتصوّراتك ، ومُنطلقاتك النظرية إنها الله سبحانه وتعالى .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ هل غير الله واجب الوجود ؟ الذات الكاملة ، الحيُّ القيّوم، ذو الأسماء الحُسنى ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الأول والآخر ، الظاهر والباطن ، مَن بيده مَلَكوت كل شيء ، من إليه يُرجع الأمر كله ، مالك المُلك ؛ إيجاداً ، وتصرفاً ، ومصيراً ، هل غير الله يُتَّقى سَخَطه ؟ هل غير الله يُرجى ثوابه ؟ هل غير الله يتقى عذابه ؟ هل غير الله تُرجى رحمته ؟ هل غير الله تتقى ناره ؟ هل غير الله تُطلب جنَّته ؟ إن الله تعالى يأمرنا بالتقوى لأنه بكل شيءٍ عليم ، ولأنه سريع الحساب ، ولأنه إليه يُحشر الناس جميعاً يوم القيامة ، لذلك قال تعالى :

﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾

[ سورة النحل : 52]

المؤمن يتقي الله لأنه أهل التقوى و أهل المغفرة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الحقيقة أننا لا نتقي الله لأننا في قبضته فحسب ، نحن في قبضته ، بدءاً من من أقل شيءٍ فينا إلى أخطر شيءٍ فينا ، بدءاً من ذواتنا وانتهاءً بما حوالينا ، أيّ شيء في قبضة الله ، لكن المؤمن لا يتقي الله لأنه في قبضته فحسب ، بل يتقِي الله لأنه أهلُ التقوى . .

﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾

[ سورة المدثر : 56]

﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾

[ سورة الرحمن : 78]

 بين أن تطيع جهةً خوفاً وبين أن تطيعها حباً بونٌ شاسع ، ومسافةٌ كبيرة .
 مرةً ثانية : نحن أيها الأخوة لا نتقي الله لأننا في قبضته فحسبُ ، ولكن نتَّقي الله - فضلاً عن أننا في قبضته - لأنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة ، هذا هو المعنى الثالث .

 

المؤمن يتقي لله لإيمانه بوجوده :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ كيف تتقي سخط جهةٍ لست موقناً بوجودها ؟ كيف تتقي سخط جهةٍ لا تعرف عظمتها ؟ كيف تتقي سخط جهةٍ لا تعرف ما عندها من إكرام إذا أطعتها؟ كيف تتقي سخط جهةٍ لا تعرف ما عندها من عذابٍ إذا خالفت أمرها ؟ لذلك يقول الله عزَّ وجل:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة الممتحنة : 88]

 إن كنتم مؤمنين اتقوا الله . .

﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة النحل : 52]

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة الممتحنة : 88]

أبواب معرفة الله :

1 ـ آيات الله في الكون :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ما دامت التقوى هي طاعة الله عزَّ وجل ، كيف نتعرَّف إلى الله حتى نطيعه ؟ القرآن الكريم ذكر أن باباً واسعاً ، وطريقاً خطيراً من أبواب معرفة الله ، وطُرق الوصول إليه هو باب آيات الله التي بثَّها في السموات والأرض ، قال تعالى :

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾

[ سورة آل عمران : 190]

 وقال تعالى :

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾

[ سورة الطارق : 5]

 وقال تعالى :

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾

[ سورة عبس : 24]

 وقال تعالى :

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

[ سورة الغاشية : 17]

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ ﴾

[ سورة الملك : 19 ]

 إن النظر ، والتأمُّل ، والتفكُّر ، والتدقيق ، والتحليل ، والاستنباط في الآيات التي بثها الله في السموات والأرض ، يصل بصاحبه إلى اليقين القَطْعِيّ ، بأن لهذا الكون خالقاً عظيماً ، ورباً رحيماً ، ومسيّراً حكيماً هو أهلٌ أن تطيعه ، لتتقي بطاعته عذابه ، قال تعالى :

﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾

[ سورة يونس : 6]

2 ـ القرآن الكريم :

 بابٌ آخر من أبواب معرفة الله عزَّ وجل إنّه القرآن ؛ حبل الله المتين ، المنهج القويم ، الصراط المستقيم ، تعليمات الصانع . .

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾

[ سورة الإسراء : 9 ]

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[ سورة طه : 123]

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[ سورة البقرة : 38]

 إنه المنهج الوحيد ، الحق لا يتعدد ، والباطل يتعدد . .

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾

[ سورة الأنعام: 153 ]

 الصراط مُفْرَد ، أما السُبُل فجَمْع . .

﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾

[ سورة الأنعام: 153 ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله عزَّ وجل :

﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾

[ سورة الزمر : 28]

 القرآن بابٌ آخر من أبواب معرفة الله عزَّ وجل .

3 ـ الحوادث :

 قد يعجب الإنسان لِمَ لا يتقِ الله ؟ مع أن الله بثَّ في الكون كله آيات دالة على عظمته ، القرآن يعرفنا بعظمة الله عزَّ وجل ، الحوادث تُنْبِئُنا بأن الله هو الفعَّال ، وهو بكل شيءٍ عليم ، وعلى كل شيءٍ قدير ، وإليه يُرجع الأمر كله . إذاً الحوادث أيضاً يمكن أن تكون باباً ثالثاً من أبواب معرفة الله .

 

أبواب أخرى لمعرفة الله عز وجل :

 الكون ، والقرآن ، والحوادث ، والعقل ، والفطرة ، والتشريع ، والدعاة ، والأنبياء ، والمصائب كل هذا الحَشْر العظيم من أجل أن تعرف الله عزَّ وجل ، لذلك يقول الله عزَّ وجل :

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾

[ سورة البقرة : 282 ]

 هو يعلِّمكم ، يعلمكم من كل باب ، وفي كل وقت ، وفي كل طريقة ، بالكون يعلمكم ، وبالقرآن يعلمكم ، وبالتشريع يعلمكم ، وبالأنبياء يعلمكم ، وبالحوادث يعلمكم ، وبالمصائب يعلمكم ، وبالرؤى الصادقة يعلمكم . .

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾

[ سورة البقرة : 282 ]

الوسائل الفعَّالة التي تسرّع الخُطا إلى التقوى :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من الوسائل الفعالة التي تسرع الخطا إلى التقوى أن تكون صادقاً ، الصادق يصل ، إن الصدق يهدي ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب : 70-71]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾

 القول السديد ، القول الصادق ، يُسَرِّع الخُطا إلى الله عزَّ وجل .
 شيءٌ آخر أيها الأخوة ، من الوسائل الفعَّالة التي تسرع الخُطا إلى التقوى ، أن تكون البيئة الاجتماعية التي تحتضن المرءَ بيئةً طيبةً صالحةً مؤمنة ، لذلك قال تعالى :

﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 119]

 لا تصاحب إلا مؤمناً ، لا تختلط إلا بالمؤمن ، لا تشارك إلا المؤمن ، لا تمض وقتاً طويلاً إلا مع مؤمن ، لأن هذه البيئة الصالحة تُعينك على التقوى ، أن تكون صادقاً يعينك على التقوى ، البيئة الصالحة تعينك على التقوى .

 

وسائل التقوى :

 شيءٌ آخر : التقوى أيها الأخوة لها وسائل ، من وسائلها العمل الصالح ، من وسائلها حضور مجالس العلم ، من وسائلها صحبة المؤمنين ، من وسائلها البذل والعطاء ، من وسائلها التفكُّر والتدَبُّر ، لذلك قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾

[ سورة المائدة : 35 ]

 لكن يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سلعة الله غالية ، وثمن الجنة باهظ ، ومُحالٌ أن تصل إلى شيءٍ بلا شيء ، محالٌ أن ترقى إلى أعلى الدرجات وأنت مُسْتَلْقٍ ، وأنت مُسْتَرْخٍ ، وأنت غارقٌ في ملذاتك وحظوظ نفسك ، فلابدَّ من تجشُّم الصعاب . .

(( ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة . ألا وإن عمل النار سهل بسهوة))

[ الجامع الصغير عن أبي البجير ]

 لذلك طريق الجنة ليس مفروشاً بالرياحين ، لابدَّ من الابتلاء . .

﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾

[ سورة آل عمران : 186]

 الآية الثانية :

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾

[ سورة محمد : 31]

يقول الله عزَّ وجل :

﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة يوسف : 90]

 شيءٌ آخر : كما قال الإمام الغزاليُ عن العلم : " العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلَّك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئا " . كذلك التقوى لن تصل إليها ، لن تصل إلى طاعة الله المُسْعِدَة ، لن تصل إلى اليقين ، إلى الصراط المستقيم ، إلى النور المبين إلا بجهدٍ شديد ، فلذلك قال تعالى :

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾

[ سورة التغابن : 16 ]

 وهذه الآية تفيد بذل أقصى الجُهد ، لا بذل بعض الجُهد .

 

من يتق الله ييسر الله له أموره و يذلل عقباته :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما يخطو المرءُ خطوةٌ أولى في طريق التقوى يكفِّر الله عنه سيّئاته ، وينسي حافظيه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، ويُعْظِمُ له أجره . أي أول عطاءٍ إلهي أن يعفو عما سلف ، أن تفتح لك صفحةٌ جديدةٌ في علاقتك مع الله ، أن يُنسي الله حافظيك والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياك وذنوبك .

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾

[ سورة الزمر : 53 ]

 قال تعالى :

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾

[ سورة الطلاق : 5]

 ومَنْ مِنَّا لا يحبُّ أن تكون أموره مُيَسَّرةً ؟ أن يعيش في راحة بال ؟ أن يعيش في راحةٍ نفسية ؟ أن يرى العقبات أمامه مُذللة ؟ أن يكون الناس متعاونين معه ؟ قال تعالى :

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾

[ سورة الطلاق : 4]

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 5- 10]

 مَنْ مِنَّا لا يحبُّ التيسير ؟ من منا لا يحب أن تكون أموره ميسرةً ؟ العقبات مُذللةً و المُشكلات محلولةً ؟ اتقِ الله .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما تضيق الأمور ، وتستحكم الحَلقات ، وتسد المنافذ ، وتنتصب العَقبات ، ويقنط الإنسان تأتي التقوى فيتسع بها المضيق ، وتحلُّ بها العُقَد ، وتفتح بها المنافذ ، وتذلل بها العقبات ، لذلك الآية التي حيَّرت العلماء هي قوله تعالى :

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ﴾

[ سورة الطلاق : 2]

 من يتقِ الله عند نزول المصيبة فيوحد الله ، ويصبر لحكمه ، ويرضى بقضائه ، ويثْبُت على مبدئه واستقامته يجعل الله له مخرجاً منها ، ويبدّل ضيقه فرجاً ، وخوفه أمناً ، وعُسْرَهُ يُسراً . . فلا يسمح للأفكار الزائفة أن تأخذ طريقها إلى عقله ، يجعل الله له مخرجاً مِن الضياع ، والحيرة ، والضلال ، وخيبة الأمل . ومن يتقِ الله فيبرأ من حوله وقوته وعلمه ، يجعل الله له مخرجاً مما كلَّفه به بالمعونة عليه . ومن يتقِ الله فيقف عند حدود الله فلا يقربها ، ولا يتعدَّاها ، يجعل الله له مخرجاً من الحرام إلى الحلال ، ومن الضيق إلى السَعَة ، ومن النار إلى الجنة . ومن يتقِ الله في كسب الرزق ، فيتحرَّى الحلال الذي يرضي الله يجعل الله له مخرجاً من تقتير الرزق بالكفاية ، ومن إتلاف المال بحفظه ونمائه . ومن يتقِ الله في اتباع السنة يجعل الله له مخرجاً من ضلال أهل البدع ، ونتائج ابتداعهم . ـومن يتقِ الله في اختيار زوجته، وفي التعامل معها يجعل الله له مخرجاً من الشقاء الزوجي . ومن يتقِ الله في تربية أولاده يجعل الله له مخرجاً من عقوقهم ، وشقائه بشقائهم . ـومن يتقِ الله في اختيار عمله ، وحسن أدائه يجعل الله له مخرجاً من إخفاقه فيه .

 

مستويات التقوى :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ثلاثمئة موضعٍ وردت فيه التقوى في القرآن الكريم ، وفي كل موضعٍ إشارةٌ دقيقةٌ إلى معنىً دقيق مِن معاني التقوى .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ التقوى مستويات ، إذا وصلك أمر الله عزَّ وجل بالنقل الصحيح وطبقته فأنت متقّ ، ولكن هناك مستوىً أرقى هو أن يقذف الله في قلبك نوراً ترى فيها الخير خيراً والشر شراً ، هذا مستوى أرقى . قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ به﴾

[ سورة الحديد : 28]

 عبَّر عنه العلماء ؛ بالرؤية الصحيحة ، النظر الثاقب ، إدراك بواطن الأمور ، إدراك ما بين السطور ، إدراك مؤدَّى الأمور ، الحاسة السادسة ، الحدث الإبداعي ، كل هذه الأسماء لمسمىً واحد ، وهو أن الله سبحانه وتعالى يُلقي في قلب المؤمن المتَّقي نوراً ، يريه الخير خيراً والشر شراً ، لا يرتكب حماقةً ، ولا يتورَّط ، ولا يأخذ ما ليس له ، ولا ينساق مع شهوةٍ ، ولا مع انحرافٍ ، لأنه يرى ، وأبسط مثلٍ على ذلك : أن طريقاً فيه حفر ، وفيه حشرات، وفيه أكمات ، وفيه أشواك ، معك مصباحٌ شديد ، ضوءٌ ساطع ، إنك بهذا المصباح ترى كل شيء ، تتقي كل شيء ، لا تتقِي إلا بهذا الضوء الشديد ، لذلك أحد مستويات التقوى أن يقذف الله في قلبك نوراً . فلو أنت أمام قوارير على كل قارورة كُتِبَت لصاقة تبيّن نوع المادة ؛ هذه سامة ، هذه غالية ، هذه تنفجر ، هذه تحتاج إلى برودة ، هذه اللصاقات نورٌ لك ، ولكن الخبراء الكيميائيين من دون هذه اللصاقات يرون حقيقة الأشياء ، فإما أن ترى الأمر الإلهي ، فتتبع ، فتأتمر وتنتهي ، وإما أن يكون في قلبك نورٌ ترى به الخير خيراً والشر شراً .

 

معنى آخر من معاني التقوى :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ معنىً آخر من معاني التقوى ، ألا يتمنى أحدنا أن يكون أكرم الناس ؟ قال تعالى :

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[ سورة الحجرات : 13]

 المقياس الوحيد ، المُرَجِّح الوحيد ، القيمة الثابتة عند الله عزَّ وجل أن تكون مطيعاً لله عزَّ وجل . .

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[ سورة الحجرات : 13]

 ألا يتمنّى أحدنا أن يحبَّه خالق السموات والأرض ؟ قال تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 4]

 اتقِ الله فأنت في مرتبة المحبة ، ألا يتمنى أحدنا أن يكون خالق السموات والأرض معه ؛ بالعناية ، والرعاية ، والحفظ ، والتأييد ، والنصر ، والتجلي ؟ قال تعالى :

﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة الجاثية : 19]

 إذا اتقيته فهو وليُّك ؛ يخرجك من الظلمات إلى النور ، ينصرك ، يؤيِّدك ، يحفظك ، يسعدك .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ألا تحب أن يكون الله معك ؟ إذاً فاتقِ الله . .

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾

[ سورة النحل : 128]

 وهذه المعيَّة الخاصة .

 

الدين معرفة طاعة و سعادة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة النجاح كلمة برَّاقة ، كلمة الفلاح ، الفوز ، الرَشاد، التفوّق ، الغنى ، التوفيق ، السعادة ، كل هذه الكلمات برَّاقة تهفو إليها النفس ، تحب أن تكون ناجحاً في حياتك ، متفوّقاً على أقرانك ؟ إذاً فاتقِ الله ، قال تعالى :

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 189]

 لن تفلح إلا إذا اتقيت الله عزَّ وجل . .

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 189]

 أيْ أنَّ الخير كلُّه ؛ عاجله وآجله ، صغيره وكبيره في تقوى الله أيْ في طاعته، ولن تطيعه إلا إذا عرفته ، ولن تعرفه إلا إذا تأمَّلت في صنعته ، وتأمَّلت في منهجه ، وتأمَّلت في أفعاله ، إن تأملت في صنعته تعرفه ، وإن تأملت في منهجه وهو القرآن تعرفه ، وإن تأملت في أفعاله وهي الحوادث تعرفه ، فإذا عرفته اتقيته ، فإذا اتقيته سعدت بقربه ، وهذا هو الدين كله ؛ معرفةٌ ، طاعةٌ ، سعادة .

 

طاعة الله عزَّ وجل خير زادٍ للآخرة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا شعر الإنسان أنه مغمورٌ بالنِعَم ، ولاسيما نعمة الإيجاد، ونعمة الهداية والرشاد ، ونعمة الإمداد ، فكيف يَرُدُّ على هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه ؟ إنها التقوى ، لذلك قال تعالى :

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾

[ سورة آل عمران : 123]

 أيْ إذا أردت أن تشكر فما عليك إلا أن تطيع الله عزَّ وجل ، إذا أردت أن تشكر نعمة الصحة ، عليك أن تستهلكها في طاعة الله ، إذا أردت أن تشكر نعمة الفراغ ، عليك أن تملأه في طاعة الله ، إذا أردت أن تشكر نعمة العقل الراجح ، عليك أن تسخّره في معرفة الله .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ملخص الموضوع أن التقوى أن تتقي الكفر بالإيمان ، وأن تتقي الشرك بالتوحيد ، وأن تتقي الرياء بالإخلاص ، وأن تتقي الكذب بالصدق ، وأن تتقي الغشَّ بالنصيحة ، أن تتقي المعصية بالطاعة ، أن تتقي الابتداع ؛ أن تحدث في الدين ما ليس منه ، أن تتقي الابتداع بالاتباع ، أن تتقي الشبهة بالورع ، أن تتقي الدنيا بالزهد ، أن تتقي الغفلة بالذِكْر ، أن تتقي الشيطان بعداوته . تزود من التقوى فإنك لا تدري ، قال تعالى :

﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾

[ سورة البقرة : 197 ]

 خير زادٍ للآخرة طاعة الله عزَّ وجل . .

تـزوّد مـن التـقــــــــــوى فإنك لا تدري  إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجــــــر
فكم من فتىً أمسى وأصبح ضاحكـاً  وقد نســجـــــــــت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم  وقـد أدخلت أجسـادهم ظلمة القبــــــر
وكم مـن عـروسٍ زينوها لزوجهــــــــا  وقـد قبضـــــــت أرواحهـم ليلة القـــــدر
* * *

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في تاريخنا المَجيد مواقف رائعة ، سيدنا عمر بن عبد العزيز كان له مستشار خاص ، اسمه عمر بن مهاجر ، قال له : يا عمر بن مهاجر إذا رأيتني ضللت -أي أخطأت- إذا رأيتني ضللت الطريق فخذ بمجامع ثيابي ، وهُزني هزاً عنيفاً ، وقل لي : اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت ، هذا مستشاره الخاص كان من أهل العلم ، قال : "كن معي دائماً وراقبني فإذا رأيتني ضللت الطريق فأمسك بمجامع ثيابي ، وهزني هزاً عنيفاً وقل لي : اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت ، لذلك الأمر بتقوى الله في كل خطبة . .

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 203]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

تقوى الله هي الفلاح و النّجاح و السّلامة و السّعادة :

 نحن في رمضان ، ورمضان كما تعلمون شهر القرآن ، فإذا قرأتم القرآن ، ووقفتم عند آيات التقوى قِفوا عندها مَلِيّاً ، لأن رمضان كله بنص الآية الكريمة :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 وتقوى الله هي كل شيء ؛ هي الفلاح ، وهي النجاح ، وهي الفوز ، وهي التفوّق، وهي النجاة ، وهي السلامة ، وهي الكرامة ، وهي السعادة . .

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

[ سورة البقرة : 183]

 لابدَّ من توبةٍ نصوح ، ولابدَّ من انضباطٍ تام على مستوى الصغائر ، على مستوى الجوارح ، على مستوى التعامل ، على مستوى المِهنة ، على مستوى الحِرْفَة ، في البيت ، في الطريق ، في المتجر ، في المكتب ، في أي مكان ، إذا أطعت الله طاعةً كما يريد ، قطفت ثمار هذه الطاعة في بقائك مع الله في التراويح ، إنك إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجل في صلاة التراويح ، تسمع كلام الله وقد أطعته طوال النهار حتى في دقائق الدقائق ، حتى في دقائق الجُزْئِيَّات تشعر أن الله يحبك ، وأن الطريق إليه سالكٌ ، ليس مقطوعاً بسبب الذنوب ، سالكٌ إليه ، عندئذٍ تذوق طعم التراويح التي سَنَّها النبي عليه الصلاة والسلام في رمضان . إنك تقطف ثمار صيامك التام ، واستقامتك التامة ، وورعك الشديد ، وحرصك على الصِلة بالله عزَّ وجل في صلاة التراويح .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ جاء رجلٌ إلى الحسن البصري فقال : يا إمام السماء لا تمطر ؟ فقال : استغفر الله . جاءه رجلٌ آخر قال : يا إمام زوجتي لا تنجب ؟ قال : استغفر الله . جاء ثالث قال : يا إمام أشكو الفقر ؟ قال : استغفر الله . قال له أحد الجالسين : يا إمام أو كلما جاءك رجل يشكو تقول له : استغفر الله ؟! فقال الإمام الحسن البصري : ألم تقرأ قوله تعالى :

﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾

[ سورة نوح : 10-12]

 إذاً لو أننا استغفرنا الله عزَّ وجل كما يريد ، وعقدنا صُلْحَاً معه ، وحققنا المراد مِن خَلْقِنا ، لوجدنا الدنيا طوع يميننا . .

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

[ سورة النساء : 147 ]

ما من شيء أكرم على الله من الدعاء :

 شيءٌ آخر : نحن في رمضان أيضاً ندعو ربنا كثيراً ، كلمةٌ موجزةٌ عن الدعاء ، قال عليه الصلاة والسلام :

((إن ربكم حيي كريم ، يستحيي أن يبسط العبد يديه إليه فيردهما صفراً))

[ كنز العمال عن سلمان]

 فاتقوا الله فيما تدعون ، ليس هناك شيء أكرم على الله من الدعاء ، لكن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب الدعاء إلا إذا كان هناك استجابةٌ من العبد :

﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾

[ سورة فاطر : 60 ]

 فإبراهيم بن الأدهم مرَّ بسوق البصرة فقيل له : يا أبا إسحاق إن الله تعالى يقول :

﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾

[ سورة فاطر : 60 ]

 ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا . فما السر ؟ فقال إبراهيم بن الأدهم : " لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء : عرفتم الله فلم تؤدوا حقه ، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به ، وادَّعيتم حب رسول الله فلم تعملوا بسُنَّته ، قلتم : إن الشيطان لكم عدو فاتخذتموه ولياً ، قلتم : إنكم مشتاقون إلى الجنة فلم تعملوا لها ، قلتم : إنكم تخافون من النار فلم تتقوها ، قلتم : إن الموت حق فلم تستعدوا له ، اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم ، تقلَّبتم في نِعْمَةِ الله فلم تشكروه عليها، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا ، فكيف يُستجاب لكم ؟ " .

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 186]

 فقد ندعو ربنا في رمضان ، وقد نقرأ القرآن ، وقد نفعل بعض الطاعات ، هذه ينبغي أن تقع كما أراد الله سبحانه وتعالى .

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
 أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر مولانا رب العالمين . اللهمَّ إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين. اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور