- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الدنيا دار بلاء و انقطاع :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا عرضت لك الدنيا فاذكر الموت ، وإذا وقعت في الذنوب فاذكر التوبة ، وإذا كسبت المال فاذكر الحساب ، وإذا جلست إلى الطعام فاذكر الجائع، وإذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك الذي سلطك عليهم ، ولو شاء لسلطهم عليك ، وإذا نزل بك بلاء فاستعن بلا حول ولا قوة إلا بالله ، وإذا مرضت فعالج نفسك بالصدقة، وإذا أصابتك مصيبةٌ فقل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، خطب في بعض خطبه ، فقال :
((أيها الناس إنه لا خير في العيش إلا لعالمٍ ناطق ، أو مستمعٍ واعٍ ، أيها الناس إنكم في زمن هدنة ، وإن السير بكم لسريع ، وقد رأيتم الليل والنهار يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، فقال له المقداد : يا رسول الله وما الهدنة ؟ فقال : دار بلاءٍ ، وانقطاع - تعريف الدنيا : دار بلاء وانقطاع - فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفَّع ، وصادقٌ مصدَّق ، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ))
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين ، الطاهرين، الهداة ، المهديين ، الذين كانوا علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
يقول سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه :" من حمل ذنبه على ربه فقد فجر ، إن الله تعالى لا يطاع استكراهاً ، ولا يعصى بغلبة ، فإن عمل الناس بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا ، وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم ، ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزاً في القدرة ، فإن عملوا بالطاعة فله المنَّة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم " .
اللهم يا أكرم الأكرمين ، تب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
معرفة الله عز وجل أثمن ما في الدنيا :
أيها الأخوة الأكارم : آية قرآنية وقفت عندها ملياً ، هذه الآية يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾
حينما يأتي يوم القيامة على ماذا يندم الإنسان ؟ يندم على أثمن شيءٍ في الدنيا ، لم يقل : يا ليتني اشتريت بيتاً فخماً ، لا يقول الظالم يوم القيامة : يا ليتني تزوجت فلانة بنت فلان ، لا يقول الظالم يوم القيامة : يا ليت كان عندي كذا ، وكذا من المال ، الذي يقوله هو أثمن ما في الدنيا :
﴿ويوم يعض الظالم على يديه﴾
دققوا جيداً فيما سيقول ، هذا الذي سيقوله هو أثمن ما في حياتكم الدنيا :
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾
لم يقل الله عز وجل يا ليتني اتخذت إلى الله سبيلاً :
﴿يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾
لأنه لا سبيل إلى الله عز وجل إلا بصحبة دليل ، بصحبة عارفٍ بالله ، بصحبة مرشدٍ إلى الله عز وجل ،
﴿يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾
ولم يقل يا ليتني اتخذت سبيلاً مع الرسول ، لذلك قال علماء الأصول : إن العلم الشريف لا يؤخذ إلا عن الرجال ، لا يؤخذ عن الكتب وحدها ، العلم في الصدور ، وليس في السطور .
﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾
أثمن ما في الدنيا أن تعرف الله عز وجل ، أثمن ما في الدنيا أن تتخذ إليه سبيلاً، أثمن ما في الدنيا أن تصبر نفسك مع الذين يخشون ربهم ، أثمن ما في الدنيا أن تكون مع الصادقين ، أثمن ما في الدنيا أن تكون متعلماً ، كن عالماً ، أو متعلماً ، أو مستمعاً ، أو محباً . سيدنا علي قال : " يا كميل ، الناس ثلاثة ؛ عالمٌ ربانيّ ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمجٌ رعاع ، أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ، فاحذر يا كميل أن تكون منهم " إذا ذهبت إلى بلدٍ ، وعدت منه ، فأصابك ندمٌ شديد ، تندم على ماذا؟ على أثمن ما في هذا البلد ، يا ليتني اشتريت هذه الحاجة ، ثمينة جداً وسعرها معتدلٌ جداً ، إذا جئت إلى الدنيا ، وخرجت منها ما هو أثمن شيء فيها ؟
﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
مهما يكن غنياً ، مهما يكن قوياً ، مهما يكن صحيحاً ،
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾
أربعة أشياء ما لم تكن عندك فأنت في خسارة كائناً من تكون ، أنت في خسارةٍ محققة .
﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾
يا ليتني حضرت مجالس العلم ، يا ليتني تعرفت على الله عز وجل ، يا ليتني عرفت الحلال والحرام ، فتركت الحرام واتبعت الحلال ، يا ليتني عرفت الحق والباطل ، فتركت الباطل واتبعت الحق ، ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً .
مصاحبة إنسان يبيح لك المعاصي شرّ ما في الدنيا :
وما هو شر ما في الدنيا ؟ يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً . أن تصحب صاحباً يدلك على طريق جهنم ، أن تصحب صاحباً يحببك بالحرام ، أن تصحب صاحباً يزهدك بالآخرة ، أن تصحب صاحباً يبيح لك المعاصي ، أن تصحب صاحباً يغريك أن تخالف أمر الله عز وجل :
﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾
اتخذته خليلاً ، وصاحباً ، وصدقته ، واتبعت ما أمرني به ، فأهلكني ، وأرداني .
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا ﴾
﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾
يخذله ، يشمت به ، يزاود عليه .
﴿ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
ما من شيءٍ أشدّ على النفس من شماتة العدو ، وألدّ أعداء الإنسان الشيطان ، وسوف يقف على رؤوس الخلق ، ليشمت بكل من أضله ، وكل من أغواه ، وكل من أرداه ، ويقول : إن الله وعدكم وعد الحق وهذه هي الجنة والنار ، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم .
كيفية هجر القرآن الكريم :
ثم قوله تعالى :
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾
وقف العلماء عند هذه الكلمة ، ففهموها على مستوياتٍ عدة ، فقال بعضهم : إن هجره يعني هجر سماعه ، لا يحب أن يسمعه ، ولا أن يقرأه ، ولا أن يستمع إلى تفسيره ، ولا أن يدقق فيه ، هجر سماعٍ ، وقراءة . إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً .
وقال بعضهم : إن هجر القرآن يعني شيئاً آخر ، إن قومي هجروا العمل به ، حياتهم في واد ، وأحكام كتابهم في وادٍ آخر ، لا يطبقونه في زواجهم ، ولا في تجارتهم ، ولا في بيعهم ، ولا في شرائهم ، ولا في علاقاتهم ، ولا في عبادتهم . هجره يعني هجر سماعه ، أو هجر تلاوته ، وهجره يعني هجر العمل به ، إنهم لا يقفون عند حلاله ، ولا ينتهون عن حرامه ، إنهم نبذوه وراء ظهورهم .
والمعنى الثالث : هو هجر تحكيمه ، والاحتكام إليه ، قال تعالى :
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
إذا قضى الله ورسوله أمراً ، إذا قال الله عز وجل : يمحق الله الربا . هذا أمره في الربا لا خيار له ، لا يتردد ، لا يقع في حيرة ، لا يقع في صراع ، لا يقول : والله أنا محتار ماذا أفعل ؟ ما دام حكم الله واضحاً ، هذه الحيرة حيرة شكٍ لا حيرة إيمان .
﴿للقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
هذا حكم الله في النظر إلى النساء ، والله محتار أين أذهب ببصري في الطريق؟
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
هذا قضاء الله في معاملة الزوجة ، هذا الذي يؤذي زوجته من أجل أن تتنازل له عن مهرها :
﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
هجر القرآن الكريم ، هجر تحكيمه ، وهجر الاحتكام إليه ، في أمور الحياة كلها. وهناك شيءٌ آخر فهمه العلماء من هجر القرآن الكريم ألا وهو هجر تدبره :
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
يقرأ هكذا من دون أن يفهم ، من دون أن يقف عند محكمه ، ومتشابهه ، من دون أن يقف عند آياته الدالة على عظمته ، من دون أن يقف عند أخباره ، يقرأ هكذا لا يتدبره ، يقول : هذا القرآن بحر من وقع فيه غرق ، لا يا أخي!
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
وهناك شيءٌ آخر فهمه العلماء من هجر القرآن الكريم ، ألا وهو هجر الاستشفاء به في الأمراض النفسية ، الأمراض النفسية هي أعراض لمرض واحد ، وهو البعد عن الله عز وجل ، الكبر من أعراض القطيعة والبعد ، والأثرة من أعراض البعد ، والترفع عن الناس من أعراض البعد ، والبخل من أعراض البعد ، والحقد من أعراض البعد والبغضاء ، والكراهية من أعراض البعد ، فلو اتصلت بالله عز وجل لشفى نفسك من كل أمراضها . هذه هي صبغة الله عز وجل ، ومن أحسن من الله صبغة ، فترك سماعه ، وترك العمل به ، وترك تحكيمه ، وترك تدبره ، وترك الاستشفاء به ، هذه المعاني كلها تعنيها كلمة :
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾
العلم أصل السعادة في الدنيا و الآخرة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لو علَّقتم القرآن في بيوتكم ، لو زينتم به غرف استقبالكم ، لو وضعتموه في مركباتكم ، لو وضعتموه في جيوبكم ، لو تزينتم بزيه . العبرة تطبيقه ، القرآن وصفة إلهية ، لو قرأت الوصفة الطبية هل تشفى من مرضك ؟ لو قرأت هذه الوصفة ، وفهمتها هل تشفى ؟ لو حفظتها هل تشفى ؟ وصفةٌ إلهية ، لا أقول لك لا تقرأها ، لكن قراءتها وحدها لا تغنيك عن الشفاء شيئاً ، لا بد من أن تتجرع الدواء ، لا بد من تطبيق ما في كتاب الله ، ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإمام الغزالي رضي الله عنه له كلمة في العلم تتصل في هذا الموضوع - دققوا جيداً- هو الحقيقة الكبرى والوحيدة في هذا الكون ، ليس في الكون إلا الله، وإن العمل الإنساني الوحيد المجدي يقوم على تحصيل علمٍ ، هو في الواقع أساس العمل الموصل إلى الله عز وجل ، أي أثمن ما في الحياة الدنيا أن تتعرف على الله عز وجل ، أن تعرفه لتعرف كيف تعمل من أجله ، فإذا عملت من أجله سعدت إلى الأبد ، هذا هو كل ما في الدنيا ، والعلم - كما يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه - فضيلة في ذاته على الإطلاق قال تعالى :
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
يعلمون ماذا ؟ يعلمون ، أغفل الله المفعول به ، وأطلق الفعل ، وجعله في موضع الفعل اللازم ، ليكون العلم في حدّ ذاته فضيلةً على الإطلاق :
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
ورتبة العلم أعلى الرتب ، والعلم فضيلة في ذاته على الإطلاق من غير إضافةٍ ، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي ، فالسعادة الأبدية أفضل وسيلةٍ إليها ، بل لن تصل إليها إلا بالعلم ، والعمل ، ولا يتوصل للعمل إلا بالعلم ، بكيفية العمل ، فأصل السعادة في الدنيا ، والآخرة هو العلم ، فهو إذاً أفضل الأعمال على الإطلاق ، ما من عملٍ أجدى وأنفع من أن تتعرف إلى الله عز وجل ، لابد من حضور مجالس العلم ، لابد من فهم كتاب الله ، لابد من فهم سنة رسول الله ، لابد من فهم أحكام الفقه ، لابد من أن يكون عملك منطبقاً على المنهج الذي رسمه الله لنا ، من أجل أن تصل إلى دار السلام ، ودار السلام لا موت فيها ، ولا حزن، والله يدعو إلى دار السلام . قال الله في الحديث القدسي :
((أعددت لعبادي مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))
فالعلم بلا عملٍ جنون ، والعمل بغير علمٍ لا يكون ، والعمل فرض عين على كل مسلم ، قد يكون علم الطب فرض كفاية ، قد يكون علم الرياضيات فرض كفاية ، ولكن العلم بالله فرض عين على كل مسلم .
* * *
قصة النبي الكريم مع وفد الأزد :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد الأزد ، فعن علقمة بن يزيد قال : حدثني أبي عن جدي قال : وفدت سابع سبعةٍ من قومي- انظروا إلى فصاحة أجدادكم - على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخلنا عليه ، وكلمناه ، أعجبه ما رآه من سمتنا ، وزينا ، كان عليه الصلاة والسلام يقول :
(( أصلحوا رحالكم ، وحسنوا لباسكم ، حتى تكونوا شامة بين الناس ))
رآنا بزيٍّ حسن ، وسمتٍ حسن ، وقار ، فلما رآنا ، ولما دخلنا عليه وكلمنا ، أعجبه ما رأى من سمتنا ، وزينا ، فقال : من أنتم ، قلنا مؤمنون ورب الكعبة ، فتبسم عليه الصلاة والسلام ، فقال : إن لكل قولٍ حقيقةً ، فما حقيقة قولكم ؟ - الامتحان ؛ اسأله ما الذي جعلك تؤمن؟ ما دليلك على أن الله رحيم ؟ ما دليلك على أن هذا الكتاب كتاب الله ؟ حاوره ، أيقظ تفكيره - " سألهم إن لكل قولٍ حقيقة ، فما حقيقة قولكم وإيمانكم ؟ قلنا : خمس عشرة خصلة ، خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها ، وخمسٌ منها أمرتنا أن نعمل بها ، وخمسٌ منها تخلقنا بها في الجاهلية ، فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي ؟ قلنا : يا رسول الله أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والبعث بعد الموت ، قال : وما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها ؟ قلنا : أمرتنا أن نقول : لا إله إلا الله ، وأن نقيم الصلاة ، ونؤتي الزكاة ، ونصوم رمضان ، وأن نحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية ؟ قلنا : الشكر عند الرخاء - أي إذا دخلت إلى البيت ، لك زوجة ، لك أولاد ، في البيت طعام ، في البيت بعض ما يريحك ، صحتك طيبة ، قل : يا رب لك الحمد ، يا رب لك الشكر ، على هذه النعم ، لو فقد الإنسان بعض أجهزته ، لو تعطلت بعض أجهزته ، لو ارتبكت بعض أجهزته ، وخيِّر بين أن يدفع كل ما يملك وبين أن يعود هذا الجهاز إلى طبيعته لدفع كل ما يملك - الشكر عند الرخاء ، والصبر عند البلاء - الصبر نصف الإيمان ، الصبر كالرأس من الجسد ، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين - الصبر عند البلاء ، والرضا بمرِّ القضاء ، والصدق بمواطن اللقاء ، وترك الشماتة بالأعداء ، هذه الخمس التي كانوا عليها في الجاهلية ، فإن رأيت يا رسول الله أن نترك إحداها تركناها ، فقال عليه الصلاة والسلام : حكماء علماء كدتم من فقهكم أن تكونوا أنبياء . أعجبه هذا الكلام ، فما كان منه إلا أن قال لهم :
(( وأنا أوصيكم بخمس خصال لتكمل عشرون خصلة ، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تنافسوا في شيءٍ أنتم عنه غداً زائلون ، واتقوا الله الذي إليه ترجعون ، وعليه تعرضون ، وارغبوا فيما عليه تقدمون ، وفيه تخلدون ))
فانصرفوا ، وقد حفظوا وصيته عليه الصلاة والسلام ، وعملوا بها . فالإنسان يلف بالكفن ، ويوضع بالنعش ، ويقول حينما يخرج من بيته ، وأولاده وأطفاله اليتامى يبكون من حوله: يا أهلي ، يا ولدي ، يا أبنائي ، لا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلَّ وحرم ، فأنفقته في حلِّه وفي غير حله ، فالهناء لكم ، والتبعة عليّ .
أيها الأخوة الأكارم :
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فــإذا حملت إلى القبور جنـــــــــــازة فــاعلـــــــــــم أنك بعدها محمول
* * *
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، من حاسب نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه ، وعمل إلى ما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين . .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فوائد الإرضاع الطبيعي :
أيها الأخوة الكرام : في العالم وفي معظم الدول الأجنبية شركات كبرى تصنع الحليب وتجهزه على شكل حليب جاف ، والذي يطلع على هذه المعامل يرى فيها العجب العجاب ، ولكن هذه المعامل كلها أُلزمت حديثاً أن تضع على كل إعلان لبضاعتها في أي مكان ، وعن طريق أية وسيلة العبارة التالية : لا شيء يفوق حليب الأم في تغذية الطفل وحمايته من الأمراض . قلت : سبحان الله إن التجهيزات والخبرات التي بُذلت من أجل تصنيع هذا الحليب فوق حدّ التصور ، ومع ذلك لم يستطع الإنسان حتى الآن أن يرفع مستوى تجهيزه للحليب كمستوى حليب الأم . لابد في كل إعلان من أن يُكتب في ذيله : حليب الأم لا شيء يفوقه ، وهو أجدى وأنفع للطفل من أي حليب آخر .
وقعت على مقالة في موضوع حليب الأم ، فقرأت فيها أن في حليب الأم مواد نوعية يصعب تصورها ، كما يصعب تقليدها ، وأن الهوة واسعة جداً بين الإرضاع الوالدي ، والإرضاع الصناعي ، وإن الإرضاع الوالدي آمن طرق التغذية للأطفال ، لأن في حليب الأم مواد مضادة للالتهابات المعوية والتنفسية ، التهاب الأمعاء المزمن ، والتهاب القصبات أكثره بسبب الإرضاع الصناعي . وفي حليب الأم مواد تمنع التصاق الجراثيم بمخاطية الأمعاء . وفي حليب الأم مواد حالة للجراثيم ، وفي حليب الأم كريات بيض مزودة بمضادات حيوية تقي أمراض الكلية ، والزحار ، والشلل ، والكزاز . أي أن مناعة الأم كلها في حليب الأم .
في حليب الأم مواد حامضية تقتل الجراثيم في الأمعاء . أحصيت نسبة الوفيات عند الأطفال ، فكانت نسبة الوفيات في الأطفال الذين يرضعون إرضاعاً صناعياً ثلاثة أمثال عن نسبتها في الإرضاع الطبيعي . وقد اكتشف العلماء أن الآفات التي تظهر في الإنسان في وقت مبكر في حياته كتصلب الشرايين ، والآفات القلبية ، ومرض السكري ، والبدانة بسبب الإرضاع الصناعي ، وإن الإرضاع الوالدي يقي من سرطان الثدي عند الأم ، ويقي من الموت المفاجئ . وإن حليب الأم جاهز في أعلى درجات الجاهزية ، جاهز بالحرارة المطلوبة ، فهو بارد صيفاً ، ساخن شتاءً ، جاهز بالتعقيم ، فهو خال من الجراثيم ، لا يحتاج إلى غلي مسبق ، ثم إلى تبريد ، يقي من سوء التغذية ، يقي من الأمراض المعدية ، سهل الهضم ، يهضم في ثلث الوقت الذي يستغرقه حليب الإرضاع الصناعي . سهل التحضير ، كيف يُحضر ؟ يُحضر بطريقة واحدة ، أن تضع الأم ابنها على ثديها .
سهل التحضير ليلاً ، وفي السفر ، يقي الأم الأورام الخبيثة ، الفطام السريع يحدث رضاً نفسياً ، وانحرافات سلوكية . فالله سبحانه وتعالى نبهنا إلى أن الإرضاع يُستحسن أن يكون حولين كاملين ، لئلا يحدث رضٌّ عاطفي ، ورضٌّ نفسي ، وانحرافات سلوكية .
قال تعالى :
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾
قال بعض المفسرين النجدان هما النهدان ثديا أمه ، هذه هدية الله عز وجل .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .