- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
قوانين النفس :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ثمن الجنة العمل ، بل مفتاحها العمل الصالح ، وأساس العمل الصالح العلم . يقول الإمام الشافعي : إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم . ويكاد العلم يكون الطريق الموصل إلى الله ، بل إن العلم هو الطريق الوحيد للوصول إلى الله عز وجل . والعلم أيها الأخوة هدفه الأكبر أن تصل منه إلى القوانين ، والقوانين هي العلاقات الثابتة بين المتغيرات لأن القانون يمكنك من التنبؤ .
أيها الأخوة الأكارم ؛ قوانين المادة يعرفها العلماء ، بينما قوانين النفس هي من اختصاص الحكماء ، ولو وقفنا وقفةً متأنيةً عند قوانين النفس هذه النفس التي بين جنبيك ، هذه النفس التي هي أقرب الأشياء إليك ، بين جوانحك ، هي أنت ، أليس لها قوانين وسنن وقواعد وخصائص ومبادئ ؟ هل من علمٍ يفوق أن تعرف مبادئ النفس وقوانين النفس ؟ طبيعة النفس ، خصائص النفس ، سنن النفس التي بين جنبيك ، التي تذوق الموت ولا تموت ، خُلقت لتبقى إلى أبد الآبدين ، إما في جنة يدوم نعيمها ، أو في نار لا ينفد عذابها ، لو أردنا أن نتبع هذه القوانين من خلال الكتاب والسنة ، يقول ربنا سبحانه وتعالى :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
هذه آية توضع بين أيدي الأخوة المؤمنين ، أحد قوانين النفس :
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾
قانون آخر ، خصيصة أخرى ، مبدأ ثابت من مبادئ النفس . خلق الإنسان عجولاً ، وخُلق الإنسان ضعيفاً . فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة النقية التي فطر الناس عليها أساسها حبّ الكمال ، أن تحب الكمال شيء ، وأن تكون كاملاً شيء آخر ، أن تحب الكمال هذه فطرة ، أما أن تكون كاملاً فهذه صبغة .
(( يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها ))
أنا أعرض عليكم بعضاً من قوانين النفس كما وردت في القرآن الكريم ؛ أنت ضعيف وخُلق الإنسان ضعيفاً ، وخُلقت ضعيفاً لمصلحتك ؛ كي تفتقر بضعفك ، فتسعد بافتقارك ، ولو خُلقت قوياً لاستغنيت بقوتك ، وشقيت باستغنائك ، خُلقت هلوعاً لتندفع بهلعك إلى الله ، إلى باب الله كي تسعد بقرب الله ، ولو لم تُخلق هلوعاً لاستغنيت عن الله فشقيت باستغنائك . جُبلت على حبّ الإحسان ، لأنك مغمور بإحسان الله ، فلو تأملت قليلاً بما أنت فيه من نعم لمال قلبك إلى ربك منشئ هذه النعم .
الإنسان مفطور على حبّ الأكمل و الأفضل و الأحسن :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ليس محور خطبة الحديث عن قوانين النفس ، ولكن الحديث عن قوانين النفس مقدمة إلى موضوع الخطبة .
نختار من هذه القوانين أن الإنسان مفطور على حبّ الأكمل ، على حبّ الأحسن ، حبّ الأفضل ، حبّ الأكثر ، حبّ الأمتن ، حبّ الأقوى ، حبّ الأجمل ، هذه طبيعة النفس ، ولو خيرت بين فتاتين تختار الأجمل ، ولو خيرت بين منزلين تختار الأوسع ، ولو خيرت بين عملين تختار الأكثر مردوداً ، والأقل جهداً ، ولو خيرت بين مركبتين تختار الأحدث والأمتن ، والأقوى . هذه طبيعة النفس ، بل إن الإنسان أحياناً ينزعج لا من خلل يصيب حياته بل من خلل يؤذي عينه ، فلو ركب لك عامل كهرباء مفتاح الكهرباء مائلاً ، لماذا تنزعج ؟ وماذا يؤثر هذا في حياتك ؟ المفتاح يعمل بفاعلية عالية ، ولكنه مُركب مائلاً . فلماذا تنزعج من بلاط بلط لك البيت بألوان ليست متناسبة ؟ لأنك مفطور على حب الأمتن ، على حب الأجمل، على حب الأمتن ، على حب الأقوى ، على حب الأطول ، وهكذا . لا أريد أن أستفيض في هذا الموضوع فهو موضوع بديهي .
العجب العجاب . . لماذا يختار الإنسان الأفضل في حياته الدنيا ولا يختار الأفضل في حياته الآخرة ؟ لماذا يريد البيت الأقوى الذي يفني مئة جيل ؟ لماذا يختار المركبة الأقوى التي تفني عشرة أشخاص من بعده ؟ لماذا يختار الأفضل في دنياه ولا يختار الأفضل في آخرته ؟ لأن الدنيا قصيرة ، تمر سريعاً ، تغر ، وتضر ، وتمر ، والذي يعيش عشرات السنين ، بل الذي يعيش ثمانين عاماً حينما يُسأل يوم القيامة كم لبثت في الدنيا يقول : لبثت يوماً أو بعض يوم . والنبي عليه الصلاة والسلام حينا قال :
(( يا أيها الناس إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ))
لماذا ترضى بمرتبة دنيا في الآخرة - هذا إذا كنت مؤمناً ، ومستقيماً وفي المباحات ، لا في المعاصي والآثام - لماذا ترضى بمرتبة دنيا في الآخرة ولا ترضى إلا أفضل شيء في الدنيا إذا كنت غنياً ؟ لماذا لا ترضى إلا الأكمل ، والأفضل ، والأجمل ، والأقوى ، والأمتن والأطول عمراً ؟ لماذا ؟ هو هذا السؤال الخطير الذي بدأ به موضوع الخطبة ، نقص العلم يجعلك تؤثر الدنيا على الآخرة ، ضعف التأمل في حقيقة الدنيا يجعل الدنيا بين يديك ، والآخرة غائبة عنك ، إذا اخترت في الدنيا الأفضل ولم تختر في الآخرة الأفضل فهذا من ضعف اليقين ، وضعف التفكير ، وهذا من خلل العقل ، ومن عدم متابعة دروس العلم ، وهذا من الجهل .
أفضل أنواع الإيمان أن ترى أن الله معك :
والآن موضوع الخطبة مجموعة أحاديث شريفة تبدأ كلها بكلمة أفضل .
أيها الأخوة الكرام ؛ وفق طبيعة النفس ، ووفق جبلتها ، وسننها ، وخصائصها ، ومبادئها ينبغي أن تتجه نحو الأفضل لا في دنياك ، بل في أخراك . يقول عليه والسلام :
(( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت ))
هذا أفضل أنواع الإيمان ، هذا عبّر عنه النبي العدنان بمرتبة الإحسان . أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . هذا الذي يستشفُّ من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام : اللّهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك ، أسعدنا بلقياك ، لا تشقنا بالبعد عنك ـ
أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمةٌ دقيقة ، وخطيرة . كلّ يدّعي الإيمان ، وما من مخلوقٍ على وجه الأرض يعتقد أن لهذا الكون إلهاً خالقاً عليماً حكيماً إلى آخره إلاّ وهو مؤمن . ولكن السؤال الدقيق هل يكفي هذا الإيمان للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة ؟ هنا السؤال ، أي لا بد لكي تدخل إلى هذا المكان من ألف ليرة ، من ألف ليرة من المال ، وأنت معك مال ، ولكن معك ليرةً واحدة ، إذا كان معك ليرةً واحدة ، هل تكفي هذه الليرة لتصل بها إلى هذا المكان الرائع ؟ إلى هذا القصر المنيف ؟ المشكلة أن كل من يعتقد أن لهذا الكون إلهاً ، يظنّ أنه مؤمن إيماناً كافياً . لا والله ، لا والله ، لا والله .
إذا أردت أن أمثل لكم هذا بمثال . لو أن الإيمان رُمِز إليه بوحدة وزن ، مثلاً الغرام ، ولو أن الشهوات رمز إليها بوحدة وزن مثلاً الكيلو ، فلو وضعت في كفةٍ عشرة غرام فيها إيمانك ، وفي كفةٍ أخرى خمسة كيلو فيها شهواتك ، أيمكن لهذه الغرامات من الإيمان أن تقف في وجه هذه الشهوات ؟ لا والله ، ولا عشرين غراماً ، ولا ثلاثين ، ولا خمسين ، ولا مئة ، ولا مئتين ، ولا كيلو ، ولا أربع كيلو . إلى أن يصبح حجم إيمانك- إذا رمز للإيمان بوحدات وزن - خمسة كيلو ، عندئذٍ يبدأ الصراع ، تقول : لا أفعل ، أفعل ، لا يجوز ، يجوز . متى تبدأ تُحجِم عن المعصية ؟ متى تتردّد في فعل المعصية ؟ متى تقول هذه معصية ؟ متى تقول كيف أواجه ربي عند الموت ؟ هنا تقريباً صار حجم إيمانك ، أو وزن إيمانك ، بوزن شهواتك .
الإيمان المنجي أن تشهد أنه لا إله إلا الله :
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أن تعتقد أن لهذا الكون خالقاً دون أن تسعى إليه ، أن تعتقد أن لهذا الكون ربّاً كريماً دون أن تتعرّف إليه ، أن تعتقد أن لهذا الكون مسيّراً حكيماً دون أن تبحث عن منهجه ، دون أن تسير إليه ، أن تعتقد أن الله عز وجل رحمن رحيم دون أن تتصل به ، أن تعتقد أن الله سبحانه وتعالى عفوٌّ كريم دون أن تذوق حلاوة قُربه .
والله الذي لا إله إلاّ هو هذا الإيمان بهذا المستوى لا يُنجي ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة .
ألم يقل إبليس اللعين لرب العالمين : ربّ فبِعِزتّك لأغوِينّهم أجمعين . ألم يعترف بأنه الخالق ، وبأنه الرّب ، وبأنه العزيز . وهو إبليس ، وهو الشيطان الرجيم ، وهو الذي عليه اللعنة إلى يوم الدين ؟
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ لماذا ترى أن نيل درجةٍ علميةٍ ، كاللسانس ، والدكتوراه، يحتاج إلى بذل جهدٍ كبير ، وإلى سهرٍ طويل ، وإلى مطالعاتٍ كثيفة ، وإلى ذهنٍ متّقد ، وإلى انصرافٍ كليّ إلى العلم ، وإلى ترك الملهيات ، وترك السهرات والندوات والحفلات ؟ أمن أجل شهادةٍ أمدها قصير تسعى لها هذا السعي الحثيث ؟ ومن أجل جنةٍ عرضها السموات والأرض تقعد عن طلبها وترضى منها باليسير ؟ فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق . . ))
هذا مصداق هذا التوجيه . أدناها أن تُميط الأذى عن الطريق ، أي إذا رأيت حجراً في الطريق وأزحته إلى جانب الطريق ، لو حلّلنا هذا العمل بماذا يفسّر ؟ يفسر أنك أردت أن تفعل خيراً لعلّ الله يرحمك بهذا الخير . هذا إيمان إذاً ، لو أمطت قشرةً من الفاكهة عن وسط الطريق إلى طرف الطريق ، أن تميط الأذى عن الطريق مستوىً من مستويات الإيمان ، ولكنه لا ينجي ، وأعلاها أن تشهد أنه لا إله إلاّ الله . لا أن تقول أن تشهد . أي هل يرضى القاضي من الشاهد أن يقول : يا سيّدي والله سمعت أن فلاناً قتل فلاناً ؟ هل يسمّى هذا شاهداً؟ لا ، يقول له : هل رأيت بعينك ؟ فأعلاها أن تشهد أنه لا إله إلا الله ، فهل شهدت أنه لا إله إلا الله ؟ هل شهدت أن الله سبحانه وتعالى وحده المتصرّف ؟ هل رأيت الله فوق أيديهم ؟ هل رأيت أنه ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها ؟ هل رأيت أنه له الخلق والأمر ؟ هل رأيت أن الله خالق كلّ شيء ، وهو على كل شيءٍ وكيل ؟ هل رأيت أنه لا يشرك في حكمه أحداً ؟ هل رأيت ؟ هذه آيات تقرؤها ، تقرؤها عشرات المرات ، هل رأيت حقيقتها ؟ هل عشتها ؟ هذا هو الإيمان الذي ينجّي . لذلك ورد في بعض الأحاديث :
((لاإله إلا الله لا يسبقها عمل ولا تترك ذنباً ))
لا يسبقها عمل صالح لأنه يوجد شِرك . قال صلى الله عليه وسلم :
((أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ))
ما الشرك الخفي ؟ شهوةٌ خفيّة ، وأعمالٌ لغير الله . أما إذا حصلت فلا تترك ذنباً.
نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال العلماء : نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى . أي أعلى مرتبة علمية أنه تشهد أن لا إله إلا الله ، وهذه الكلمة شعار الإسلام ، وأعلى مرتبة في العمل أن تنضبط وفق أمر الله ، ونهيه .
نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى . ولا تعجبوا ، فالله سبحانه وتعالى ضغط الأديان التي أنزلها على أنبيائه كلها في كلمتين ، ليس الإسلام فقط ، الأديان كلها . قال:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
إذا شهدت أنه لا إله إلا الله ، لا يوجد رافع ولا خافض ، ولا مُعِز ولا مُذِل، ولا معطي ولا مانع ، ولا نافع ولا ضار ، ولا قابض ولا باسط ، ولا غني ، ولا قدير ، ولا حكيم . إلا الله . أنت عندما تدخل لمكان ، وتعرف أن الأمر كله بيد فلان ، تُعرض عن كل الموظفين الآخرين . التوقيع لا يوقعه لك إلا فلان ، وما سواه لا يقدمون ولا يؤخرون ، هل تلتفت إليهم ؟ هل تتوسل إليهم ؟ هل تبشّ في وجههم ؟ علاقتك مع فلان ، فإذا أيقنت أن الأمر كله بيد الله ، إليه يُرجع الأمر كله ، أمر صحتك ، أمر قلبك ، أمر شرايينك ، أمر كليتيك ، أمر عضلاتك ، أمر أعصابك ، أمر دماغك ، أمر معدتك ، أمر الغدد الصم ، وغير الصم ، والخلايا ، ونمو الخلايا بيد الله . وأمر أهلك ، وأولادك ، وجيرانك ، ومن حولك ، ومن فوقك ، ومن تحتك ، ورزقك ، وتجارتك ، وصناعتك ، وزراعتك ، والمطر ، والإنبات . إذا أيقنت أن الأمر كله بيد الله ، علاقتك أصبحت مع الله ، لذلك تنصرف عن الخلق إلى الحق . الإيمان أن تنصرف عن الخلق إلى الحق ، والشرك الخفي أن تنصرف عن الحق إلى الخلق هذا هو الأمر كله .
أفضل الدعاء أن تسأل ربك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة :
لازِلت في كلمة أفضل . وأفضل الدعاء أن تسأل ربك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة . لذلك كان أكثر دعاءٍ يدعوه النبي عليه الصلاة والسلام : " اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة " العفو ، والعافية ، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة . يؤكد هذا دعاء النبي : " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصمَة أمرنا " يؤكد هذا قول سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصبته مصيبة قال :" الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها " ، لو دعوت الله بالشفاء ، هذا الدعاء للمرضى ، لو دعوت الله بأن تكون غنياً ، هذا الدعاء للفقراء . أما الدعاء الذي ينطبق على الناس كلهم لا ينجو منه إنسان فهو هذا الدعاء : " اللهم ما رزقتني مما أُحب - تحب المال ، جاءك المال . تحب زوجةً تملأُ عينيك منها ، جاءتك زوجة تملأ عينيك منها . تحب بيتاً مريحاً ، جاءك البيت المريح . تحب رزقاً وفيراً ، جاءك الرزق الوفير - فاجعله قوةً لي فيما تحب - أي يا رب اجعلني أوظف هذا المال لمرضاتك ، أنفع به الناس ، أمسح به دموع البائسين ، أحلّ به مشكلة الشباب ، أُدخل السرور على بيت الأرامل ، والأيتام ، أعالج مريضاً ذا مرضٍ عضال - اللهم ما رزقتني مما أحب ، فاجعله قوة لي فيما تحب ، وما زويت عني ما أحب " شيءٌ تحبه ولم تصل إليه وهذا واقع ، ما منا واحد إلا وقد وصل إلى بعض ما يشتهي ، ويتمنى ، وزُوِي عنه بعض ما يشتهي ، وما يتمنى ، فالذي وصلت إليه ليكن يا ربي موظفاً في خدمتك ، وخدمة عبادك ، وخدمة دينك ، وخدمة الدعوة إليك ، وخدمة أحبابك. فالذي فاتني يا رب وزويته عني لحكمةٍ تعلمها ، ولمحبة لي . كما قال عليه الصلاة والسلام :
((إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام ))
والذي فاتني يا رب ، والذي زويته عني ، والذي حرمتني منه فيما يبدو . وقد قال ابن عطاء الله السكندريّ : ربما كان المنع عطاءً ، و ربما كان العطاء منعاً .
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
دعاء سيدنا إبراهيم في القرآن :
﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾
لكن سيدنا إبراهيم قال : من آمن منهم فقط بالله واليوم الآخر . فقال الله عز وجل: ومن كفر . أنا أرزق المؤمن والكافر .
﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾
(( لي عليك فريضة ، ولك عليك رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك))
أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ أول حديث : أفضل الإيمان . . والثاني : أفضل الدعاء.
الثالث : أن تشبع كبد جائع ، أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . قال عليه الصلاة والسلام:
(( يا أيها الناس ، أطعموا الطعام ، وأفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ))
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
((بئس الطعام طعام الوليمة - لماذا ؟- يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين))
أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . . لذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يجيب المتباريين . من هم المتباريان ؟ من يتنافسان في تقديم أطيب الأطعمة . أي الهدف أن تظهر الذوق الرفيع ، والألوان الملونة ، والأطعمة الطيبة ، هذه أذواقك ، وهذا مستواك ، وهذه مكانتك الاجتماعية . كان عليه الصلاة والسلام لا يجيب المتباريين . أفضل الصدقة أن تشبع كبداً جائعة . .
أعظم صدقة تفعلها أن تتعلم ثم تعلّم :
أيها الأخوة الكرام : الحديث التالي وحده لو عقلناه لغير مجرى حياتنا .
((أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم يعلمه أخاه المسلم ))
أي أعظم صدقة تفعلها أن تحضر مجلس علم ، وأن تفقه تفسير هذه الآية ، وتفسير هذا الحديث ، وأبعاد هذه السيرة ، وأن تنقل هذا العلم الرفيع إلى إخوانك ، وأصدقائك ، وجيرانك ، وبناتك ، ومن حولك .
((أفضل الصدقة أن يتعلم المرء علماً ثم يعلمه أخاه المسلم ))
على الإنسان أن يختار الأفضل في الآخرة كما يختار الأفضل في الدنيا :
أيها الأخوة الكرام : هناك أحاديث كثيرة أرجو الله سبحانه وتعالى أن أوضحها في خطبة قادمة .
(( أفضل الأعمال بعد الإيمان التودد إلى الناس ))
(( أفضل العيادة أجراً سرعة القيام عند المريض ))
(( أفضل المسلمين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده ))
إلى آخر الأحاديث .
أيها الأخوة الأكارم ؛ محور موضوع الخطبة ؛ كما أنك تختار الأفضل في الدنيا لعمر قصير ولحياة فانية ، ينبغي أن تختار الأفضل في الآخرة ، وهذه بعض أنواع الأفضل . أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت . يجب أن تصل إلى هذا المستوى حتى تنجو بإيمانك من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
علم الوراثة :
أيها الأخوة المؤمنون : موضوع طويل لا حاجة لنا بتفصيلاته ، قوانين الوراثة ، قانون مندل في الوراثة ، لكن الشيء الذي لا أقول لا يصدق ينبغي أن يصدق . لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى . ينطق عن وحيٍ يوحى ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام في بضع من الأحاديث الشريفة قرر النتائج العملية لقوانين الوراثة ، فكلكم يعلم أن الحوين والبويضة خلية لها نويّة عليها مورثات . وقد ذكرت لكم من قبل أن عدد هذه المعلومات التي تحتويها المورثات يزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة ، حتى الآن عرف من هذه المورثات ثمانمئة موّرث فقط ، هذه المورثات في الحوين تتفاعل مع المورثات في البويضة ، وتنشأ البويضة الملقحة ، من مورثات الحوين ، ومورثات البويضة . وهذا ما عناه ربنا سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾
يقول علماء الوراثة : إن التزاوج بين الأقارب من الدرجة الأولى الأخطاء في المورثات ، أو الضعف ، أو الأمراض ، أو العاهات ، تنتقل إلى الأجيال بنسبة خمسين بالمئة. من الدرجة الثانية تنتقل بنسبة اثني عشر بالمئة . من الدرجة الثالثة ستة بالمئة . هذا التفسير العلمي وراء قوله تعالى :
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾
أما القرابة من الدرجة الثالثة التي يمكن أن ينحدر من خلالها العاهات والأمراض فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اغتربوا لا تضووا ))
[قال ابن الصلاح : لم أجد له أصلاً معتمداً . قلت : إنما يعرف من قول عمر أنه قال لآل السائب "قد أضويتم فأنكحوا في النوابغ" رواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث ، وقال معناه تزوجوا الغرائب قال : ويقال : اغربوا لا تضووا]
كلما ابتعدت في اختيار الزوجة جاء الّنسل قوياً . ويقول عمر رضي الله عنه : " لا تنكحوا قرابة القريبة ، فإن الولد يُخلق ضاوياً " أي ضعيفاً . أي ستة بالمئة . ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن ))
والعوام تقول الطفل كخاله أو كخالته . ويقول عليه الصلاة والسلام :
((اطلبوا مواضع الأكفاء لنطفكم فإن الرجل ربما أشبه أخواله ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء ، وأنكحوا إليهم ))
وهذا الذي يُعد من أرقى علوم الوراثة تحسين النسل . تحسين النسل يعني أن يأتيَ جيلٌ يتمتع بقدرات عقليّة عالية ، وبنية جسمية فائقة ، وبنفسية متفتحة ، غير متشائمة ، غير مريضة . هذا الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام . لذلك ابنك لك عليه واجبات كثيرة جداً ، وله عليك واجب ، له عليك حق ، هذا الحق أن تحسن اختيار أمه . أن تحسن اختيار أمه هذا أول حقٍ من حقوق أولادك عليك قبل أن يأتوا إلى الدنيا ، ويستطيع الأب الذي اختار أمّهم ، اختار زوجته اختياراً أساسه التقوى ، والصلاح ، والعفّة ، والذكاء ، والخلق ، أن يقول لأبنائه : يا أبنائي لقد أحسنت إليكم قبل أن تأتوا إلى الدنيا ، حينما اخترت لكم أماً صالحة .
الإنسان قبل أن يختار زوجته ، أمّ أولاده ، شريكة حياته يجب أن يقف عند هذا الاختيار طويلاً ، ليطبق السّنة النبوية .
(( من تزوج المرأة لجمالها أذلّه الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، فعليك بذات الدين تربت يداك ))
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .