- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أحاديث نبوية تبدأ بـ إذا أراد الله بعبد خيرا .....
أيها الإخوة المؤمنون ؛ طائفة كثيرة من الأحاديث الشريفة التي تبدأ بقوله عليه الصلاة والسلام إذا أراد الله بعبدٍ خيراً ، قبل أن نقرأ الأحاديث ، وقبل أن نقف عندها واحداً واحداً ، وقبل أن نتعرف مضمونها ، إن كان العبد صادقاً ، إن كان العبد مخلصاً ، إن كان العبد محباً ، إن كان العبد مؤمناً حقاً ، فلا بد من أن تنطبق عليه أحد هذه الأحاديث الشريفة ، فالله سبحانه وتعالى هكذا قال عن النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
1- فقه في الدين
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ))
ومعنى فقهه ؛ أي علمه أسرار التشريع ، إذا عرف أحكام الشرع لا يسمى فقيهاً .
إذا عرفت أركان الصلاة وشروطها وسننها ومكروهاتها إذا عرفتها فقط لست فقيهاً ، ولكنك إذا عرفت لكل فرضٍ حكمته ، ولكل سنةٍ غايتها ، فأنت فقيه .
إذا عرفت حكمة الصلاة ، والهدف الذي من أجله شرعت الصلاة .
إذا عرفت حكمة الصوم ، والهدف الذي من أجله شرع الصوم .
إذا عرفت حكمة الزكاة .
إذا عرفت حكمة غض البصر .
إذا عرفت مضار الربا .
إذا عرفت مضار الكذب .
إذا عرفت لكل أمر ولكل نهي حكمته وغايته ومحاذير تركه فأنت فقيه .
((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ ))
2- زهده في الدنيا وبصره بعيوبه
(( إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا ، ورغبه في الآخرة ، وبصره بعيوب نفسه ))
هذا الذي يغفل عن عيوبه ، ويبحث عن عيوب الناس ليس مؤمناً .
(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))
هذا الذي يرى الشوكة في عين الآخرين ولا يرى الجزع في عينه ليس مؤمناً .
(( إذا أراد الله بعبد خيراً زهده في الدنيا وبصره بعيوبه ))
لذلك ترى المؤمن الصادق مشتغل بعيوبه ، كي يطهرها ، وترى المنافق مشتغلاً بعيوب غيره ، يبحث عنها ، ويذكرها ، وينقلها للآخرين ، ويكبرها ويسخر منها .
علامة المؤمن الصادق ، الاشتغال بعيوب نفسه .
علامة المنافق الاشتغال بعيوب الآخرين .
علامة المؤمن الصادق أنه زاهد في الدنيا .
علامة المنافق أنه راغب فيها .
علامة المؤمن الصادق أنه فقيه في الدين .
(( ما اتخذ الله من ولي جاهل ولو اتخذه لعلمه ))
وعلامة المنافق أنه لا يعرف لمَ أمر هذا الأمر ، ولمَ نهي عن هذا النهي ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( كالناقة ربطها أهلها ، فلا تدر لمَ عُقلت ، ولا لمَ أطلقت ))
لا يدري لمَ صام ، ولا لمَ أفطر ، لا يدري لمَ يصلي ، إن كان يصلي صلاة جوفاء ، لا يدري لمَ يصلي .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ، وزهده في الدنيا ، وبصره عيوبه ))
3- جعل له واعظاً من نفسه
(( إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه : يأمره وينهاه ))
علامة المؤمن الصادق أن فيه ضميراً حياً ، يأمره بالخير وينهاه عن الشر ، كثيراً ما تسمع صديق لك يقول : قلت في نفسي لا تفعل هذا الأمر ، قلت في نفسي ساعد هذا الضعيف ، إن كان في نفسك ما يأمرك بالخير وينهاك عن الشر فأنت مؤمنٌ حقاً ورب الكعبة ، وإن كنت لا ترتاح إلا إذا أوقعت بالناس الأذى ، وإذا دعيت إلى معروف أحجمت ، وتململت واعتذرت ، وانسحبت ، فهذه علامة النفاق ورب الكعبة .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه : يأمره وينهاه ))
لو أنه فعل هذا الأمر ولا أحد يحاسبه عليه ، لا ترتاح نفسه ، لا يغمض له جفن ، لا يقر له قرار ، هذه علامة المؤمن ، لا يرتاح إلا إذا فعل الخير ، يقلق إذا كان سبب في إيقاع الأذى على أي إنسان ما .
4- طهره قبل موته
(( إذا أراد الله بعبد خيرا طهره قبل موته ))
(( إذا أراد الله بعبد خيرا طهره قبل موته ))
هذه علامة طيبة ، وعلامة محبة الله لهذا العبد .
5- صير حوائج الناس إليه
(( إذا أراد الله بعبد خيرا صير حوائج الناس إليه ))
طبعاً قد يصير الله حوائج الناس إليك فلا تلبيها ، لقد امتحنك ورسبت في الامتحان ، وإذا صير الله حوائج الناس إليك ولبيتها فتلك نعمة كبرى أنعمها الله عليك ، أي جعل حوائج الناس عندك ، طرقوا بابك ليلاً ونهاراً ، وضعوك في مواقف لا بد من أن تساعدهم ، واستجبت لهم حكموك في قضايا ، سألوك عن مسائل ، استعانوا بجاهك إن كنت ذا جاه استعانوا بمالك إن كنت ذا مال ، استعانوا بخبرتك إن كنت ذا خبرة ، استعانوا بإمكاناتك إن كانت لك إمكانات .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا صير حوائج الناس إليه ))
فإذا صير الله حوائج الناس إلى لئيم كشفه للناس ، وامتحنه وابتلاه فلم ينجح ، فإذا صير الله حوائج الناس إلى رحيم ، إلى كريم كانت نعمة صابغة عليه أنعمها الله .
6- عاتبه في منامه
أيها الإخوة المؤمنون :
(( إذا أراد الله بعبد خيرا عاتبه في منامه ))
يعني إذا هممت بسيئة ، واضطجعت في فراشك ، ورأيت مناماً مزعجاً ، رأيت أنك نقلت من بلدك إلى بلد ناء ، رأيت أن أحد أولادك قد توفي ، رأيت أن ضائقة ألمت بك ، أن مرضاً عضالاً أصابك ، إذا رأيت هذا في المنام ، فهذه معاتبة الرحمن لك ، يعني إياك أن تسير في هذا الطريق ، فإذا سرت في هذه الطريق ، فسوف يصيبك ما رأيت ، وإذا تبت وارتجعت وابتعت هذا الذي رأيت لن يصيبك ، إنما كان تحذيراً ، وإنذاراً ، ووعيداً .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا عاتبه في منامه ))
هذه علامة الإيمان ، إن يعاتبك الله في المنام ، وإن يصير حوائج الناس إليك ، وإن يطهرك قبل موتك ، وإن يجعل لك واعظاً من نفسك ، يأمرك وينهاك ، وأن يفقهك في الدين ، ويزهدك في الدنيا ، ويبصرك في عيوب نفسك .
7- عجل له العقوبة في الدنيا
(( إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا ))
لمجرد أن تفعل خطيئة يأتي العقاب ، والعقاب منوع ، قلق ، هم ، حزن ، فقر ، مرض ، وضع صعب ، حيرة ، ضيق نفسي ، هوان نفسي إذا عجل الله للإنسان العقوبة في الدنيا فهذه بشارة طيبة ، على أن الله يحبه .
(( إذا أحب الله عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه ))
(( إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا ))
(( إذا أراد بعبد شرا أمسك عليه بذنبه ، حتى يوافيه يوم القيامة ))
يعني تركه يفعل ما يشاء ، جعله هملاً ، لا حساب عليه ، يظن المراقب أن هذا لا يحاسب ، ولكن حسابه عسير يوم القيامة .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ، وألهمه رشده ))
يعني في كل موقف ، إما أن تقف موقفاً صحيحاً ، وإما أن تقف موقفاً غير صحيح ، إما أن تسلك سلوك قويماً ، وإما أن تسلك سلوك طائشاً ، إما أن تكون حكيماً ، أو غير حكيم ، إما أن تكون صائباً ، أو غير صائب إما أن تفعل شيئاً يرضى الناس عنك ، وإما أن تفعل شيئاً يغضب الناس ، هذه المواقف السليمة ، هذه المواقف الحكيمة ، هذه المسارات الصحيحة ، هذه الرؤية الصحيحة ، من أين تأتي بها ؟ إذا كنت مؤمناً حقاً ، ألهمك الله رشدك ، تصرفاتك صحيحة ، في علاقاتك بزوجتك ، في علاقاتك بأولادك ، في علاقاتك بجيرانك ، في علاقتك بمن حولك ، العلاقات تغدو صحيحة إذا كنت مؤمناً ، لأن الله هو الملهم ، أنت حينما أطعته ، واستسلمت لأمره ألهمك رشدك ، وسدد خطاك ، وأنطقك بالحق ، وجعل لك واعظا من نفسك .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ، وألهمه رشده ))
8- فتح له قفل قلبه
(( إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه ))
هناك قلوب مقفلة ، مهما حدثتها عن الله ، مهما حدثتها عن الدار الآخرة ، مهما ذكرت لها من آيات الله العظيمة ، مهما ذكرت لها من عقابات اللئيمة ، مهما ذكرت لها ما في عنانه من متع ومن سعادة قلبه مقفل كالصخر لا يشرب الماء ، ينساب الماء حوله ولا يشربه ، والمؤمن كالأرض العطشى ، إذا أصابه ماء قبله ، لذلك :
(( إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له قفل قلبه ، وجعل فيه اليقين والصدق ، وجعل قلبه واعيا لما سلك فيه ، وجعل قلبه سليما ، ولسانه صادقا ، وخليقته مستقيمة ، وجعل أذنه سميعة ، وعينه بصيرة ))
الأذن تسمع ، يسمع الآية فيعقلها ، يسمع الحديث الشريف فيعجب به ، ويطبقه ، يسمع قول العلماء مما يوافق كتاب الله ، وسنة رسوله فيأخذه مأخذ الجد ، يسمع عن آيات الله فتنهمر دموعه ، يقرأ القرآن فيقشعر جلده ، هذا إذا كان مؤمناً حقاً ، جعل أذنه سميعة ، وعينه بصيرة يرى ما لا يراه الآخرون ، يرى الشمس فيرى من خلالها الله عز وجل يرى القمر ، فيرى من خلاله عظمة الله عز وجل ، يرى ابنه فيرى صنع الله الذي أتقن كل شيء ، يرى النبات فيرى نعمة الله المتمثلة فيه ، يرى الحيوان ، فيرى ما به من علم وحكمة ، يرى الجبال ، الأنهار ، يرى ما لا يراه الناس ، يرى إنساناً ألمت به ملمة ، ويعرف أن له دخلاً حراماً فيقول هذه النتيجة بتلك المقدمة ، هذه رؤية يراها المؤمن وحده ، يرى إنساناً مكرماً في الدنيا ، فيقول هذا كان مستقيماً ، وهذه ثمن استقامته ، لذلك جعل عينه بصيرة ، وأذنه سميعة ، وجعل قلبه سليما ، وجعل لسانه صادقا ، وخليقته مستقيمة ، فتح قفل قلبه ، جعل فيه اليقين ، بحقائق الكون ، اليقين بما في القرآن الكريم ، اليقين بحديث رسول الله ، اليقين بوعد الله ووعيده ، قلبه مفعم باليقين ، وجعل فيه اليقين والصدق ، وجعل قلبه واعيا لما سلك فيه ، وجعل قلبه سليما ، ولسانه صادقا ، وخليقته مستقيمة ، وجعل أذنه سميعة ، وعينه بصيرة .
9- جعل غناه في نفسه
(( إذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه ))
غني ، لا يعرف طعم الغنى إلا المؤمن ، ليس الغنى عن كثرة العرض ، المال يعني ، ولكن الغنى غنى النفس .
إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله .
وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقي الله .
وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه ، وتقاه في قلبه ، وإذا أراد الله بعبد شرا جعل فقره بين عينيه ))
أنت من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها .
10- جعل صنائعه ومعروفه في أهل الحفاظ
(( إذا أراد الله بعبد خيرا جعل صنائعه ومعروفه في أهل الحفاظ ))
يعني أعمالك الطيبة يلهمك الله عز وجل أن تفعلها مع أناس يستحقونها ، وتراهم يحفظون لك هذه الأعمال ، ويشكرونها لك ، ويثنون على عملك الطيب ، وإذا كان في القلب نفاق وجهه الله إلى أهل غير الحفاظ ، تفعل معهم الأعمال الطيبة فيكافئونك عليها بأعمال سيئة .
اللهم إن أعوذ بك من جار سوء ، إن رأى شراً أذاعه ، وإن رأى خيرا كتمه .
اللهم إن أعوذ بك من زوجة سوء ، إن غبت عنها خانتك ، وإن حضرت معها لثمتك .
اللهم إن أعوذ من إمام سوء ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام ، إن أحسنت لم يقبل ، وإن أسأت لم يغفر .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا جعل صنائعه ومعروفه في أهل الحفاظ وإذا أراد الله بعبد شرا جعل صنائعه ومعروفه في غير أهل الحفاظ ))
11- يفتح له عملاً صالحاً قبل موته
ويا أيها الإخوة المؤمنون :
(( إذا أراد الله بعبد خيرا عسله ، قيل : وما عسله ؟ قال : يفتح له عملا صالحا قبل موته ، ثم يقبضه عليه ))
يقبضه وهو في طاعة ، وهو في دعوة ، وهو في منسك ، وهو في الحج ، وهو في العمرة ، وهو يصلي ، وهو يقرأ القرآن ، يقبضه بأحسن أعماله .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله ))
معنى استعمله كقوله تعالى :
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾
يعني أنت وعملك وإمكاناتك وطاقاتك ومالك موظف لخدمة عباد الله ، وأجرك على الله .
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾
(( إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله ، قيل : وما استعماله ؟ قال : يفتح له عملا صالحا بين يدي موته ، حتى يرضى عنه من حوله ))
يعني مصدر رخاء للناس ، مصدر أمن وطمأنينة ، مصدر علمٍ مصدر سعادة ، يسعد من حوله بدعوته ، يسعد من حوله بمعروفه ، يسعد من حوله بنصائحه ، يسعد من حوله بأخلاقه الطيبة ، بمروءته ، بسماحته بكرمه ، ببشاشته ، مصدر سعادة للآخرين .
(( إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قيل : وما استعماله ؟ قال : يفتح له عملا صالحا بين يدي موته ، حتى يرضى عنه من حوله ))
فهذه الأحاديث التي كلها تبدأ بقوله عليه الصلاة والسلام :
(( إذا أراد الله بعبد خيرا .......... ))
لا بد من أن تنطبق على المؤمن ، ولا بد من أن ينطبق بعضها على المؤمن ، ولا بد من أن ينطبق أحدها على المؤمن ، فإن لم ينطبق على المؤمن ولا واحدة من هذه الأحاديث ، فهذه علامة النفاق .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
آفات النفس البشرية :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ما أعظم أن يكون الإنسان حليماً ، وأن يكون عالماً ، وأن يكون عابد ، وأن يكون شجاعاً ، وأن يكون جواداً ، وأن يكون سموحاً ، وأن يكون حسبياً ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام نبهنا إلى أن كل خصلة من هذه الخصال الحميدة ، التي يرمقها الناس بملء عيونهم ، هذه الخصال الحميدة ، قد تصيبها آفات تذهب رونقها ، وتهلكها ، وتمحقها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( آفة العلم النسيان ))
إذا حضرت مجلس علم ، إذا حضرت خطبة ، وقيل في الخطبة أحاديث رائعة ، وآيات محكمات ، واستنبط الخطيب من هذه الآيات أحكاماً دقيقة ، ومعان عميقة ، وأعجبت بها ، فلما خرجت من المسجد لم يبق في ذهنك شيء ، فلما سئلت عن الخطبة ، أو عن الدرس قلت والله خطبة عظيمة ، ما وجه عظمتها والله لا أذكر ، فهذه آفة كبيرة تصيب المتعلمين النسيان ، لذلك :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾
تدارسوا العلم ، احفظوا العلم ، ليسأل بعضكم بعضا ، ما الأحاديث التي رويت في الخطبة ، أين مصدرها ، كيف سأحفظها ، كيف أنتفع بها كيف أعلمها الناس .
(( آفة العلم النسيان ، وآفة العبادة الفترة ))
يعني تعبد الله عز وجل في بتكاسل ، تقوم إلى الصلاة كسولاً تذهب إلى الحج مستطلعاً ، سائحاً ، وتعود محملاً بالبضائع ، تصوم ونفسك تشتهي ساعة الإفطار ، وتحضر من الطعام ما لذا وطاب ، إذا فعلت هذه العبادات بفتور فهذه آفة كبرى .
(( آفة العبادة الفترة ، وآفة الشجاعة البغي ))
إذا وهبك الله شجاعة ، وإقداماً ، وقوة ، وزادك بسطاً في العلم والجسم ، إياك أن تبغي على أحد ، إياك أن تطغى ، إياك أن تتجاوز حدك فإذا بغيت فالبغي آفة الشجاعة ، ولا قيمة للشجاعة عند الله ، لأن البغي أتلفها ، والبغي أذهب رونقها ، والبغي حطمها ، وفرغها من مضمونها .
(( وآفة الجود السرف ))
إذا وهبك الله خلق الجود ، الكرم ، فإياك أن تكون مسرفاً .
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾
(( وآفة السماحة المن ))
إذا كنت سموحاً ، وأعطيت من مالك ، ومن حين إلى آخر تقول للذي أعطيته المال لي فضل عليك لا تنسى هذا الفضل ، لقد فعلت معك كذا وكذا ، هذا الكلام أذهب هذه ...... الراقية ، أذهب قيمة السماحة .
(( وآفة السماحة المن ، وآفة الجمال الخيلاء ))
إن وهبك الله شكلاً حسناً ، ووجهاً قسيماً ، وملامح محببة ، وخطوط مألوفة ، إن كنت كذلك فإياك أن تختال على عباد الله ، لا تمشي في الأرض مرحا ، لا تتيه بهذا الجمال على عباد الله ، فمن فعل ذلك ربما فقده .
دعيت امرأة أن تطيع الله ورسوله في لباسها ، لم تستجب ، قالت عندي جمال لا بد من أن يظهر ، لم تمضِ إلا أيام حتى احترقت ، وتشوه كل هذا الجمال .
(( آفة الجمال الخيلاء ، وآفة الحسب الفخر ))
إن كنت من أسرة عريقة ، مشهود لها بالفضل والحسب ، إياك أن تفتخر ، لا تقل أنا ابن فلان .
لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
(( وآفة الحلم السفه ))
يعني حليم حليم إلى درجة أن الناس يستهينوا بك ، ولا يقيمون لك وزناً ، هذه آفة ، لست بالخب ولا الخب يخدعني ، هكذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ، يقول الإمام الشافعي : لا تكبر علي بتكبر مرتين ، لا أسمح له بذلك ، التكبر على المتكبر صدقة .
صحابي جليل ركب فرسه بين يدي المعركة واختال بها ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن الله ليكره هذه المشية إلا في هذا الموضع ، آفة الحلم السفه ، يعني لا تحاسب أحد إطلاقاً ، سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ مر في الطريق ، فرأى رجل قاعداً لم يأب له ، استعلاه بالدرة قال ويحك ، ألا تهاب فرسان الله ، آفة الحلم السفه ، خاف الناس شدته ، فقيل له يا أمير المؤمنين ، إن الناس هابوك ، فبكى ، وقال والله يا أبا ذر ، في قلبي من الرحمة ما لو علموها لأخذوا عباءتي هذه ، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا ما ترى ، ما رأيت أزهد من عمر ، هكذا قالت السيدة عائشة ، كان إذا سار أسرع ، وإذا أطعم أشبع ، وإذا قال أسمع ، وإذا ضرب أوجع ، آفة الحلم السفه ، وآفة العلم النسيان ، وآفة العبادة الفترة ، وآفة الشجاعة البغي ، وآفة الجود السرف ، وآفة السماحة المن ، وآفة الجمال الخيلاء ، وآفة الحسب الفخر ، وآفة الظرف الصلف ، إن كنت ظريفاً متكلماً ، متحذلقاً ، تحفظ أشياء كثيرة ، إياك أن تكون صلفاً متعجرفاً متغطرساً ، النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثنى على الظرف والحلم والعلم والعبادة والشجاعة والجود والسماحة والجمال والحسب ، ولكن لكل خصلة من هذه الخصال آفة تمقحها ، وتذهبها ، وتعدم فضلها .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت وتولَنا فيمن تولَيت وبارك اللهم لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت نستغفرك ونتوب إليك اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ، اللهم أغننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية ، وطهر قلوبنا من النفاق مولانا رب العالمين ، اللهم اسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفك أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .