- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير .
من هم المتقون ؟
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في سورة ق وفي أواخرها بالذات آية هي قوله تعالى :
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾
المؤمن في الدنيا موعود بالجنة .
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ ﴾
في الآخرة تدخل الجنة ، ويوم القيامة تكون الجنة منه على وشك أن يدخلها .
﴿ وَأُزْلِفَتِ ﴾
يعني اقترب دخول الجنة ، يعني على مشارف أن يدخلها .
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
من هم المتقون ؟ الذين عرفوا الله في الدنيا ، وطبقوا أمره ، واتقوا أن يعصوه ، واتقوا أن يفعلوا ما يغضبه ، واتقوا أن يحيدوا عن شرعه ، واتقوا أن يخالفوا سنة نبيه .
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾
عندئذٍ يدخل على قلب المؤمن سعادة لا توصف ، يقول لم أر شراً قط ، كل هذا الذي ساقه الله له في الدنيا ، من تضييق ، من مرض ، من فقر ، من خوف ، من قلق ، من هم ، من حزن ، ينساه حينما يكون على مشارف الجنة .
لمن الجنة ؟
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ ﴾
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾
﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾
﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ ﴾
لمن هذه الجنة ؟ من يستحق دخولها ؟ ما ثمنها ؟ ماذا نفعل كي نصبح من أهلها ؟
﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾
صفات المؤمن :
صفتان من صفات المؤمن الذي يستحق دخول الجنة .
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ ﴾
أواب صيغة مبالغة لاسم الفاعل ، على وزن فعال ، يعني كثير الأوبة إلى الله عز وجل ، يعود إليه دائماً ، يقبل عليه دائماً ، يتوسل إليه ، يدعوه ، يتصل به ، يلوذ بحماه ، يلتجئ إليه .
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ ﴾
مرجعه هو الله سبحانه وتعالى في كل أمر .
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
يعود إلى حكم الله ، يعود إلى رأي النبي عليه الصلاة ، يعود إلى سنته المطهرة ، يعود إلى ما قاله العلماء الكبار ، أصحاب المذاهب الأربعة يعود إلى هؤلاء المجتهدين ، ماذا قالوا في هذا الموضوع ، هل هو حرام ، أم هو مباح ، أم هو مندوب ، أو هو مكروه ، أم واجب .
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾
عائد إلى الله دائماً ، راجع إليه ، متصل به ، مقبل عليه ، لا يقطع أمراً دون أن يقف على حكم الشرع .
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾
يحفظ جوارحه عن أن تقترف معصية ، من مليء عينيه من الحرام ملئهما الله من نار جهنم .
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾
يحفظ عينه من أن تنظر إلى الحرام ، يحفظ أذنه من أن تستمع إلى الباطل ، إلى الغيبة ، إلى النميمة ، إلى الفحش ، إلى الإيقاع بين الناس إلى اللغو ، إلى الكلام الذي لا طائل منه ، إلى الفساد ، يحفظ عينيه ، ويحفظ أذنيه ، ويحفظ يده عن أن تمس إنساناً بسوء .
(( يا رب ! أي عبادك أحب إليك أحبه بحبك ؟ قال : يا داود ! أحب عبادي إلى نقي القلب ، ونقي الكفين ، لا يأتي إلى أحد سوءا ولا يمشي بالنميمة ))
اثنتان فلا تقربهما أبدا ، الشرك بالله والإضرار بالناس .
حفيظ ، يحفظ يده عن أن تؤذي أحداً من المسلمين أو غير المسلمين ، يحفظ يده عن أن تؤذي أحداً من خلق الله ، كائناً من كان ، يحفظ لسانه عن أن ينطق بالباطل ، عن أن يقول ما لا يرضي الله ، عن أن يغتاب به عن أن يذكر عورة المسلم ، عن أن يوقع بين الناس ، عن أن يكذب ، عن أن ينم ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( الذنب شؤم على غير فاعله ))
على صاحبه من باب أولى ، على غير فاعله :
(( إن عيره ابتلي به ، وإن اغتابه أثم ، وإن رضي به شاركه ))
.
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾
يحفظ جوارحه عن أن تعصي الله سبحانه وتعالى ، عينه ، أذنه ، لسانه ، يده ، رجله ، ويحفظ قلبه عن أن يحب غير الله ، القلب بيت الرب ، عبدي طهرت منظر الخلق سنين ، منظر الخلق بيتك تعتني به ، تزينه ، تزخرفه ، تحسن مدخله ، لأنه منظر الخلق منظر الخلق هيئتك ، ثيابك ، مركبتك ، طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة ، إن الله ينظر إلى قلوبنا ، الله عز وجل ناظر إلى قلبك دائماً ، فهل طهرته من السوء ، هل طهرته من حب الدنيا ، هل طهرته من سوى الله عز وجل .
لمن هذه الجنة ؟ أولاً للمتقين .
هذه الجنة أولاً :
للمتقين ، الذين اتقوا أن يقعوا في معصية ، اتقوا أن يقعوا فيما يغضب الله عز وجل ، اتقوا أن يقعوا في مخالفة .
لمن هذه الجنة ؟ ثانياً لكل أواب حفيظ .
وهذه الجنة .
﴿ تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾
كثير الأوب إلى الله عز وجل ، شديد الاتصال به ، يعود إليه في كل قضية ، في كل أمر ، في كل موقف ، في كل حكم ، ويحفظ أمر الله ، يحافظ على صلواته يحافظ على فرائضه ، يحافظ على عبادته ، يحافظ على أعماله ، من أن تقع في شبها .
﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾
هذا هو الإنسان ، أعطاك الله فكراً كي تستدل به على شيء مغيب عنك ، أن موقن أن في هذه الأسلاك تيار كهربائي ، من آثارها ، وأنت موقن أن هذه الأقدام تدل على المسير ، وأن هذا الماء يدل على الغدير ، وأن هذه البعرة تدل على البعير ، أفسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدلان على الحكيم الخبير .
لمن هذه الجنة ؟ ثالثاً من خشي الرحمن بالغيب .
﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾
هذا المؤمن يفكر لهذا الكون خالق عظيم ، له أمر ونهي ، وهؤلاء خلقه وعباده ، وإن أنا أرضيته فقد سعدت وفزت ، وإن أنا أغضبته فقد هلكت وشقيت .
﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾
من حاسب نفسه حساباً عسيراً في الدنيا ، حوسب يوم القيامة حساباً يسيراً .
جنة الخلد :
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾
هذا اليوم الممدود ، هذا اليوم الذي لا نهاية له ، هذا هو الأبد
﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾
إما في جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفد عذابها .
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا ﴾
في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، فيها :
﴿ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾
قال بعض علماء التفسير : المزيد النظر إلى وجه الله الكرم ، يوم ينظر المؤمن إلى وجه ربه فيغيب خمسين ألف سنة من نشوة النظرة .
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ ﴾
﴿ وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾
﴿ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ﴾
أنهار من عسل مصفى ، أي شيء تشتهي وفوق هذا وذاك .
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ))
أهذه الجنة يستغنى عنها من أجل سنوات معدودة مشحونة بالهموم .
أهذه الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين يزهد بها من أجل مال زائل في الدنيا تكسبه حراماً .
أيزهد فيها من أجل أن تطيع مخلوقاً في معصية الخالق .
أيزهد فيها من أجل أن تطيع زوجة فيما لا يرضي الله .
أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام طلبت منه زوجته شيئاً قال يا فلانة : اعلمي أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، فلئن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلك .
﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾
الخلاصة :
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ نحن في دار عمل ، وليس في دار متعة ، إياك عبد الله والتنعم نحن في العام الدراسي ، وبعد الامتحان لك أن تعيش كما تشاء ، نحن في دار عمل ، نحن في دار امتحان ، نحن في حياة قصيرة خلقنا فيها من أجل أن نعد أنفسنا لحياة أبدية .
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
الله جلا وعلا يقسم .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
إذا خلا يومك من معرفة بالله ، أو تطبيق لأمره ، أو دعوة إليه ، أو صبر على حكمه فهذا يوم خاسر ، ولو كانت غلتك مئة ألف ليرة في اليوم ، ولو ملكت مال قارون ، إنك خاسر .
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهما قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( من انقطع إلى الله كفاه . من التفت إلى الله كفاه الله أمر الدنيا ، تأتيه وهي راغمة ، وهي راغمة . ومن انقطع إلى الدنيا . التفت إليها ، انغمس فيها ، جعلها أكبر همه ، ومبلغ علمه . وكله الله إليها ))
لا يخرج منها إلا وفي قلبه غصة ، لا يخرج منها إلا وقد أهلكته وأردته ، دققوا جيداً هذا كلام رسول الله ، هذا كلام عن الله عز وجل :
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
ومن حاول أمراً بمعصية ، أردت هذا المال عن طريق معصية أردت هذا الشيء عن طريق مخالفة أمر الله .
(( من حاول أمرا بمعصية كان أبعد لما رجا ، وأقرب لمجيء ما اتقى ))
إذا أردت الغنى عن طريق المعصية ، اقتربت من الفقر ، وابتعدت من الغنى ، إذا أردت أن تسعد زوجتك عن طريق أن ترضيها فيما يسخط الله ، ابتعدت عن السعادة الزوجية ، واقتربت من الشقاء الزوجي ، كلام دقيق ، كلام بليغ ، قانون لا يتغير ، لا يتبدل ، من حاول أمرا بمعصية كان أبعد لما رجا ، وأقرب لمجيء ما اتقى ، و من طلب محامد الناس بمعاصي الله أراد السمعة ، أراد المكانة ، أراد الرفعة ، أراد أن يلهج الناس بحمده على حساب دينه ، وعلى حساب أخرته .
(( من طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده ذاما ))
(( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إليهم ، ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم ))
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا فإنا منحنا بالرضى من أحبنا
ولذ بحمانا و احتم بـجنابنـا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
(( ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم ))
(( من أحسن فيما بينه وبين الله ، كفاه الله ما بينه وبين الناس ))
من جعل العلافة بينه وبين الله عامرة ، عامرة بالمحبة ، والمودة والطاعة ، والرضى ، كفاه الله كل علاقاته مع الناس ، يجعلها الله له مثمرة وناجحة .
ومن أصلح سريرته .
جعل قلبه طاهراً ، ونواياه طيبة ونفسه طاهرة .
(( ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن عمل لآخرته كفاه الله دنياه ))
من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً .
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه خطبة لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
روي أن ضرار بن ضمرة الكناني دخل على معاوية ، فقال له يا ضرار صف لي علياً قال أوتعفيني من هذا الأمر يا أمير المؤمنين ، قال والله لا أعفيك ، قال : إن كان لا بد ، فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا ، وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير العذرة طويل الفكرة ، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن ، يدنينا منه إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا دعونا ، وكان مع قربه منا لا نكلمه هيبة له ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييئس الضعيف من عدله ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، إذا تكلم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، فأشهد بالله أني رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ، واقفاً في المحراب ، قابضاً على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، يناجي ربه ، ويقول للدنيا إليك عني ، ألي تغررت ، أم إلي تشوفت ، هيهات ، هيهات ، يا دنيا غري غيري ، طلقتك بالثلاث ، لا رجعة لك ، فعمرك قصير ، ومجلسك حقير ، وخطرك يسير أه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
هذا وصف دقيق للإمام علي كرم الله وجهه ، طلق الدنيا بالثلاث فارتاحت نفسه ، وسعدت روحه ، وأقبل على ربه ، فإذا جاء الموت انتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسـبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
كل ابن أنثى وإن طالت ســلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنــــازة فأعلم بــأنك بعدها محمول
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الموت :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ موت الإنسان كموت كأي كائن حي ، أمر طبيعي ، فرضه الله تعالى على كل نفس ، فقال تعالى :
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾
ولم يكن هناك صعوبات في تشخيص الموت ، الميت ميت ، إلا ما ندر ، لكن الطبيب إذا شك في سبب الوفاة أحال الحالة إلى الطبيب الشرعي أما إذا شك في بقاء الحياة استخدم وسائل أخرى ، كي يتأكد من حصول الوفاة .
فما تعريف الموت ؟ بحث دقيق ، ما تعريف الميت ؟
كيف يموت الإنسان ؟
متى يموت ؟
ما الشيء الذي إذا توقف عن العمل مات الإنسان ؟
كيف يحكم الطبيب على هذا الإنسان أنه ميت ؟
كيف يعطي إذناً بالدفن ؟
شيء دقيق ، العلماء قالوا : توقف القلب ، وتوقف الدورة الدموية ، أي النبض ، وتوقف التنفس ، وما يصاحب ذلك من علامات ، هذا تعريف أولي للموت ، ولكن ، ولكن أجهزة الإنعاش التي اخترعت ، وتطورت أصبحت تستطيع أن تضخ الدم في الشرايين ، وأن تعيد للرئة حركتها الصناعية ، فهل يعد هذا الذي مشى الدم في عروقه ثانية ، وخفقت رئتاه بشكل ميكانيكي مصطنع هل يعد هذا حياً ؟ العلماء قالوا لا ، هناك شيء خطير في الإنسان هو الدماغ ، بل إن أخطر ما في الدماغ جزع الدماغ جزع الدماغ هي المسافة بين نهاية النخاع الشوكي ، وبين بداية المخ ، هذه المنطقة اسمها جزع الدماغ ، منطقة خطيرة جداً ، هذه إذا انقطع عنها الدم أربع دقائق فقط تموت ، وإذا ماتت يحكم على الرجل بالموت ، ولو بقي دمه يجري عن طريق أجهزة الإنعاش ، لماذا ؟ لأن في هذه المنطقة منطقة جزع الدماغ ، منطقة مسؤولة عن التنفس ، فإذا توقف التنفس توقف نقل الدم من حالة زرقاء مشحونة .
أيها الإخوة الأكارم ؛ إذا مات جزع الدماغ ، إذا انقطع الدم عن جزع الدماغ أربعة دقائق ماذا يحصل ؟ قال بعض العلماء : يحصل الإغماء الكامل ، فهذا الرجل لا يستجيب لأية مؤثرات ، مهما تكن مؤلمة ، لو أنه أصدر صوتاً ، أو حرك بعض أصابعه لكان في حياة ، لكان جزع الدماغ صحيحاً ، حياً ، لكنه إذا مات جزع الدماغ لا يستجيب المريض لأي مؤثر ، وإذا مات جزع الدماغ يتوقف التنفس ، وإذا مات جوع الدماغ تتعطل الأفعال المنعكسة ، يعني إذا وضع الطبيب ضوءً شديداً في العين قزحية العين لا تضيق ، إذا وضع الطبيب على قرنية العين قطناً فإن الأجفان لا ترمش ، إذا صب الطبيب في أذن المريض ماءً بارداً فإن مقلة العين لا تتحرك .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ تعريف الموت لا يزال أعقد من هذا الكلام ، يعني جزع الدماغ يحيى بالدم ، والدم يسأل عنه القلب ، والقلب إذا توقف عن الضخ وانقطع الدم عن جزع الدماغ أربعة دقائق مات جزع الدماغ ، فإذا مات جزع الدماغ توقف التنفس ، وتوقفت الأفعال المنعكسة ، وأصيب الإنسان بإغماء كامل .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ قد يقول قائل ، ما دخل هذا في خطبة الجمعة ، ما منا واحد إلا وسوف يصل إلى هذه الحالة ، فماذا أعددت لما بعدها ؟ ما من رجل على وجه الأرض أو أنثى ، ما من مخلوق إلا وسوف يشاهده الطبيب ويحكم عليه بالموت في ساعة أو أخرى ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، يا ترى إذا فتح الطبيب مصباحاً شديدا ووضعه في العين ، وبقيت القزحية على حالها ، ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله عظم الله أجركم ، وهذا حال الدنيا ، ومريضكم قد توفي ، هذا المريض ماذا أعد لما بعد الموت ، إذا جاء الطبيب بمرآة صقيلة ، ووضعها على أنف المريض ، رجاء أن يرى بعض الأبخرة على هذه المرآة دليل التنفس ، فإن بقيت صقيلة لامعة لا أثر لبخار الماء عليها يقول عظم الله أجركم ، توفي مريضكم ، هذا الساعة لا بد آتيه ، لا بد من أن نصل إليها جميعاً ، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت .
﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
(( من أكرم الناس وأكيسهم ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا ، وأشدهم له استعدادا ))
(( ألا وإن من علامات العقل : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله ))
لا بد من أن يقف الطبيب ويقول توفي الرجل ، انتهت حياته ، عظم الله أجركم ، فإن كان طائعاً لله فهنيئاً له .
وا كربتاه يا أبت قال لا كرب على أبيك بعد اليوم ، غداً نلقى الأحبة محمدًا وصحبه .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت وبارك اللهم لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ، اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا وفك أسرنا ، واحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .