وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0149 - العدل ، إن الله يأمر بالعدل - الحمام.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :
  الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...................

 أيها الإخوة الأكارم ؛ آية قرآنيّة من سورة النحل يردّدها خطباء المساجد منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام ، أو منذ أكثر من ألف وثلاث مئة عام ، وهي تقرعُ مسامع المصلّين ، ولو أنّ المصلّين عرفوا هذه الآية ، وما تنطوي عليه ، وما تؤدّي ، لو عرفوا ذلك لَسعِدوا في دنياهم وأخراهم .

العدل :

 قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 هل من خطيبٍ في مشارق الأرض ومغاربها إلا ويذكّر المصلّين في آخر الخطبة بهذه الآية ، فماذا تنطوي عليه هذه الآية ؟ إنّ الله علَمٌ على الذات واجب الوجوب ، صاحب الأسماء الحسنى ، وخالق الكون، ورافع السماوات بغير عمَدٍ ، إنّ الله .
 ويا أيها الإخوة المؤمنون ؛ قيمة الأمْر من قيمة الآمر ، إذا وُجِّهَ لك أمر فأنت تهتمّ به على قدْر الآمر ، إنّ الله يأمر .
 جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تشْكو زوجها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم لو تراجعيه ، قالَتْ : أفتأمرني ؟ قال : لا ، إنّما أنا شفيع ، قد ألتمس منك ، وقد أنصحُك ، قد أتوسَّل إليك ، وأرغبُ إليك ، وأُوجّهك ، ولكنّني إذا أمرتُك فهذا الأمْر يقتضي الوجوب ، قال : لو تراجعينه ، قالَتْ : أفتأمرني ؟ قال : لا ، فُهِمَ من هذا الحديث أنّ مرتبة الأمر تقتضي الوُجوب ، لو أنّه أمرها أنْ تراجعه ولمْ تستجب ، لَعَصَتْ أبا القاسم ، فكلُّ أمْرٍ في كتاب الله يقتضي الوجوب ، إنّ الله خالق الكون ، والذي خلقكَ من قبلُ ولم تكن شيئًا الذي مصيرك إليه ، والذي إليك يُرجع الأمر كلّه ، والذي هو في السماء إلهٌ ، وفي الأرض إلهٌ ، والذي يقضي بالحقّ ، والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ، الذي له الخلْق والأمر ، الذي هو على كلّ شيء قدير ، الغنيّ الحميد ، والعزيز الحكيم ، والقويّ المتين ، يقول لك : بل يأمرك ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 هذه الآية طبِّقْها في بيتك ، للزوجة حقوق ، وعليها واجبات ، وينبغي أن يكون العدل بين الزوجين ، أن تؤدّي ما عليها ، وأن تأخذ ما لها ، فإذا قصَّرتْ فيما عليها فأنت أيها الأخ المؤمن مأمورٌ من قبَلِ المولى جلّ وعلا بالإحسان كما أنّك مأمورٌ بالعدل ، أكرموا النّساء فو الله ما أكرمهنّ إلا كريم ، إما أنّها تستحقّ الإكرام ، لأنّها تؤدّي ما عليها ، فإكرامها عدْلٌ ، وإما أنّها لا تستحقّ الإكرام لأنها لا تؤدّي ما عليها فإكرامها إحسان ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]


 اشْترى منك رجلٌ حاجة ، وكان هناك إيجابٌ وقبول ، وتحقَّقتْ شروط البيع الشرعيّة ، وقبلَ ، والبضاعة جيّدة ، والسّعر معتدل ، ورضي بالسّعر وانتهى كلّ شيء ، وفي رأي الفقهاء لزِمَ البيع ، فجاءك هذا الرّجل يتوسَّل إليك أنْ تعيد له الثَّمَن ، وأن يردّ لك البضاعة ، لقد ندِمَ على شرائها ، فأنت في الأمر الأوّل لك الحقّ أن لا تستجيب له ، لأنّ البيع عدلٌ ؛ هناك إيجابٌ وقبول ، وهناك تسليم ، وليس هناك عيبٌ في البضاعة ، وقد دفع الثّمن ، وانتهى الأمر ، ولزم البيع ، لكن أيّها الأخ الكريم المؤمن ، لا تنسى أنّ الله سبحانه وتعالى يأمرك بالإحسان أيضًا ، ومن الإحسان أن تقيلَ عثْرة النادم ، فأنت مأمور بالعدل وبالإحسان ، في كلّ حركةٍ من حركاتك ، في كلّ نشاطاتك ، وفي بيعك وشرائك ، في ذهابك وخروجك وفي أيّ شيءٍ تفعلهُ أنت مأمور بالعدل ، وبالإحسان ، ومن الآمرُ ؟ هو الله سبحانه وتعالى ، رافع السماوات بغير عمَدٍ ، خالق كلّ شيء ، من له الأمر ، ومن يقضي بالحقّ ، من هو على كلّ شيءٍ قدير ، ومن إليه يرجع الأمر كلّه ، من إليه مصيرك ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾

[ سورة الغاشية الآية : 25-26]

 هو هو ، ربّ العزّة يأمرك أن تكون مع الناس عادلاً ، ومُحْسِنًا ، حينما أمر الله سبحانه وتعالى أنْ نعاشر النّساء بالمعروف اسْتنبط علماء التفسير أنّ المعروف الذي أمرنا الله به هو ليس أن نمتنع عن إيقاع الأذى بهنّ بل أنْ نحتملَ الأذى منهنّ ، ومعاشرتهنّ بالمعروف ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 ضع هذه الآية نُصْب عينيك ، في كلّ تصرّف ، وقبل كلّ تصرّف ، وقبل كلّ موقف ، وقبل كلّ قرار ، قبل كلّ أخْذ ، وقبل كلّ عطاء ، وقبل كلّ موافقة ، قبل كلّ رفْض ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 اصْنَع المعروف مع أهله ، ومع غير أهله ، فإن أصبْتَ أهله أصبْتَ أهله ، وإن لم تُصِب أهله فأنت أهله .

 

الإحسان أرقى:

 أيها الإخوة الأكارم ؛ ما قيمة الحياة الدنيا من دون إحسان ؟ قال تعالى :

﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الأعراف الآية : 56]

 الله سبحانه وتعالى ينزّل عليك الرحمة إذا كنت محسنًا ، رحم الله عبدًا سمْحًا إذا باع ، سمحًا إذا اشترى ، وسمحًا إذا قضى ، سمحًا إذا اقتضى ، والمؤمن هيِّنٌ ليِّن ، يألفُ ويؤلف ، هذا الذي يتمسَّك بحقّه ، ولا يزيحُ عنه قيْد أُنملة ، ويقول : حقّي لا أدعُ منه شيئًا ، قال عليه الصلاة والسلام : بِحَسْب الرجل من الشحّ أن يقول حقّي لا أزيحُ عنه أبدًا ، أو كما قال ، كُنْ سموحًا ، ومِعطاءً ، هذه المشكلة إن لمْ تحلّ على آية العدل ، إنّما تُحَلّ على آية الإحسان .
 رجلٌ يخطبُ في بعض مساجد دمشق ، رأى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له : قلْ لِجارِكَ فلان إنَّك رفيقي في الجنّة ، رؤية حسنة ، ورؤية الأنبياء حقّ ، ذهب هذا الرّجل إلى جاره ، وسألهُ عن الشيء الذي فعلهُ ، واسْتحقّ به هذه البشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، قصّة طويلة مؤدَّاها أنّه عاملَ زوجتهُ بالإحسان وكان بإمكانه أن يطلّقها ، ولا أحد يلومهُ على ذلك ، وبإمكانه أن يسحقها ، أو أن يفضحها ولكنّه جعلها تتوب على يديه ، وقبلها ، واحتواها ، وأوْصلها إلى التوبة ، فقال : قلْ لجارك فلان إنّه رفيقي في الجنّة ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 يا أخي الكريم أدّ الذي عليك ، واطلب من الله الذي لك ، لو طُبِّقَ هذا في الأُسَر لما وجدْت شِقاقًا زوجيًّا ، لو أنّ المرأة عاملَتْ زوجها بالإحسان بِصَرْف النّظر عن معاملته إيّاها ، لو أنّ الزوج عاملَ زوجته بالإحسان بِصَرف النَّظَر عن معاملتها له ، لو أنّنا في البيع والشّراء جعلنا الإحسان هدفًا من أهدافنا ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 ولكن أيّها الإخوة المؤمنون ؛ أُريد أن أقول كلمة ؛ العدْل قسريّ ، أما الإحسان فاختياري ، فأنت إن رفعْتَ أمرك للقاضي فهو لا يستطيع إلا أن يلزمك بالعدل ، أما الإحسان فهو اختياري ، ولأنّه اختياري فله عند الله تعالى أجْرٌ عظيم ، أنت مخيَّر ، أن تحسن أو أن لا تحسن ، فإذا أحسنتَ فالله سبحانه وتعالى في عليائه يرض عنك ، وهل من مرتبةٍ في الأرض أعلى من أن يرضى الله عنك ؟ ما قيمة الدنيا ؟ كلّها زائلة ، لو أنَّك خاصمْت خصْمَكَ ووصلْتَ إلى المبلغ الذي فرضتهُ عليه عن طريق القضاء هذا المبلغ ماذا ينفعك بعد الموت ؟ ولكنّك إذا عفوْتَ عنه وأرضيْتهُ ، وقرَّبْتهُ إلى الله عز وجل ، وجعلتهُ عن طريق هذه المعاملة يحبّ الدِّين فقد فُزْت برِضوان الله تعالى ، ولأنْ يسقط الرّجل من السّماء إلى الأرض فتنكسرَ أضلاعه أهْوَنُ من أن يسقط من عين الله ، كلمة رضي الله عنه هي أعلى مرتبةٍ ينالها الإنسان ، قال :

 

فليْتَكَ تحلو والحياة مريرة  وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر  وبيني وبين العالمين خراب

 ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ؟ ألا تحبّون أن يرضى الله عنك ؟ طبّق هذه الآية ، قال تعالى :

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 العدْل قسريّ ، أما الإحسان فاختياري ، ولأنّه اختياريّ فله عند الله أجرٌ كبير ، إنّك تؤدّي الإحسان لا تحت وطْأة قرار القاضي ، ولكن تحت وطأة رغبة إرضاء الله عز وجل ، فهذا الذي يرفع من قيمة الإحسان ، لا يسمّى الإحسان إحسانًا إذا كان قسريًّا ، العدل قسْريّ ، لو أنّك رفعْتَ أمرك إلى القاضي في موضوع بيع بيتٍ أو شرائه ، وكان البيع صحيحًا ، والإيجاب والقبول صحيحًا ، ودُفِعَ الثّمن ، وتسلَّمَ البيت ، للزِمَ البيع ، ولكنّه إذا رجاك أن تلغِيَ له هذه الصّفحة ، ولمْ يكن بهذا مخادعًا ، ولا محتالاً ، ولا ناكلاً ولكنّها أسباب طارئة ظهرَتْ في حياته ، وشرحها لك ، قبلْتَ عذره ، ورددْتَ له البيع ، فقد رضي الله عنك ، وأقال الله عثرتك يوم القيامة .

 

الفحشاء والمنكر والبغي :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]


 الفحشاء كلُّ عملٍ إذا انتشر بين الناس فاحتْ منه رائحةٌ نتنة ، الفحشاء الأعمال التي إذا شاعتْ عنك سقطْت من أعْيُن الناس ، والمنكر كلّ الذي نُهيتَ عنه ، فهو منكر ، والبغي هو الظُّلْم وتجاوُز الحدود ، ومن تجاوز الحدود فهو من الحضْرة مطرود ، يعظكم لعلّكم تذكّرون .

 

الخلاصة :

 يا أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه الآية تسعُنا جميعًا ، وفي كلّ أعمالنا ، وأحوالنا ، وتصرّفاتنا ، ومواقفنا ، في بيوتنا ، ومتاجرنا ، ووظائفنا ، وكلّ نشاطاتنا ، إنّها تسعُنا جميعًا ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل الآية : 90 ]

 يا أيها الإخوة الأكارم ؛ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، يا معاذ انطلق فارحِّل راحلتَك ؛ أيْ هيّئ نفسك للسّفر ، ثمّ ائتِني أبْعَثُك إلى اليمَن ، قال : فانطلقتُ فرحَّلْتُ راحلتي ، ثمّ جئتُ فوقفتُ بباب المسجد حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأخذ بيدي ومشى معي ، فقال : يا معاذ عليك بتقوى الله تعالى ، وصدق الحديث ، ووفاء العهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، ورحمة اليتيم ، وحفظ الجار ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح ؛ أي التواضع ، وبذْل السلام ، ولين الكلام ، ولزوم الإيمان ، والتفقّه في القرآن ، والحبّ الفكرة ، والجزع من الحساب ، وقصر الأمَل ، وحُسن العمل ، وإيّاك أن تشتمَ مسلمًا ، أو تكذّب صادقًا ، أو تصدّق كاذبًا ، أو تعصي إمامًا عادلاً ، يا معاذ اذكر الله تعالى عند كلّ حجر وشجر ، وأحْدِث مع كلّ ذنبٍ توبة ، السرّ بالسّر ، والعلانية بالعلانية ، ثمّ قال لي : يا معاذ ، إنّك ستأتي قومًا من أهل الكتاب فادْعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمَّدًا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ! الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةٌ تؤخذ من أغنيائهم ، وتردّ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك فإيّاك وكرائم أموالهم ، واتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب .
 هذه هي وصيّة النبي عليه الصلاة والسلام ، تلاحظون أيّها الإخوة أنّ مضمون الإسلام ، يوم دانَتْ له الأرض كان مضمونًا أخلاقيًّا ، ويوم تفرَّق الناس عنه صار مضمونه طقوسًا ، يوم كان مضمون الإسلام قيَمًا أخلاقيّة دانتْ له الأرض بأكملها ، ويوم بقيَ الإسلام ركعاتٍ تؤدّى ، وشهرًا يُصام وطقوسًا تعمل ، ومظاهر تظهر ، حينما صار الإسلام كذلك انفضّ الناس عنه ، وزهدوا فيه ، لذلك كما قلتُ لكم في الأسبوع الماضي ، قوام الدّين والدّنيا أربعة رجال ؛ عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم ، وغنيّ لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيعُ آخرته بدنياه ، فإذا ضيَّع العالم علمه ، استنكف الجاهل أن يتعلّم ، وإذا بخل الغنيّ بِماله باع الفقير نفسه للشيطان من أجل أن يسكن بيتًا ، أو أن يعيش مع أُسرته .
 قال : يا معاذ عليك بتقوى الله تعالى ، وصدق الحديث ، ووفاء العهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، ورحمة اليتيم ، وحفظ الجار ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح ؛ أي التواضع ، وبذْل السلام ، ولين الكلام ، ولزوم الإيمان ، والتفقّه في القرآن ، والحبّ الفكرة ، والجزع من الحساب ، وقصر الأمَل ، وحُسن العمل ، وإيّاك أن تشتمَ مسلمًا ، أو تكذّب صادقًا ، أو تصدّق كاذبًا ، أو تعصي إمامًا عادلاً يا معاذ اذكر الله تعالى عند كلّ حجر وشجر ، وأحْدِث مع كلّ ذنبٍ توبة ، السرّ بالسّر ، والعلانية بالعلانية.
 هذه هي وصيّة النبي عليه الصلاة والسلام لسيّدنا معاذ حينما أمره أن يذهب إلى اليمَن .
 وقد مرّ إبراهيم بن الأدهم رحمه الله ، وكان من أولياء الله الصالحين ، وسمك سلطان إبراهيم سمّي باسمه ، مرّ إبراهيم بن الأدهم رحمه الله في سوق البصرة ، فقالوا له : يا أبا إسحاق ، سؤالٌ مهمّ يخطرُ على بال كلّ مسلم ، يا أبا إسحاق إنّ الله تعالى يقول : اُدعوني أسْتجب لكم ، ونحن ندعوه ليلاً نهارًا ، فلا يستجيبُ لنا ، فما جوابك ؟ ما رأيُك ؟ ألا يخطرُ على بال كلّ مسلمٍ لماذا لا يستجيبُ الله لنا ؟ فقال هذا الولي الكريم : لأنّ قلوبكم ماتتْ من عشرة أشياء ؛ عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه ، ألف مليون مسلم يعرفون أنّ لهم إلهًا ، وأنّ له أوامر ونواهي ، وهذا يجوز ، وهذا لا يجوز ، وهذا يرضيه ، وهذا لا يرضيه ، وهذا حقّ ، وهذا باطل ، عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه ، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به ، وادَّعَيْتُم حبّ الرسول وأقمتم الموالد في كلّ مكان ، وفي كلّ مسجد ، وفي كلّ بيت ، ولم تعملوا بسُنّته ، لو أنّكم عملتم بِسُنّة النبي لكان هذا أجدى لكم من كلّ مظاهر الاحتفالات ، كم في البيت معصيةٌ تخالف سنّة النبي ؟ هل زوجتك في خروجها للطريق وفق سنّة النبي عليه الصلاة والسلام ؟ هل بيعك وشراؤك وفق سنة النبي ؟ من غشّ فليس منّا ، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به ، وادَّعَيْتُم حبّ الرسول ، قرأتم القرآن وجوَّدتموه ، وطربتُم له ، وهو يأمركم أن تغضّوا من أبصاركم ، فهل غضضْتم من أبصاركم ؟ يأمركم أن تحفظوا فروجكم ، ويأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ، ويأمركم بالعدل والإحسان ، فهل أنتم محسنون ؟ يأمركم بالصّدق فهل أنتم صادقون ؟ وقرأتم القرآن فلم تعملوا به ، وادَّعَيْتُم حبّ الرسول ، قلتم إنّ الشيطان عدوّكم فوافقتموه ، واتَّبعتموه ، تبِعْتم توجيهاته ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾

[ سورة إبراهيم الآية : 22]

 قلتُم إنّكم مشتاقون إلى الجنّة فلم تعملوا لها ، حاسِب نفسك مساءً ، أيُّ عملٍ عملته خالصًا لوجه الله تعالى ، من أجل الجنّة ، كلّها مصالح وحركةٌ وبيعٌ وشراء ، ونشاط ، وذكاء ، وانتهاز فرَص ، كلّها من أجل كسب المال ، قلتُم إنّكم مشتاقون إلى الجنّة فلم تعملوا لها ، وقلتم إنّكم تخافون من النار فلم تهربوا منها ، وقلتم إنّ الموت حقّ فلم تستعدوا له ، اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم ، أكلتم نعمة الله فلم تشكروه عليها ، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا ، لذلك ماتتْ قلوبكم ، ولذلك تدعون الله ليل نهار فلا يستجيبُ لكم ، يا إبراهيم يا أبا إسحاق ، إنّ الله تعالى يقول :

﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾

[ سورة غافر الآية : 60]

 وها نحن ندعوه ، فلا يستجيبُ لنا ، فأجابهم بأنّ قلوبكم ماتتْ من عشرة أشياء ؛ عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه ، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به ، وادَّعَيْتُم حبّ الرسول صلى الله عليه وسلّم فلم تعملوا بسُنّته ، قلتم إنّ الشيطان عدوّكم فوافقتموه ، قلتُم إنّكم مشتاقون إلى الجنّة فلم تعملوا لها ، وقلتم إنّكم تخافون من النار فلم تهربوا منها ، وقلتم إنّ الموت حقّ فلم تستعدوا له ، اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم ، أكلتم نعمة الله فلم تشكروه عليها ، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا ، فكيف يستجيبُ لكم ، قال تعالى :

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 186 ]

 اسْتجبْ له لِيَستجيب لك ، طبِّق أمره ليستجيب لك ، كن عند أمره ونهيِه ليستجيب لك .
 أيها الإخوة المؤمنون ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الحمام :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لُغْزٌ كبير ، وكبير كبير ، ما زال حتّى الآن يُحيّر الباحثين .
 هذا الحمام الذي خلقه الله سبحانه وتعالى كيف يهتدي إلى هدفه ؟
 وما الطريقة التي يستخدمها ؟
 العلماء يتساءلون .
 كيف يستدلّ الحمام على طريقه الطويل في السّفر ؟
 ولا تنسوا أنّ الحمام يُعَدّ أوّل وكالة أنباءٍ في التاريخ ، إنّه يُستخدم عند الشّعوب كلّها ؛ الإغريق ، واليونان ، والرومان ، وعند العرب ، وفي كلّ العصور ، كان يُستخدم لِنَقل الرسائل وإنباء الأنباء ، وقد استخدمتهُ بعض الدُّوَل الغربيّة كهولندا ، لإبلاغ الأوامر إلى سُمطرا ، وجاؤوا في جنوبيّ شرقيّ آسيا .
 هذا الحمام يقطع مسافات تزيد عن سبعة عشرة ألف كيلو متر تقريبًا .
 السؤال الذي يحيِّرُ العقول ؛ كيف يهتدي هذا الطائر عبْر هذه المسافات الطويلة ؟
 والله طيّارٌ من بني البشر ، ولو كان أذكى طيّارٍ في الأرض ، لا يستطيع أن يهتدي بالنَّظَر فقط ، فلابدّ من إشارات ، ولابدّ من إحداثيات ، ولابدّ من خرائط ، وبثّ مستمر يحدّد له في أيّ موقع هو على سطح الأرض ؟
 رحلةٌ طويلة من غربيّ أوروبا إلى جنوبيّ شرقيّ آسيا ، طائرٌ صغير ومعه رسالة ، كيف يوصلها إلى هناك ؟ كيف تعملُ الحاسّة التي توجّه الطائر نحو طريقه ؟

 

الفرضية الأولى :

 العلماء قالوا : إنّ شيئًا ما لا نعرفهُ يوجّه هذه الطّيور إلى أهدافها ، بعض العلماء توقَّع أنّ هذا الطّيْر تنطبعُ في ذاكرته معالم الأرض ، فهو يعرفها ، ويهتدي بها ، وهذه فرضيّة ، فجاء عالمٌ آخر ، ونقض هذه الفرضيّة ، بأن جاء بِحمام زاجل وعصّب عينيه ، وأطلقه فانطلق إلى هدفه ، أيَّةُ معالم ؟ وأيّة ذاكرة ؟ ما دام أنّه قد عصّبَت عيناه ، انطلق رغم هذا كلّه إلى هدفه ، وهذه فرضيّة .

الفرضية الثانية :

 أنّه يشكّل مع الشّمس زاويةً يهتدي بهذه الزاوية إلى موطنه فكيف يطيرُ في الليل ؟ كيف يهتدي إلى هدفه وهو يطيرُ ليلاً ؟ نُقِضَتْ هذه النظريّة .

الفرضية الثالثة :

 نظرية ثالثة ؛ أنّهم توقّعوا أنّ في دماغه جهاز رادار يهديه إلى الهدف ، فوضعوا على رأسه جهازًا صغيرًا كهربائيًّا يصدر إشارات كهربائيّة من أجل أن تشوّش عليه ، ومع ذلك وصلَ إلى هدفه ، توقّعوا أنّه يهتدي إلى أهدافه عن طريق الساحة المغناطيسيّة التي في الأرض ، وضعوا في أرجله حلقات حديديّة ممغْنَطَة ، من أجل تشويش هذه الساحة ، فاهتدى إلى هدفه ، ولم تبْقَ عندهم ولا نظرية إلا نقضَتْ ، كيف يقطعُ هذا الطائر عشرات الآلاف من الأميال ؟! فوق البحر ، وفوق الجبال ، وصحارى ، والوديان ، كيف يأخذ زاويةً باتّجاه الهدف ؟ هذا سرّ لا يزال يُحَيّر عقول العلماء ، ولا يزال أحد قول العلماء : إنّ شيئًا ما يوجّه الطيور إلى موطنها قال تعالى :

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾

[ سورة طه الآية : 49-50]

 وأصحّ تفسير أنّها هداية الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى :

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾

[ سورة الأعلى الآية : 1-3]

 لذلك نُسمّي علماء التوحيد هذه الظاهرة التي تحيِّرُ العقول ، يسمّونها هداية الله تعالى ، ويُسمّيها علماء الحياة الغريزة ، أي آليّة معقّدة توجدُ عند المخلوق من دون تعلُّم ، عملٌ ذكيّ ، على مراحل ، ومبرمج ، يفعلهُ الحيوان بلا تعلّم ، سمّاه الغربيّون الغريزة ، وسمّاه علماء التوحيد هداية الله تعالى ، وها نحن نقرأ هذه المقالات حول الحمام الزاجل تحت عنوان الحمامة أوّل وكالة أنباء في التاريخ ، تقطع عشرات الألوف من الأميال ، وتهتدي إلى هدفها ، من دون خطأ ، ومن دون خلل ، من يهديها ؟ عصّبوا عينيها فاهتدَتْ ، أطلقوها في الليل فاهتدَتْ ، شوّشوا عليها جهازًا توقّعوه جهاز رادار فاهتدَت ، شوّشوا عليها الساحة المغناطيسيّة فاهْتدَتْ ، حينها رفعوا أيديهم مستسلمين ، وقالوا : لا ندري ، إنّ شيئًا ما يوجّه هذا الطائر إلى هدفه ، قال تعالى :

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾

[ سورة طه الآية : 49-50]

الدعاء :

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور