وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0146 - المحبة - لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بينهم - ستعود بلاد العرب جنات وأنهارا.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله .
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر .
 وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين .
 اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

المحبة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي :
 لقد اشْتدّ شوق الأبرار إليّ ، وأنا إلى لقائهم أشدّ شوقًا .
 سبحانك يا ربّ .
 إذا كان عفْوُكَ يستغرق الذنوب فكيف يكون رضوانك ؟
 وإذا كان رضوانك تزْكو به النفوس فكيف يكون حبّك ؟
 وإذا كان حبّك يُثير النفوس فكيف يكون وُدّك ؟
 وإذا كان وُدّك ينسي الإنسان كلّ ما سواه فكيف يكون لُطفك ؟
 ابن آدم اُطلبني تجدني ، فإذا وجَدْتني وجدْت كلّ شيء ، وإن فتُّك فاتَكَ كلّ شيء ، وأنا أحبّ إليك من كلّ شيء .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ في سورة التوبة آيةٌ تركَتْ في نفسي أثرًا بليغًا ، أحيانًا يتألّم الإنسان لما يرى من خصامٍ بين الناس ، ومن شقاق ، ومن مُشاحنة ، وعداوةٍ ، وأنانيّة ، وأثَرَة ، واستعلاء ، قد يكون هذا الشّقاق في الأُسرة الواحدة ، قد يكون بين الزَّوْجَين ، وبين الشريكين ، وبين الأخَوَين ، وبين الأُسرتين ، وبين الحَيَّيْن ، وبين العشيرتين ، وبين الأُمَّتَين ، قال تعالى وهو يصف ما عليه الناس آخر الزمان :

﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة الحشر الآية : 14]

 قال تعالى :

﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون الآية : 53]

 والمنافقون بعضهم لبعض غَشَشَةٌ متحاسِدون ، ولو اقتربَتْ منازلهم ، قال تعالى :

﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 120]

 هذه الحالات المرضيّة ، وهذا الشّقاق ، والخصومات ، والحسد ، وذلك البغي ، والعداوة ، وتلك البغضاء ؛ ما أسبابها ؟
 أهكذا فَطَر الله الناس ؟ لا والله .
 أهكذا خلق الله الإنسان ؟ لا والله .

 

فما أسباب ذلك ؟

 مشاحنةٌ في البيت الواحد ، بين الأخَوَين ، وبين الزَّوْجين ، ما سبب ذلك ؟

 

الجواب في سورة الأنفال الآية : وألف بين قلوبهم .........................

 الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال وفي آية واحدة يُجيبُ عن كلّ هذه الأسئلة ، قال تعالى :

﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 63 ]

 لو قال الله عز وجل :
  ولكن ألَّفَ بينهم .
 معروف الله سبحانه وتعالى ، لماذا ذكر الاسم الظاهر بدل الضمير ؟
 لماذا قال الله تعالى :

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾

 أيْ هذه المودّة ، وهذه الرّحمة ، والمحبّة ، والعفو ، والتضحيَة ، والمؤاثرة ، والوُدّ الذي بين المؤمنين ، إنّما هو من خلق الله سبحانه وتعالى ، فإذا عرف الناس ربّهم خلق الله المودّة بين قلوبهم ، وخلق الرحمة ، والبشْر ، والمحبّة ، والتعاطف ، والتسامح ، والتضحيَة .

﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾

 أهذه الكلمة قليلة ؟

﴿ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾

 من أموال ، لو قدَّمْت له بيتًا ، يُكِنّ لك العداوَة ، لو قدَّمْت له شارعًا كلَّه محلاّتٍ تجاريّة هِبَةً لك ، إن لم تكن هذه الهديّة مبنيّة على الإيمان تنقلب المحبّة إلى عداوَة ، هكذا سنّة الله في الخلق .

 

هذه الآية تحل كل المشكلات :

 ما أقبل الرجـل على الله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تنْسـاق إليه بالمودّة والرحمـة .
 وما فرِّقَ بين اثنين إلا بِذَنبٍ أصابه أحدهما .
 وما تحابّ اثنان في الله إلا كان أشدهّما حبًّا لصاحبه أقربهما إلى الله عز وجل .
 كأنّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية جعل للعلاقة بين الناس قانونًا ، ولمطلق العلاقة بينهما قاعدة ، فما دام الطرفان مستقيمين فالله سبحانه وتعالى يخلق بينهما المحبّة والمودّة ، والتسامح ، والإيثار ، والتضحيَة ، لا يرتاح المؤمن إلا إلى أخيه المؤمن ؛ يقدّم له مالهُ .

مثال على ذلك : الأنصار والمهاجرين .

 فالأنصار أيّها الإخوة والمهاجرون مثلٌ حيّ وواقعيّ ، يؤكّد هذه الآية ، كان يأتي المهاجر إلى المدينة فيُؤاخي النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين أنصاريّ يقول هذا الأنصاري يا أخي لي بستانان خُذْ أحدهما ، لي بيتان خُذ أحدهما ، هذا موقف الأنصار ، خُذْ خُصومات في قصر العدل لا يعلمها إلا الله ، ستّة آلاف دعوى متعلّقة بالبيوت ، فما تفسير ذلك ؟ خَلَتْ القلوب من الرحمة ، وخلا الإنسان من الإنفاق ، لا ينصف الناس من نفسه ، يريد أن يعيشَ وحده ، وأن يسكن وحده في البيت ، أن يكسب المال كلّه له ، والناس الباقون لا شأن لهم عندهُ ما هذه الحالة المرضيّة ؟ كيف كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ؟ كيف كانوا يحبّون بعضهم بعضًا ؟ لأنّهم عرفوا الله تعالى ، إذًا الدّين عاملُ وئام ، وعاملُ محبّة ، وعاملُ مودّة ، عاملُ تسامحٍ ، وتضحيَة ، ورحمة ، وعطفٍ ، فإذا خلا الدِّين صار الناس كالذّئاب ، ينهشُ بعضهم بعضًا ، وقد تعوَّذ عليه الصلاة والسلام من آخر الزمان ، يومَ يعقّ الرجل أباه ، ويودّ صديقهُ ، يوم تلدُ الأمة ربّتها ، يوم يكون المطر قيضًا ، والولد غيظًا ، ويفيض اللّئام فيضًا ، ويغيض الكرام غيظًا ، يوم يُخَوَّن الأمين ، ويُؤتمن الخائن ، يُصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق ، قال تعالى :

﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 63 ]

 لو أنّ كلّ ما في الأرض أُنفقَ من أجل أن يحبّ الناس بعضهم بعضًا فإنّ ذلك لا يجزي ، لو أنفقْتَ يا محمّد ما في الأرض جميعًا من أجل أن تؤلّف بين قلوبـهم ما ألّفت بين قلوبـهم .

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 63 ]

 ذُكِرَ لفظ الجلالة بدَل الضّمير لِيَكون في هذا تأكيدًا .
 فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ مثلٌ حيّ ؛ ما دُمْتَ مُحِبًّا لله ، ومُستقيمًا على أمره فلابدّ من أن تُحِبّ أخاك المؤمن ، لابدّ من أن تؤثرهُ ، قال تعالى :

﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾

[ سورة الحشر الآية : 9]

 هكذا كان الأنصار رضي الله عنهم ، يحبون من هاجر إليهم ، يؤثرون على أنفسهم ، إذا كان الإيمان حلَّ التعاوُن محلّ المنافسة ، الآن منافسة ، البيع بيع ضرر ، إذا فتحَ إنسانٌ دكّانًا يأتي من حولهُ ، ويُحبطون مَسعاه ، ويبيعون أقلّ من التكلفة ، من أجل أن ييْأس من هذه المصلحة ، أهكذا المسلمون ؟ كان السَّلَف الصالح إذا جاء الشاري للدّكان ، واشترى ، وجاء شارٍ آخر ، قال : اِسْأل جاري فأنا لقد استفتحت ! هكذا كان السلف الصالح قال تعالى :

﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 63 ]

 والله الذي لا إله إلا هو ، ما من شيءٍ في الدّنيا أثْمَنُ من هذه المودّة ، والمحبّة التي يخلقها الله بين المؤمنين ، لو أنّ الدّنيا قاسيَة ، والحياة خشِنَة ، والمصائب كثيرة ، لو أنّ الأزمات كثيرة ، لكنّ المودّة والمحبّة بين المؤمنين تُنسي كلّ مصيبة ، وكلّ حياةٍ صعبة ، قال تعالى :

﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 63 ]

الأصْل في العلاقة بين الناس المودَّة والرحمة .

 أيها الإخوة المؤمنون :
 المؤمنون بعضهم لبعض نصَحَةٌ متوادّون ولو ابتَعَدَتْ منازلهم ، والمنافقون بعضهم لبعض غشَشَةٌ متحاسدون ولو اقتربَتْ منازلهم .
 ما تحابّ اثنان في الله إلا كان أقربهما إلى الله عز وجل أشدّ حبًّا لصاحبه .
 وما تحابّا اثنان في الله فافترقا إلا بِذَنْبٍ أصابه أحدهما .
 وما أقبلَ العبد على الله عز وجل إلا جعَل قلوب المؤمنين تنْساقُ إليه بالمودّة والرحمة .
 هذه الأحاديث تبيانٌ لهذه الآية ، هذه الآية تنظُم العلاقة بين الناس ، الأصْل في العلاقة بين الناس المودَّة والرحمة ، الأصل في العلاقة بين الشعوب لِتَعارفوا ، قال تعالى :

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

[ سورة الحجرات الآية : 13]

 الأصل في العلاقة بين الزوجين المودّة والرحمة ، قال تعالى :

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

[ سورة الروم الآية : 21]

 هذا التصميم الإلهي ، هذه فطرة الله عز وجل ، الإنسان بِبُعده عن الله تعالى يمتلأُ قلبهُ قسْوةً ، وفضاضة ، وبُعْدًا ، عندئذٍ تنشأ المشكلات ، وتُصبح الحياة جحيمًا ، والبيت جحيمًا لا يُطاق ، الزوج يكرهُ الزوجة ، ويغضبُ لأتفه الأسباب ، هي تُكِنّ له العداوة ، تتكلّم عليه في غَيبتِهِ ، وينشأ الأولاد في هذا الجوّ الفاسِد ، ويكفرون بالأُسرة ، ما رأوا في الأُسرة سعادةً لهم ، لماذا ؟ لبُعدِ الزوجين عن الله تعالى ، لو أنّ الزّوجين أطاعا ربّهما لتولّى الله التوفيق بينهما ، وجعل الله بينهما مودّة ورحمة ، لكنّ الزوجين إذا عصيَا ربّهما تولّى الشيطان التفريق بينهما ، فينشأ الأولاد في خُصومات ما بعدها خُصومات .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا عن هذه الآية في سورة الأنفال .

 

أحاديث شريف تحث المؤمن على طلب العلم :

 موضوع قصيرٌ جدًّا مسْتَوْحًى من بعض الأحاديث الشريفة ، فيها يحثّ النبي عليه الصلاة والسلام على طلب العلم .
 عن أنس بن مالك رضي الله عنها قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))

[ أخرجه ابن ماجه ]

 عن أبو الدرداء رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْبَحْر))

[ أخرجه ابن ماجه ]

 طلبُ العلم فريضة على كلّ مسلم ، وإنّ طالب العلم يستغفر له كلّ شيء حتى الحيتان في البحر .
 كيف يستغفر له الحيتان ؟ وما علاقة الحيتان بِطَلب العلم ؟ ومن أين جاء النبي بهذا المعنى ؟
 طالب العلم يتعلّم ممَّن يعلّمه أنّ الله كتبَ الرحمة على كلّ شيء ، فإذا ذبحْتُم فأحسِنوا الذّبْح .
 أيصطادُ المؤمن السّمك بالمتفجّرات ؟ لا والله ، يصطادها بالشّباك ، تنجو الصّغار من هذا الصّيد .
 فإذا طلب الإنسان العلم امتلأ قلبهُ رحمة ، فاستغفرتْ له - وهذا من أبعَد الاحتمالات - الحيتان في البحر لأنّه صادها وفق الشّرْع .
 أيَدُوسُ المؤمن على نباتٍ يسبّح ربّه ؟ لا والله .
 أيقطفُ زهرةً ليُلقيَها في الطريق ؟ لا والله .
 فطالب العلم يستغفر له كلّ شيء ، حتى الحيتان في البحر ، وطلب العلم أفضلُ عند الله من الصلاة والصّيام ، والحجّ والجهاد في سبيل الله وتعالى ، وطلب العلم ساعة خيرٌ من قيام ليلة ، وطلب العلم يومًا خيرٌ من صيام ثلاثة أشهر ، وطالب العلم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات ، هذا حيّ ينبذ بالحياة ، وطالب العلم لله أفضلُ عند الله من المجاهد في سبيل الله تعالى ، وطالب العلم كالغازي والرائح في سبيل الله تعالى ، وطالب العلم طالبُ الرحمة ، ورُكن الإسلام .
 فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ أدعوكم لِطَلب العلم ، ولابدّ من حُضور مجالس العلم ، ولا بدّ من معرفة كتاب الله ، وسنّة رسول الله المطهّرة ، وأحكام الفقه ، لابدّ من أن يعرف المسلم كيف يشتري ؟ وكيف يبيع ؟ ماذا يأكل وماذا لا يأكل ؟ وماذا يقول ؟ ومتى يقول ؟ ومتى يسكت ؟ لولا العلم لصار الناس كالبهائم ، وبعض الناس كالبهائم ، حينما لا يطلبون العلم تراهم كالبهائم ، قال تعالى :

﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾

[ سورة الفرقان الآية : 44]

 قال تعالى :

﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾

[ سورة المنافقون الآية : 5 ]

 قال تعالى :

﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾

[ سورة الأعراف الآية : 176]

 قال تعالى :

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

[ سورة الجمعة الآية : 5]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث المطهّرة يدعوكم لطلب العلم ، تعلَّمْ إنّ الله عالم يحبّ كلّ عالم ، لعالم واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردْت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم ، رُتبة العلم أعلى الرّتَب ، والعلم لا يُعطيك بعضه إلا إذا أعطيْتهُ كلّك ، فإذا أعطيتهُ بعضك لمْ يعطِكَ شيئًا ، يظلّ المرءُ عالمًا ما طلب العلم ، فإذا ظنّ أنّه قد علم فقد جهل .

 

الموت :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ موضوعٌ ثالث يشْغَلُ بالَ الناس ، ما حالة الإنسان إذا جاءهُ ملك الموت ؟ الأحياء يعرفون مشاكل الحياة ومشكلاتها ، ولكنّ ساعة الموت لا يعرفها أحد لأنّ الذي يموت لن نستطيع أن نلقاهُ بعد الموت ونسأله ماذا حلّ به ، كنتُ مع صديقٍ طبيب سألتهُ قبل يومين ألَمْ يحدُث أن مات بين يديك طبيب ؟ فقال : بلى ، قلتُ : فما الأحوال التي تُصيبهُ ؟ فقال : أحوال عديدة ، تجمعُها كلمة الفزَع ، أيْ الميّت تبدو على ملامح وجهه الفزع ، والخوف ، والاضطراب ، وأحيانًا يهدي ، وأحيانًا يقول : لا أُريد أن أموت ، أحيانًا يُصعق ، قلتُ سبحان الله تعالى ، فما بالُ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ليس واحدًا ، بل جميعهم ، حينما كان يأتيهم الموت ، يأتيهم وهم في أحلى حياتهم ، أنا قرأْتُ من فضل الله عز وجل ما يزيد عن سيرة سبعين صحابيًّا ، الشيء الوحيد الذي يجمعُ بين كلّ هذه السِّيَر أنّهم جميعًا حينما جاءهم الموت كانوا في أسعد لحظات حياتهم ، وكانوا مستبشرين ، كانوا يطيقون إلى الموت ، كانوا على أحرَّ من الجمر كي يلقَوا الله عز وجل ، فما بال حال الناس اليوم ؟ يفْزعون من الموت ، ومن قراءة القرآن لأنّها تذكّرهم بالموت ‍! لو أنّ إنسانًا أسْمعهم كتاب الله يُتلى لقال : لا ، يتشاءَم ، هذا القرآن يُتلى عند الأموات ، أحدُ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام اسمه سعد بن الربيع ، جاءَ في السِّيَر أنّه لما فرغ الناس من قتلاهم في أُحد ، أي انتَهَتْ المعركة ، وتوجَّه كلُّ من له في المعركة قتيل ، توجَّه إلى القتيل لِيتعرَّف إليه لِيَدفنَهُ ، وليَتَفقَّدَهُ ، لعلّ فيه رمَق ، فلمّا فرغ الناس من قتلاهم في أُحد قال عليه الصلاة والسلام : من رجلٌ ينظرُ لي ما فعل سعْدُ بن الربيع ؟ هذا عطف النبي ، لا ينسى صاحبًا من أصحابه ، تذكَّره ، ما فعل سعْدُ بن الربيع ؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ ندبَ لهذه المهمّة أحد الأصحاب ، فذهب رجلُ من الأنصار إلى ساحة المعركة فوجدَهُ جريحًا ، بين القتلى ، وفيه رمَق ؛ لمْ يمُتْ بعد فقال له : يا سعْدُ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرني أنْ أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ، فقال سعد بن الربيع وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : أبْلِغْ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنِّي في الأموات ، وأبْلِغْهُ عنِّي السلام ، وقلْ له : إنّ سعْد بن الربيع يقول لك : جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيًّا عن أمّته ، في أيّة حالة يعيشُ هذا الجريح ؟ على وشك الموت بقيَ له دقائق حتى يموت ، أيَّة حالةٍ يعيشها هذا الصحابي ، حتى يقول : جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيًّا عن أمّته ، لأنّه دخل في الجنّة ، ولأنّه استشرق الجنّة ، وشارف الجنّة ، وأبْلِغْ قومك عنّي السلام ، وقلْ لهم : إنّ سعْد بن الربيع يقول لكم : لا عُذْر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيّكم ، وفيكم عيْنٌ تطْرف ، يعني إذا استطاع الكفار أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي واحدٍ منكم عينٌ تطْرف ، فلا عُذر لكم عند الله تعالى ، فقال هذا الرجل الأنصاري : فلمْ أبْرح حتّى ماتَ ، وإلى أن لفظَ أنفاسهُ الأخيرة ، فجئْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرْتُه الخبَر فبكى حتى أخضل لِحْيتهُ ، هذه هي أحوال الصحابة ، إن كنتَ بطلاً اعْمل في الدنيا عملاً بحيث لو جاءك ملك الموت تكون أسْعد الناس ، عندما تكون مؤمنًا وتلقى الله مؤمنًا ، لا يعنيك بُكاء الناس أو ضحِكهم ، لا ينبئك عندئذٍ أكانوا في مستوى مقامك أم لم يكونوا ، وازنْتُ بين هذه القصّة ، وبين ما قاله ليَ الطبيب حينما سألتهُ أشَهِدْتَ موتَ أُناسٍ بين يديك ؟ قال : بلى ، قلتُ : كيف كانتْ أحوالهم ؟ فقال : الفزَع ، والخوف ، والاضطراب ، والهذيان ‍! لأنّهم أحبّوا هذه الدنيا ، ونسوا هذه الساعة .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .

بلاد العرب ستعود بساتين وأنهارًا :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عالمٌ من أشهر علماء البيولوجيا ، ومتخصّص في المنطقة الواقعة بين إفريقيا وبين الجزيرة العربيّة ، التقى بِعَالمٍ مسلم ، سأله هذا العالم المسلم ؛ هل عندك دليل على أنّ أرض العرب كانتْ بساتين وأنهارًا ، فقال : هذا معروف عندنا ، وهذا شيءٌ يعرفه العلماء المتخصّصون ، قال له : ما الدليل ؟ قال : في الجزيرة العربيّة رواسب نهريّة ، تلاحظ في أماكن عِدّة ، وقد عُثِرَ على قرية مدفونةٍ تحت الرّمال في الرّبع الخالي ، وفيها مناطق متحجّرة ، وقد عُثِر على مناطق أخرى متحجّرة ، فلمّا فُحِصَتْ إذا هي جذوعٌ لأشجار كبيرة ، وهذا كلّه يؤكّد أنّ هذه البلاد كانتْ بستين وأنهارًا ، منطقة الرّبع الخالي ، هذه الصحراء الجرداء القفراء كانتْ مُفعمةً بالبساتين والأنهار ، وهذا شيءٌ ثابتٌ عند علماء الجيولوجيا الذين وجدوا من المستحثّات ما يؤكّد ذلك ، هذا العالم المسلم سأله عالمٌ آخر ؛ وهل عندك دليل على أنّ بلاد العرب ستعود بساتين وأنهارًا ؟ فقال : هذا شيءٌ أيضًا معروفٌ عندنا ، فقال : ما الدليل ؟ قال : إنّ كُتَلَ الجليد الضّخمة تتَّجهُ نحو الجنوب ، وهذا الذي سبَّب قبل أعوامٍ شتاءً قارسًا جدًّا في أوروبا وأمريكا ، وإنّ اتّجاه هذه الكتل الجليديّة نحو الجنوب سوف يغيّر مناخ الأرض ، وبِتَغْيير مناخ الأرض سوف تتغيّر خطوط المطر ، ولابدّ من أن يأتي يومٌ تعود بلاد العرب كما كانتْ ، مُروجًا وأنهارًا ، قال هذا العالم المسلم لهذا العالم الجيولوجي : فما قولُك أنّ رجلاً ، قبل ألفٍ وأربع مئة عامٍ قال : لا تقوم الساعة حتى تعود أرضُ العرب مروجًا وأنهارًا ! دِقّة الحديث كلمة تعود ، بِكَلمة تعود ، يعني أنَّها كانتْ ، وبهذه الكلمة يعني أنّها ستكون ، تعود ؛ يعني كانتْ مروجًا وأنهارًا وستعود مروجًا وأنهارًا ، هذا حديث صحيح رويَ عن النبي عليه الصلاة والسلام : لا تقوم الساعة حتى تعود أرضُ العرب مروجًا وأنهارًا .
 هذا العالم الأجنبيّ صُعِق ، هذه الحقائق عرفْناها في هذه السَّنوات ، في هذه السنوات العشر ، فما بالُ هذا الرّجل عرف هذه الحقيقة التي تحتاجُ إلى بحثٍ طويل ، وإلى درسٍ طويل ، وإلى رحلات شاقّة في أعماق الصّحراء وإلى تنقيب ، ودراسة لِطَبيعة المناخ في الأرض ، قال تعالى :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم الآية : 3-4]

 لا تقوم الساعة حتى تعود أرضُ العرب مروجًا وأنهارًا .
 وبلاغة النبي عليه الصلاة والسلام في كلمة تعود ، فلو قال : حتى تصبح معنى هذا أنّ الماضي لمْ يدخل في هذا الحديث ، وإذا قال : كانتْ فالمستقبل لا يدخل ، أما كلمة تعود وحدها أدخلَ فيها النبي الماضي والمستقبل .

 

الدعاء :

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور