وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0399 - الهجرة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

العبر المستنبطة من الهجرة النبوية الشريفة :

1 ـ أن يكون الله ورسوله وطاعة الله ورسوله أغلى على المؤمن من أي شيءٍ :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قبل أيامٍ معدودات لا تزيد عن العشر كانت مناسبة الهجرة النبوية الشريفة ، والهجرة النبوية أيها الأخوة من أضخم أحداث الدعوة بعد ظهور الدعوة ، والذي ينبغي أن نعرفه في هذه المُناسبة أن الأحداث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان من المُمكن ألا تقع ، أو كان من الممكن أن تقع على نحوٍ آخر ، ولكنها وقعت على نحو ما وقعت عليه لحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله عز وجل ، الأحداث التي وقعت في عهد النبي صَمَّمها ربنا عز وجل لنستنبط منها المواقف والعِبَر ، لتكون هذه الأحداث دروساً خالدةً للبشرية إلى نهاية الحياة .
 الحقيقة يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أن أحداث الهجرة تعرفونها جميعاً ، ولكن الذي نحن في أمَسِّ الحاجة إليه أن نستنبط من هذه الأحداث المواقف التي ينبغي أن نقفها ، والسلوك الذي ينبغي أن نسلُكه ، والتصوّرات التي ينبغي أن نتصورها ، والتضحيات التي ينبغي أن نُضَحِّي بها .
 العبرة الأولى من الهجرة أن الهجرة تؤكد أن الله ورسوله ، وطاعة الله ورسوله ، وابتغاء رضوان الله ورسوله ، أغلى على المؤمن من أثمن شيءٍ في حياته ألا وهي بلده ، ألا وهي جذوره ، ألا وهي موطن إقامته ، ألا وهي موطن ولادته ، إن الهجرة تؤكِّد أنه ينبغي أن يكون الله ورسوله ، وينبغي أن تكون طاعة الله وطاعة رسوله ، وينبغي أن يكون ابتغاء رضوان الله ورسوله أغلى على المؤمن من أي شيء ؛ مهما بدا لنا ثميناً ، ومهما بدا لنا غالياً ، قال تعالى:

﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾

[ سورة النساء : 66 ]

 أن يترك الإنسان موطنه ، وبلده ، ومكانته ، وجذوره المُمْتَدَّة في الأعماق ، لينتقل إلى بلدٍ جديد لا يعرف فيه أحداً ، هذه تضحيةٌ من أعلى درجات التضحية .
 فلذلك الدرس الأول الذي ينبغي أن نستنبطه من الهجرة أن المؤمن يضحي بأي شيء في سبيل الله عز وجل ، في سبيل طاعته ، في سبيل رضوانه ، والآية التي نَذْكُرها كثيراً :

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا﴾

[ سورة التوبة : 24 ]

 أي أن الطريق إلى الله ليست سالكة إذا آثرت على طاعة الله وطاعة رسوله شيئاً من الدنيا ، وهذه أمثلةٌ من حُطام الدنيا .

﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 24 ]

 بل ربما يستنبط من هذه الآية أن الذي يؤْثِر شيئاً من حطام الدنيا ، ومن متاعها على الله ورسوله ، هذا الإيثار بالذات يحمله على الخروج عن أمر الله عز وجل ، ألا وهو الفسق . .

﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 24 ]

2ـ على المؤمن أن يأخذ موقفاً عملياً وإلا مشاعره وقناعاته وحدها لا تكفي :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الدرس الثاني من دروس الهجرة يستنبط من قوله تعالى :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 فالإيمان ما وقر في القلب ، لابد من موقفٍ يجسده ، لابد من واقعٍ يؤكِّده ، لا بد من مظهرٍ عملي يثبته ، فالقناعات والاعتقادات وحدها لا تكفي ، هناك نماذج اليوم من المسلمين ، نموذجٌ فكره إسلامي ولكن سلوكه ليس إسلامياً ، نموذجٌ آخر عواطفه إسلامية ؛ يتعاطف مع كل مشكلة إسلامية ، ولكن سلوكه ليس إسلامياً ، الذي يرفَعُنا عند الله عز وجل ، والذي يُقَرِّبُنا إلى الله عز وجل ، والذي يستوجب أن نكون في المستوى الذي يريده الله عز جل ، هو أن نكون مسلمين في بيوتنا ، وفي تصرفاتنا ، في مواقفنا ، في منعنا ، في عطائنا ، في سخطنا ، في رضانا ، الفكر الإسلامي وحده لا يكفي ، والعواطف الإسلامية وحدها لا تكفي ، لابد من سلوكٍ إسلامي ، لذلك . .

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 ما اتخذوا موقفاً يؤكِّد إيمانهم . .

﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 إذاً لا قيمة لأقوالنا ، ولا قيمة لمشاعرنا إن لم تؤكِّدها الأعمال ، إن لم تُتَرجم إلى مواقف ، إن لم تترجم إلى بذلٍ ، إن لم تترجم إلى تضحيةٍ ، إن لم تترجم إلى عطاءٍ ، إن لم تترجم إلى انضباطٍ . .

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72 ]

 الموقف الأول : ينبغي أن يكون الله ورسوله ، وطاعة الله ورسوله ، أغلى على المؤمن من أي شيءٍ حتى من جذوره الممتدة في الأعماق .
 والعبرة الثانية : ينبغي أن يأخذ المؤمن موقفاً عملياً وإلا مشاعره وحدها ، قناعاته وحدها ، تصوراته وحدها لا تكفي .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام حينما هاجروا ؛ ضحوا في دنياهم من أجل دينهم ، ضحوا بالدنيا من أجل الآخرة ، ضحوا بحظوظهم من أجل عقيدتهم ، والذي ينبغي أن نعلمه علم اليقين أنه من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .

3 ـ عدم انسجام المؤمن مع غير المؤمن :

 درسٌ آخر يا أيها الأخوة الأكارم ألا وهو أن بين قوى الشر وقوى الخير ، بين الحق وبين الباطل ، بين رسل الهداية وشياطين الغواية ، تناقضاً واضحاً ، صارخاً ، جلياً، وصراعاً مستمراً ، وحرباً ضروساً ، قال تعالى :

﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾

[ سورة الأنفال: 30]

 هذا شيءٌ يجب أن تألفه ، الحق لا يلتقي مع الباطل ، ، قوى الخَيْر لا تلتقي مع قوى الشر ، المؤمنون لا ينسجمون مع غير المؤمنين هذا حُكْم الله عز وجل .

4 ـ الدنيا دار ابتلاء والشدائد التي يسوقها الله للمؤمنين هي مَحْضُ حكمةٍ ورحمةٍ :

 شيءٌ آخر يمكن أن نستنبطه من الهجرة : أن هذه الدنيا دار ابتلاء ، وأن الشدائد التي يسوقها الله جل وعلا للمؤمنين هي مَحْضُ حكمةٍ ورحمةٍ وخَيْر ، إنما يسوقها لهم ليزدادوا معرفةً به ، وليزدادوا حباً له ، لقد ضحوا بدنياهم ولكن الله نصرهم .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ لا أَدَلَّ على ذلك من أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن هاجر من مكة ، التي هي أحب بلاد الله إلى الله ، إلى المدينة ، وكانت أول موقعةٍ بينه وبين كفار قريش ، وانتصر فيها على كفار قريش ، وقف أمام القَليب الذي أُلقي فيه صرعى قريش ، وقال لهم : " يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، يا أمية بن خلف ، يا أبا جهلٍ بن هشام ، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ؟ لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس " .

(( فقال المسلمون : يا رسول الله : أتنادي قوماً جيفوا - أي أصبحوا جيفاً؟ -فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنتم بأفهم لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني))

[ أحمد عن عائشة ]

 من ربح المعركة ؟ النبي عليه الصلاة والسلام ، لمن كانت العاقبة ؟ للنبي عليه الصلاة والسلام ، لمَن كان النصر ؟ للنبي وأصحابه عليهم رضوان الله .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا كنت مع الحق فلا تخشَ أحداً ، واعتقد اعتقاداً جازماً أن المستقبل لك ، وأن الباطل مهما جال لابد مِن أن يضمحل ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾

[ سورة الإسراء : 81]

 كُن مع الحق ، فمن كان مع الحق كان الله معه ، ولا تكن مع الباطل فإن الباطل زاهقٌ ويزهق معه أهله .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ قال الله عز وجل :

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾

[ سورة الصافات : 171-173]

 هؤلاء الأنصار الذين هاجر إليهم النبي ، قدَّموا مثلاً رائعاً من أمثلة التضحية والإيثار ، وأنموذجاً فذاً للتعاون بين المؤمنين ، كل هذا تعبيراً عن إيمانهم وسمو مشاعرهم ، لقد زكى الله صنيعهم في القرآن الكريم فقال تعالى :

﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة الحشر : 9]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ نموذجٌ آخر من نماذج الصحابة الأنصار ، وموقفهم المشرِّف من النبي عليه الصلاة والسلام ، وقف سيدنا سعد بن معاذ سيد الأنصار ، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية معركة بدر ، فقال : " يا رسول الله لقد آمنا بك ، وصدَّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثقنا على السمع والطاعة لك ، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته ، لخضناه معك ما تخلف منا رجلٌ واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إن لصُبرٌ في الحرب صدقٌ عند اللقاء ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فو الذي بعثك بالحق للذي تأخذه من أموالنا أحبُّ إلينا مما تدعه لنا " .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شتانَ بين من يعارض الحق وبين من يؤيِّده ، شتانَ بين من يصدِّق النبي وبين من يكذِّبه ، شتانَ بين من يخرجه وبين من يؤويه ، شتانَ بين من يقاتله وبين من ينصره ، شتانَ بين المؤمن وبين غير المؤمن . .

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[ سورة السجدة : 18]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ في كل قضيةٍ يقف فيها المؤمنون في طرف وأهل الدنيا في طرف ، كن مع المؤمنين ، كن مع الحق ، انصر دين الله عز وجل ، انصر أهل الحق لأن العاقبة للمُتَّقين ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟

5 ـ الأخذ بالأسباب و التوكل على الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ درسٌ آخر من دروس الهجرة : النبي عليه الصلاة والسلام ما من أحدٍ من وجه الأرض أحق بأن ينتصر على عدوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك أخذ بكل الأسباب ، أخذ بأدق الأسباب ، أعَدَّ لكل اهتمامٍ عدةً ، غَطَّى كل نقطةٍ ضعيفة ، لماذا كل هذه الاحتياطات ؟ لماذا كل هذا التدابير ؟ لماذا كل هذا الأخذ بالأسباب ؟
 أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام مُشَرِّع ؛ أقواله تشريع ، وأفعاله تشريع ، وإقراره تشريع ، وسلوكه تشريع ، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام هاجر على مرأى من أعدائه متحدياً إيَّاهم ، كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه ، سيدنا عمر ليس مُشَرِّعَاً ، يمثل نفسه وحده ، فإذا أصاب أو أخطأ ، فهذا لا يستنبط منه حكمٌ تشريعي ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ، نبي هذه الأمة ، جعله الله مثلاً أعلى ، وجعل أفعاله وأقواله تشريعاً ، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأخذ بالأسباب ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتحم الأخطار ، لَعُدَّ اقتحام الأخطار سُنَّةً ، ولعد الأخذ بالأسباب معصيةً ، لذلك ربما هلكت أمته من بعده .
 فالنبي عليه الصلاة والسلام مع أنه شجاع من الدرجة الأولى ، سيدنا عليٌ كرم الله وجهه كان يقول : " كنا إذا حمي الوطيس كنا نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن أحدٌ أقرب إلى العدو منا " . ومع ذلك اختار طريقاً مُساحلاً ، واختار خبيراً ، واختار رجلاً يمحو الآثار ، ورجلاً آخر يتتبع الأخبار ، كل هذا ليعلمنا أن نأخذ بالأسباب ، لأن هذا الكون بُنِيَ على قواعد دقيقة ، وعلى أسبابٍ ومسبَّبات ، فمن لم يأخذ بالأسباب لا يستحق نصر الله عز وجل ، إنك إن أخذت بالأسباب ، وتوكلت على الله جل وعلا ، فقد فعلت الذي ينبغي أن تفعله وعلى الله الباقي .

6 ـ العبادة في زمن الفتن و الضلالات كالهجرة إلى الله و رسوله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر يستنبط من الهجرة ، هو أن الهجرة بمعناها الضيِّق : خروجٌ من مكة المكرمة زمن الشرك إلى المدينة المنورة . انتقالٌ من مدينةٍ إلى مدينة ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح :

(( لا هجرة بعد الفتح ))

[ من الدر المنثور عن جابر بن عبد الله ]

 فما معنى الهجرة بالنسبة إلينا ؟ الانتقال الآن من مكة إلى المدينة ليس هجرةً ، بل ربما كانت من معاني الهجرة أن تنتقل من مدينةٍ تشبه مكة زمن الشرك إلى المدينة زمن الإسلام والتوحيد ، إن الانتقال من مدينة إلى مدينة تُشبهان مكة والمدينة ، لعلها نوعٌ من أنواع الهجرة ؛ الذي يفر بدينه هو مهاجر ، والذي ينتقل من بلدٍ إلى بلد لطلب العلم فهو مهاجر ، والذي ينتقل من بلدٍ إلى بلد ليدعو إلى الله عز وجل فهو مهاجر ، هذا المعنى الذي ينسحب على الهجرة .
 ومعنىً آخر النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيح آخر بيَّن أن من معاني الهجرة أن تهجر ما نهى الله عنه ، فالذي يعيش في زمنٍ كثرت فيه الفِتَن ، واشتدت المحن ، وعُصِيَ الله جهرةً ، في الطريق نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ ، مائلاتٌ مُميلات ، الإسلام فيه غريب كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( بدأ الدين غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ))

[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]

 الذي يطيع الله في زمنٍ صعبٍ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ، الذي يطيع الله في زمنٍ الفتن كلها يقظى ، والشهوات مستعرة ، والدنيا خضرةٌ نضرة ، في مثل هذه البيئات وهذه الظروف ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عن ربه في الحديث القدسي :

(( العبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إلي ))

[رياض الصالحين عن معقل بن يسار ]

 عبادةٌ في الهرج ؛ في زمن الفتن ، في زمن الضلالات ، في زمن الانحرافات ، في زمن الشهوات ، في زمن أن الإنسان ذئبٌ عليه جلد ضأْن ، في هذا الزمن عبادةٌ في الهَرْج كهجرةٍ إلي .

 

أنواع الهجرة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أريد إلى أن أُلْفِت نظركم إلى هجرةٍ من نوعٍ آخر لا يرضاها الله عز وجل ، إنها هجرةٌ ابتغاء الشيطان ، حينما تكون الهجرة ابتغاء دنيا يصيبها الرجل ، أو ابتغاء مالٍ وفير يُحَصِّلُهُ على حساب دينه ، حينما تكون الهجرة بذلاً للخبرات والطاقات والإمكانات ، لغير بلاد المسلمين ، حينما تكون الهجرة هروباً من تحمُّل المسؤولية ، وفراراً من البذل والتضحية ، حينما تكون الهجرة إضعافاً للمسلمين ، وتقويةً لأعدائهم ، حينما تكون الهجرة تمكيناً للعدو من احتلال الأرض ، واستثمار خيراتها ، حينما تكون الهجرة من بلدٍ تقام فيه شعائر الدين إلى بلدٍ فُرِّغَت منه كل القيَم ، حينما تكون الهجرة تضييعاً للدين والعِرْض وكسباً للدرهم والدينار ، حينما تكون الهجرة كذلك فهي هجرةٌ في سبيل الشيطان .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ إما أن تكون الهجرة في سبيل الرحمن ، وإما أن تكون الهجرة في سبيل الشيطان ، إذا طلبت العلم ، أو نشرته ، أو فررت بدينك ، فهذه هجرةٌ في سبيل الرحمن ، وحينما تبتغي الدنيا على حساب الآخرة ، وحينما تبتغي الدرهم والدينار على حساب مستقبل أولادك ، وصون دينهم وعرضهم ، حينما تفعل ذلك فهذه الهجرة في سبيل الشيطان .

 

النبي عليه الصلاة والسلام صفوة الله من خلقه و سيد الأنبياء والمرسلين :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في أثناء الطريق ؛ طريق الهجرة ، مرّ عليه الصلاة والسلام وصاحبه بمنازل خُزاعة ، ودخل خيمة أم مَعْبَد فاستراح بها قليلاً ، وشرب من لبن شاتها ، ولما خرج من عندها ، قيل لها - لأم معبد - : صفيه لنا يا أم معبد . فقالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة - متألِّق الوجه - أبلج الوجه ، حَسَنَ الخَلْقِ ، كما قال الشاعر :

وأجمل منك لم تر قط عيني  وأكمل منك لم تلد النساء
خلقت مبـــــــرأً من كل عـيبٍ  كأنك قد خلقت كما تشـاء
* * *

 " رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، وسيم قسيم - معنى قسيم أي له من كل حظٍ من حظوظ الجمال قِسم - إن صمت فعليه الوقار ، وإن تكلَّم سَماهُ وعلاه البهاء ، فهو أجمل الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسنهم وأجملهم من قريب ، حُلو المَنْطِق ، فصلٌ - كلامه فصل - لا نزر و لا هزر - ليس فيه إيجاز مخل ولا إطناب ممل ، تفصيلات تمل منها ، أو إيجاز على حساب المعنى ، هناك من يوجز إيجازاً مخلاً ، وهناك من يُطْنِب إطناباً مملاً ، النبي عليه الصلاة والسلام كان كلامه فصلٌ لا نزرٌ قليل ، ولا هزرٌ كثير - كأن منطقه خرزات نظم يتحدَّرن - حبَّات من اللؤلؤ - ربعةٌ - ليس بالطويل البائن ولا القصير - لا بائن من طولٍ ولا تقتحمه عينٌ من قصر ، غصنٌ بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قدراً ، له رفقاء يحفّون به ، إن قال أنصتوا لقوله ، وإن أمر تبادروا لأمره ، محفودٌ ، محشودٌ ، لا عابسٌ ولا مُفَنِّد " قال لها زوجها أبو معبد : هو والله صاحب قريش ولقد هَمَمْت بأن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام صفوة الله من خلقه ، سيد الأنبياء والمرسلين ، سيد ولد آدم ، جعله الله معصوماً ، ذا خلقٍ عظيم ، لذلك علينا أن نقتدي به ، وأن نتأسَّى به ، وأن نقفو أثره ، وأن نتَّبع سنته ، لأن اتباع سنته فرضٌ على المؤمنين ، لقول الله عز وجل :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾

[ سورة الأحزاب : 21 ]

 وما دام النبي أسوةً حسنة فينبغي أن نتعرَّف إلى سيرته ، ينبغي أن نقِف عند مواقفه ، وعند خطواته ، وعند أخلاقِه ، فهو المثل الأعلى ، والقدوة ، والذي ينبغي أن يُتَّبَعَ في كل شيء ، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران : 31]

طاعة الله أساس قوة كل إنسان :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى أبو نعيمٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله ، دعا الله ربه فقال :

((الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً ، رب أعني على أهوال الدهر ، وبوائق الدهر ، وكربات الآخرة ، ومصيبات الليالي والأيام ، رب في سفري فاحفظني في أهلي ، فاخلفني وفيما رزقتني فبارك لي في ذلك ))

[ من كنز العمال عن السيدة عائشة ]

 ليس في الأرض كلها إنسانٌ بإمكانه أن يصحبك في سفرك ، وأن يخلفك في أهلك ومالك ، إن صحبك في سفرك ، ما أمكنه أن يخلفك في أهلك ومالِك ، وإن أخلفك في أهلك ومالك ليس بإمكانه أن يصحبك في سفرك ، لكن الله جل جلاله يصحبنا في سفرنا ، ويخلفنا في أهلنا وأموالنا .
 اللهم اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا ، وبارك لنا في رزقتنا ، ولك فذللنا، وعلى صالح الخُلُق فقوِّمنا ، وإليك ربنا فحببنا ، وإلى الناس فلا تكلنا ، رب المستضعفين أنت ربنا ، نعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض ، وكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين ، أن تحل علينا غضبك ، وتنزل بنا سخطك ، ونعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجأة نقمتك ، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا جاءت نقمة الله فجأةً ، إذا حلَّ على إنسان غضب الله فجأةً ، انقلبت حياته إلى جحيم ، لو أخذ بكل الأسباب ، لو كان في أقوى مكان ، لو كان من أغنى الناس ، إذا زالت عنه رعاية الله ، إذا تحوَّلت عنه عنايته ، إذا جاءته نِقْمة الله فجأةً ، النبي عليه الصلاة والسلام هذا دعاءٌ دقيقٌ جداً :

(( نعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض ، وكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين ، أن تحل علينا غضبك ، وتنزل بنا سخطك ، ونعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجأة نقمتك ، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ))

[ من الجامع الصغير ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هناك أناسٌ في أعلى درجات قوتهم أو غناهم ، إن لم يكونوا على طاعة الله ، إن كانوا في سخط الله ، شيءٌ يسيرٌ جداً على الله عز وجل أن يقْلِب حياتهم جحيماً ، لسببٍ أو لآخر ، فإذا كانت نِعَم الله تترى عليك وأنت تعصيه فاحذره ، لأن فجأة نقمته صعبةٌ جداً ، تحوّل عافيته صعبةٌ جداً ، أن يحل غضب الله عز وجل على إنسان شيءٌ لا يحتمل ، ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به . لا يمنعك من الله إلا أن تكون على أمره ، نعوذ بك منك ، لا ملجأ منك إلا إليك ، اللهم إنا لك وإليك .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ العافية التي يتمتَّع بها الإنسان ، والمال الذي يستمتع به إن لم يكن أساسه طاعة الله عز وجل ، فبلحظةٍ واحدة تتحوَّل العافية ، ويذهب المال ، ويقع الإنسان في شر عمله ، هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون في عقولنا ، وفي قلوبنا ، وأن نكون في المستوى الذي يريد الله جل وعلا .

* * *

الأمانة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ انطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما سئل عن الإيمان فقال :

(( حُسن الخلق ))

[الدر المنثور عن كعب بن مالك ]

 وانطلاقاً من أن الذي يدعو الناس إلى التعلُّق بأهداب الدين هو حسن الخلق ، وأن الذي يُبْعِد الناس عن التمسُّك بشريعة الإسلام هو سوء الخُلُق ، ولا زلنا مِن خُطَبٍ عديدة نتحدَّث عن سمةٍ أساسية من سمات المؤمن ألا وهي حب الحق وإيثاره ، وقد تفرَّع عن هذه السِمَة الأساسية الصدق ، والوفاء بالوعد ، وإنفاذ العهد ، والأمانة هي موضوع اليوم .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الأمانة خلقٌ ثابتٌ من أخلاق المؤمن ، بل هي مؤشرٌ على إيمانه ، بل إن الأمانة والإيمان شيئان متلازمان ، فإذا فقد الأول فقد الآخر .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ألا يكفيكم قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً إلا قال فيها في كل خُطَبِهِ :

(( ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ))

[ أحمد عن أنس بن مالك]

 ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً إلا قال فيها ، أي في كل خطبةٍ خطبها النبي عليه الصلاة والسلام كان يُذَكِّر أصحابه ويقول :

(( ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ))

[ أحمد عن أنس بن مالك]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يؤدي الإنسان ما عليه من حقوق ، وفي تعريف الأمانة الدقيق - ليس هذا من الأمانة - إذا كان عليك حقٌ ثابت ، موثقٌ بوثائق ، فلو لم تؤدِّه هُدرت سمعتك ، وانتقصت من كرامتك ، فأداء هذا الحق ليس من خلق الأمانة ، ولكن تعريف علماء الأخلاق للأمانة هو ما يلي : الأمانة خلقٌ ثابتٌ في النفس ، يعف بها الإنسان عما ليس لها من حق ، أن تعف النفس عما ليس لها من حق ، وإن تهيَّأت ظروف أكل هذا الحق ، دون أن يكون عرضةً للإدانة عند الناس ، تهيأت لك الظروف أن تأخذ ما ليس لك ، من دون أن تمس بكلمة ، من دون أن يكتشف أحدٌ ذلك ، من دون أن تمس سمعتك ، إذا تهيَّأت لك الظروف أن تأخذ ما ليس لك ، وسمعتك مصونة ، ومكانتك مصونة ، إذا عففت عن أكل هذا الحق فأنت أمين ، أما إذا كان عليك حقٌ ثابت ، مُثَبَّت بأصول ؛ بوثائق ، بأدلة ، وإذا لم تؤدِّ هذا الحق ، هناك من يطالبك ، هناك من ينتقصك ، هناك من يُشَهِّر بك ، وأديت هذا الحق ، هذا موضوعٌ آخر لا علاقة له بالأمانة ، أما الأمانة أن تعف نفسك عما ليس لك ، وإن تهيأت لك الظروف لأكل هذا الحق دون أن تمس بأذى ، دون أن تُهْدَر كرامتك ، دون أن ينال منك أحد ، إذا عففت عن أموال الناس ، عن أعراضهم ، عن حقوقهم الأدبية ، دون أن تكون مداناً عند الناس فأنت أمين ، هذا تعريف الأمانة الدقيق .
 لأضرب لكم مثلاً أيها الأخوة : لو أن إنساناً أودع عندك مالاً دون أن يأخذ وثيقةً، ودون أن يُعْلِم أولاده بهذا المال ، وتوفي فجأةً ، ولا يستطيع أحد في الأرض أن يطالبك بهذا المال ، ولا أن يكتشف ما فعلت ، فإذا ذهبت إلى الورثة ، وأدَّيت هذا المال فأنت ورب الكعبة أمين .
 أما إذا كان هناك إيصال ، وهناك وثائق ، وهناك سندات ، أو هناك من يعلم ، وجاؤوا وطالبوك ، إذا أدَّيت الحقوق فهذا خُلُقٌ مدني ، أنت وازنت بين أكل هذا المال وبين ضياع مكانتك في المجتمع ، فأدَّيت هذا المال ، ولكن الأمانة التي يعرِّفها علماء الأخلاق ، ولكن الأمانة التي أرادها الله جل وعلا حينما قال :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾

[ سورة النساء : 58 ]

 هذه هي الأمانة ، أن تؤدِّي ما عليك وإن تهيأت لك الظروف لأكل هذا الحق ، أن تؤدي ما عليك وإن كان لا أحد يشْعُر به ، ولا أحد يتَّهمك به .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا مثل ، مثلٌ آخر : أنت حينما تطلق يدك في الإنفاق في موضوعٍ ما ، وأنت مُصَدَّق ، فإذا زِدَّت المبالغ لا أحد يكتشف هذه الزيادة ، فإذا أخذت وثائق من الباعة بسعرٍ مرتفع لا أحد يكشف ذلك ، إذا تعفَّفت عن هذا المال الذي تأكله من دون أن يدري أحد من خلق الله ، فأنت ورب الكعبة أمين ، وهذه الأمانة التي أرادها الله عز وجل في القرآن الكريم وفي سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام .

 

الأمانة وحدة لا تتجزأ :

 لكن الأمانة أيها الأخوة وحدةٌ لا تتجزَّأ ، من السُخْفِ ومن الضلال أن تقول : فلان من حيث الأموال أمينٌ جداً ، ولكن من حيث الأعراض نفسه خَضْراء . الأمانة كل لا يتجزأ ، يجب أن تكون أميناً على أموال الناس ، ويجب أن تكون أميناً على أعراضهم ، ويجب أن تكون أميناً على حقوقهم الأدبية ، ويجب أن تكون أميناً على أيّ حق في رقبتك ، الأمانة وحدةٌ لا تتجزأ . ضلّ من ظن أن الأمانة متعلقةٌ بالأموال ، إذا سمعت روايةً ونقلتها مع الزيادة فلست أميناً ، إذا سمعت قصةً وحذفت فقرةً منها فلست أميناً ، إن حذفت فقرةً منها للإصلاح بين الناس هذا خُلُقٌ طيِّب ، أما إذا حذفت فقرة منها لمصلحة لك شخصية فلم تؤدّ هذه الأمانة ، إذا نقلت عن كتابٍ ولم تذكر المصدر فلست أميناً ، الأمانة وحدةٌ لا تتجزأ ، أمانة الأموال ، وأمانة الأعراض ، وأمانة الحقوق والواجبات .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما تقول كلاماً خلاف الواقع فلست أميناً ، إذا وصفت بضاعة وصفاً مخالفاً لحقيقتها ، بغية ترويجها ، فلست أميناً ، إذا أكلت أموالاً تتوهم أنت أنه لا صاحب لها فلست أميناً ، إن لم تبلغ الرسائل الخطية والشفهية تبليغاً صحيحاً دقيقاً فلست أميناً ، إن لم تنصح المسلمين فلست أميناً على دينهم ولا على دنياهم ، يكفي أن يأتيك إنسان إلى محلك التجاري ويقول لك : انصحني ، فإذا وجَّهته إلى بضاعةٍ كاسدة فلست أميناً ، لو أنه قال لك : انصحني في اللون . ووجهته إلى لونٍ كاسد عندك فلست أميناً ، لن تفتح لك أبواب السماء، لن يرضى الله عنك ، لن يسمح الله لك أن تتصل به ، لن يتجلى على قلبك إلا إذا كنت مستقيماً في معاملة الخَلق ، إن الاستقامة في معاملة الناس هي جوهر الدين ، وسوف ترون بعد قليل كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام يؤكِّد أن حقيقة الدين أداء الأمانة .

 

أبواب الأمانة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يمكن أن نستخلص من فروع الأمانة المتعددة ؛ أمانة الأموال ، أمانة الأعراض ، أمانة الحقوق الأدبية ، أمانة البيع والشراء ، أمانة الغلول ، أمانة الإبلاغ ، أمانة التبيين ، أمانة النصيحة ، أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ، أداء الحقوق لأصحابها ، يمكن أن نستخلص من كل هذه الفروع الدقيقة أن للأمانة أبواباً ثلاثة . .
 الباب الأول : أن تعف عما ليس لك به حق . والباب الثاني : أن تؤدّي ما يجب عليك . هذا المريض له حقٌ عند الطبيب ، أن يفحصه فحصاً دقيقاً ، أن يستقصي كل الظواهر ، لأنه وثق به وأعطاه أجرته ، فالمريض أمانةٌ في عنق الطبيب ، والموكِّل أمانةٌ في عُنق المحامِي ، لا بد من أن يطالع القوانين ، لابد من أن يطالع ما استجد من اجتهاداتٍ فقهية ، لابد من أن يُعِدَّ مذكرةً قويةً ، لابد من أن يؤدي ما عليه من حقوق كي يأخذ الأجر حلالاً ، والرجل المشتري أمانة في عُنق البائع ، لابد من أن يعطيه بضاعةً كما يصفُها له ، لا في مستوىً دون ما يصفها له ، وبسعرٍ معقولٍ دون أن يستغل جهله ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( غبن المُسترسل رباً ))

[ من الجامع الصغير عن جابر]

((غبن المسترسل حرام ))

[ من الجامع الصغير عن أبي أمامة ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ وبابٌ ثالث من أبواب الأمانة وهي أن تحفظ ما استؤمنت عليه من دون أن تتلفه ، من دون أن تستهلكه ، من دون أن تنتفع به ، من دون أن تُهمله ، من دون أن تحفظه في حرزٍ لا تحفظ فيه أموالك .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ لأن الأمانة متعددةٌ ، لأنها واسعةٌ وسعت فروع الحياة جاءت الآية الكريمة في قوله تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾

[ سورة النساء : 58 ]

 جاءت بلفظ الجمع ، ليس في عنقك أمانةٌ واحدة ، والداك أمانة ، أولادك أمانة ، طلاَّبك وأنت مدرسٌ أمانة ، مرضاك وأنت طبيبٌ أمانة ، المشترون وأنت بائعٌ أمانة ، المُراجعون وأنت موظفٌ أمانة . وكما قال عليه الصلاة والسلام :

((كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته))

[ من الدر المنثور عن ابن عمر ]

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾

[ سورة النساء : 58 ]

مطابقة الأمانة للدين :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من الجهل ، وضعف الفهم ، وقصور النظر ، وضيق الأفق أن تظن أن الدين أن تصلي ، وأن تصوم ، بينما في الدين آلاف الأوامر التي وردت في القرآن الكريم ، ويكفينا هذا الأمر في القرآن الكريم بصيغة الأمر الجازم ، وآيةٌ واضحة الدلالة ، قطعية الدلالة :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾

[ سورة النساء : 58 ]

 في صحيح البخاري ومسلم حديثٌ رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول عليه الصلاة والسلام مع القسم قال :

(( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ...))

 

[البخاري عن أبي هريرة]

 قسمٌ وتكرار والتكرار يفيد التأكيد .

((والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن . قيل : من يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام : من لا يأمن جاره بوائقه ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 والبوائق جمع بائقة الخيانة :

(( من لا يأمن جاره بوائقه))

 ليس مؤمناً . أترون أيها الأخوة كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الأمانة مطابقةً للدين ، بل جعل الدين هو الأمانة ، بل جعل الأمانة هي الدين ، وأنه من ضعفت أمانته ضعف دينه ، ومن خان فقد برئت منه ذمة الله عز وجل ، هذا صحيحٌ في البخاري ومسلم :

(( والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن . قيل : من يا رسول الله ؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه ))

 وفي صحيح الترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :

((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ))

[الترمذي والنسائي عن أبي هريرة]

 فرقٌ دقيق بين من سَلِمَ وبين من أَمِنَ ، قد يكون لك جار ، مضى سنةٌ وسنتان ، وأربع سنوات ، وعشر سنوات ، ولم تجد منه شيئاً يخالف أصول الدين ، لم يكذب ، ولم ينظر إلى عورات المسلمين ، ولم يؤذك ، لقد سَلِمْتَ مِنه ، لكنك قد لا تَأْمَنه ، فمن سلمت منه فهو المسلم ، أما الذي تأمنه ؛ والأمن شيءٌ أعلى من السلامة ، السلامة ألا تصاب بمكروه ، ولكن الأمن ألا تتوقع المكروه ، عدم توقُّع الشيء هو من قبيل الأمن ، عدم حصوله من قبيل السلامة، فالمسلم يسْلَم المسلمون من لسانه ويده ، ولكن المؤمن لا يتوقع أحدٌ أن يأتي منه الأذى ، يأمنه الناس ، فرقٌ كبير بين من يَسْلَم منه الناس ، وبين من يأمنه الناس ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ))

 من أمنه الناس ، لا يتوقَّعون ولا في المليون واحد أن يعتدي على أموالهم ، ولا على أعراضهم ، ولا على حقوقهم ، ولا على شيءٍ من هذا القَبيل ، لذلك إذا عاملت المؤمن تشعر براحة ، تشعر بأمن ، تنام وأنت قرير العين ، هذا الذي عرف الله عز وجل ، واتصل به ، واصطبغت نفسه بالكمال الإلهي ، كله خير ، كله إنصاف ، كله رحمة ، كله بَذل ، كله تضحية، المسلم تسلم منه ، لكن المؤمن تأمنه على أموالك ، وعلى أعراضك ، وعلى دمائك ، وعلى كل شيء .
 وقد روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه قال - قال سيدنا أنس ، هذا قلته في أول الخطبة - : قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :

(( ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ))

الخيانة علامةٌ قطعيةٌ من علامات النفاق :

 وأما الخيانة أيها الأخوة فهي علامةٌ قطعيةٌ من علامات النفاق ، في صحيح مسلم حديثٌ شريف عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا إؤتمن خان ))

 دققوا أيها الأخوة في الفقرة الأخيرة من الحديث : روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ))

 منافق ، منافق ، منافق . وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ، وإن تظاهر بكل مظاهر الإسلام . .

(( إذا حدث كذب وإذا وعد أخلق وإذا اؤتمن خان ))

 فليس مسلماً بل هو منافقٌ في نص هذا الحديث الشريف .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما وَفَدَ وفد النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي، وطلب منهم أن يحدثوه عن هذا الدين الجديد الذي جاء به النبي الكريم ، ماذا قال سيدنا جعفر ؟ قال:

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف- هذه الجاهلية - فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف - وصف النبي بثلاث صفات أو أربع صفات- نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ...))

[أحمد عن أم سلمة أم المؤمنين ]

 إن لم تكن أميناً فلن يستمع الناس إليك ، ولن يصدقوك ، ولن يعبؤوا بكل أقوالك الدقيقة ، مهما حفظت من نصوص ، مهما جئت بعلمٍ دقيق ، لن يحفل الناس بكلامك إن لم تكن أميناً .

 

الأمانة شرطٌ أساسي من شروط اصطفاء الرسل :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ نعرف أمانته وصدقه ونسبه وعفافه ، لذلك قال علماء التوحيد : الأمانة شرطٌ أساسي من شروط اصطفاء الرسل ، بل هي صفةٌ أساسيةٌ في الأنبياء والمرسلين ، فسيدنا هود :

﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾

[ سورة الأعراف : 67-68]

 من صفات سيدنا هود أنه ناصحٌ أمين . النبي عليه الصلاة والسلام كان اسمه الأمين ، كان يُلَقَّب بالأمين قبل الرسالة ، سيدنا جبريل وصفه الله عز وجل بأنه الروح الأمين ، نزل به الروح الأمين .
 أيها الأخوة ؛ الأمانة من ثمراتها الثقة ، وأثمن شيءٍ تملكه أن يثق الناس بك ، أن يثق الناس بأقوالك ، أن يثق الناس بأمانتك ، بصدقك ، من مَلَكَ ثقة الناس ملك كل شيء ، ومن فقد ثقة الناس فقد كل شيء ، من لوازم الأمانة الثقة ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام عرَّف الأمانة بأنها غنى .
من كان أميناً أقبل الناس عليه ، في أية حرفةٍ من الحِرَف ، من كان أميناً في أقواله ، في بضاعته ، في أوصافه ، في حركاته ، في تَنَقُّلاته ، من كان أميناً في بيعه وشرائه أقبل الناس عليه وازداد ربحه ، لذلك عرَّف النبي الأمانة بأنها " غنى " ، والمقصود بالغنى الغنى المادي ، من أراد أن يكون في بحبوحة العيش فليكن أميناً ، في كل أقواله .

 

للأمانة مجالات واسعة جداً :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ مجالات الأمانة واسعةٌ جداً ؛ الأموال ، البيوع ، الديون ، المواريث ، هذا الذي يلعب بالميراث ليس أميناً ، الودائع ، الرهون ، العواري - شيءٌ تستعيره- الوصايا ، الولايات الكُبرى ـ سيدنا عمر ، سأل أحد الولاة . .قال : " ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ قال : أقطع يده . قال : إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك " .
 هذا باب كبير باب الأموال ، يدخل فيه البيوع ، والمواريث ، والودائع ، والرهون ، والعواري ، والوصايا ، حتى الولايات الكبرى ، والأعراض ، كف النفس واللسان عن أعراض الناس ، كف النفس بالنظر ، واللسان بالقذف ، يجب أن تكف لسانك عن أن تخوض في أعراض الناس ، لذلك كانت الغيبة محرمة ، وكلمة أعراض هل تعني النساء فقط ؟ عِرْضُ الرجل موطن المدح والذم فيه ، هذا عرض الرجل ، فإذا كففت لسانك على أن تنهش أعراض الناس فأنت أمين .

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾

[ سورة الحجرات : 6]

﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾

[ سورة الإسراء : 36]

 فالأعراض أيها الأخوة ؛ كف النفس عن نظرةٍ لا تجوز لك ، وكفُّ اللسان عن قذفٍ ، أو عن فُحْشٍ ، أو عن شيءٍ من هذا القَبيل ، ويدخل في باب الأمانة الأجسام والأرواح، الإنسان بُنْيَان الله وملعونٌ من هدم بُنْيان الله ، كم من خطأٍ أساسه الإهمال أودى بحياة إنسان؟ كم مِن عاملٍ أهمل إحكام هذه الآلة فأودى بأصحابها في الطريق ، فهذا من قبيل الأمانة ؛ قد تعتدي على أموال الناس ، وقد تعتدي على أعراضهم ، وقد تعتدي على أجسامهم ، إذا أهملت صنعتك لم تُحكم المِكْبَح ، لم تضبط الأمر بيدك يا صاحب المحل ، تركته لصانعٍ صغير ، لم يحكم هذه الآلة في الطريق انفرط عِقْدها ، فمات الرُكَّاب جميعاً ، هذا في رقبتك ، إصلاح هذه الآلة أمانة .
 سائق السيارة رُكَّابه أمانة ، ثم أمانة المعارف والعلوم ، هذا الذي ينتحل النصوص، ويسرق من الكٌتُب ، ويدعيها لنفسه ويقول : أنا ألفت كذا . هذا ليس أميناً .
 والشهادة أمانة أيها الأخوة ، والقضاء أمانة ، والكتابة أمانة ، والأسرار التي يأتمنك الناس عليها أمانة ، والرسالات أمانة - من أضاف شيئاً أو حدث شيئاً - وحواسك أمانة ، وللأمانة بحثٌ طويل تتمركز في معظمها حول قوله تعالى :

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 72]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أخطر أمانة يحملها الإنسان نفسه التي بين جنبيه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ لعلكم تتوقعون أن أخطر أمانةٍ تحملها ، وأن أعظم أمانة منوطةٍ بك ، وأن أشد الأمانات ثِقَلاً هي نفسك التي بين جنبيك ، نفسك أمانةٌ بيديك ، لذلك قال الله عز وجل:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس: 9-10]

 أنت في الدنيا بيدك أمانةٌ ثمينةٌ جداً ؛ إن زكيتها أسعدتك إلى الأبد ، وإن دسَّيْتها وأفسدتها أشقتك إلى الأبد ، إن أخطر أمانةٍ لا هذا الذي يقف على محلك التجاري ، ولا هذا المريض في عيادتك ، ولا هذا الموكِّل في م

تحميل النص

إخفاء الصور