- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
غزوة بدر :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يا أهل القليب ، والقليب هو البئر ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، يا أُميّة بن خلَف ، يا أبا جهل بن هشام ، النبي عليه الصلاة والسلام نادى قتلى بدرٍ واحدًا واحدًا بأسمائهم بعد أن كانوا جثثًا ملقاةً في ساحة المعركة ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، يا أُميّة بن خلَف ، يا أبا جهل بن هشام هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا فإنّي وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا ؟ لقد كذَّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، أتُنادي قومًا جيّفوا ؟ قال : نعم ، ما أنتم بأسْمَعَ لي منهم ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني . إذًا كانت معركة بدرٍ أيّها الأخوة المؤمنون أوّل مواجهةٍ حقيقيّة بين المسلمين ، وبين كفّار قريش ، وكانت معركةً حاسمة ، بُنِيَ على نتائجها مصير هذا الدِّين ، وقد وقعتْ هذه المعركة في السابع عشر من رمضان ، وها نحن قد أصبحنا قريبين من هذا اليوم في هذا الشّهر ، وليْسَتْ العبرة معركة بدرٍ بالذات لأنّها وقعَت ، وانتهَت بِنَصر المسلمين ، وانتهَت بِتَرسيخ معالم هذا الدّين ، ولكنّ العِبرة أن نستنبط منها دروسًا بليغة إذا واجهنا أعداءنا أعداء المسلمين ، وأعداء الأمّة العربيّة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام قُبَيل معركة بدر رفع يديه إلى الله ، وناجاه مُناجاة المضْطرّ ، فقال : " اللهمّ إنْ تهْلك هذه العِصابة- ويقصدُ بها جماعة المؤمنين ، وكلمة العصابة في أصل معناها تعني الجماعة ، الجماعة الخيِّرة ، ولكنْ المفهوم الذي اكْتسبتهُ هذه اللّفظة كان مفهومًا متأخِّرًا - قال عليه الصلاة والسلام :
((اللهمّ إنْ تهْلك هذه العِصابة فلن تعبد في الأرض أبداً))
وجعل يرفع يديه إلى السماء ، ويدعو بلهفةٍ ورجاء ، حتى سقط الرّداء عن مَنْكِبَيه الشريفين ، فتقدّم أبو بكرٍ رضي الله عنه يُسوّي عليه رِداءهُ ، ويُواسي لهفتهُ وضراعتهُ ، ويقول : " يا رسول الله ، بعد مناشدتك ربّك فإنّه سيُنجز لك ما وعدكَ ".
ثقة النبي عليه الصلاة والسلام بِنَصْر الله لا حدود لها :
قد نقف عند هذا النصّ وقفةً متأنّيةً ، أَيُعقلُ أن يكون أبو بكرٍ الصّديق أكثرَ ثقةً بِنَصر الله من سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ ألَم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في غار ثَور ، وقال له الصّديق : " يا رسول الله ، لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا ؟ ألمْ يقل له النبي عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ؟ " ألَم يقل له مرّةً أخرى: والله لقد رأوني ، ألَم يقل له النبي عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى :
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
هذا نصّ صريح يؤكّد أنّ ثقة النبي عليه الصلاة والسلام بِنَصْر الله لا حدود لها ، ولكّنه في هذا النصّ يبدو أنّ سيّدنا الصّديق يخفّف من رَوْع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، يا رسول الله ، بعد مناشدتك ربّك فإنّه سيُنجز لك ما وعدكَ ، علماء السيرة لهم رأيٌ في هذا النّصّ، يقولون : إنّ الله سبحانه وتعالى لا ينْصُر المؤمن إلا إذا أخذ بكلّ الأسباب ، وبعدها يتوكَّلُ على ربّ الأرباب ، فالنبي حينما يرجو ربّه ، وحينما يناشدهُ النَّصْر ، وحينما يدعوه ، لعلّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوهّم أنّ في الإعداد ضعفًا ، أو تقصيرًا ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾
لكلّ عصرٍ قوّته ، لكلّ عصرٍ وسائلهُ الفعالة في ردْع المعتدين ، لكلّ عصرٍ وسائلهُ التي تُتيحُ لِمَن يملكها أن ينتصر على خصْمِهِ .
نموذجٍ حيّ من جنود النبي عليه الصلاة والسلام :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان جيشُ المسلمين ضئيل العدد ، قليل العُدَد ، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام خرجوا معه ، وهم لا يزيدون عن ثلاثمئة ، بل ينقصون ! ولكنّ الواحد منهم كألف ، والألف من أعدائهم كأُفّ ، فهم يُحبّون الموت ، كما يحبّ أعداؤهم الحياة ، لقد استعرضَ النبي عليه الصلاة والسلام جيْشهُ كما يفعلُ القائدُ قُبَيل المعركة ، لاستجلاء معنويّات الجيش ، فقال عليه الصلاة والسلام : أشيروا عليّ أيّها الناس ويعني بذلك الأنصار ، لأنّ الأنصار بايعوه على نُصرته في المدينة ، وها هو يُزمعُ أن يخرج إلى الكفار في بدر ، ففي هذه مخالفةٌ لبُنود الاتّفاق بينه وبين الأنصار ، فقال : أشيروا عليّ أيّها الناس ، وكان يعني بهذا الأنصار ، فقال له سعد بن معاذ : والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟ فقال : أجَل ، أنتم المعنيّون بهذا القول ، استمعوا أيّها الأخوة من نموذجٍ حيّ من جنود النبي عليه الصلاة والسلام .
قال : يا رسول الله ، لقد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ ، وأعطيْناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السَّمْع والطاعة ، فامْضِ يا رسول الله لما أردْت ، فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضْت بنا هذا البحر فخُضْتهُ لخُضْناه معك ، ما تخلَّف منّا رجلٌ واحد ، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدوّنا غدًا ، إنّا لصُبر في الحق ، صدُق عند اللّقاء، فَصِلْ حِبال من شئْت ، واقْطَع حبال من شئْت ، وعاد من شئتَ ، وسالِمْ من شئْت ، وخُذْ من أموالنا ما شئْت ، وأعطنا ما شئْت ، وما أخذْت منّا كان أحبّ إلينا مما تركْت ، فلعلّ الله يُريك منّا ما تقرّ به عيْنُك ، فَسِرْ على بركة الله تعالى .
هذه عيْنة من المقاتلين ، باعوا أنفسهم في سبيل الله ، عاهدوه على أن ينْصروه في السّراء والضّراء ، في المنشط والمكره ، في وُعورة الحياة وفي ليونتها ، هكذا كان أصحاب النبي، بينما يذكر القرآن الكريم أنّ أصحاب سيّدنا موسى قالوا له :
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾
بينما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام : فامْضِ يا رسول الله لما أردْت ، فنحن معك ، هذه عينةٌ من المقاتلين .
ولننْظر إلى عَينة أخرى من القيادة ؛ من الجيش الضئيل ، الذي يبدو ضعيفًا بِعَدده وعُددهِ ، روى أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " كنّا يوم بدرٍ كلَّ ثلاثة على بعير - أي يتعاقبونه ويتناوبونهُ ، والإمكانات محدودة ، والإمكانات مئة بعير ، و العدد ثلاثمئة - وكان أبو لبابة وعليّ بن أبي طالب زميليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، سيّدنا رسول الله هو نبيّ هذه الأمّة ، ورسول البشريّة ، هو قائد الجيش ، هو زعيم الأمّة ، ومع ذلك أعطى نفسهُ كما يُعطى أيّ مقاتلٍ في هذا الجيش ، فقال : أنا وعليّ وأبو لبابة على راحلةٍ ، فلمّا كان دورُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المَشي ، قالا له : يا رسول الله ، نحن نمشي عنك ، وابق راكبًا ، فقال عليه الصلاة والسلام قولتهُ المشهورة : " لا ، ما أنتما بأقوى منِّي على السَّيْر وما أنا بِأغنى منكما عن الأجر ".
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنّ هذا الذي يمشي وصاحباهُ يركبان هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فهل يُدهشنا بعد هذا شجاعةُ أصحابه ؟ وتَضحيّاتهم ، وإقبالهم على الموت ، بعد أن سوّى نفسه بهم في كلّ شيء وهل يُدهشُنا تعلّقه به ؟ وتفانيهم في محبّته ؟ وقد كان لهم أبًا وأُمًا وأخًا لقد صدق الله العظيم :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا نموذجٌ من القيادة ، وذاك نموذجٌ من المقاتلين ، بقيَ كيف سيُواجهُ هذا الجيش الصغير بِعَدده وعُدَدِهِ جيشَ الكفار الأكثر عددًا وعُددًا ؟ الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ يوضّح فيها المعادلة الدقيقة التي تحكمُ النَّصْر في المعركة ، يقول تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾
واحد إلى عشرة إذا كان الطَّرَف الأضعفُ مؤمنًا ، يكفي أن يكون أقلّ من عدوّه بنسبة واحد إلى عشرة حتى ينتصر عليه ، أُعيدُ عليكم الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
لهذه الآية نسبتان ؛ في حالة قوّة الإيمان ؛ واحد إلى عشرة ، وفي حالة ضعف الإيمان واحد إلى اثنين ، وفي حالة انعدام الإيمان النَّصر للأقوى ، عندئذٍ نتحدّث عن القوّة العدديَة ، والعُدَد ، ونتحدّث عن ظروف المعركة ، ونتحدّث عن كلّ العوامل التي من شأنها أن تكون حاسمة في إحراز النَّصْر .
سرّ عظمة الإسلام :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ السرُّ في عظمة الإسلام الذي يبدّل طبيعة الإنسان فيروي التاريخ أنّ الخنساء مات أخوها صَخر في الجاهليّة ، فبكَتْ ، وبكَتْ ، وبكَتْ ، وأبْكَتْ حتى كتبتْ ديوانًا من الشِّعر في رِثاء أخيها صَخْر ، ثمّ أسلمت الخنساء ، وأنجبتْ أربعة أولاد ، وذهب أولادها إلى معركة القادسيّة واسْتشهدوا جميعًا في معركةٍ واحدة ، وأُعلِمَتْ بذلك ، نقل لها خبر استشهادهم ، فماذا قالت ؟ ما زادتْ عن أن قالَتْ : الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم ، وأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقرّ رحمته تعالى ، ما الذي حدثَ ؟ هذه هي عظمة الإيمان ، هذه هي عظمة الإسلام ، قبل أن تسلم كادَتْ تفقدُ توازنها ، قبل أن تسلم كتبَتْ ديوانًا في رثاء أخيها صخر ، فلمّا أسلمَت ما زادت عن أن قالت : الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم ، وأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقرّ رحمته تعالى .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيّدنا خالد رضي الله عنه ، قال وهو على فراش الموت : لقد خُضْتُ سبعين معركةً أو زهاءها ، وما في جسمي موضعُ شبرٍ إلا وفيه ضربةُ سيفٍ ، أو طعنةُ رمْحٍ ، وهأنذا أموت على فراشي فلا نامَتْ أعْيُن الجبناء ، هذا هو الإيمان ، لك يومٌ لا يتقدّم ، ولا يتأخّر ، الإنسان لا تُميتهُ المعركة ، ولا يُميتهُ القتال ، ولكن يميتهُ إذا انتهى أجله ، فهذا سيّدنا خالد خاض أكثر من مئة معركةٍ وما في جسمه موضعُ شبرٍ إلا وفيه ضربةُ سيفٍ ، أو طعنةُ رمْحٍ ، قال : وهأنذا أموت على فراشي فلا نامَتْ أعْيُن الجبناء ، إنّ الإنسان كما قال الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
خُبيب بن عليّ وقعَ أسيرًا في يدي الكفار فساوَمُوه على إيمانه ، ولوّحوا له بالنجاة إذا هو كفر بمحمّد صلى الله على محمّد ، لكنّ إيمان خُبيب كان كالشمس قوّة ، وبعدًا ، ونورًا ، ونارًا ، وما محاولاتهم في ردّه عن إيمانه إلا كمن يُحاوَلُ أن يقتنص الشمس بِرَمية نبْل ، فلمّا يئسوا ممّا يرجون قادوا خُبيبًا البطل إلى مصيره المحتوم ، وخرجوا به إلى مكانٍ يسمّى التنعيم خارج مكّة حيثُ يكون هناك مصْرعهُ ، وما إن بلّغوه أنّهم سيقتلونه حتى اسْتأذنهم بأن يُصلّي ركعتين ، فصلّى في خُشوعٍ وسلام وإخباتٍ ، وتدفّقَتْ روحهُ في هذه الصّلاة سعادةً ، وثقةً برضاء الله عز وجل ، ولكنّه التفتَ إلى قاتليه وقال : والله لولا أن تحسبوا أنّ بي جزعًا من الموت لازددْتُ صلاةً ، وقال بيتين من الشّعر :
ولسْتُ أُبالي حين أُقتلُ مسلمًا على أيّ جَنبٍ كان في الله مصرعي
***
ثمّ أعدّوا العدّة لقتله فشَدُّوه من أطرافه إلى جذْع نخلةٍ ، واستعدّوا لرميه بالسّهام والنّبال ، وهنا اقترب منه أبو سفيان وقال له : يا خُبيب ، أَتُحِبّ أن يكون محمّد مكانك ، وأنت سليمٌ معافى في أهلك ؟ فصاحَ خُبيب رضي الله عنه ، وقال : والله ما أُحبّ أن أكون في أهلي، ولا في ولدي ، وعندي عافيةُ الدّنيا ، ونعيمها ، ويُصابُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بِشَوْكة، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضربَ كفًّا بكفّ ، وقال : والله ما رأيتُ أحدًا يحبّ أحدًا كحُبّ أصحاب محمّد محمَّدًا .
إيمانٌ بأنّ الأجلَ لا يزيدُ ولا ينقص ، إيمانٌ بِرَسُول الله صلى الله عليه وسلّم ، حبّ عامرٌ بالنبي عليه الصلاة والسلام .
سعيد بن عامر عيَّنهُ سيّدنا عمر واليًا لحمص ، فكانتْ تأخذه الغَشيَة من حينٍ لآخر ، فلمّا سئِلَ ، قال : لقد شهِدتُ مصْرع خُبيب الأنصاري في مكّة وقد بضعَتْ قريشٌ لحمهُ، وحملوه على جذْعةٍ ، فكلّما ذكرتُ هذا المشهد الذي رأيتهُ ، وأنا يومئذٍ من المشركين ، ثمّ تذكَّرتُ تركي نُصرة خُبيبٍ يومها ، أرتجفُ خوفًاً من عذاب الله ، ويغشاني الذي يغشاني .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ اللّقطات كثيرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، صحابيّ جليل اسمه عُمير بن حِمام الأنصاري رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حينما دنا من المشركين يوم بدرٍ ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : قوموا إلى جنّة عرضها السموات والأرض ، فقال : يا رسول الله ، جنة عرضها السموات والأرض ! فقال : نعم، فقال : بَخٍ بخٍ ، فقال النبي الكريم : وما يحملكَ على قول بَخٍ بخٍ ، قال : لا ، والله يا رسول الله إلا رجاءَ أن أكون من أهلها ، فأخرج ثمراتٍ كنّا في قرنه أي في جعبته ، فجعل يأكل منهنّ، ثمّ قال : لئِنْ أنا حييتُ حتى آكلَ ثمراتي هذه ، إنّها إذًا لحياةٌ طويلة ، فرمى ما كان معه من الثّمْر فقاتلهم حتى قتِل .
لقطة من لقطات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقطةٌ أخرى من لقطات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، سيّدنا خالد بهرَتْ عبقريّتهُ الحربيّة قوّاد الروم وأمراء جيشهم ، ممّا حمل أحدهم واسمه جرجة على أن يدْعُوَ خالدًا إلى البروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال ، وحين يلتقيان في وجه القائد الروماني يحدّث سيّدنا خالد فيقول : يا خالد اُصْدُقني ولا تكذبْني هل أنزلَ الله على نبيّكم سيفًا من السّماء فأعطاك إيّاه فلا تسلُّه على أحدٍ إلا هزمْتهُ ؟ قال خالد : لا ، فقال الرجل : فلِمَ سُمِّيت سيف الله ؟ فقال خالد رضي الله عنه : إنّ الله بعثَ فينا رسوله فمِنَّا من صدَّقهُ ، ومِنّا من كذّبه ، وكنتُ فيمن كذّبهُ ، حتى أخذ الله القلوب إلى الإسلام ، وهدانا بِرَسُوله فبايعناه ، فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال لي : أنت سيفٌ من سيوف الله تعالى ، فهكذا سُمّيتُ سيف الله ، فقال القائد الروماني : وإلام تدعوني ؟ قال خالد : إلى توحيد الله وإلى الإسلام ، فقال القائد الروماني : هل لمن يدخل في الإسلام مثل ما لكم من المثوبة والأجْر؟ فقال خالدٌ : نعم ، وأفضَل ، فقال الرجل : كيف وقد سبقتموه ؟ قال خالد : لقد عشنا مع رسول الله ، ورأينا آياته ، وحُقّ لِمَن رأى ما رأينا ، وسمع ما سمعنا أن يُسلم في يُسْر ، أما أنتم ، يا معشر من لم ترَوْهُ ، ولم تسْمعوه ثمّ آمنتم بالغيب فإنّ أجركم أجزل وأكبر إذا صدقتم الله في سرائركم ، ونواياكم ، وصاح القائد الروماني ، وقد دفع جوادهُ إلى ناحية خالد ، ووقفَ بِجِواره علِّمني الإسلام يا خالد ، وأسْلم على يديه ، وصلّى ركعتين لم يصلّ سواهما ، ثمّ استأنف الجيشان القتال ، وقاتل جرجة الروماني في صفوف المسلمين مستميتًا في طلب الشّهادة حتى نالها ، وظفر بها .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حينما يضحّي الإنسان بحياته ، يُضحّي بأغلى شيءٍ يملكهُ، والجود بالنّفس أقصى غاية الجود ، لذلك الشّهداء يوم القيامة مع النبيّين والصِّدَّيقين .
إصابة الهدف أكبر ميزات السّلاح :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ألا إنّ القوّة الرَّمْيُ ، ألا إنّ القوّة الرَّمْيُ ، ألا إنّ القوّة الرَّمْيُ ))
هذا حديث دقيق ، مهما تقدّم السّلاح تبقى إصابة الهدف أكبر ميزات السّلاح ، فالقوّة في السلاح نابعة من إحكامه لإصابة الهدف ، فيقول عليه الصلاة والسلام :
(( ألا إنّ القوّة الرَّمْيُ ، ألا إنّ القوّة الرَّمْيُ ، ألا إنّ القوّة الرَّمْيُ ))
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
((إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة ؛ صانعه محتسباً به ، والمعين به ، والرامي به فى سبيل الله ))
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من تعلّم الرّمْي ثمّ تركهُ فليس منّا ))
أيها الأخوة الأكارم ، الأمّة العربيّة تواجهُ عدوًّا شرسًا ، إنّكم تسمعون كلّ يوم ما يجري في الأرض المحتلّة من أعمال عنفٍ يندى لها جبين البشريّة ، من أعمال وحشيّة تترفّع عنها وُحوش الغاب .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما أحْوَجنا في مواجهتنا مع عدوّنا أن نستنبط من معركة بدْرٍ الكبرى هذه الدروس والمواعظ ، والله سبحانه وتعالى ينصرُ المؤمنين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
صدقة الفطر :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وعدتكم في خطبةٍ سابقة أن أتحدّث عن صدقة الفطر ، أو عن زكاة الرأس كما يُسمّيها الفقهاء ، صدقة الفطر ، أو زكاة الفطر ، أو زكاة الرأس فرضها الله عز وجل طهرةً للصائم ، وطُعمةً للمساكين ، طهرةً للصائم ممّا بدرَ منه من لغْوٍ في الحديث ، أو زلّة في السّلوك عن غير قصْدٍ منه ، لأنّه لا صغيرة مع الإصرار ، وعَوْنًا للفقراء والمساكين والمُعْوِزين ، وإغناءً لهم عن السّؤال ، وهذه الزكاة تجبُ على كلّ مسلمٍ عندهُ قوت يومه ذكرًا كان أو أنثى ، صغيرًا كان أو كبيرا ، فقيرًا كان أو غنيًّا ، وعلى المسلم أن يدفع هذه الصّدقة عن نفسه أوّلاً ، ثمّ عن كلّ فرْد يمونهُ أي يطعمه ، أو يلي عليه أي يتولّى أمرهُ ، كزوجته وأولاده إن كانوا صغارًا ، ولا مورد لهم ، وعن أمّه وأبيه ، وإخوته وأخواته إن كان ينفق عليهم أو يتولّى أمرهم ، وتجبُ على المولود الذي يولد قبل صلاة العيد ؛ لأنّها زكاة الرّأس ، وهذا رأس ، وبعضهم يتطوّع تقرُّبًا إلى الله عز وجل فيدفع عن الجنين الذي في بطن أُمّه .
وأما مقدارها فهو نصف صاعٍ من برّ أي قمح ، أو صاعٌ من شعير ، عن كلّ فرْدٍ ، ويجوز دفعُ قيمتها بالنقد المتداول ، قبل أربعة عشر عامًا قدّرها العلماء بِلَيرتين سوريتين ، هكذا عندي في الورقة ، أما الآن فالعلماء قدّروا أنّ زكاة الفطر حدّها الأدنى الذي لا يجوز أن ينزل عنه خمسٌ وعشرون ليرة لكلّ رأسٍ ، وحدّها الأقصى بِحَسب الوُسع والغنى ، فهناك من يدفعُ عن كلّ شخصٍ مئة ليرة ، وهناك من يدفعُ مئتين ، فلا حدّ لأكثرها ، أما حدّها الأدنى فخَمْسٌ وعشرون ليرة .
شيءٌ آخر ؛ وتُدفع للفقراء والمساكين ، وأبناء السبيل المنقطعين ، والغارمين ممن تعذَّر عليهم قضاء ديونهم ، ويجوزُ أن تُعطى لمِسكينٍ واحدٍ أو لعدّة مساكين ، والأقربون من المستحقين أولى من غيرهم ، وأهل الإيمان والصّلاح أولى من غيرهم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنّ صوم رمضان معلَّقٌ بين السماء والأرض ، ولا يُرفع إلا بزكاة الفطر ، هناك ملاحظة ، وهي لو أنّ الإنسان دفع زكاة فطره إلى جمعيّة من الجمعيّات الخيريّة ، فينبغي أن يُعلمها ؛ لأنّ هذه الجمعية قد تأخذ هذا المال ، وتدفعهُ على التراخي ، بعد عيد الفطر ، فإذا وزعت هذه الزكاة بعد عيد الفطر فالصّيام يبقى معلَّقًا بين السماء والأرض ؛ زكاة الفطر أو الرأس بعد عيد الفطر صدقةٌ عاديّة لا تسقط زكاة الفطر ، فالذي يريد أن يدفع زكاة رأسه ، أو زكاة فطر لِجَمعيّات خيريّة ، ينبغي أن يُعلمها ، وأنا أنصح الجمعيّات الخيريّة أن تجعل أموال زكاة الفطر في حيِّزٍ مستقلّ حتى تنفقها قبيل اليوم الأوّل من أيّام عيد الفطر .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كما قلتُ قبل قليل زكاة عيد الفطر طُهرةٌ للصائم وطعمةٌ للمسكين ، طهرة مما بدرَ منه ، من لغو في الحديث ، أو نظْرة لا يريدها ، وطُعمةٌ للفقراء ، وإغناءٌ لهم في هذا الشّهر الكريم عن سؤال الناس .
المبادرة إلى دفع الصدقات :
الأسبوع الماضي جزاكم الله كلّ خير ، وقد ذكرت لكم أنّ تبرّعات هذا المسجد بلغَت تسعة عشر ألف ليرة ، ولم أكن أتوقّع أنّ الأسبوع الذي يليه قد دفعت جزاكم الله كلّ خير، وأكرمكم ، وحفظ لكم صحّتكم ، وأهلكم ، وأموالكم ، كان مجموع ما دفع في الأسبوع الماضي ثمانيةً وثلاثين ألفاً ، وقد قال لي بعضهم : إنّ هذا الرّقم يُعدّ رقمًا قياسيًّا من بين مساجد دمشق، فهذا من فضل الله علينا وعليكم ، لأنّ الله سبحانه وتعالى إذا سمح للعبد أن يعمل صالحًا فهذا من فضل الله عليه ، إذا أراد الله إظهار فضله عليك خلق الفضْل ونسبهُ إليك ، ولكنّ هذا الأسبوع فوجئتُ أنّ ستّ جمعيّات في وقتٍ واحد قد طلبَت هذا المسجد ، لماذا طلبَت هذا المسجد ؟ لِحُسْن ظنّها بكم ، لأنّها شعرَت أنّ هذا المسجد يحقّق أرقامًا قياسيّة في دفع التبرّعات وزكاة الأموال ، وزكاة الفطر ، فجمعيّة المساعدة الخيريّة ؛ دار العجزة ، وجمعيّة إغاثة فقراء الصالحيّة ، وجمعية أرباب الشعائر الدّينيّة ، وجمعية ركن الدّين الخيريّة ، وجمعيّة الشيخ محي الدّين الذي استأثرَت بهذا المبلغ في الأسبوع الماضي ، وجمعيّة القنوات الخيريّة ، هذه الجمعيات الستّ وضَعَت كلّ ثقتها بكم ، فادفعوا لها من زكاة أموالكم ، أو من زكاة فطركم ، أو من الصّدقات التي قال الله عنها :
﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
فادفعوا يدفع الله عنكم كلّ مكروه ، ولا تنسوا بعض الأحاديث الشريفة :" استمطروا الرّزق بالصّدقة " ، " صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ " ، " بادروا بالصّدقة فإنّ البلاء لا يتخطّاها "، " الصّدقة تقعُ في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير "، وهذا الشهر شهر الكرم ، وشهر الجود ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أجوَد ما يكون في رمضان ، فادفعوا يدفع الله عنكم كلّ مكروه ، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا. اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .