وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0194 - الأمانة - مفهومات الأمانة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الأمانة تعني التكليف .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ موضوع الأمانة الذي بدأتُ به في الأسبوع الماضي موضوعٌ طويل ، وموضوع جليل ، وموضوع خطير ، وقد بيَّنْتُ لكم أنّ أخطر ما فيه أنّ الأمانة تعني التكليف ، إنّ فلسفة وُجودك على هذه الأرض إنّها سرّ مجيئك إلى هذه الدنيا ، لو عرفْت هذه الأمانة لسَعِدْت في الدنيا والآخرة ، والدليل أنّ الله تعالى سبحانه وتعالى حينما قال :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب الآيات : 72-73 ]

 موقفك من حمْل الأمانة سيُحَدِّدُ مصيرك ، فمَعناها خطير ، موقفك من الأمانة ؛ إما أن تحملها كما ينبغي أن تُحْمل ، وإما أن تفرِّط بها ، موقفك منها يُحدّد مصير الإنسان ما إذا كان مؤمنًا ، يسعدُ إلى الأبد ، وما إذا كان مشركًا أو منافقًا .

 

الأمانة تعني نفسك التي بين جنبيك.

 وبيَّنتُ لكم أيضًا في الأسبوع الماضي أنّ هذه الأمانة تعني نفْسكَ التي بين جَنبيْك ، قال تعالى :

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس الآيات : 9-10 ]

 إن عرَّفتها ، وطهَّرتها ، وزكَّيتها ، فقد أفلحْت ونجحْت ، وهذا هو الفلاح الحقيقي ، وهذا هو الفوز العظيم ، والنجاح الكبير ، وهذا هو التفوّق ، وهذا هو العقل والذكاء ، قال تعالى :

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس الآيات : 9-10 ]

مقومات الأمانة .

 وبيَّنْتُ لكم أيضًا أنّ لهذه الأمانة مُقوِّمات .

أولاً : تسخير الكون .

 أولاها أنّ الله سبحانه وتعالى سخَّر لكم أيُّها البشر ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه ، سخَّر هذا الكون إكرامًا للإنسان ، قال تعالى :

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء الآية : 70 ]

 وسخّر هذا الكون تجسيدًا ، أو مظهرًا لأسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى فمِن خلاله تعرف الله عز وجل ، فيه علمهُ ، وفيه رحمته ، وفيه لطفه ، وفيه قدرته ، فإذا تنعَّمْت بما منحك الله عز وجل ، يجبُ أن يولدَ في نفسك شُعور الامتنان والشّكر .

 

ثانياً : العقل .

 وإذا جالَ عقلك في ملكوت السماوات والأرض ينبغي أن تعود من هذه الجولة وقد امْتلأَتْ نفسُك إيمانًا بِعَظَمتهِ ، قال تعالى :

﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾

[ سورة فاطر الآية : 28]

 وهذا الفِكرُ ، أو هذا العقل الذي أودعه الله فيك إنّما قد أودِعَ فيك لهدفٍ نبيل ، ألا وهو معرفة الخالق العظيم ، فإذا عطَّلْت ، أو أسأتَ استخدامه ، عطَّلْتهُ بعدم التفكير ، أو أسأت استخدامه ، بِحَشْرِهِ في موضوعاتٍ تافهة ، موضوعات زائلة ، موضوعات دُنيويّة ، موضوعات معاشيّة ليس غير ، فقد أسأْتَ استخدامه .

 

ثالثاً : الشهوة .

 وأودعَ فيك هذه الشهوات ، قال تعالى :

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 14]

 لِتَرقى بهذه الشهوات ؛ إما صابرًا أو شاكرًا إلى ربّ الأرض والسماوات ، تكسبُ المال الحلال فتشتري به الطّعام ، فتأكلهُ فتحمدُ الله على ذلك ، تعرضُ لك شُبهةٌ في كسْب المال ، فتقول : إنِّي أخاف الله ربّ العالمين فترقى إلى الله صبْرًا عن هذا المال الحرام ، تعرُض لك امرأة فتغضّ البصر فترقى صبْرًا ، تتزوّج فترقى شُكرًا ، إنّ هذه الشهوة أودِعَتْ في الإنسان لِيَرقى بها ، ولولاها لما كانتْ هناك جنّة .

 

رابعاً : الشرع.

 وفضلاً من الله بعث الأنبياء والرّسل ، وأنزلَ معهم الكتاب بالحقّ ، فكان هذا الشرع الحنيف منهجًا ودُستورًا دقيقًا تسير عليه ، فإذا ضلّ العقل ، أو انحرف القلب ، فالشّرْع هو الدليل ، والشرعُ هو المقياس ، والشّرع هو الطريق .

خامساً : الاختيار.

 وفوق هذا وذاك أعطاك حريّة الاختيار ، قال تعالى :

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

[ سورة الكهف الآية :29 ]

 قال تعالى :

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان الآية : 3 ]

 خمسُ مقوِّماتٍ مُنِحْتَ إيَّاها لِتُحسِنَ أداء التكليف ، وما حريّة الاختيار إلا لِيَصِحّ التكليف ، ولِيتحقّق التكليف ، وليَكون النجاح في التكليف ثمن الفوز العظيم في الآخرة ، هذا هو المعنى الأوّل ، أمانة التكليف .

 

الأمانة تعني التبليغ .

 والمعنى الثاني هو الأمانة العظمى أمانة التبليغ ، وهذه الأمانة حمَلَها الأنبياء والرُّسل ، حينما تقف أمام قبر النبي عليه الصلاة والسلام تقول : يا رسول الله أشهدُ أنّك بلَّغْت الرسالة ، وأدَّيْت الأمانة ، ونصحْت الأمّة ، ومحوت الظّلم ، وجاهدْت في الله حقّ الجهاد ، وهديْت العباد إلى سبيل الرّشاد ، وأما العلماء فهم أُمناء الرّسل ، وورثة الأنبياء ، قد وضع الله في أعناقهم هذه الأمانة ، أمانة الأداء أداء الرّسالة للناس ، عبَّر عن هذا سيّدنا الصّديق رضي الله عنه حينما قال : أيّها الناس ، إنّما أنا متَّبع ولسْتُ بمُبتدع ، لا يستطيع العالم أن يضيفَ شيئًا من عنده ، الكتاب كما نزل ، ومعانيه كما جاء بها السّلف الصالح ، والسنّة كما تحدَّدَتْ ، إنّما أنا متَّبع ولسْتُ بمُبتدع .

الأمانة تعني الولاية .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ موضوعات كثيرة عن الأمانة لابدّ من معالجتها لِيَكون الموضوع كاملاً ، من مُستويات الأمانة أمانة الولاية ، وهذه الأمانة تُكمّلُ أمانة التبليغ وأمانة الأداء ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ : السُّلْطَانُ ، وَالْعُلَمَاءُ ))

[ فوائد تمام الرازي ]

 فالورَع حسن لكن في العلماء أحسن ، والعدْل حسن ، ولكن في الأمراء أحسن .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ تروي فاطمة بنت عبد الملك زوجة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ، قالَتْ :
 دخلْتُ على عمر يومًا في مُصلاّه ، واضعًا خدَّه على يده ، ودُموعه تسيل ، فقلتُ له : ما بالُكَ ؟ وفيما بُكاؤُك ؟
 فقال : ويْحَكِ يا فاطمة ، إنِّي قد وُلِّيتُ هذا الأمر ففكَّرْتُ في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والمظلوم المقهور ، والغريب ، والأسير ، والشيخ الكبير ، والأرملة الوحيدة ، وذي العيال الكثير ، والرّزق القليل ، وأشباههم في أطراف البلاد فعلِمْتُ أنّ ربّي سيسْألني عنهم جميعًا يوم القيامة ، وأنّ خصمي دونهم يومئذٍ محمّد صلى الله عليه وسلّم ، فخَشيتُ أن لا تثبُتَ لي حجّة ، فلذلك أبكي .

 

الأمانة تعني أمانة التَّوليَة.

 أيّها الإخوة المؤمنون ؛ من فروع ولاية الولاية أمانة التَّوليَة ، وهي أن يوضَعَ كلّ رجلٍ في مكانه الصحيح ، اللائق به ، وأن يُسْندَ كلّ عملٍ لصاحبه الحقيق به .
 فعن أبي ذرّ رضي الله عنه ، قلتُ يا رسول الله : ألا تستعملني ؟ قال :

(( فضربَ بيَدِهِ على منكبيّ ، ثمّ قال : يا أبا ذرّ ، إنّك ضعيف ، وإنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خزيٌ وندامة ، إلا من أخذها بِحَقّها ، وأدّى الذي عليه فيها ))

[ رواه مسلم ]

 سيّدنا عمر رضي الله عنه ، عملاق الإسلام ، أسْنَدَ إلى رجلٍ ولايةً ، وأراد أن يمتحنهُ لِيَتَحقّق من أهليّته ، وأن يوجّههُ لِيُحقّق مهمّته ، سألهُ ماذا تفعل إذا جاءك الناس بِسارقٍ أو ناهب ؟ قال : أقطعُ يدهُ ، قال عمر : إذًا فإن جاءتْني من رعيّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطعُ يدك ، يا هذا إنّ الله قد استخلفنا عن خلقه ، لِنَسُدَّ جوعتهم ، ونسْترَ عوْرتهم ، ونُوَفِّرَ لهم حرفتهم ، فإن وفَّيْنا لهم ذلك تقاضيْناهم شُكرًا ، إنّ هذه الأيدي خُلِقَتْ لِتَعْملَ فإن لم تجد في الطاعة عملاً الْتَمَسَتْ في المعصية أعمالاً ، فاشْغَلْها بالطاعة قبل أن تشْغلْكَ بالمعصيَة .
 تحدَّثنا حتى الآن عن أمانة التكليف ، وعن أمانة التبليغ ، وعن أمانة الأداء ، وعن أمانة الولاية ، وعن أمانة التوليَة ، وبقيَ أمانة المجالس .

 

الأمانة تعني أمانة المجالس .

 من معاني الأمانة ، أن تُحفظ حقوق المجالس التي تُشارك فيها أيّها المؤمن فلا تدَعْ لِسانك يُفشي الأسرار ، ويسْرد أخبارها ، فكَمْ من حِبالٍ تقطَّعَت ومصالِحَ تعطَّلَت لاستهانة الناس بأمانة المجلس ، وذِكْر ما يدور فيه من كلام ، منْسوبًا إلى قائله أو غير منسوب ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( إذا حدَّثَ رجلٌ رجلاً ثمّ الْتَفَت فهو أمانة ))

[ رواه أبو داود ]

 لا داعي أن يقول لك هذا الكلام بيني وبينك ، لا داعي أن يقول لك : هذا الكلام يجبُ أن تحفظهُ ، لا داعي أن يبقى هذا الكلام سِرًّا ، يكفي أن يلتفِتَ يمْنةً أو يسْرةً ، فالْتِفاتهُ دليل أنّ هذا الكلام يجبُ أن يبقى سرًّا ، فالمجالسُ بالأمانة ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام :

(( إذا حدَّثَ رجلٌ رجلاً ثمّ الْتَفَت فهو أمانة ))

[ رواه أبو داود ]

 ويا أيّها الإخوة المؤمنون ؛ حُرمات المجالس تُصان ، ما دام الذي يجري فيها مضبوطًا في حدود الأدب والشّرْع ، وإلا فليسَتْ لها حرمة ، قال عليه الصلاة والسلام : المجالسُ بالأمانة إلا ثلاثة مجالس ؛ مجلسٌ سُفك فيه دمٌ حرام ، هذا المجلس ليس بالأمانة ، ويجب أن تفشيَ سرّه ، ما دام قد سُفك فيه دمٌ حرام ، ومجلسٌ انتُهِكَ فيه عرضٌ حرام ، ومجلسٌ اقْتُطِعَ فيع مالٌ حرام ، ففي المجلس الذي يُعتدى فيه على الحقوق ، وعلى الأعراض ، وعلى الأرواح ؛ هذه المجالسُ مُستثناةٌ من حقوق الأمانة .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ العلاقات الزوجيّة في نظر الإسلام لها قداسةٌ ، وأيّة قداسة ، فما يضمّه البيت من شؤونٍ بين الرجل والمرأة يجبُ أن يُطْوَى في أستارٍ مُسبلة ، فلا يطَّلعُ عليه أحدٌ مهما قربُ .
 روى مسلمٌ في صحيحه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :

(( إنّ من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرّجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ، ثمّ ينشرُ سِرَّها ))

[ رواه مسلم ]

 أيّها الإخوة المؤمنون ؛ موضوع الأمانة موضوعٌ كبير ، وجليل ، وخطير ، ولكنّ الفكرة الأساسيّة هو أنّ الذي لا يعرف أمانة التكليف ، لا يمكن أن يعرفُ أمانة نفسه ، لا يمكن أن يعرف أمانة الخلْق ، كلّ هذه الأنواع ، أمانة الرّجل مع امرأته ، أمانة المجلس ، أمانة أداء الواجبات التي فصَّلتُ فيها في الأسبوع الماضي ، أمانة الولاية ، أمانة التوليَة ، أمانة التبليغ ، وأمانة الأداء ، كلّ هذه الأنواع لا يمكن أن تُحقّق إلا إذا عرف الإنسان أمانة التكليف ، من عرف نفسه عرفَ ربّه .
 أيّها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .

مفهومات الأمانة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ ومن مفهومات الأمانة أن يكون الطفل الرضيعُ أمانةً في عُنق أمّه ، فيجبُ عليها أن ترضعهُ من ثدْيِها .

 

حليب الأم :

 لأنّ لبن المرأة كما يقول العلماء : مُبهرٌ ومدهشٌ ، تعجزُ عن تركيبه بِخَصائصه قوى البشر ، ولو اجتمعَتْ ، وأضخم المعامل ولو تظافرت ، تركيبهُ أيّها الإخوة في تبدُّلٍ مستمرّ ، في تبدُّلٍ يومي ، بِحَسبِ حاجات الرضيع ، وبِحَسب متطلّباته ، وبِحَسب احتمال أجهزته وأعضائه ، وهو أكثرُ ملاءمةً ، وأكثرُ احتمالاً وأقلّ ضررًا ، وهو آمنُ طرق التغذية من حيث الطهارة ، ومن حيث التعقيم ، يؤخذ من الحلمة مباشرةً دون التعرّض للتلوّث الجرثومي ، حرارته ثابتةٌ ، خلال الرّضعة الواحدة ، يصْعبُ توافرُ هذا الشّرْط في الإرضاع الصّناعي ، وفوق ذلك فهو لطيفٌ الحرارة في الصّيف دافئ في الشّتاء ، وهو سهْلُ الهضْم ، لا تتجاوزُ فتْرةُ هضمه عن الساعة النّصف ، بينما تزيدُ هضم حليب القارورة عن ثلاث ساعات ، والطّفل الذي يرضع من ثدْيِ أُمّه يكتسبُ مناعةً ضِدّ كلّ الأمراض ؛ لأنّ في حليب الأمّ مواد مضادّة للالتهابات المعويّة ، والتنفسيّة ، ومواد تمنعُ التصاق الجراثيم بِجدار الأمعاء ، ومواد حامضيّة ، تقتلُ الجراثيم ، والإرضاع الوالديّ ، يقي من أمراض الكوليرا ، والشّلل ، والكزاز ؛ لأنّ مناعة الأمّ كلّها في حليبها ، فهو يقي في المرضع أورام الثّدي الخبيثة ، ويقي في الرضيع الآفات القلبيّة والوِعائيّة ، وأمراض التغذية والاستقلاب ، بل إنّ الفطام السريع يُحدث ردًّا نفسيًّا ، وانحرافًا سلوكيًّا .
 وهو سهلُ التحضير ليلاً ، أو نهارًا ، في الحضَر أو في السفر ، لأنّه جاهزٌ دائمًا بالحرارة المطلوبة ، والتعقيم المِثالي ، والسّهولة في الهضم ، وفيه المناعة التي تقي معظم الأمراض ، قال تعالى :

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

[ سورة البلد الآيات : 4-10 ]

 قال عكرمة وابن المسيّب : النَّجدان همّا الثَّدْيان ، هديّة

تداركتَنَا باللُّطف في ظلمة الحشـا وخير كفيلٍ في الحشا قد كفلتنا
وأسْكنْتَ قلب الأمّهات تعطّفًا علينا   وفي الثَّدْييْن أجْريْتَ قوتــنا
وأنشأتنا طفلاً وأطلقْـــتَ ألْسُنًا  تُتَرْجِم بالإقرار أنّك ربّـــنا
وعرَّفتنا إيّاك فالحمد دائــــمًا  لِوَجهك إذْ ألْهَمْتنا منك رشـدنا

الدعاء :

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور