وضع داكن
18-04-2024
Logo
الخطبة : 0366 - دلالة إلهية عن طريق النبي على أعمال إذا فعلتها أحبك الله .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الله تعالى يحب أن يرى جمال عبده الباطن و الظاهر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في الخطبة السابقة بدأنا موضوعاً منتزعاً من كتاب الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير ، وهذا الكتاب رتبت أحاديثه بحسب الكلمات والحروف ، فتأتي موضوعات عدة متتابعة ، اخترت لكم في الأسبوع الماضي من بين هذه الأحاديث طائفةً من الأحاديث تبدأ بقول النبي عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى يحب " .
 وكلمة محبة الله عز وجل فسرتها في الخطبة السابقة بأن الإنسان إذا فعل معالي الأمور ، وابتعد عن سفاسفها ، كبر في عين الله عز وجل ، وحفظه الله ، ورحمه ، وأسعده في الدنيا والآخرة .
 نتابع هذا الموضوع ولا زلنا في الأحاديث الشريفة التي تبدأ بقول النبي عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى يحب "، يقول عليه الصلاة والسلام :

((‏إن الله تعالى يحب الناسك النظيف‏))

[‏ الخطيب عن جابر تصحيح السيوطي : ضعيف‏ ]

 الناسك ؛ هو المتعبد ، المتعبد ؛ هو القائم بأوامر الله ، المجتنب لنواهيه ، المطبق لتوجيهاته ، النسك العبادة ، الناسك العابد ، لكن هذا الناسك قيده النبي عليه الصلاة والسلام بأنه النظيف ، وقال شراح الحديث : نظيف البدن ، نظيف الثوب ، نظيف المكان ، نظيف البيت ، نظيف مكان عمله ، إن الله تعالى يحب الناسك النظيف‏ ، وأضاف شرّاح الحديث نظافة القلب من الضغن ، والحقد ، والكبر ، وحب الذات ، هناك أمراض تصيب القلب ، وهناك دنايا تلحق بالنفس ، فحينما قال عليه الصلاة والسلام : ‏

((‏إن الله تعالى يحب الناسك النظيف‏))

 ذكر النظيف مطلقة من دون قيد ، إذاً نظيف القلب ، نظيف اليد ، نظيف اللسان، نظيف البدن ، نظيف الثوب ، نظيف المسكن . قال العلماء : إن الله سبحانه وتعالى كما يحب أن يرى جمال عبده الباطن ، يحب أن يرى قلبه ورعاً ، متعففاً ، كريماً ، منصفاً ، متواضعاً ، يحب أن يرى جمال عبده الظاهر ، لذلك ورد عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( ‏أحسنوا لباسكم ، وأصلحوا رحالكم ، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس))

[ رواه الحاكم عن سهل بن الحنظلية ، تصحيح السيوطي : صحيح‏ ]

 وقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يرتدي أجمل ثيابه يوم الجمعة، وفي الأعياد ، وفي استقبال الوفود ، وكان علية قومه يفعلون ذلك ، أي إهمال المظهر ، إهمال النظافة ، ليس من الدين في شيء ، بل إن الدين يحارب هذا السلوك ، الذي يعطي فكرة لا ترضي عن الدين .

 

التّجمل المباح :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هناك جمال في الظاهر مذموم ، وهناك جمال في الظاهر مرغوب ، وهناك جمال لا مذموم ولا مرغوب ، فمن حسن مظهره ، وجمل ثيابه ، واعتنى بشكله وأناقته ، بغية أن يستعين بها على طاعة الله ، وألا يكون في موضع صغير أمام الناس ، فهذه طاعة عليها ثواب ، وهناك تجمل مذموم أن يقصد بهذا التجمل الكبر ، والعلو في الأرض ، أما إذا خلا التجمل من القصدين معاً فهو تجمل المباح ، لا مذموم ولا مرغوب ، لكن أنت كمؤمن تمثل هذا الدين ، فإذا كان في مظهرك خلل أو في ثيابك دنس أو في مظهرك العام ما ينفر ، سببت لضعاف الإيمان أن ينفروا من الدين ، فلذلك قال بعض الشعراء :

حسّن ثيابك ما استطعت فإنـهــا  زين الرجال بها تعز وتكـــــرم
ودع التواضع في الثياب تخشناً  فالله يعلم ما تسر و تــكتــــــم
فرثاث ثوبك لا يزيـــــــــــدك رفــعة  عند الإله وأنت عبد مجــــــرم
وجديد ثوبك لا يضرك بعــــد أن  تخشى الإله وتتقي ما يحرم
* * *

 أيها الأخوة الأكارم ؛ عودة إلى نص الحديث الشريف :" إن الله تعالى يحب الناسك النظيف " وإذا شئت أن تتوسع في كلمة نظيف ، نظيف في قلبه ، نظيف في لسانه ، نظيف في يده ، نظيف بالمعنى المادي في بدنك ، في ثيابك ، في مسكنك ، وفي مركز عملك.

 

إن الله يحب من وسع عليه أن يوسع على عياله و أقربائه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يحب أهل البيت الخصيب ، ومعنى الخصيب كثير الخير ، فصاحب البيت إذا وسّع الله عليه ، يحب الله عز وجل أن يوسع على عياله ، وعلى جيرانه ، وعلى ذوي قرابته ، وعلى ذوي الحاجة ، هذا معنى قول النبي :

((إن الله تعالى يحب أهل البيت الخصيب))

[ رواه ابن أبي الدنيا في قرى الضيف عن ابن جريج معضلاً]

 صاحب البيت إذا وسع الله عليه ، فالله يحب منه أن يوسع على عياله ، وأن يوسع على جيرانه ، وعلى ذوي قرابته ، وعلى ذوي الحاجة .

 

الله تعالى يحب أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((إن الله تعالى يحب أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال))

[ رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي ، تصحيح السيوطي : ضعيف‏ ]

 الدخل الحلال يعني أن هناك عملاً مشروعاً تعمله ، وتكسب منه الدخل ، وكل عملٍ مشروع في أصله نفع للمسلمين ، حينما تعمل عملاً مشروعاً ، وتأخذ رزقاً حلالاً طيباً من هذا العمل ، فعملك في أصله فيه نفعٌ للمسلمين ، إن الله تعالى يحب أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال ، ولحكمة أرادها الله عز وجل أن كسب المال الحرام يسير ، وأن كسب المال الحلال يحتاج إلى تعب كثير ، لو أن الحرام يأتي صعباً ، والحلال يأتي سهلاً لأقبل الناس على الحلال لا حباً بالحلال ، ولا حباً بالله عز وجل ، ولا طلباً للثواب ، ولا ابتغاء أن يصلوا إلى الجنة ، بل ابتغاء أن يصلوا إلى مصالحهم بأيسر طريق ، ولكن حكمة الله التي جعلت من الدنيا دار بلاء ، ودار امتحان ، جعلت كسب المال الحلال صعباً ، وربما كان كسب المال الحرام سهلاً ، فلذلك : إن الله تعالى يحب أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال ، الحلال قبل كل شيء فيه نفع للمسلمين ، لا يكون الرزق طيباً إلا من عمل حلال ؛ من حرفة ، من زراعة ، من صناعة ، من تجارة ، من خدمات تؤدى للمسلمين ، ما من رزق حلال إلا بسبب عمل حلال مشروع ، وكل عمل مشروع في أصله نفع للمسلمين ، فمن نفع المسلمين بصناعته ، أو بزراعته، أو بتجارته ، أو بعلمه ، أو بخبرته ، أو بطبه ، أو بفهمه ، أو ما إلى ذلك ، فقد نفع المسلمين .

 

فوائد الكسب الحلال :

 شيء آخر : طلب الحلال أيها الأخوة ، أو التعب في طلب الحلال ينفي عن النفس أكبر أمراضها ، وهو اللهو والبطالة ، من لوازم البطالة اللهو ، ومن لوازم اللهو الفسق والفجور ، بطالة ، لهو ، فساد ، فأي بطالة تؤدي إلى اللهو ، ومع اللهو المعصية ، فمن بات تعباً في طلب الحلال نفى عن نفسه البطالة ، ونفى عن نفسه اللهو ، ونفى عن نفسه ما يرافق اللهو من معصية وفجور ، ومن كان تعباً في طلب الحلال كسر نفسه وأبعدها عن الطغيان والترفع ، ومن طلب الحلال تعباً فقد تعفف عن ذلّ السؤال ، هذه كلها فوائد الكسب الحلال ، الكسب الحلال يبعدك عن ذل السؤال ، والكسب الحلال يبعدك عن طغيان النفس ، الإنسان إذا لم يعمل ، وأخذ المال بسهولة ، لا قيمة لهذا المال عنده ، ينفقه بطيش وفساد رأيٍ ، وعندئذٍ يستعلي على الناس ، إنفاق المال من دون كسب يجعل في النفس استعلاء على الناس ، إذاً طلب المال الحلال فيه نفع للناس ، وفيه سلامة من اللهو والبطالة والفساد ، وفيه بعد للنفس عن طغيانها واستعلائها ، وفيه تعفف عن ذلّ السؤال .

الرزق من الله تعالى لا من سعي الإنسان :

 ولكن هناك شرطاً أيها الأخوة هو أن تعتقد أن الرزق لا من سعيك إنك مأمور بالسعي ، ولكنه من الرزاق ، ولكن الرزق من الرزاق ، فإذا اعتقدت أنك بعملك وسعيك وجهدك ودأبك تكسب المال فقد أشركت بالله وأنت لا تدري ، ورد في بعض الأحاديث : عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ قال :

((إني لأرى الرجل فيعجبني ، فأقول : له حرفة ؟ فإن قالوا : لا ؛ سقط من عيني))

[ رواه الدينوري عن عمر]

 بعض العلماء أعطى الاحتراف حكم الوجوب ، أي أنت مفروض عليك أن تطلب الحلال بعرقك ، بكدك وعرق جبينك ، لماذا ؟ ما التعليل ؟ لأنك مطالب أن تعبد الله عز وجل ، ولن تستطيع أن تعبده إلا إذا وفرت لجسمك حاجاته الأساسية ، ولن تتوافر هذه الحاجات الأساسية إلا من خلال كسب الرزق ، فما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب ، أما إذا كنت عالة على الناس ، حينما دخل النبي عليه الصلاة والسلام ورأى رجلاً يصلي في المسجد سأله من يطعمك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك ، ما دمت أمرت أن تعبد الله ، وأن تؤدي ما افترض عليك ، فأنت لن تقوى على عبادة الله وعلى طاعته إلا إذا تناولت الطعام ، ولبست الثياب ، وأويت إلى مسكن ، وكان لك زوجة وأولاد ، إذاً ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، هذا ما دعا العلماء إلى أن يقولوا : إن الاحتراف واجب ، بل إن العبادة تحتاج إلى حاجات أساسية لا يوفرها إلا كسب الرزق الحلال .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول بعضهم : من تعطل ، أو تبطل ، انسلخ من الإنسانية وانسلخ من الحيوانية ، لأن أكثر الحيوانات تسعى لكسب رزقها ، وأصبح من جنس الموتى ، وأصبح عبئاً على الناس ، وعالة عليهم ، وأصبح ينظر من منظار في برج عاجي .

 

عدم تناقض الاحتراف مع التوكل :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ يتمم هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف ))

[ رواه الحكيم والطبراني والبيقهي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهما تصحيح السيوطي : ضعيف‏ ]

 يؤكد هذا قول الإمام علي كرم الله وجهه : " قيمة الرجل ما يحسنه " ليكون المسلم علماً ، ليكون المسلم في موطن إكبار من قبل الناس ، لتكون يد المسلم هي العليا ، وليست هي السفلى ، ليكون المسلم داعية إلى الله بعمله ، فضلاً عن قوله ، ليكون المسلم في موضع تنظر إليه العيون بإكبار ، لا بد من أن يكون له حرفة وأن يتقن هذه الحرفة لتكون هذه الحرفة سبيلاً له إلى تعريف الناس بحقيقة الإسلام .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الاحتراف لا يتناقض مع التوكل ، لأن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ عملاق الإسلام ، حينما رأى قوماً يتكففون الناس ، قال : من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ، قال : كذبتم ؛ المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله ، والشيء الثابت هو أن التوكل مكانه القلب ، وأن السعي مكانه الجوارح ، فمن توكل بجوارحه فترك العمل ، وسعى بقلبه فقد وقع في تناقض كبير ، التوكل محله القلب .

 

محبة الله تعالى للعبد المتعفف الفقير :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ‏

((إن الله تعالى يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال))

[ رواه ابن ماجه عن عمران تصحيح السيوطي : حسن‏ ]

 أي المؤمن تحبه غنياً ، وتحبه فقيراً ، تحبه صحيحاً ، وتحبه مريضاً ، لأن المؤمن يقع في المكان الكامل في كل أحواله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى يحب عبده المؤمن الفقير - لكن أي فقير ؟- المتعفف - والمتعفف الذي يجتهد ، ويبالغ في إظهار عفته وتجمله وترفعه عن أموال الأغنياء - ‏إن الله تعالى يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال " لماذا ؟ لم يقل النبي : إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف لأن الفقير من دون إيمان لن يتعفف ، سيبذل ماء وجهه رخيصاً ، سيتضعضع أمام الأغنياء ، سيكثر من الشكوى ، سيجعل من نفسه متسولاً ، أما المؤمن إذا كان فقيراً ، بذل كل جهده ، وسعى كل سعيه ، وشاء الله له أن يكون كذلك ، ولا حيلة له ، فسيتخلق بالأخلاق التي ترضي الله من الفقراء ، ما الأخلاق التي ترضي الله من الفقراء ؟ قال : التعفف ، والتعفف المبالغة في العفة عن سؤال الخلق مع وجود الحاجة ، لأن المؤمن تعلقت بصيرته بالخالق دون الخلق ، وبالرزاق دون الرزق ، فهو إلى المنعم ينظر لا إلى النعمة ، فهذه النظرة العميقة جعلته متعففاً ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

((‏مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لأَجْلِ غِنَاهُ ذَهَبَ ثُلْثَا دِيِنِه))

[ رواه البيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ ]

 لذلك يندب من الفقير أن يظهر التجمل والتعفف ، وألا يظهر الشكوى والفقر ، وقد وصف الله تعالى الفقراء الذين يستحقون العطاء :

﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾

[ سورة البقرة : 273 ]

 لذلك قال بعض العلماء : من آداب الفقير ألا يتواضع لغني بسبب غناه ، إذا تواضع لغني بسبب أخلاقه العلية لا يوجد مانع ، إذا تواضع لغني بسبب تقواه لا يوجد مانع ، إذا تواضع لغني بسبب علمه لا مانع ، أما أن يتواضع الفقير للغني بسبب وحيد وهو أنه غني فهذا مما نهى عنه أهل الفقه ، لذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه : " تواضع الغني للفقير رغبة في الثواب حسن ، لكن تيه الفقير على الغني ثقة بما عند الله أحسن ". ‏إن الله تعالى يحب عبده المؤمن الفقير ، أنا لئلا يفهم الحديث على نحو ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام ، الفقير الكسول هذا مذموم ، لكن هناك حالات يسعى الإنسان جهده ، يبذل كل طاقته ، فلا يصل إلى مبتغاه ، ويبقى فقيراً ، معنى ذلك أن حكمة بالغة وراء هذا الفقر ، فإذا كان مؤمناً وشاءت الحكمة الإلهة أن يكون كذلك ، فأخلاق الفقير التي يحبها الله عز وجل هي التعفف ، والتجمل ، ألم يقل سيدنا عمر لهذا الأعرابي : بعني هذه الشاة وخذ ثمنها ؟ قال : والله إنني في أشدّ الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟ هذا التعفف ، ليس معنى التعفف أن تكون لست بحاجة ، أنت في أشدّ الحاجة ، وفي أمس الحاجة ، ولكنك تثق بالله عز وجل ، ولا تحب أن تبذل ماء وجهك لمن يشمت بك ، ولمن يزري بإيمانك ، فتعففت وتجملت ، وهذا مما يرضي الله عز وجل .

 

محبة الله عز وجل للقلب اللين كثير العطف و الرحمة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ‏

((إن الله تعالى يحب كل قلب حزين))

[ رواه الطبراني والحاكم عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ تصحيح السيوطي : حسن‏ ]

 هذا الحديث الشريف يحتاج إلى توضيح طفيف ، معنى القلب الحزين في هذا الحديث القلب اللين ، كثير العطف والرحمة ، القلب المنكسر من خشية الله ، القلب المهتم بأمر دينه ، خائف من تقصيره ، لا يدري ما مقامه عند الله ، أراضٍ عنه الله أما ساخط ؟ يخشى على دينه أن يمسه شيء ، يخشى أن يكون غير ورعٍ ، يخشى أن يكون مقصراً ، القلب الحزين أي يخاف من حساب الله عز وجل ، يخاف ألا يكون مرضياً عند الله ، يخاف أن يكون في إيمانه خلل ، أن يكون في استقامته تقصير ، هذا الخوف على مكانة العبد عند ربه هو خوف مقدس ، يحب الله عز وجل ، لذلك معنى القلب الحزين ليس حزيناً على الدنيا ، النبي عليه الصلاة والسلام يصف ويقول :

((‏مَنْ أَصْبَحَ حَزِيْنَاً عَلَى الْدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطاً عَلَى رَبِّه‏))

[ رواه البيهقي في الشعب من حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ ]

 وسيدنا الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ فيما يوصف به بأنه ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط ، إطلاقاً ، لكن الحزن هنا ليس على الدنيا بل على دينه ، صلى صلاة فلم تعجبه صلاته فصار حزيناً ، جلس ليقرأ القرآن فلم ينشرح صدره له فصار حزيناً ، أراد أن يفعل صالحاً ففاته هذا العمل الصالح فصار حزيناً ، قرأ القرآن رأى آيات المؤمنين لم ير أنها تنطبق عليه تمام الانطباق فأصبح حزيناً ، ذهب إلى العمرة والحج فلم تكن أحواله عند الطواف وعند السعي كما يصف العلماء الطواف والسعي ، فصار حزيناً ، أي حزنه يأتي من شعوره بالتقصير ، من خوفه على مصيره ، من خوفه ألا يكون عند الله مقبولاً ، يعمل العمل الصالح ويخشى أن يكون فيه رياء ، يحزن ، لعلي أردت به السمعة والرياء ، لعل الناس إذا مدحوني ارتحت لهذا المديح ، فاستغنيت به عن فضل الله عز وجل ، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى يحب كل قلب حزين " أي قلبه لين ، كثير العطف والرحمة ، منكسر من خشية الله ، مهتم بأمر دينه ، خائف من تقصيره ، وقد شرح بعضهم هذا الحديث بأن الله تعالى يحب كل قلب تخلق بأخلاق المعرفة ، أي إذا عرفت الله ، قلبك يخاف منه ، ويرجوه ، ويحبه ، ويستحي منه ، ويسعى لمناجاته والاتصال به ، أعمال قلب المؤمن يحبها الله عز وجل .

((‏من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن‏))

[ ‏أحمد والترمذي الحاكم عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ تصحيح السيوطي : صحيح‏ ]

 جلس في مجلس وكان الحديث لا يرضي الله ، لما لم أقم ؟ لماذا بقيت معهم ؟ يحاسب نفسه ، وقد أثنى الله عز وجل على النفس اللوامة قال :

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

[ سورة القيامة : 1 ـ 2 ]

 بعض العارفين ناجى ربه فقال : يا رب طهرت بدني بالماء فبم أطهر قلبي ؟ فوقع في قلبه أن طهره بالحزن ، لأن الحزن يطهر القلب ويجعله صافياً ، والقلب الذي لا حزن فيه كالبيت الخرب ، الحزن المقدس ليس الحزن على الدنيا ، فاتك هذا البيت ، فاتتك هذه الصفقة ، هذه الفتاة خطبت سبقك أحدهم إليها ، هذا الذي يحزن على شيء فاته من الدنيا ليس ممدوحاً عند الله عز وجل ، بل إن النبي يذمه ، ‏مَنْ أَصْبَحَ حَزِيْنَاً عَلَى الْدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطاً عَلَى رَبِّه‏ .
 قال بعضهم : رأيت الإمام الأوزاعي قلت له : دلني على عمل أقترب به إلى الله تعالى ؟ فقال الإمام الأوزاعي : ما رأيت درجة أرفع من درجة العلماء ، ثم المحزونين ، أي أنت تلقيت العلم ، أجريت موازنة بين ما تسمع وبين واقعك رأيت هنالك مسافة ، هذه المسافة تجعلك حزيناً باستمرار ، ليست هذه هي الصلاة ، تصلي ولا تعجبك صلاتك ، تقرأ القرآن لا ترى أنك تقرؤه بوقر ، تشعر بالحزن ، فحينما تستمع إلى وصف إنسانٍ مؤمنٍ تقيٍ ، وحينما تعاين نفسك ، ترى مسافة بين الواقع والوصف وهذا الذي يورث الحزن .

 

الأخذ بالرخص :

 أيها الأخوة الأكارم ؛

((‏إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته))

[أحمد وابن حبان والبيهقي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ تصحيح السيوطي : صحيح‏ ]

 فالرخصة تسهيل حكم شرعي بعذر ، كأن تقصر من الصلاة في السفر ، وكأن تفطر في رمضان إذا كنت مريضاً ، هذه الرخصة ، هناك من يترفع أن يأخذ بالرخص ، قال العلماء : إن أخذ الرخصة يدفع الكبر عن النفس ، فكل من ترفع عن استباحة شيء أباحه الشرع فقد ترفع عن الشرع ، ومن أنفَ إباحة الشرع وترفع عنه فقد فسد دينه ، فلذلك يكاد العلماء يرون أن الأخذ بالرخصة واجب ، لأنه يدفع عن النفس كبرها ، ويدفع عن النفس استعلائها ، ولأن هذا العبد قَبِل من الله الرخص التي أجازها له ، فهذا تواضع ومعرفة وعبودية لله عز وجل ، أما الإمام الغزالي فله رأي آخر يقول : إن الرخص التي رخص الله بها لعباده المؤمنين هي في حقيقتها أو من بعض معانيها .
 هناك طلاب ضعاف لا يصلون لهذه الدرجات العليا ، لذلك يدعون الدراسة كلها، فتطييباً لقلب الضعاف قبلنا منهم أن ينجحوا بعلامات متوسطة ، فإذا جاءت الرخص من الله عز وجل فهناك حكمة بالغة وهي تطييب لقلب الضعفاء ، ودفع لهم للسعي في طلب مرضاة الله عز وجل لئلا يتركوا الخير كله إذا طولبوا بمنتهى الخير .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

دلالة إلهية عن طريق النبي على أعمال إذا فعلتها أحبك الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ لسان حال كل مؤمن : يا رب دلني على عمل يرضيك ، دلني على عمل تحبني به ، دلني على عمل أبتغي عندك الرفعة ، دلني على عمل أنجو به من عذاب الدنيا والآخرة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق هو الذي يدلك على هذه الأعمال ، أي هذه الخطبة كلها في حقيقتها دلالة إلهية عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام على أعمال إذا فعلتها أحبك الله ، فلذلك أذكركم بهذه الأحاديث ، وأتلوها عليكم تلاوةً . " إن الله تعالى يحب أهل البيت الخصيب " أي إذا كان صاحب البيت قد وسع الله عليه ، عليه أن يوسع على عياله ، وعلى جيرانه ، وعلى ذوي قرابته ، وعلى ذوي الحاجات . ‏
 " إن الله تعالى يحب الناسك النظيف‏ " ، " ‏إن الله تعالى يحب كل قلب حــزين " ، " إن الله تعالى يحب أن يرى عبده تعباً في طلب الحلال" ، " ‏إن الله تعالى يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال " . والحديثان الأخيران :

((‏إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم ، حتى في القبل‏))

[‏ابن النجار عن النعمان بن بشير تصحيح السيوطي : ضعيف‏ ]

 إذا كنت ترجو الله عز وجل واليوم الآخر ، فهذا مما يرضي الله ، أن تعدلوا بين أولادكم ، حتى في القبل‏ ، وحينما قال النبي الكريم : تعدلوا بين أولادكم ، نسأل : في ماذا يا رب؟ يا رسول الله في ماذا ؟ لن يذكر في ماذا وإذا لم يذكر في ماذا ففي كل شيء ، هذه قاعدة: إذا افتقر الفعل إلى مفعول به فقد أطلق ، وإذا افتقرت الجملة إلى فضلة تتممها فقد أطلقت ، إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم ، لو قال في الميراث ، لو قال في العطاء ، لو قال في الهبات ، قيد ، ‏إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم ، ومادام النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد البلغاء لم يقل في ماذا إذاً العدل واجب في كل شيء ، أخذت لهذا الولد بيتاً خذ للثاني بيتاً ، أعطيت لهذا مركبة ولهذا مركبة ، أعطيت لهذا مبلغاً من المال ولهذا مثله ، أثنيت على فلان وقربته منك وأبعدت فلاناً ، نشأت العداوة والبغضاء ، ‏إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم ، حتى في القبل‏ . والحديث الأخير : ‏

((إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها))

[الطبراني عن الحسن بن علي ، تصحيح السيوطي : حسن‏ ]

 فمعالي الأمور هي الأخلاق الرضية والخصال الدينية لا الدنيوية ، لأن العلو في الدنيا نزول ، ولن تعلو إلا إذا كنت مع الله ، ولن تعلو إلا إذا كان عملك طيباً يرضي الله عز وجل ، فمن اتصف بالأخلاق الذكية أحبه الله ، ومن اتصف بالأخلاق الكريهة الرديئة كرهه الله، وشرف النفس صونها عن الرذائل والدنايا والمطامع القاطعة لأعناق الرجال ، وليس المراد من أن تبتغي العلو ، الأعمال العالية التي تعلو بها على الناس ، هذا ما يفسدها ، ولكن تعلو بها عند الله عز وجل .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور