- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
قلب النّفس :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة جدًّا تتحدّث عن قلب الإنسان، ولا يذْهبنّ بكم الظنّ أنّ هذه الآيات تتحدّث عن قلب الجِسم ، عن ذلك العُضْو الصّنوْبري الذي يضخّ الدمّ إلى جميع أنحاء الجِسم ، والذي تتوقّفُ على نبضاتِهِ الحياة ، الحديث عن قلب النّفس ، لأنّ النفْسَ هي ذاتُ الإنسان ، وهي المعْنيّة ، وهي المُعاتبَة ، وهي المُحاسبة ، هي التي تسْمو ، وهي التي تسْفُل ، هي التي تؤمن ، هي التي تكفر ، هي التي تحبّ ، هي التي تبغض ، هي التي تخلُد في جنّة يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفَذُ عذابها ، لهذه النَّفْس قلبٌ نُسَمِّيه تجاوُزًا قلب النّفْس ، فأكثرُ من مئة آيةٍ أو مئتين تتحدَّث عن قلب النّفْس، لكنّ أهمّ هذه الآيات هي قوله تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
كلّ ما في الدنيا لا ينفع الإنسان يوم القيامة إلا إذا جاءَ ربَّهُ بِقَلبٍ سليم ، ألا ينبغي للإنسان أن يتعاهَدَ قلبَهُ وهو في الدنيا ، حتى إذا جاءتْهُ المَنِيَّة كان قلبهُ سليمًا مقبولاً عند الله عز وجل .
القلب السليم :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ راقِبْ نفْسَكَ أيها الأخ الكريم ، إذا أزْمَعْتَ السَّفَر إلى بلدٍ ، أوَّلُ شيءٍ تبحثُ عنه النَّقْد المتداوَل في ذلك البلد ، فإذا غادَرَ الإنسان الدنيا ، واتَّجَهَ نحْوَ الآخرة ألا ينبغي أنْ يعلَمَ أنَّ أيّ شيءٍ في الدنيا لا ينفعُهُ ، أنَّ أيّ شيءٍ مِن مُكْتسباتِهِ الدُّنْيَوِيَّة لا يُجْدي نفعًا ، قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
ما هو القلب السّليم ؟ وكيف يكون سليمًا ؟ وما الطريق إلى سلامَتِهِ ؟ وكيف نُحافظُ على سلامته ؟ وكيف نرقى به حتى نسْعَدَ بهذا القلب إلى أبد الآبدين ؟ آيةٌ أخرى تؤكِّدُ هذا المعنى ، يقول الله عز وجل :
﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
آيةٌ ثالثة تؤكّد هذا المعنى ، قوله تعالى :
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾
إذًا ينبغي انْ تأتِيَ الله عز وجل يومَ القيامة بِقَلْبٍ سليمٍ ، وبِقَلبٍ منيب ، أما أن تُحِبَّ الدنيا والآخرة معًا ، أما أن يتوزَّعَ قلبكَ بين شيئين فهذا مِمَّا نفاهُ الله عز وجل ، قال عليه الصلاة والسلام :
((مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرتِهِ ، ومَنْ أَحَبّ آخِرتَه أَضَرَّ بِدُنْيَاه ، فآثِرُوا مَا يَبْقَى علَى مَا يَفْنَى))
عدم اتساع قلب الإنسان لشيئين متناقضين :
قال تعالى :
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾
العلماء يقولون : هذه الآية تُشير إلى أنّه لا يُمكن أن يتَّسِعَ قلبُكَ لشَيْئَين متناقِضَيْن ، فإما أن تحبّ القرآن ، وإما أن تحبّ الغناء ، إما أن تحبّ الطاعة ، وإما أن تحبّ المعْصِيَة ، إما أن تحبّ القُرْب من خالق الكون ، وإما أن تكون مع الشّهوة ، لا يتّسِعُ القلب لِشَيئَيْن متناقِضَيْن ، فإذا حاوَلْتَ أن تجعل في قلبِكَ شيئين متناقِضَيْن طردَ أحدهما الآخر ، إذا أردْت أن تجمَعَ بين المتناقِضَين في قلبك الأوّل منهما يطرد الآخر ، لذلك لا بدّ مِن وِجْهةٍ مُوَحَّدة إلى الله عز وجل ، هذا القلب هو مصْدرُ سعادتِكَ ، ومصدرُ شقائِكَ ، قد يضيقُ بالإنسان حتى لا تسَعُهُ الدنيا ، وقد يكْبُر ويكبُر حتى يشْعر صاحِبُه أنَّه أسْعَدُ الخلْق جميعًا ، ما الذي يُسْعِدُهُ ؟ وما الذي يُفرِحُهُ ؟ ما الذي يُطَمْئِنُهُ ؟ ما الذي يغْمُرُه في سعادةٍ كبيرة ؟ ما الذي يجعلُهُ متفائلاً ؟ ما الذي يجعلُهُ مُشرقاً ؟ القرآن الكريم يُجيبكُم عن هذا التساؤُل ، قال تعالى :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
أي مُحالٌ أن يطْمئِنَّ قلبُكَ بِذِكْر غير الله تعالى ، مُحالٌ أن يسْعَدَ قلبك بذِكْر غير الله تعالى ، لو جَمَعْتَ الدنيا من أطرافها ، لو ذكرْتَ كلّ المخلوقات ، لا يطمئنّ هذا القلب ، ولا يسْعَد إلا بذِكْر الله تعالى .
أيها الأخوة الأكارم ؛ فاتني في الآية السابقة أن أُبيِّنَ لكم أنّ القلب لا يتَّسِعُ لِشَيْئَين مناقِضَين ، ولكنَّهُ يتَّسِعُ لِعَشرات بل لمِئات الأشياء المنسَجِمة ، فأنت تحبّ الله عز وجل، وتحبُّ رسول الله ، وتحبّ أصحابهُ ، وتحبّ المؤمنين ، وهذا كلّه من باب واحد ، يؤكِّد هذا قوله تعالى :
﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾
بِضَمير الغائب المفرد ، إشارةً إلى أنّ إرضاء رسول الله هو عَيْنُ إرضاء الله ، وإلى أنّ إرضاء الله عز وجل هو عَيْنُ إرضاء رسول الله ، إذا كان القلب لا يتَّسِعُ لِشَيْئين متناقِضَين فإنّه يتَّسِعُ لآلاف الأشياء التي على خطّ واحد ، وفي اتِّجاهٍ واحد ، ولهدفٍ واحِد ، إذًا كما قال تعالى :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
انكشاف القلب أمام الله عز وجل انكشافاً تاماً :
هذه الدنيا أمامك تحرّك فيها كما تشاء ، اِبْحَثْ عن اللَّذة في أيّ مجال فلَنْ يطْمَئِنَّ قلبُكَ ، ولن يسْعَدَ فؤادُك ، ولن تشعُر أنّك إنسانٌ سعيد إلا إذا ذكَرْتَ الله وحْدَه ، قال تعالى :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
هو الذي أنْزَلَ السكينة في قلوب المؤمنين ، قلبُ المؤمن ممتلئ طُمأنينةً ، ممتلئ سكينةً ، ممتلئ نوراً ، هذا الذي يجْذبُك إلى الإيمان ، هذا الذي يجْعلُكَ تُواجِهُ الصِّعاب ، هذا الذي يحْمِلُك على الصّبْر الجميل ، هذا الذي يجعلُ الإنسان متفائلاً ، هذا الذي يجعلُ الإنسان مُتَّجِهًا إلى خالقِهِ ، هذا القلب الذي ملأَهُ الله سكينةً ، وملأهُ سعادةً ، وملأهُ يقينًا ، وملأهُ رضًا ، قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾
هذا القلب مُنْكشِفٌ إلى الله عز وجل انْكِشافًا تامًّا ، يقول الله عز وجل :
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ﴾
يعلم ما تنْوي ، ماذا تريد ؟ إلى ماذا تسْعى ؟ ما طُموحُك ؟ ما الذي يُرضيك ؟ ما الذي يغضبُك ؟ لماذا أعْطَيْت ؟ لماذا منَعْتَ ؟ لماذا تبسَّمْتَ ؟ لماذا عبسْتَ ؟ لماذا وصلْتَ ؟ لماذا قطَعْتَ ؟ ما الذي يُخالجُ قلبك ؟ قال تعالى :
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ﴾
الله تعالى يحول بين المرء و قلبه :
بل إنّ الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم يحولُ بين المرء وقلبه ، أي أقربُ شيءٍ إليك قلبُكَ ، أقربُ شيءٍ إليك سرّك ، أقربُ شيءٍ إليك ما يخْطرُ في فؤادِكَ ، والله أقربُ إليك من قلبك ، قال تعالى :
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
وهناك آية ثالثة تُشير إلى هذا المعنى بالذات ، يقول الله تعالى :
﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
والعامّة يقولون : الله ربّ النوايا ، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
((إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلّ امرئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللّه وَرَسولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أَوِ امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ ))
الإنسان قد يفْعَل ، وقد يتحرّك فيخطئ ، الله عز وجل يُبيِّنُ لنا أنَّ الذي تُحاسَبُ عليه ما كسِبَهُ قلبك ، حينما يتَّجِهُ قلبُك إلى إيقاع الضّرَر بِفُلان فقد كسِبْتَ الإثْم ، أما حينما تخطئ وقلبك سليم فتُحاسبَ ولكنْ لا كالحِساب الذي يكون حينما يتعمَّدُ قلبك الإساءة ، إذا تعمَّدَ القلب الإساءة فهذا إثْمٌ كبير لأنّه عبَّر عن رغْبتِهِ في إيقاع الأذى ، ولو أنّ الله عز وجل حال بين الإنسان وبين أن يوقِعَ الأذى حينما يتعمَّدُ القلب الأذى فقد وقعَ في إثمٍ كبير ، يقول الله عز وجل :
﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾
القلب حينما يتَّجِهُ إلى إيقاع الأذى هذا الذي يُحاسبُ عليه ، قال تعالى :
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾
وهذا من رحمة الله عز وجل ، إلا أنّ الإنسان بالمناسبة إذا كان قلبُه سليمًا وعملهُ على خِلاف السنّة يُحاسبُ لا على نواياهُ السيّئة ، ولكن يُحاسبُ لماذا لمْ يوقِع عملهُ وفْق السنّة ؟ لأنّ الأعمال لا تُقْبلُ إلا بِشَرْطَين ؛ أن تكون خالصةً لِوَجْه الله عز وجل ، وأن تكون صوابًا ، فإذا ابْتَغَيْتَ بهذه الأعمال وجْه الله عز وجل فقد حقَّقْت الشَّرْط الأوّل ، وبقيَ الشرْط الثاني وهو أن تكون هذه الأعمال وفْق السنّة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام .
من كفر امتلأ قلبه بشهوات الدنيا :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لا ينبغي للمؤمن أن يتوهَّم أنَّ قلبَهُ مخْتومٌ عليه ، وأنّ قلبَهُ مَطْبوعٌ عليه ، وأنَّ قلبهُ من طبيعةٍ خاصّة ، لا يفْهمُ الحقّ ، ولا يحبّ الخير ، إذا توهَّمَ الإنسان ذلك فقد وقعَ بسُوءٍ ظنّ بالله عز وجل ، وقد فعَلَ اليهود ذلك ، قال تعالى :
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾
لا تفقه ، قال تعالى :
﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾
لأنّهم كفروا ، وكذّبوا ما جاء بهِ سيِّدُنا موسى ، وأعْرضوا عن الله عز وجل فامْتلأَتْ قلوبهم بِشَهوات الدّنيا ، إذا الوِعاء امتلأ من شيءٍ لا يتَّسِعُ لِشيءٍ آخر ، فحيثما وردَتْ كلمة الطَّبْع ، وكلمة الخَتْم ، وكلمة القلب الزائِغِ ، وكلمة القلب المغلَّف ، حيثما وردَت هذه الآيات فمعناها على الشّكل التالي : أنّ الإنسان إذا كفَرَ بِمَعنى كذّب الحق واتّجَهَ نحو الدنيا ، فامتلأ قلبه من شهوات الدنيا ، إذا امتلأ القلب من شهوات الدنيا عندئذٍ لا يتَّسِعُ لِشَيءٍ آخر ، فهذا هو الطَّبْعُ الحُكمي ، أو الخَتْم الحكمي ، أو الزَّيْغ الحكمي ، قال تعالى :
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
قال تعالى :
﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾
لأنّهم كفروا امتلأَتْ قلوبهم من شهوات الدنيا فلمْ يبقَ مكانٌ في قلوبهم للحق .
علامة حياة القلب :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ولكنّ الشيء الذي يُطَمْئِن هو أنّ قلبَ الإنسان مفطورٌ على حُبّ الله عز وجل فإذا عرف الإنسان ربّه ، وإذا أطاعهُ امتلأَ قلبهُ طربًا ، يقول الله عز وجل :
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾
هذه حقيقة يجبُ أن تكون ماثلةً في أذهانكم .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا القلب الذي بين جوانحك ؛ قلبُ نفسِكَ ، ما علامةُ أنَّه صحا ؟ هناك قلبٌ ميِّتٌ ، قال تعالى :
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾
وهناك قلبٌ حيّ ، الإنسان الميّت تضَعُ يدَكَ على أحد شرايينِهِ فلا ينبض ، خمودُ النَّبْض علامة موتِه ، وشُعورك أنّ في هذا الشّريان دمًا ، وأنّ في هذا الشريان حركةً ، هذه علامة الحياة ، إذاً ما علامة حياة القلب ؟ قال الله عز وجل :
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
أي حينما تتَّجِهُ نحو التوبة ، حينما تعْقدُ العزْم على التوبة ، حينما تحبّ أن تتُوب اطمئِنّ ، واعلَم علْم اليقين أنّ في قلبِكَ حياة ، وأنّه ينبِضُ بالحبّ لله عز وجل ، قال تعالى :
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
معالجة القلوب لأنها الزاد إلى الآخرة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ في مَطلع الخطبة بيَّنْتُ لكم أنّ الإنسان لا ينفعُهُ حينما يقدُم على الله عز وجل مالٌ ولا بنون ، لا ينفعُهُ إلا إذا أتى ربَّهُ بقلْبٍ سليم ، هل هناك قلبٌ مريض ؟ اسْتَمعوا إلى آيات القرآن الكريم ، قال الله عز وجل :
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾
قال الله عز وجل :
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَة﴾
القلبُ القاسي قلبٌ مريض ، القلب الأعمى قلبٌ في حالةٍ يجبُ أن تُعالج ، قال تعالى :
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
قال تعالى :
﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾
القلب المَطبوعُ عليه لأنّ صاحبهُ معتد ، قال تعالى :
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
إذًا القلب قد يمتلئ مرضًا ، وقد يعْمى ، وقد يقسو ، وهذه حالات خطيرة يجبُ أن تُعالَج .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لماذا إذا شعَرَ الإنسان بِضَعْفٍ في رؤيَتِهِ ، أو بِذُبابَةٍ تطيرُ أمامه ، أو بانْحرافٍ في بصَرِهِ ، لماذا يُبادِرُ إلى الطبيب ؟ ولماذا ينتظرُ الأسبوع تلْوَ الأسبوع لِيَأْتِيَ دوْرُهُ في المُعالَجَة ؟ لماذا يحْرصُ على عيْنِهِ حِرْصًا لا حدود له ؟ لماذا يقول لك: العين لا لعِبَ معها ؟ لماذا يحرصُ الإنسان على سلامة عيْنِهِ ولا يحرصُ على سلامة قلبه ؟ لماذا لا يُبادر إن رأى في قلبه قسْوةً ؟ إن رأى في قلبه زيْغًا ؟ إن رأى قلبهُ قد طُبِعَ عليه ؟ إن رأى قلبهُ لا يعي على خير ؟ إن رأى قلبهُ لا يحبّ الخير وأهله ولا يحبّ الحقّ ؟ قال : كيف أصبحت يا زيد ؟ قال : أصبحت أحب الخير وأهله ، وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه ، وإن فاتني حزنتُ عليه ، قال : عرفْت فالْزَم إنِّي لك ناصِحٌ أمين ، لماذا لا نهتمّ بِقُلوبنا ؟ لماذا لا نرعى هذه القُلوب التي هي رأسُ مالنا في الجنّة ؟ لماذا لا نرعى قلوبنا لأنّها زادُنا في الآخرة ؟ قال الله عز وجل :
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾
شيءٌ خطير ، قال الله عز وجل :
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾
قال تعالى :
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
قال تعالى :
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾
إذًا كما نُبادِر إلى معالجة بصرنا ، وسمْعِنا ، وشمِّنا ، ونُطقنا ، وأعْصابنا ، وأوْرِدَتنا ، وعضلاتنا ، وعِظامنا ، يجبُ أن نُبادِرَ بِحَماسٍ أشدّ وبِحِرْصٍ أبْلَغ إلى مُعالَجة قُلوبنا ، لأنّها زادنا في الآخرة ، ولأنّها الشيءُ المقبول في الآخرة .
القلب موضع الإيمان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ القلبُ موْضِعُ الإيمان ، قال تعالى :
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾
إذا أقْبَلَ الإنسان على ربِّه ، ما هي بعضُ الثِّمار ؟ قال تعالى :
﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾
إذا كان قلبكَ ينْبضُ بالرحمة ، إذا كان قلبك ينبضُ بالرّأفَة ، إذا شعرْتَ أنَّ قلبَكَ لا يحْتَمِلُ أن يُعذَّبَ إنسانٌ أمامك ، أو أن يُعذّبَ مخلوقٌ أمامك ، أو أن يعذَّبَ كائنٌ حيّ أمامك، فهذا قلبٌ مَوْصولٌ بالله .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ علامةٌ أكيدة ، وعلامة ثابتَة ، أنّ القلب القريب من الله عز وجل مُفْعَمٌ بالرحمة والرأفة ، وأنّ القلب المنقطعَ عن الله عز وجل ممتلئ قسْوَةً ، فهو كالحِجارة بل أشدُّ قسْوَة .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام سيِّدُ الخلق ، وحبيب الحقّ ، المعْصوم ، والذي يُوحَى إليه ، مع كلّ هذه الميزات ، ومع كلّ هذه الدَّرجات ، ومع كلّ هذه المقامات خاطبَهُ الله عز وجل فقال :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
إن كنْتَ أبًا ، إن كنْتَ مُعَلِّمًا ، إنْ كنْتَ في مَوْقِعٍ قِياديّ ، إن كنْتَ في مَوْضِعِ الإشراف ، إن كنت داعِيَةً ، قال تعالى :
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
علِّموا ولا تُعَنِّفوا ، فإنّ المعلِّمَ خيرٌ من المعنِّف ، أكْرِموا النِّساء فوالله ما أكرمهنّ إلا كريم ، ولا أهانهنّ إلا لئيم ، يغْلِبْنَ كلّ كريم ، ويغلبهنّ لئيم ، وأنا أحبُّ أن أكون كريمًا مغلوبًا مِن أن أكون لائمًا غالبًا ، النبي عليه الصلاة والسلام أرْسَلَ خادمًا في حاجة فتأخَّر كثيرًا فغَضِبَ عليه الصلاة والسلام : ولمّا عاد قال له : والله لولا خشْيَة القِصاص لأوْجَعْتُكَ بهذا السِّواك ، ينْطَوي النبي على قلبٍ مُفْعَمٍ بالرّحمة ، قال تعالى :
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
معالجة القلوب لأنها الزاد إلى الآخرة :
إلقاءُ السَّمْع سببٌ لإيقاظ القلب :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾
أراد الله عز وجل من هذا القلب ، القلب الحيّ ، قال تعالى :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾
أي إن لمْ يكن لك هذا القلب الحيّ ألْقِ السَّمْع ، احْضَر مجالِسَ العِلْم ، وأصْغِ إلى مجالِس الحقّ ، أعْطِهِم أُذُنَيْك ، أعْطِهِم اهْتِمامك ، إذا أُجْرِيَتْ عمليّة جراحِيَّة في القلب ، يبرَّدُ حتى يقف عن النَّبض ، ثمَّ تجرى العملية ، وبعد أن تنتهي التوصيلات يُعطى صَعْقة ، فإما أن يعْمَل ، وإما ألا يعمل ، فإلْقاءُ السَّمْع لعلّه يوقِظُ القلب النائم ، قال تعالى :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾
أما أهْلُ الإعراض ، أما أهْلُ الفِسْق والفُجور ، لهم قلوبهم لا يعقلون بها ، لهم قلوبهم لا يفقهون بها ، قلبٌ أعمى لا يفْقَه ، ولا يعمل ، إذًا إلقاءُ السَّمْع سببٌ لإيقاظ القلب ، قال تعالى :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾
الإشراك سبب لخلق الرعب في القلب :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يمتلئ القلبُ خوفًا ، وهذا الخوف من خلْق الله عز وجل ، دقِّقُوا في هذه الآية ، قال تعالى :
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾
هذه علاقة عِلْمِيَّة ، هذه علاقة ضروريّة ، هذه علاقة حَتْمِيَّة ، حينما تُشْرك يملأ الله قلبَكَ خوفًا ، قال تعالى :
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
قال تعالى :
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾
الرُّعْبُ يُخلقُ في القلب حينما يُشْرك .
من آمن بالله و جاءه شيء يكرهه فليبحث عن العلة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
بِمَعنى أنَّك إذا آمنْتَ بالله ؛ آمنْتَ به خالقًا ، ومُرَبِّيًا ، ومُسَيِّرًا ، هداك من حالٍ إلى حال ، ومن منزلة إلى منزلة ، ومن مقامٍ إلى مقام ، ومن خير إلى خير ، ومن سعادةٍ إلى سعادةٍ ، وربّما فسَّرها بعض المفسِّرين أنَّه إذا حلَّتْ بالإنسان مصيبة ، وكان مؤمنًا بالله عز وجل يهْدي قلبهُ إلى السَّبَب الذي جاءتْ من أجله ، لماذا حدَثَ كذا ؟ يلقي الله في قلبك أنْ يا عبدي حدَثَ في قلبك كذا من أجل كذا ، ألَمْ أُنْبئكُم من قبْلُ بِشابٍّ عرف الله عز وجل ، وعرفَ أنّ لكلّ سيِّئَةٍ عقابًا ، وقد زلّتْ قدَمُه فارْتَكَبَ مخالفةً طفيفة فانتَظَر العِقاب من الله عز وجل ، ومضى يومٌ ويومان ، وأسبوعٌ وأسبوعان ، ولمْ يُنْزِلْ الله به عِقابًا ، ففي الصلاة ناجى ربّه فقال : يا ربّ لقد عَصَيْتُكَ فلَمْ تُعاقِبْني ؟ فوَقَعَ في قلبهِ أنْ يا عبدي قد عاقبْتُكَ ولمْ تدر ! ألَمْ أحْرِمْكَ لذَّةَ مناجاتي ؟ قال تعالى :
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
إذا كنت مؤمنًا بأنَّه لا يقَعُ شيءٌ إلا بأمْر الله ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام :
((لكلّ شيءٍ حقيقة ، وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه))
فإذا أصاب المؤمن أي شيء يجبُ أن يسألَ الله عز وجل ، يا ربّ لماذا ؟ يأتي الجواب ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
إذا آمنتَ بأنَّه لا إله إلا الله ، ولا فعَّال إلا الله ، وأنّه لا مُعْطِيَ ، ولا مانِعَ ، ولا رازِق ، ولا قابضَ ، ولا باسِطَ ، ولا مُعِزّ ، ولا مُذِلّ إلا الله ، وأنّ الأمْر كلّه بيَدِ الله تعالى ، وجاءكَ شيءٌ تكرههُ فابْحَثْ عن العِلَّة ، وابْحَث عن السَّبَب ، قال تعالى :
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
خلق الإنسان :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ في القرن الثامِنَ عشر ، حينما بدأ العالم الغربي يتلمَّسُ طريق العِلْم ، وبعد أن اكْتُشِفَ المِجْهَر ، اسْتقرَّ في أذهان العلماء أنّ الإنسان يُخْلَقُ من نطفة الرّجل فقط ، ثمَّ نُقِضَتْ هذه النَّظريّة ، واسْتقرَّ في أذهانهم شيءٌ آخر وهو أنَّ الطّفل يُخْلقُ من نطفة المرأة فقط ، وما النّطفة التي يُلقيها الذَّكَرُ إلا مُنَبِّهٌ لهذا ، وظلّ العلماء في القرْنَيْن السابِعَ عشر والثامِنَ عشر يتخبَّطون في نظريّاتٍ بينما سُئِلَ النبي عليه الصلاة والسلام قبل أربعة عشر قرْنًا ، سألهُ رجلٌ ممَّ يخلقُ الإنسان ؟ فقال عليه الصلاة والسلام ، وهذا حديثٌ صحيح يُعَدُّ من دلائل نبوّة النبي عليه الصلاة والسلام ، شُعوبٌ وأُمَم ، بُحوثٌ ومقالات ، أجهزةٌ وميكروسكوبات، واسْتقرَّ في أذهان العلماء أنَّ الطِّفْل يُخْلقُ من نطفة الرّجل فقط ، وما رَحِم الأمّ إلا مكانٌ تنبُت فيه هذه البِذْرة ، ثمّ اسْتقرَّ في أذهانهم شيءٌ آخر أنَّ الطِّفْل يتخلَّق من نطفة المرأة ، وما نطفةُ الرَّجل إلا منبِّهٌ لها ، أجابَ عليه الصلاة والسلام مِنْ كُلٍّ يُخلَق ، فقد روى أحمد عن عبد الله قال :
(( مرّ يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه فقالت قريش : يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي ، قال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي ، قال : فجاء حتى جلس ثم قال : يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ قال : يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم ، فقام اليهودي فقال : هكذا كان يقول من قبلك ))
هكذا أجاب النبي عليه الصلاة والسلام ، وكلّكم يعلمُ أنّ العلوم الحديثة أشارَت إلى أنّ الرّجُل في اللّقاء الواحِد يخرجُ منه ما يزيدُ عن ثلاثمئة مليون حُوَين منوي ، وأنَّ حُوَينًا واحدًا فقط يُلقِّحُ البيضَة ، سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عن هذا الموضوع فأجاب في حديثٍ صحيح فعن أبي سعيد قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال :
((ليس من كل الماء يكون الولد ، وإذا أراد الله أن يخلق منه شيئاً لم يمنعه شيء ))
أليس عليه الصلاة والسلام رسول الله ؟ هل معطَياتُ العصْر كانت كافيَة لمعرفة لهذه الحقائق ؟ شيءٌ آخر ، قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾
القرار المكين هو الرَّحِم ، أوَّلاً يقعُ في الوسَط الهندسي تمامًا من جِسم المرأة ، فلو أُخِذَ خطّ منصِّفٌ طولي ، وخطّ منصّف عرضي ، لكان موقعُ الرَّحِم في تقاطُع الخطَّيْن ، هذا معنى ، والمعنى الثاني أنَّ هذا القرار المكين ، لم سُمِّيَ الرَّحِمُ قرارًا ؟ لأنَّه يفْرِزُ مادَّة لاصقةً إذا جاءتْ البُوَيْضة الملقّحة إلى الرَّحِم الْتصَقَتْ في جِداره ، فهو قرارٌ لها ، وليس ممرًّا ، ثمّ إنّ في الرّحِم من الأوْعِيَة الدَّمَوِيّة غزارة تفوق حدّة التصوُّر ، كلُّ هذه الأوعية تمدّ هذه البويْضة الملقّحة بالدّم لِيَتَغَذَّى ولِيَنْمو في سرعةٍ تُعدُّ أسْرعَ ما في جسم الإنسان من نسيجٍ في تكاثرُه وانقسامه .
شيءٌ آخر ؛ هذا الجنين بِغشاءٍ رقيق ، وقد بدا هذا في الصُّوَر التي أُخِذَت عن الجنين ؛ مغلّف بِغِشاء رقيق ، وهذا الغِشاء الرقيق معلّقٌ في أعلى الرّحِم ، فهو لا يتأثَّرُ بجُدُر الرَّحِمِ ، وفوق هذا وذاك أُحيط هذا الجنين بسائل ، هذا السائل يمْتصّ كلّ الصَدمات ، تصوَّر أنَّ الجنين مغلَّفٌ في غِشاءٍ رقيق ، والغشاء معلّق في أعلاه بأعلى الرّحِم ، وأنّ ما يُحيط بالرّحِمِ سائلٌ يمتصّ كلّ الصَّدمات ، والأغْرَبُ من هذا أنَّ الرَّحِمَ كلّه معلّق في حَوْض المرأة ، معلَّقٌ بأربِطَة إلى أقطار الحوض ، فالرّحِم سائب ، والجنين سائب ، وبين الرِّحِم والجنين سائلٌ يمْتصّ كلّ الصَّدمات ، كلّ هذا الشّرْح ينْطوي تحت قوله تعالى :
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول بعض علماء العِظام : إنّ عظام الحوْض في المرأة هي أقسى عِظامٍ في النّوع البشري ، مِن أجل ردّ الصَّدَمات .
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
أيْ أنّ هذا القرآن كلام الله ، وهو المعجِزَة الخالدة ، وكلّما تقدَّم العلم كشف عن جانبٍ من إعجازه العلمي .
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت ، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت ، نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ أعنا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللّسان ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنّا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارضَ عنَّا ، أصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين ، وانصر الإسلام ، وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى ، إنَّك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .