وضع داكن
28-03-2024
Logo
محفوظات - مقدمات الكتب : 24 - آيات الله في الإنسان - قصة هذا الكتاب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

لهذا الكتاب قصة . . . فلقد شرفني الله أن أدعو إليه منذ ثلاثين عاماً ، معتقداً أن هذا الدين دين الله ، وأنه ـ وحده ـ قادر على حفظه ونصره ، فلا ينبغي أن نقلق عليه ، ولكن ينبغي أن نقلق ما إذا سمح الله لنا أو لم يسمح أن نكون جنوداً له ، ولقد انطلقت من هذه الدعوة التي حُمِّلتُ مسؤوليتها لعقود ثلاثة سبقت من قناعات راسخةٍ .
من هذه القناعات أن يتجه الخطاب الإسلامي إلى عقل الإنسان وإلى قلبه ، وإلى معاشه ودنياه ؛ ذلك لأن الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، وغذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، واللباس والمأوى ، وما لم تراعَ في الخطاب الإسلامي مبادئ العقل ، وما لم يتوجه إلى القلب ، وما لم يحقق مصالح الإنسان الأساسية والمشروعة فلن ينجح الخطاب الإسلامي في امتلاك القدرة على التأثير في الآخرين ، وحملهم على تغيير تصوراتهم وقناعاتهم من جهة ، ثم حملهم على تغيير سلوكهم ، وأنماط حياتهم من جهة أخرى ، مع التأكيد على أن يكون هذا التغيير طوعاً لا كرهاً .
كل داعية ينبغي أن يكون عالماً بأصول الدين وفروعه ، وحقائقه المؤصلة والمدللة المأخوذة من الوحيين ؛ الكتاب والسنة ، عالماً بطبيعة النفس الإنسانية وخصائصها ، عالماً بالوسائل التربوية الفعالة في إحداث التغيير الحقيقي في النفس ، وينبغي للداعية ـ أيضاً ـ أن يستوعب الثقافة العصرية بثوابتها ومتغيراتها ، وبطبيعة العصر ، وسرعة التطور ، والقوى الفعالة ، والموازين المعتمدة فيه ؛ وإذا استثقل الداعية هذا الثمن الباهظ فينبغي ألا يغيب عنه أن الدعوة إلى الله هي أعظم عمل يتقرب به العبد إلى ربه ، وإنها تقترب من صنعة الأنبياء حيث يقول الله جل جلاله :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46) ﴾

[ سورة الأحزاب ] .

فمن الثابت أن من أسباب قوة التأثير الموضوعية ، ربط الأهداف بالوسائل ، وربط الأصالة بالحداثة ، وربط الثوابت بالمتغيرات وربط القديم بالحديث ، وربط الإسلام بالحياة ، فهو دين الفطرة ، ودين الواقع ، ودين العلم ، ودين الوسطية التي جمعت بين الحاجات والقيم وبين المبادئ والمصالح ، وبين المادة والروح ، وبين الدنيا والآخرة .
وانطلاقاً من هذه القناعات الإيمانية الثابتة ، والرؤية الموضوعية لما ينبغي أن يكون الخطاب الديني المعاصر ، كنت أحرص في خطابي الإسلامي بكل أُطُرِه وأنماطه ، وأشكاله وألوانه ، سواء في المساجد ، أو في الجامعات ، أو في المؤسسات الدعوية ، أو في المراكز الثقافية ، أو في وسائل الإعلام المحلية ، والعربية ، والإسلامية والدولية ، كنت أحرص على أن أجمع بين حقائق الدين ، وحقائق العلم ، لتترسخ حقيقة غابت عن كثير من المسلمين ، هي أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل القرآن ، وأن الحق دائرة تتقاطع فيها خطوط النقل الصحيح ، والعقل الصريح ، والفطرة السليمة ، والواقع الموضوعي لذلك لا تغيب الفقرة العلمية عن كل خطاباتي الدينية .
وهذا الكتاب في حقيقته مجموع الموضوعات العلمية التي ألقيت خلال ثلاثين عاماً في الدعوة إلى الله ، جمعت ، ونسقت ، نقحت وعرضت على متخصصين في العلوم التي تناولتها ، وأخذ بملاحظاتهم ، وقد أثبتُ في قائمة المصادر والمراجع قائمة المصادر والمراجع المتعلقة بالإعجاز العلمي في الكتاب والسنة التي كانت جزءاً رئيساً في مكتبتي .
ومع أنني جهدت في تعديل الأرقام القديمة المأخوذة من مراجع علمية قبل عقد أو عقدين من الزمن إلى أحدث ما توصل إليه العلم من حقائق وأرقام ، ومع كل هذا الجهد والمراجعة والعرض على المتخصصين فقد يجد القارئ عدداً ، أو حجماً ، أو شكلاً ، أو اسماً ، أو وصفاً ، يباين ما في كتاب علمي في حوزته ، فهذا التباين طبيعي جداً لأن العلم في تطور مستمر ، وهو تباين مقبول ، لأن هذا الكتاب في جوهره تعريف بالله جلا في علاه ، وليس تعريفاً بدقائق علم من العلوم .
إن الحقائق العلمية في هذا الكتاب وسيلة ، وليست هدفاً بذاتها فلا يعنينا في هذا الكتاب الرقم ، ولكن يعنينا مدلوله الذي يشف عن تعريف بالله جل جلاله من خلال الكون والإنسان ، فإذا كان هناك تباين بين الأرقام فأنا لست طرفاً في هذا التباين ، ولكنه تباين بين المراجع التي في حوزتي ، والتي في حوزة القارئ ، وما لم يكن الهدف الكبير من تأليف الكتاب واضحاً لدى القارئ فلن ينتفع منه بالقدر الذي أردته من تأليف هذا الكتاب .
وبما أن الكمال لله وحده ، وبما أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده وأمته معصومة بمجموعها ، وأن كل طالب علم تفوق في جانب ، وتفوق غيره في جانب آخر ؛ فلا بد في العلم من الأخذ والعطاء ، وبما أن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب القبة الخضراء ، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، فإني أنتظر من الإخوة القراء ـ كما عودوني في كتبي السابقة ـ تنفيذاً لوصية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال : ( أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي ) ( 1 ) .
[ ( 1 ) سنن الدارمي ( 1/169 ) بلفظ : ( رحم الله من أهدي إلي عيوبي ) ] .
أن يتفضلوا بإبداء ملحوظاتهم حول مضامين الموسوعة العلمية ، والأدلة القرآنية والنبوية ، والاستدلالات والاستنباطات التي ربطت بين حقائق العلم وحقائق الدين ؛ لآخذ بها في الطبعات القادمة ، إن شاء الله تعالى ، فالكتاب لا يزيد على محاولة متواضعة لبيان أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل القرآن ، وهو الذي أرسل النبي العدنان عليه الصلاة والسلام ليكون هادياً للأنام ، فإن أصبت فمن توفيق الله وفضله ، وإن لم أصب فمن تقصيري وضعف حيلتي .
فالحق فوق الجميع ، والمضامين فوق العناوين ، والمبادئ فوق الأشخاص ، فالمؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون ، والمنافقون بعضهم لبعض عششه متحاسدون ، ويروى أن إماماً لقي غلاماً وأمامه حفرة ، فقال له : إياك يا غلام أن تسقط ، فقال الغلام : بل إياك يا أمام أن تسقط ؛ إني إن سقطت سقطت وحدي ، وإنك إن سقطت سقط معك العالم ، لذلك ما من أحد أصغر من أن ينقد ، وما من أحد أكبر من أن ينقد .
ولا يسعني هنا إلا أن ادعو فأقول : جزى الله عنا سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام ما هو أهله ، وجزى عنا أصحابه الكرام ما هم أهله ، وجزى عنا والدينا ، وأساتذتنا ، ومشايخنا ، ومن علمنا ، ومن له حق علينا ما هم أهله .
ولا بد من أن اشكر في نهاية المطاف كل الإخوة الكرام الذين ساهموا على نحو ما في إخراج هذا الكتاب إلى حيز الوجود ، وأخص بالشكر الذين صمموا برامج الحاسوب التي أفرغت فيها النصوص ، والذين أفرغوا الشريط على الحاسوب ، والذين راجعوا النصوص مع الشريط ، والذين دققوا النصوص لغوياً ، والذين نفذوا التصحيح على الأصل ، ثم الذين نضدوا نصوص الكتاب ، وأخرجوه على الشكل الفني الذي هو عليه ، والذين راجعوا النصوص مراجعة أخيرة ، والذين قاموا بطباعته ، والقائمين على الدار التي نشرته، وعلى رأسهم صاحب الدار، سواء منهم من أخذ أجرة أو ابتغى أجراً ، على كل هؤلاء الذين ساهموا في إخراج هذه الموسوعة إلى حيز التداول ، ممن أعرفهم ، وممن لا أعرفهم ـ وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم ـ إنهم فريق عمل دعوي إنهم جميعاً مشمولون بقوله تعالى :

 

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾

[ فصلت : 33 ] .

وأرجوا الله أن أكون واحداً منهم ، راجياً أن أكون من يبتغي وجه الله بعمله ، فلعل الله يقبلنا جميعاً ، ويرحمنا جميعاً .
أعوذ بك يا رب أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، وأعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك ، وأعوذ بك من فتنة القول ، كما أعوذ بك من فتنة العمل ، وأعوذ بك أن أتكلف ما لا أحسن ، كما أعوذ بك من العجب فيما أحسن .
الدكتور محمد راتب النابلسي

 

إخفاء الصور