- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
إكرام اليتيم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الموضوع المُتَسلْسِل الذي كان قبل موضوعات مَوْلِدِ النبي عليه الصلاة والسلام خُلُق الرَّحْمة ، وما يتفرَّع عنه من سِمات ، وقد تحدَّثنا عن بِرّ الوالدين ، وتحدَّثْنا عن صِلَة الرّحِم ، والحديث اليوم عن إكرام اليتيم ، والشيءُ الذي يُلْفتُ النَّظر أنّ في القرآن الكريم آيات كثيرة حوْلَ إكرام اليتيم ، ذلك لأنّ الشيء الذي طبعَ الإنسان عليه لا يحتاج إلى تشريع ، ليس في القرآن كلّه آيةٌ تأمر الأب أن يَرْعى أولادهُ ، لأنّ رعاية الأولاد طَبْعٌ في الأب ، ليس في القرآن كلّه آيةٌ تأمر الأم أن تَرْعى أولادها ، لأنّ رِعايَة الأولاد فِطْرة في الأم ، غريزة في الأم ، جِبِلَّة في الأم ، لكنَّ التكليف يتَّجِهُ إلى ما بَعُدَ عن الطَّبْع ، فلِذلك هذا الطِّفْل الذي فقَدَ أباهُ ، أو فقَدَ أمَّه ، أو فَقَدَ أباه وأمّه كليهما ، هذا الطِّفْلُ عُرضةٌ لأكْل ماله ، ولإهماله ، وللعُدْوان عليه ، لذلك وردَت آيات كثيرة تأمُر الأقارب بِرِعايَة اليتيم ، بل إنّ في القرآن الكريم آية تُلفِتُ النَّظر ، ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴾
ما هذه الصّفة الكبيرة التي ترافق التكذيب بالدِّين ؟ قال تعالى :
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾
يَدُعُّ بِمَعنى يدْفعُ أو يضرب أو يؤذي ، اليتيم ضعيف لأنَّهُ فقَدَ النصير ، فقَدَ المُعين، وفقدَ الرحيم ، فقَدَ الذي أوْدَعَ الله في فِطرته رحمة به ، فقَدَ التي أودَعَ الله فيها رحمة به، هذا اليتيم يحتاجُ إلى عَطْفٍ شديد ، فإن لم تعْطِف عليه فأنت آثِم ، فكيف إذا دَفعْتَهُ ؟!! كأنَّ الله جلّ جلاله اختارَ من بين الأعمال الشِّريرة أشدّها اليتيم يجبُ أن تعْطِفَ عليه ، يجب أن ترعاه ، يجب أن تقدِّمَ له كلّ عَوْن ، فإن لم تفْعَل كنت آثِمًا ، إن لم تقدِّم له العَون كنتَ آثمًا ، فكيف إذا دَفَعْتهُ ؟ فكيف إذا أكلْتَ مالهُ ؟ فكيف إذا اعْتَدَيْتَ عليه ؟ فكيف إذا نِلْتَ منه ؟ فكيف إذا وَجَدْتهُ ضعيفًا فاسْتَغَللتَ ضَعفهُ ؟!
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾
المؤمن أرْحمُ بالأيتام من أهلهم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الأيتام صِنْفٌ من الضّعفاء ، والضّعفاء كما تعلمون أحْوَج الناس إلى الرحمة ، فقَدُوا نصيرهم ، وفقَدُوا ظهيرهم ، فقَدُوا أعْطَفَ الناس عليهم ، فقَدُوا أحْنى الناس عليهم ، فقدُوا راعيهم الذي زوَّدهُ الله فِطريًّا بالحَنان والعطف .
مثَلٌ بسيط ؛ طِفلٌ في بيتٍ ، إن كان مع أُمِّه يلْقى كلّ الرّعاية ، وكلّ العناية ، وكلّ العَطْف ، وكلّ الحبّ ، وكلّ التضْحِيَة والفِداء ، هو الطِّفْلُ نفْسُهُ بِشَكلِهِ ، وملامِحِه ، ونعومتِهِ ، وبراءتِهِ ، ووداعَتِهِ ، وذاتِيَتِهِ ، وجمالهِ ، لو كان بين زوْجَة أبيه ، لا تُحِبُّهُ ، ولا ترْعاهُ، ولا تتمنَّى أن تطعمهُ الطّعام الطيّب ، وتقْسُو عليه ، وتحرّضُ أباه أن يقْسُو عليه ، هو هوَ ، إذًا الذي أوْدَعَهُ الله في قلب الأم لمْ يودَع في قلب سواها ، إلا أنْ يكون مؤمنًا أو مؤمنةً ، من اتِّصالِهِ الشديد بالله عز وجل اكْتسَبَ رحْمةً ليْسَتْ كالرحمة المودَعَة فِطْريًّا ، بل هي رحْمةٌ مكتسبةٌ بالاتصال بالله ، والإقبال عليه ، لذلك المؤمن أرْحمُ بالأيتام من أهلهم ، والنبي عليه الصلاة والسلام أرْحَمُ الخلق بالخلق ، لكنّ هذه الرحمة التي تكْتسبُها من خلال اتِّصالك بالله عز وجل هي أعظمُ بِكَثير من تلك الرحمة التي أودِعَتْ فيك من غير كسْبٍ كي تسْتمرّ الحياة ، كي يرعى الآباء والأمّهات أولادهم ، كي ينْمُوَ هذا الابن في أسرة .
رعايَة اليتامى وبذْل الحنان والعطف لهم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الطِّفْل فقدَ الحبّ الخالص ، هناك من يُحبُّك لِمَصْلحةٍ ، ولِحَظّ نفسٍ ، ولِنَزْعةٍ مادّية ، ولكنّ الحبّ الخالص الذي لا ينتظر منه الأب شيئًا ، إنَّما هو حبّ أوْدَعَهُ الله في قلب الأب ، حبّ الأب والأم غير مَشوبٍ بأخلاط الأنانيّة والمصْلحة الخاصّة ، في قلب الأب والأم رغْبة بالتَّضحيَة والعطاء والفداء ، في قلب الأب والأم حِرْصٌ شديد على إبلاغ أولادهم مَبْلغَ الكمال والنّضْج والقوّة .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لذلك حينما تُوازي ، لو أنَّ أبًا يمشي في الطريق ، وفي الطريق أولادٌ ثلاثة ، أحدهم ابنهُ ، والثاني ابن أخيه ، والثالث لا يعرفهُ ، لو أنَّه رآهُم يدخِّنون، ماذا ينشأُ في قلبه اتّجاه ابنهِ ؟ يغْلي ، واتّجاه ابن أخيه أقلّ غليانًا ، أما اتّجاه الثالِث فقد يصرفُه بالحُسْنى ، ولكن يُحاسب ابنهُ أشدّ الحِساب ، يحاسب ابن أخيه أقلّ من ذلك ، إذًا هذا الذي أوْدَعَهُ الله في قلب الأب والأم شيءٌ ملموسٌ ، وواضِحٌ ، صارخٌ ، بارزٌ .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لذلك أمر الإسلام بِرِعايَة اليتامى ، وبذْل الحنان والعطف لهم، أمرَ بالمُبالغة في إكرامهم ، وأمَرَ بِحُسْن تربيَتِهم ، أمرَ بِتَأْديبهم ، أمرَ بِكَفالتِهم ، وإدارة أموالهم إدارةً تامّة ، ورعايةً حازمة ، وحذَّر من استغلال ضَعفهم ، وتهدَّد الذين يأكلون أموالهم بِعَذاب النار في جهنّم .
اليُتْم الحقيقيّ من كان له أبٌ يُهمِلُهُ وأُمّ لا تَرْعاه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ إلى نُصوص القرآن الكريم ، بادئ ذي بدْء لِحِكمةٍ أرادها الله لا تخفى على ذوي البصيرة ، أنَّ سيّد الأنبياء ، وسيّد المرسلين ، وسيّد ولد آدم ، والمخلوق الأوّل الذي بلغَ سِدْرة المنتهى كان يتيمًا ، وهذا جَبْرُ خاطرٍ لِكُلّ اليتامى ، دخلْتُ إلى دار كفالة الأيتام فإذا في مَدْخلِ الدار لَوْحةٌ كُتِبَ عليها : النبي صلى الله عليه وسلّم سيِّدُ الأيتام ، قال تعالى :
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾
لكن أيها الأخوة ؛ اليُتْمُ في عُرْف الناس من فقَدَ أباهُ وأُمَّه ، ولكنّ اليُتْم الحقيقيّ من كان له أبٌ يُهمِلُهُ ، وأُمّ لا تَرْعاه ، هذا يتيمٌ حقيقةً ، قد تجِدُ يتيمًا في أُسْرةٍ مؤمنة تحْرصُ عليه أشدّ الحِرْص ، تحْرصُ على تعليمه ، على أخلاقه ، على صحَّته ، قد يجدُ اليتيمُ من قريبٍ مؤمن إيمانًا كبيرًا ما لا يجِدُهُ من أبيه ، لذلك اليُتْم نِسبي ، فليس اليتيم من فقدَ والِدَيه ، ولكنّ اليتيم من وجد أمًّا تَخَلَّتْ ، أو أبًا مشغولاً ، هذا هو اليُتْم الحقيقيّ ، وقد تولّى تربيَةَ النبي الذي كان يتيماً الله تعالى ، لذلك قال تعالى :
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾
النبي عليه الصلاة والسلام ذاقَ مرارة اليُتْم ، ذاقَ مرارة يُتْم الأب ، وبعد حينٍ ذاقَ مرارة يُتم الأب والأمّ ، لذلك في أدقّ الأحاديث الشريفة كان عليه الصلاة والسلام يُنَبِّه إلى أنّ الكلمة العابرة التي لا يلْتفِتُ إليها أحدٌ ربّما قهَرَتْ اليتيم ، ربّما أثارَت فيه لواعِجَ الحُزْن ، اليتيم يكفي أن ينظر إلى أبٍ يُداعِبُ ابنهُ ، يكفي أن ينظر إلى أبٍ يحْنو على ابنه ، يكفي أن ينظر إلى أبٍ قويّ غنيّ يُمِدّ ابنه بكلّ ما يحتاج ، هذا المنظر بِحَدّ ذاته يقْهرُهُ ، كما أنّ المرأة العاقر يكفي أن تنظر في الطريق إلى امرأة وعلى يدها ولدها ، هذا المنظر وحْدهُ قد يكْسرُ قلبها ، واليتيمُ إذا كان يتيمًا في حَضْرتك ، يتيمٌ بين أفراد أُسرتك ، لا ينبغي أن تُظْهِرَ عطْفًا على أولادك يفوقُ العَطْف عليه ، إنَّك إن عَطَفْتَ على أحدِ أولادك ، وحملْتَهُ ، وقبَّلْتهُ ، وداعَبْتَهُ ، ولم تُعْطِ هذه المعاملة نفسها لليتيم ، هل تعلمُ أنَّ هذا يقهره ويكسرُ قلبه ويجرحهُ ؟ لذلك قال تعالى :
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾
إياك أن تقهرهُ بِمَظهرٍ إيجابيّ ، بِمَظهر مقبول من كلّ أبٍ ، يجبُ أن تعرف الحساسيّة البالغة ، والشعور المرهف الذي ينْطوي عليه اليتيم ، ينبغي أن تغدق عليه من العطْف والحنان ، والرّعاية والإحسان ما يجعلُه يشعر أنّه بين أبٍ وأمّ ، وليس في أسرٍ غريبة .
حاجة اليتيم إلى الرعاية :
أيها الأخوة الأكارم ؛ اليتيمُ أحْوَجُ الناس إلى الرِّعايَة ، لماذا ؟ لأنَّه إما أن يغْدُوَ بطلاً من أبطال المجتمع ، وإما أن يَغْدُوَ مجرمًا كبيرًا ، ينْطلقُ من حِقْدٍ على المجتمع ، إذا حرمْتَ اليتيم ، ومنَعْتَ عنه العطاء ، ومنعْت عنه العطْف والحنان ، أَبْقيْتَهُ شاعِرًا بِوَحْشة اليُتْم ، وغربة اليتيم ، هذا قد يولّد فيه حِقْدًا دفينًا على المجتمع ، لذلك التاريخ يُسجّل أنّ أبطالاً عِظامًا كانوا أيتامًا ، وأنّ مجرمين عُتاةً كانوا أيتامًا ، فرِعايَة اليتيمُ حقّ له لا على أقربائه ، بل على المجتمع كلّه ، يقول الله جلّ جلاله :
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾
عقَبَةٌ بيْنك وبين الله ، عَقَبَةٌ بينك وبين طريق السّعادة ، عقبَةٌ بينك وبين الدار الآخرة ، عَقَبَةٌ بينك وبين جنة الدنيا وجنّة الآخرة ، قال تعالى :
﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ﴾
معظمُ المفسّرين أجمعوا على أنّ فكّ الرقبة هو إعتاقُ العبْد ، وبعضهم يقول : إذا أعْتَقْتَ رقبتَك من شهوات الدنيا فقد مهَّدْتَ السبيل إلى الله ، لأنّه تعِسَ عبْدُ الدِّرْهم والدِّينار ، تعس عبد البطن ، تعس عبد الفرْج ، تعس عبد الخميصة ، هؤلاء كلّهم عبيد ، يكفي أن تتحرَّر من عبوديتك ، ولِشَهوتك ، فإذا الطريق إلى الله سالكٌ ، فإذا الطريق طريق الجنّة مَفْتوحٌ لك .
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :
﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾
عدم إكرام اليتيم في مقدّمة المظاهر التي تدلّ على غفلة القلب :
أيها الأخوة الأكارم ؛ وردَ ذِكْرُ اليتيم في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة جدًّا قال تعالى:
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾
هذه النظرة السَّطحيّة ، هذه النظرة البِدائِيّة ، وهي أنَّ الإنسان إذا تمتَّع بالمال الوفير ، والصّحة الطيّبة ، والسلطان العريض ، شعَرَ أنّ الله تعالى يحبُّه ، بِدَليل أنَّه أعطاه ، وأنَّ الله إذا سلبَ نعمة الصّحة من الإنسان ، أو ضيَّق ذات يده ، أو أصابهُ بِمُصيبةٍ ، يشْعرُ أنَّ الله قد أهانهُ ، لكنّ الله جلّ جلاله يقول : كلا ، ليس هذا صحيحًا ، ليْسَت هذه المقولة صحيحةً، ليس عطائي إكرامًا في الدنيا ، لأنَّ الدنيا منقطعة ، وليس حِرماني إهانةً فيها ، لأنَّ الحِرمان مؤقَّت ، ليس عطائي إكرامًا ، ولا حِرماني إهانةً ، إنَّما عطائي ابتلاء ، وحِرماني دواء، قال تعالى :
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾
حِرْصُكم على الدنيا مديد ، من مظاهر حِرْصكم على الدنيا ، ومن مظاهر الشّح ، من مظاهر البُعْد عن الله عز وجل ، ومن مظاهر الغفلة ، قال تعالى :
﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً﴾
تَجْمعون كلّ التَّرِكَة ، لا تدعون شيئًا ، قال تعالى :
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾
إذًا جعَلَ الله في مقدّمة المظاهر التي تدلّ على غفلة القلب ، وعلى أنّ الطريق إلى الله ليس سالكًا هو ألا تكرموا اليتيم .
أيها الأخوة الأكارم ؛ في التشريع الإسلامي أشياء تلفت النّظر ، فهذا اليتيم ولو لم ينلْهُ نصيبٌ من الميراث ، إذا حضر القسمة ينبغي أن يُعطى منها شيئًا ، جَبْرًا لِخاطرِهِ ، ورأْبًا للصَّدع الذي في نفسه ، وتوَدُّدًا إليه ، وتَطييبًا لِخاطِرِهِ ، قال تعالى :
﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
طيِّبوا نفوسهم بِقَولكم ، طيِّبوا أفئدَتهم بِعَطائكم .
تطبيق سنة النبي أمان من عذاب الله :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مرّة ثانيَة ، يقول الله جلّ جلاله :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
أجْمَعَ المفسِّرون على أنّ النبي عليه الصلاة والسلام ما دام بين ظهرانيّ أمّته ، فهم في بَحبوحةٍ من أن يُعذَّبوا ، ولكنّه بعد رحيلِه إلى الرفيق الأعلى إذا بقيَتْ سنّة النبي صلى الله عليه وسلّم قائمةً في بيوتهم ، وفي علاقاتهم ، وفي تجارتهم ، وفي بيْعِهِم وشرائهم ، وفي احْتِفالاتهم ، وفي فرحهم ، وحزنهم ، وفي كلّ نشاطات حياتهم ، إذا بقيَتْ سنَّة النبي مُطَبَّقة فينا فنحن أيضًا في بَحبوحة من أن يأخذنا الله بالعذاب ، ورعاية اليتيم سنّة نبويّة فيها أحاديث صحيحة ، وآيات كثيرة .
النهي عن أكل مال اليتيم ظلماً و عدواناً :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الآن دخلنا إلى المنطقة الخطرة ، يقول الله تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾
اليتيم ضعيف ، قد يكون في سنٍّ دون سنّ البلوغ ، لا يفهم ، وله عمّ قويّ مُتَسَلِّط قد يأخذ مالهُ بأساليب شتّى ، له أخٌ كبير ، قد يغْتصبُ مالهُ دون أن يستطيع أن يقول كلمة ، قال تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾
مادام يأكلون في بُطونهم نارًا ، وسيَصْلَوْن سعيرًا ، معنى ذلك أنّ مال اليتيم الذي أكلوه في الدنيا سيَغْدو نارًا يحْرقهم في الدنيا ، لذلك من الغرائب أنَّ بعض الذنوب يُعَجَّل عِقابها في الدنيا ، الذي أذْكرُه عُقوق الوالدين ، فعُقوق الوالدين لا يُؤَجَّل إلى الدار الآخرة ، يُعَجَّل للعاق في الدنيا ، ومن هذا البغي والظّلم ، ومن هذا أكْلُ مال اليتيم ، آكِلُ مال اليتيم إنَّما يأكل نارًا سوف تُحْرقُ مالهُ كلّه ، قال تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾
لذلك ينْصحنا ربّنا جلّ جلاله ، وينهانا فيقول تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾
دقِّقوا في كلمة ولا تقربوا ، قال تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾
هل معنى ذلك أنّ الله نهانا عن الزّنا ؟ هذا نهْيٌ أبْلَغُ من النّهي عن الزنا ، نهانا عن أن نقترب منها ، نهانا عن نظْرةٍ ، نهانا عن كلمةٍ ، نهانا عن خَلْوةٍ ، نهانا عن طريقٍ ، نهانا عن قراءةٍ ، نهانا عن قصّة ، أيّ شيءٍ يقرّبنا إلى الزنا فهو حرام ، ما أدَّى إلى حرام فهو حرام ، ما أدَّى إلى مكروه فهو مكروه ، ما أدَّى إلى منهيّ عنه فهو منهيّ عنه ، لذلك قِياسًا على هذا المعنى قال تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾
لو خلطْت مالهُ بِمالك ، وأنت بريءٌ براءة الذّئب من دم يوسف ، إذا خلطْت مالهُ بِمالِكَ ، ربّما دخل من ماله إلى مالك وأنت لا تدري ، لذلك ينْصحنا ربّنا عز وجل وينهانا ألا نُدْخل ماله في مالنا ، قال تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا﴾
إلا إذا أردْت أن تتَّجِرَ له به ، وأدْخلْت هذا المال في حِساب الجرْد فدَخَل في الدكان، قال تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
إذا أردْت أن تثمِّره له ، إذا أردْت أن تُنَمِّيَهُ له ، وأنت صادقٌ وبريء ، وأنت حريصٌ على ماله حِرصًا شديدًا ، والشيء الدقيق الدقيق هو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: " ولا تجعل مالك دون ماله ".
بِلُغَة التُّجار هناك صفْقاتٌ رابحة ، رِبْحُها مَضْمون إلى حدّ ما ، قماشٌ ليس له زخارف ، قماشٌ من النوع الذي يُباع في أيّ حينٍ ، لا علاقة لا للأوقات ، ولا للأزمان لِرَواجِهِ ، لو أنّ تاجِر أقْمِشَة رأى صفْقةً لا يدري أتَرْبحُ أم لا ترْبَح ، هذه مغامرة ، لا يجوز للتاجر أن يُغامر في مال اليتيم ، قد يقول في نفسهِ : إن ربِحَت أدْخلْتُ مالي بعدهُ ، وإن لم ترْبح عرفْتُ طبيعة هذه الصَّفْقة من هذا المال ، إذا خاطرْتَ بِمَال اليتيم لِتَجسّ نبْض السوق ، ولِتَعرف حقيقة الرِّبْح فهذا لا يجوز ، جعلْتَ مالهُ للتَّجريب ، وجعلْت ماله دون مالك ، جعلْت ماله للكشْف والفحْص ، لذلك قال تعالى :
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾
إصلاح أموال اليتامى بتنميتها و إصلاح أخلاقهم و عقولهم :
وقال تعالى :
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾
إصلاح أخلاقهم ، إصلاح أجسادهم ، إصلاح عقولهم ، إصلاح أموالهم بِتَنْمِيَتها، قال تعالى :
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾
أي إن خالطْتموهم ، إن أخذْتم أموالهم ، وأدخلتموها في تجاراتكم ، فهو أخٌ لكم ، كأنَّه راشِد ، حاسِبُوه حِسابًا دقيقًا ، قال تعالى :
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾
الله مُطَّلعٌ على القلب ، ماذا ينْوي هذا التاجر ؟ قال تعالى :
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾
أي لحَمَّلكم فوق ما تُطيقون ، ولشرّع لكم أنّ الرِّبْح له والخسارة عليكم ، نفقتهُ عليكم لا في ماله ، بل رحْمةً بكم جعل نفقة اليتيم من ريْع ماله ، قال تعالى :
﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾
لو قال : وارزقوهم منه ، لوَجَب أن نُطْعمهم من أصْل مالهم ، أما وارزقوهم فيها ، أي أن نطعمهم من رَيْع مالهم ، وهذا هو الفرْق بين من وفيه ، قال تعالى :
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾
أي لحَمَّلكم فوق ما تُطيقون ، ولجعل الرّبح لهم وحْدهم ، قال تعالى :
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
إعطاء اليتيم ماله عند بلوغه سن الرشد دون تلكؤ :
الموضوع الثالث ، قال تعالى :
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم﴾
إذا بلغ هذا اليتيم سنّ الرّشد ، ينبغي أن تُعْطِيَهُ ماله دون تلكّؤ ، ودون تحَجُّجٍ ، ودون مُماطلةٍ ، ودون عقباتٍ ، قال تعالى :
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾
أي إثْمٌ كبير أنْ تضُمّ ماله إلى مالك بِحُجَجٍ شتَّى ، ولكن لو كان هذا اليتيم غير راشِد قال تعالى :
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾
امْتَحِنوهُم ، قال تعالى :
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا﴾
أحيانًا من عندهُ أموال لأيتام يُسْرعُ بأكلها قبل أن يبْلُغَ سِنّ الرّشد ، أي يُبادر إلى أكلها قبل أن يكبرَ اليتيم ، قال تعالى :
﴿أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾
إن كنتَ تُديرُ أموال اليتامى ، وكنتَ غنيًّا فاسْتَعْفف عن الرّبح كلّه ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
وما أرْوَعَ الفقهاء حينما فسَّروا كلمة بالمعروف ، بالمعروف عند الفقراء لك أجْرُ المِثْل ، أو الحاجة أيُّهما أقلّ ، دقِّقوا في هذا الحكم الفقهي ؛ لك أجْرُ المِثْل ، أو الحاجة أيُّهما أقلّ ، أي اتَّجَرْتَ بِماله ، وأنت يكفيك بالشّهر خمسة آلاف فرضًا ، فربِحْت عشرين ألفًا ، له عشرة ولك عشرة ، يجب أن تأخذ ما يكفيك ، وهو خمسة آلاف ، اِتَّجَرْتَ بِمَاله فربِحْتُما ستّة آلاف لك ثلاثة وله ثلاثة ، ثلاثة لا تكفيك ، ولكنّ هذا هو ربْح المال الحقيقيّ ، لك رِبْح المال الحقيقي فقط ، لك أجْرُ المِثْل ، أو الحاجة أيُّهما أقلّ ، هذا وكما قال تعالى :
﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
قال تعالى :
﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾
خيرُ بيتٍ على الإطلاق بيت فيه يتيمٌ مكرَم يُحْسنُ إليه :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه بعض الآيات التي وردَت عن اليتامى ، أما السنّة المطهّرة ، فعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى))
ابن أخيه ، أو يتيمٌ لا يعرفه ، أي كافلُ اليتيم مع رسول الله في الجنّة ، طبعًا هناك أحاديث أخرى ما لم يقترِف ذنبًا لا يُغْفر ، فليس كلّ كافل يتيم من دون استثناء ، بل الذي لم يقترف ذنبًا لا يُغفر . وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ))
خيرُ بيتٍ على الإطلاق ، وشرّ بيتٍ على الإطلاق ، بيتٌ فيه يتيمٌ مكرَم يُحْسنُ إليه، وبيتٌ فيه يتيمٌ يُساءُ إليه .
أكل أموال اليتامى بالباطل من الذنوب التي يُعَجَّل عقابها في الدنيا قبل الآخرة :
وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ))
أُحَرِّج أي أُضَيِّق ، النبي عليه الصلاة والسلام حِفظا لِحُقوق اليتامى ضيَّقَ على أمَّته كلّ سبيل لأكل أموالهم بالباطل .
الحكم الذي ذكرتُه قبل قليل ، إنَّ ظلْم اليتامى ، وأكل أموالهم بالباطل من الذنوب التي يُعَجَّل عقابها في الدنيا قبل الآخرة . والحديث الذي تعرفونه قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أوَّل من يمسكُ بِحِلَقِ الجنّة أنا فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخل الجنّة قبلي ، فقلتُ : من هذه يا جبريل ؟ فقال : امرأة ماتَ زوجها وترك لها أيتامًا فلمْ تتزوَّج من أجلهم ))
حفْظًا لِحُقوقهم ، ورِعايةً لهم ، وعطفًا عليهم ، وخوفًا من أن يأتِيَ زوْجٌ يقسو عليهم.
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنَّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ؛ الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبَع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الحكمة من تربص المطلقات بأنفسهن ثلاثة قروء :
أيها الأخوة الأكارم ؛ طبيب مسلمٌ مؤمن بحَثَ في فتْرةٍ طويلة عن موضوع دقيق ، هو أنَّ الحَمْلَ في الأنثى هل يرافقُه انقطاع الطَّمْث ؛ أي الحيْض ؟ لأنَّه من المعروف لدى عامّة الناس ، ولدى معظم المثقّفين ، أنَّه لا حمْل مع انقطاع الطَّمْث ، ولا طمْث مع الحمْل ، لكنّ القرآن الكريم يقول :
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
إذا بهذا الطبيب يكتشِفُ أنّ حالاتٍ نادرة تحيضُ فيها المرأة مرَّةً أو مرّتين في أوّل الحمْل ، وما دام الجنين في حَوْض المرأة ، لا يظهر الحمْلُ سريريًّا ، أما إذا خرج حجْم الجنين عن حجْم الحوض ، فيظهر لدى الأمّ ، ولدى الطبيب ، ولدى الزّوج ، فما دامَتْ هناك حالات نادرة تحيضُ فيها المرأة مرَّةً أو مرَّتين أو ثلاثًا ، وهذا هو الاستقصاء العِلْمي والميداني ، هناك حالات نادرة تحيضُ فيها المرأة مرَّةً أو مرَّتين أو ثلاثًا لأسباب لا مجال إلى ذِكْرها من على المنبر ، ما دام هناك حالات تحيضُ فيها الحامل في أوّل الحمْل مرّةً أو مرَّتين أو ثلاثًا فجاءَتْ الآية الكريمة لِتُعْطِيَ براءة الرّحِم الشكل القَطعي ، في الأعمّ الأغلب انقِطاع الدَّورة يعني الحمْل، ولكن هل يُعَدُّ هذا دليلاً قَطْعِيًّا ؟ معظمُ الأطِبَّاء من خلال دراساتهم ، ومن خلال ممارساتهم يرَوْنَ أنَّ انقِطاع الطَّمْث لا يُعَدُّ دليلا قطْعِيًّا ، فلذلك حاروا في هذه الآية ، ربّنا جلّ جلاله إضافةً إلى أنّ المطلّقة تتربّص ثلاثة قروء فلعلّ المشكلة صغيرة ، وبدَتْ للزَّوْج كبيرة ، لعلّ المشكلة تزول مع الأيّام ، ضمانٌ لِرُجوع هذه المرأة إلى زوجها ، ضمانٌ للتَّوفيق بين الزوجين ، فضلاً عن كلّ ذلك الموضوع من زاويَةٍ علميّة بحْتة ، من زاويَةٍ علميّة مَحْضة ، هناك حالات نادرة تحيضُ فيها المرأة لأسباب كثيرة ، مرَّةً أو مرَّتين و ثلاثاً في بداية الحمْل ، لذلك لا يُعَدُّ انقطاع الدّم لِمَرّة واحدة دليلاً قَطْعِيًّا يُعَدّ دليلاً ظنِّيًا ، لا يكون قطعِيًّا إلا بعد ثلاثة قروء ، لأنّ بعد ثلاثة قروء يظهر الحمْل فوق حيِّز الحوض ، فيكْتشِفُهُ الطبيب سريريًّا والأمّ والزَّوْج ، لذلك قال تعالى :
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
من أجل أن نعلمَ أنّ هذا التشريع تشريعٌ من عند خالق الكون ، من أجل أن نعلم أنّ هذه الحالات النادرة التي نجدها في مجموع النِّساء ، ويعلمها علْم اليقين الأطبّاء ، ولا سيما من اخْتصّ بأمراض النّساء ، هذه الحالات النادرة تُغَطِّيها هذه الآية ، لذلك لا تُعَدّ الرَّحِمُ بريئة من الحمْل إلا بعد القروء الثلاثة ، لأنّ بعدها يظهر الحمْل بِشَكل سريريّ ، يُرَى رأْيَ العَين من قِبَل الزوج ، أو من قِبَل الأمّ ، أو من قِبَل المرأة .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .