وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0500 - العزلة والاختلاط - هجرة الطيور.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ، ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

التزام الجماعة و مخالطتهم و العيش معهم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ المرء أحيانًا يجرّه الاختلاط إلى مفْسَدَةٍ ومعصِيَة ، وأحيانًا يجرّه الانعزال إلى أن يُفَوِّتَ على نفسه خيرًا كثيرًا ، فيا تُرى ما الحكم الشرعي في أمر الاختلاط مع الناس أو اعتزالهم ؟ في الانفتاح عليهم أو الانكماش منهم ؟ أليْسَ في النصوص الشرعيّة حدود دقيقة وضوابط محكمة تبيّن ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في شأن الاختلاط مع الناس أو الانزواء عنهم ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾

[ سورة آل عمران: 105]

 ينبغي أن تكون مع مجموع الأمَّة :

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾

[ سورة آل عمران: 105]

 وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ))

[ أحمدعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ]

 من خصائص المؤمن أنَّه يأْلَف ويُؤلف ، الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ ، وَلَا يُؤْلَفُ ، ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي ذَرٍّ]

 ويقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا ، وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ))

[البخاري عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ]

 هذه الأدلّة من كتاب الله ، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبيِّن أنَّ على المرء أن يكون مع جماعة المسلمين ، وأن يكون مع المؤمنين أن يخالطهم ، وأن يعيش معهم ، وأن يتعامل معهم ، أن يأمرهم بالمعروف ، وأن ينهاهم عن المنكر . وقد روى الترمذي على شرط مسلم ، وروى أحمد والحديث صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((مَرَّ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةُ مَاءٍ عَذْبٍ فَأَعْجَبَهُ طِيبُهُ فَقَالَ : لَوْ أَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، فَاعْتَزَلْتُ النَّاسَ ، وَلَا أَفْعَلُ حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ سِتِّينَ عَامًا خَالِيًا ، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ ، اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ))

[ أحمد عَنْ أبي هريرة]

طرق التعامل مع المجتمع :

 أيّها الأخوة ؛ آيات وأحاديث واضحة الدلالة صحيحة كلها تؤكّد أنَّه ينبغي للمؤمن أن يكون مع المؤمنين ، وأن يتعامل معهم ، وأن يخالطهم ، وأن ينصحهم ، وأن يرشدهم ويأمرهم بالمعروف ، وأن ينهاهم عن المنكر ، وأن يعين ضعيفهم ، وأن يغني فقيرهم ، هكذا . ولكن هناك آيات أخرى ، فالله سبحانه وتعالى يقول على لسان سيّدنا إبراهيم ، قال تعالى :

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ﴾

[ سورة مريم : 48]

 وفي آية أخرى :

﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾

[ سورة الدخان : 21]

 وفي آية ثالثة :

﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾

[ سورة الكهف : 16]

 هذه آيات أخرى تبيّن طريقًا آخر للتعامل مع المجتمع ، فالمجتمع حينما يفشو فيه الكفر ، حينما يعبد غير الله عز وجل ، كما ورد في بعض الأحاديث القدسيّة : " إني والجن والإنس في نبأ عظيم ؛ أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري ".
 من هذه الآيات الثلاث تبيّن أنَّ المجتمع إذا انحرف وفسد ، وطغى عليه الشر ، وإذا عُبِدَ فيه غير الله عز وجل ، وإذا كان الأمين خائنًا ، والخائن أمينًا ، والكاذب صادقًا ، والصادق كاذبًا ، وإذا أُمر بالمنكر ، ونُهِيَ عن المعروف عندئذٍ ينبغي أن نأخذ بالآيات الثلاث الأخرى ، وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قُلْتُ :

((يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ))

[ الترمذي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ]

مراعاة الأحوال والأزمان في شأن العزلة والاختلاط :

 أيها الأخوة الكرام ؛ من عَرْض هاتين الزمرتين من النصوص ربّما توهَّم مُتَوَهِّم أنَّ بينهما تناقضًا ، وربّما فُهِمَ أنَّ زمرةً من النصوص تدعو إلى الاختلاط والانفتاح ، والتعاون والاندماج ، وأنَّ زمرةً أخرى تدعو إلى العزلة ، الإمام الغزالي رحمه الله تعالى حجّة الإسلام يقول: " إيّاك أن تحكم مطلقًا على العزلة أو الخلطة أنّ إحداهما أولى ، لا بدّ من مراعاة الأحوال والأزمان" .
 هنا موطن الشاهد ؛ لا بدّ من مراعاة الأحوال والأزمان في شأن العزلة والاختلاط، ذكرتُ لكم نصوصًا تدعو إلى الاختلاط بين الناس ، والمعاونة لهم ، وإرشادهم ، ونصحهم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ونصوصًا أخرى تدعو إلى اعتزال المجتمعات الفاسدة ، لذلك من العَمَى ومن الخطأ الفاحش أن تأخذ بِنُصوص ، وتدع الأخرى ، وألا تُراعِيَ في الأخذ والترك الأحوال ، وفوارق الزمان ، وخصائص البيئات ، لذلك يمكن أن نستنبط الحقيقة التالية ؛ أنَّ مجتمع الإيمان ينبغي أن تكون معه ، وينبغي أن تؤازره ، وأن تنصحه ، وأن تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وينبغي أن تكون إيجابيًا ، ومنفتحًا عليه ، وأن تضع طاقاتك في خدمة أفراده ، ينبغي أن تكون أنت للمجتمع كلّه ، وأما مجتمع الكفر والفسوق والعِصْيان ، مجتمع الإلحاد ، ومجتمع الانحراف ، ومجتمع الرذيلة ، فهذا المجتمع ينبغي أن تعتزله ، إذًا هناك زمرةً من النصوص نأخذ بها في حالة ، وزمرة أخرى من النصوص نأخذ منها في حالة أخرى .

الابتعاد عن المجموع زمن الفتنة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ متى ينبغي أن نبتعد عن المجموع ؟ قال : عند زمن الفتنة، وما تعريف الفتنة ؟ إذا اشْتبه عليك الحق والباطل فلم تدْر أيّهما تتَّبع ، عندئذٍ اعتزال الفتنة سنّة الأنبياء ، وعِصمة الأولياء ، وسيرة الحكماء ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري وأبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))

[أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

 في زمن الفتنة حينما تلتبس عليك الأمور لا تدري ماذا تصنع ، ولا تدري من المُحِقّ من المبطل ؟ عندئذٍ يقول عليه الصلاة والسلام :

((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ ))

[أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

 وفي حديث آخر أيها الأخوة رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وهو صحيح الإسناد عَنْ عَمْرِو بْنِ وَابِصَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :

(( إِنِّي بِالْكُوفَةِ فِي دَارِي إِذْ سَمِعْتُ عَلَى بَابِ الدَّارِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَلِجُ قُلْتُ : عَلَيْكُمْ السَّلَامُ فَلِجْ ، فَلَمَّا دَخَلَ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيَّةُ سَاعَةِ زِيَارَةٍ هَذِهِ وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ ؟ قَالَ : طَالَ عَلَيَّ النَّهَارُ فَذَكَرْتُ مَنْ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ قَالَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُحَدِّثُهُ ، قَالَ : ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنِي ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : تَكُونُ فِتْنَةٌ النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمُضْطَجِعِ ، وَالْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَاعِدِ ، وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ الرَّاكِبِ ، وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ مِنْ الْمُجْرِي ، قَتْلَاهَا كُلُّهَا فِي النَّارِ قَالَ : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : ذَلِكَ أَيَّامَ الْهَرْجِ ، قُلْتُ : وَمَتَى أَيَّامُ الْهَرْجِ ؟ قَالَ : حِينَ لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ ، قَالَ : قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : اكْفُفْ نَفْسَكَ وَيَدَكَ وَادْخُلْ دَارَكَ ))

[ أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ وَابِصَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَبِيهِ ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ في هذه الظروف التي وردت في الحديث الشريف ينبغي أن تدخل بيتك ، وأن تأخذ ما تعرف ، وأن تدع ما تنكر .

 

الضّوابط الشّرعيّة لاعتزال الناس :

 وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً ، تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، فَقَالُوا : وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ ))

[أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ]

 وفي رواية :

((قَالَ : فَقُمْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ ؟ قَالَ : الْزَمْ بَيْتَكَ ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ ))

 إذًا الضوابط الشرعيّة لاعتزال الناس أن يكونوا هكذا ، إذا مرجَت عهودهم ، إذا رأيت شحًّا مطاعًا ، وهوًى متَّبَعا ، وإعْجاب كلّ ذي رأيٍ برأيِهِ ، وإذا رأيْت المجتمع قد انحرف ، والقيَم قد انْعدَمَت ، والمبادئ قد ديسَتْ بالأقدام ، وظهرت المصالح ، وعبد الهوى من دون الله ، إذا كنت في مجتمع مثل هذا المجتمع فعليك أن تلزم بيتك ، وأن تأخذ ما تعرف ، وأن تدع ما تنكر .
 أيها الأخوة الكرام ؛ عن أبي أميّة الشعباني قال :

(( سألت أبا ثعلبة الخشني قال : قلت يا أبا ثعلبة ؛ كيف تقول في هذه الآية : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرًا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ : كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؟ قَالَ : أَيَّةُ آيَةٍ ؟ قُلْتُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا ، وَهَوًى مُتَّبَعًا ، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعْ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ))

[الترمذي عن أبي أميّة ]

زمرتان من الآيات والأحاديث زمرة تدعو إلى التعاون والأخرى إلى الاهتمام بِخاصَّة نفسك :

 أيها الأخوة الكرام ؛ اتَّضَحَت معالم الموضوع ؛ آيات وأحاديث أعيدها على أسماعكم مرَّةً ثانية ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 105]

 قال رسول الله :

((الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ))

[ أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ]

(( مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ))

[ رواه أبو داود عن ابن عباس ]

 وقال :

(( لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا ، وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ))

[متفق عليه عَنِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ]

 قال :

((مَرَّ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةُ مَاءٍ عَذْبٍ فَأَعْجَبَهُ طِيبُهُ فَقَالَ : لَوْ أَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ فَاعْتَزَلْتُ النَّاسَ وَلَا أَفْعَلُ حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ سِتِّينَ عَامًا خَالِيًا ، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ ؟ اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ))

[ رواه أحمد عن أبي هريرة ]

 والآيات الأخرى :

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾

[ سورة مريم : 48]

 وقال :

﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾

[ سورة الدخان : 21]

 وقال :

﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾

[ سورة الكهف : 16]

 قال :

((مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ))

[ الترمذي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ]

 زمرتان من الآيات والأحاديث ؛ زمرةٌ تدعو إلى الانفتاح ، والاختلاط ، والاندماج، والتعاون ، والعمل ، والنصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزمرةٌ تدعو إلى أن تهتمّ بِخاصَّة نفسك ، وأن تدع عنك أمر العامَّة ، والمقياس : إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا ، وهوًى متَّبَعًا ، ودنيا مؤْثرة ، وإعجاب كلّ ذي رأيٍ برأيِهِ ، أي إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغنياؤكم سُمحاءكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظَهْر الأرض خير لكم من بطنها ، وإن كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأمركم إلى نسائكم فبَطْن الأرض خير لكم من بطنها.

 

وقْفةٌ متأنِّيَة حول معنى الخاصَّة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ولكن وقْفةٌ متأنِّيَة حول معنى الخاصَّة ؛ من هم الخاصَّة ؟ وردَت الخاصَّة في عِدَّة أحاديث ، ولكن الذي يلفت النَّظَر أنَّه في حديث قال عليه الصلاة والسلام :

((عليك بأمر الخاصة ، ودع عنك أمْر العامّة ))

[ أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني]

 وفي حديث آخر قال :

((الْزَمْ بَيْتَكَ ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ))

[ أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص]

 من تباين كلمة الخاصة وإضافاتها في أحاديث رسول الله يتَّضح أنَّ الخاصَّة على مستويات ثلاثة ؛ المستوى الأوَّل كما قال عليه الصلاة والسلام :

((عليك بأمر الخاصّة))

 هم المؤمنون ، وهم الذين يعرفون الله عز وجل ، ويؤمنون بالله وباليوم الآخر ، هم الملْتزِمون بأمر الدِّين ، هم الذين يدعون إلى الله عز وجل ، هؤلاء هم الخاصَّة ، وهؤلاء كُنْ معهم ، وتعاوَن معهم ، واختلِط بهم ، وتشاوَر معهم ، ومُرْهم بالمعروف ، وانصحهم ، وتقبّل نصيحتهم ، وتقبّل لهم أمرَكَ بالمعروف ، هؤلاء هم المستوى الأوّل من الخاصَّة ، وأما المستوى الثاني فعليك بأمر خاصَّة نفسك ، قال علماء تفسير الحديث الشريف : إنَّهم أهلك وأولادك ، ما من رجل إلا وجعله الهك قيِّمًا على بيته وعمله ، فمن كان في بيتك من أهلك وأولادك ، ومن تمون عليه ، وتلي عليه ، من أقربائك ، ومن كان في عملك ، فهؤلاء من خاصّة نفسك ، عليك أن تعتني بهم ، وعليك أن تنصحهم ، وعليك أن ترشدهم ، وأن تبيّن لهم ، وأما الحالة الثالثة وهي قلّما تكون فعليك بِنَفسِكَ ‍‌! قد يوجد شابّ في أسرةٍ ليْسَت ملتزمة إطلاقًا ، ماذا يعمل ؟ هل يستطيع أن يبتعد عن أسرته ولا دخل له ؟ هل يستطيع أن يمتنع أن يكون معهم ولا مأوى له ؟ ماذا يفعل ؟ أسرةٌ متفلّتة ، وليْسَت منضبطة ، عندئذٍ يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عليك بنفسك وحدها ؛ كُفَّها عن الحرام ، ولا شأن لك بِغَيرِكَ ، وقد ورد عن الإمام عليّ كرَّمَ الله وجهه ، يقول : " خالطوا الناس بألْسنتكم ، وأجسادكم ، وزايلوهم بِقُلوبكم وأعمالكم ، فإنّ للمرء ما اكتسَبَ ، وهو يوم القيامة مع من أحبّ " ماذا فعل الأنبياء ؟ كانوا مع الناس ، وخالطوهم ، ولكنّهم كانوا في أبراج أخلاقيّة عاجية ، أبراجهم العاجيّة ليْسَت أبراجًا دنْيَوِيَّة ، ولكنّها أبراج المبادئ والأخلاق ، أبراج النظافة والنزاهة ، أبراج العفّة والأمانة ، وأبراج الاستقامة والعمل الصالح ، فإذا كنت مع الناس بجسمك ، إذا كنت مع المجموع ، ومع الخط العريض بجسمك ، وبمقتضى عملك ، ومقتضى مهنتك ، فلا ينبغي أن تكون معهم في عاداتهم ، ولا انحرافاتهم ، ولا في فسْقهم وفجورهم ، وهذه العُزْلة القلبيّة التي أشار إليها الإمام عليّ كرَّمَ الله وجهه .

 

الضوابط الشرعية لترك المجتمع و الابتعاد عنه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا ، وهوًى متَّبعًا ، وإعجاب كلّ ذي رأيٍ برأيِهِ ، ينبغي أن تبتعد عن هذا المجتمع المنحرف ، وهذا المجتمع الكافر ، المجتمع الذي آثر دنياه على آخرته ، والمجتمع الذي آثر الشَّهوة على المبدأ ، إذا تركْت هذا المجتمع فهناك ضوابط شرْعِيَّة .
 أوَّلاً ؛ ينبغي ألا تكون هذه العُزلة سببًا في تعطيل الفرائض والواجبات الشرعيّة ، ينبغي أن تصلّي يوم الجمعة في مساجد المسلمين ، وأن تصلّي صلاة الجماعة في مساجد المسلمين ، وأن تحجّ البيت الحرام ، وأن تؤدِّيَ الزكاة ، وأن تصوم رمضان ، وأن تصوم إذا صام الناس ، وأن تفطر إذا فطروا ، إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا ، وهوًى متَّبعًا ، وإعجاب كلّ ذي رأيٍ برأيِهِ ، وأردت أن تبتعد عن هذا المجتمع الفاسد لا ينبغي أن يكون هذا الابتعاد سببًا في تعطيل الأحكام والفرائض الشرعيّة ؛ صلاة الجماعة ، وصلاة الجمعة ، حضور مجالس العلم ، أداء الزكاة ، صيام رمضان ، يوم يصوم عامّة المسلمين ، أنت واحدٌ منهم ، الوقوف بعرفة ، والشذوذ عن إجماع المسلمين انحراف خطير .
 أيها الأخوة الكرام إذا أردت أن تبتعد لا ينبغي أن يحملك ابتعادك على تعطيل الأحكام الشرعيّة ، ولا على التقصير في أداء الواجبات الشرعيّة .
 شيءٌ آخر ؛ من يُقيِّم أنَّ هذا المجتمع فاسِد ؟ ما من مجتمع على وجه الأرض إلا وفيه خلل ، وفيه بعض الانحراف ، أما أن تدَّعي أنت أنَّ هذا المجتمع فاسد ، فهذا يحتاج إلى دليل ، وإلى علْمٍ بالاستنباط من الدليل ، وإلى بصرٍ بالواقع ، يجب أن تعلم الدليل ، وأن تحسن استخدام الدليل كي تحسن الاستنباط منه ، وأن تعلم حقيقة الواقع ، وهذا لا يُتاحُ لعامَّة المسلمين ، إنسان أزعجك ، وإنسان أكل مالك ؛ تحكم على هذا المجتمع بالانحراف ! هذا تعميم، والتعميم من العمَى ، ولا زلنا بخيرٍ والحمد لله لا زالَتْ هذه البلدة طيِّبَةً ، ولا زال فيها أناس يحبّون الله ورسوله ، يقدّمون من أموالهم لخدمة عامّة المسلمين ، لا زلنا بخير ، ولا زال الإقبال على بيوت الله إقبالاً شديدًا ، وكما قال عليه الصلاة والسلام : " لا يزال الخير فيّ وفي أمّتي إلى يوم القيامة " .
 شيءٌ آخر - وكما قلت قبل قليل - ما من مجتمع إلا وفيه بعض الخلل ، ولو قرأت كتب التاريخ لوجدْت أنّ علماء كلّ زمان يشكون من فساد زمانهم ، فالفساد نسبي ، فالعبرة لا إلى الأقليّة المنحرفة بل للأكثريّة المؤمنة ، العبرة لأكثريّة من حولك إذا كانوا مؤمنين ، وإذا كانوا على سنّة الله ورسوله فهذا مجتمع طيّب ينبغي أن تكون معه ، لذلك ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ))

[ رواه الترمذي عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ]

 وقد ورد في حديث آخر : " اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله فأنت أهله " .

 

الموازنة بين العزلة و الاختلاط و اختيار الأفضل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الموضوع دقيق وحساس ينبغي أن توازن ؛ دُعيت إلى حفلة فهل في هذه الحفلة منكر ؟ إن لم يكن هناك منكر فمن دعي ولم يلبّ فقد عصى أبا القاسم ، إذا دُعيت لا ينبغي أن تكون سَلبيًّا ، وضِّح آيةً ، وضِّح حديثًا ، وضّح حكمًا شرعيًا ، مُرْ بالمعروف ، وانْهَ عن المنكر ، لا يكن وُجودك في مجتمعٍ وجودًا هامشيًّا ، أليس لك مسجدٌ تحضر فيه خطبة الجمعة ؟ ألم تعِ على الخطيب آية أو حديثًا ؟ ألا ينبغي أن تذكر هذه الآية أو ذاك الحديث لمن تلقاه طوال الأسبوع ؟ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : " بلّغوا عني ولو آية " فإذا كنت في مجتمع ورأيت أن الحكمة والشرع يأمرانِك أن تحضر هذه الحفلة ، أو هذا اللّقاء ، ولم يكن فيه منكر ، أنت معك الضوابط الشرعيّة ؛ حفلة مختلطة ، قال تعالى:

﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ﴾

[ سورة الكهف : 16]

 حفلةٌ فيها معصية ، وفيها منكر ، دائمًا نصوصٌ تدعوك إلى الاختلاط إذا كان المجتمع نظيفًا وسليمًا ، ونصوص تدعوك إلى الابتعاد إذا كان المجتمع فاسقًا ومنحرفًا ، على كلّ أنت محاسب على كلّ حركة ، وعلى كلّ سكنة ، إن كان في حضورك ، أو في لقائك ، أو في مشاركتك خدمة للمسلمين ، ولم تكن هناك معصيَة أو انحراف يجب أن تكون الأوّل في تلبيَة هذه الدعوة ، وإن كان هناك انحراف فكري ، أو انحراف سلوكي ، ولم يكن لك وجود أساسي ، أو وجودك هامشيّ عندئذٍ ينبغي أن تعتذر ، لأنّ الإنسان أحيانًا يؤخذ من اختلاط غير شرعي ، وقد يحرم نفسه الخير الكثير من انعزال غير شرعي ، الاختلاط غير الشرعي مزلّة قدم إلى المعصيَة والفسوق ، والانعزال غير الشرعي حِرمان للخير الكثير .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

هجرة الطيور :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ذكرت لكم في الخطبة السابقة ، وفي الخطبة الثانية منها بالذات موضوعًا عن الطيور ، وذكرتُ الآيات الكريمة ، قال تعالى :

﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة النحل : 79]

 وذكرتُ لكم الآية التالية :

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾

[ سورة الملك : 19]

 قلتُ في الخطبة السابقة : هذه الآيات ماذا نفعل بها ؟ أليس فيها حضٌّ على التفكّر في السموات والأرض ؟ أليس فيها حضّ على التفكّر في ظاهرة الطيور في السماء ؟ في هذه الآية التي اختارها الله لتكون دليلاً على عظمته ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ تناولْت هذا الموضوع في الأسبوع الماضي بِشَكلٍ عام ، وأردْتُ أن أركِّز في هذه الخطبة على هجرة الطيور فقط .
 منذ أن عرف الإنسان الطيور ؛ رآها تختفي في الخريف ، وتظهر في الربيع ، تختفي كليًّا في الخريف ، وتظهر في الربيع ، وقد قال العلماء : إنّ هناك عشرات آلاف الملايين من الطيور تهاجر كلّ عام ، ولا سيّما من نصف الكرة الشمالي إلى نصف الكرة الجنوبي ، وبالذات إلى جنوب أمريكا ، وجنوب إفريقيا ، أما بلاد الهجرة - أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا - فهذه الطيور تتجاوزُ خطّ الاستواء إلى جنوب إفريقيا ، وجنوب أمريكا ، وفي كلّ الموسوعات العلميّة يتحدّثون كيف توصَّلوا إلى هذه الحقائق .
 هناك ما يزيد على أربعة ملايين طير وُضِعَت في أرجلهم حلقات معدنيّة تبيّن هويّة الطير وتحركاته ، وهناك مجموعة أخرى ثلاثة ملايين ، وهناك مجموعة ثالثة ثلاثة عشر مليون طير وُضِعَت في أرجلها يوم كانت صغيرة في أعشاشها حلقات كي تُتابع حركاتها من الشمال إلى الجنوب ، ومراكز البحوث كانت منتشرة بين شمال الكرة الأرضيّة وبين جنوبها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك من الطيور من يقطع في رحلته أربعة عشر ألف كيلومتر ، وهناك طيور قطعت ستَّة عشر ألف كيلومتر ، وأطْوَل رحلةٍ قامَت بها مجموعةٌ من الطيور قطَعَت اثنين وعشرين ألف كيلو متر من منطقة المتجمِّد الشمالي إلى منطقة جنوب إفريقيا ، سرعة هذه الطيور تتراوح بين أربعين كيلو متراً في الساعة إلى مئة كيلو متر في الساعة ، أما ثلاثمئة وستون كيلومتراً فهي أثناء انْقضاض بعض الصقور ، بالانقضاض فقط أما السرعة فمن الأربعين إلى المئة كيلومتر في الساعة ، وهناك ملاحظات سُجِّلَت على أنواع بعض الطيور ؛ أنَّها تطير على ما يزيد عن ألفين وسبعمئة كيلومتر من دون توقّف !! تقطعها في عشرين ساعة ، من دون توقّف أبدًا ، وقد تحلّق على ارتفاع يزيد عن تسعمئة متر ، وهو قريب من الكيلومتر ، وبعضها يحلّق على ارتفاع ألف وخمسمئة كيلومتر ، وبعضها على ارتفاع أربعة آلاف ومئتي متر ، وهناك بعض أنواع الطيور التي تحلّق على ارتفاع ستّة آلاف متر أي ستّة كيلومترات ، والطائرات الحديثة ترتفع اثني عشر كيلومتراً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لا بدّ أن يكون في رأس الطيور ساعة لأنَّ الطيور تهاجر في الوقت ذاته من كلّ عام ، ما الذي يخبرها أنَّه قد آن الأوان ؟ لابدّ من ساعة زمنيّة في رأس كلّ طير ، قال بعض العلماء : للطيور قوّة خارقة لقطع المسافات التي تقوم بها ، ولا يوجد مخلوق على وجه الأرض أقوى من الطير في قطع المسافات الشاسعة ، لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى ، كلّ صفة ماديّة في الإنسان هناك حيوان يفوقه بها ، إلا أنّ الإنسان كرّمه الله بالعقل والمعرفة والإيمان ، بهذه الصفات يتفوّق على بقيّة المخلوقات ، أما إذا ترك العلم وترك العقل ما من إنسان يعتدّ بأيّة خاصّة فيه إلا وفي الحيوانات من يفوقه بها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ مما يلفت النظر أنَّ الطيور التي تستعدّ لقطع مسافات طويلة تزيد عن عشرين ألف كيلومتر ؛ هذه تخزّن الدهون في جسمها قبل أن تسافر ، فهناك بعض الطيور يصبح وزنها مضاعفًا من الدُّهن المخزَّن في جسمها ، ليكون هذا الدّهن المخزّن في جسمها وقودًا لها في رحلتها الطويلة الشاقة .
 ممّا يلفت النَّظر أنّ هناك طيوراً تقطع عشرة آلاف كيلو متر فوق سطح البحر دون أيّة علامة ، ما الذي يهديها إلى أهدافها ؟ كما قلت لكم في الأسبوع الماضي : لا يزال هذا سرّ لا يعلمهُ أحدٌ ، قالوا : التضاريس ؛ فليس هناك تضاريس ، وقالوا : الشمس ، فأُجريَت تجارب ، وعزلوا الطير عن أشعّة الشمس فسار في الاتّجاه الصحيح ، وقالوا : الساحة المغناطيسيَّة للأرض ، فأعْطَوا الطَّير ساحةً أخرى ، كهربائيَّة مغناطيسيَّة فلم يتغيَّر اتِّجاهه بِتَغَيّر الساحة ، قالوا : القبّة السماويّة فعزلوه عن القبّة السماويّة ، قالوا : الطائر يسجّل في أعماقه انعطافات الرحلة في الذهاب فوضعوه على قرص يدور كي تضيع هذه الانعطافات ، ما من فرضيّة وضعت إلا واكْتُشِفَ أنّها غير صحيحة ، ولا يزال هذا السرّ غامضًا حتى الآن ، وهذا معنى قول الله تعالى :

﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾

[ سورة الملك : 19]

 مباشرةً ، هداية من الله مباشرة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الشيء الذي يلفتُ النَّظَر أنَّ الطيور الصغيرة التي ولدَت حديثًا وُضِعَت حلقات في أرجلها سارَت في رحلتها بالاتجاه الصحيح دون تعليم الطيور الكبيرة ، من الذي أوْدَع في هذه الطيور الصغيرة هذه القدرة العجيبة كي تهتدي إلى أهدافها ؟ قال تعالى:

﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾

[ سورة طه : 49 -50]

 أيها الأخوة الكرام ؛ الذي يلفت النظر أيضًا أنّ خطوط الرحلة ليْسَت مستقيمة ، كيف أنّ الطائرة العادية كل كذا كيلو متر يتغيّر اتّجاهها كذا زاوية ، هناك خطط ، وهناك طيّار، وهناك مساعد طيَّار ، وهناك رادارات وخرائط ، وهناك توجيهات أرضيّة ، واتِّصال مستمرّ مع الأرض كي تبقى الطائرة في خيط سيْرها ، قال : خطوط الرحلات في الطيور ليْسَت مستقيمة إنَّها خطوط فيها انحرافات وانعطافات ، وكأنّ هناك من رسم لها هذه الخطوط ، وألهمها أن تسير فيها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ طائر وضِعَ في طائرة وأبْعِدَ عن موطنه خمسة آلاف كيلو متر نحو الشرق أو نحو الغرب أو نحو الشمال ، وقد كان في قفص محجوزًا عن الرؤية ، عاد إلى موطنه بعد عشرة أيَّام !!
 أيها الأخوة الكرام ؛ لذلك قال الله تعالى :

﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة النحل : 79]

 معنى ذلك أنَّك تؤمن من هذا الطريق ، ومن طريق الآيات الكونيّة ، قال تعالى :

﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة الجاثية : 6]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور