وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0471 - رمضان2 ، القرآن - نصاب الزكاة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين . اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

كلمات مأخوذة من كتاب الله في وصف القرآن الكريم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألِف خطباء المساجد في أنحاء العالم الإسلامي أن تكون خطب رمضان على النحو التالي ؛ خطبة عن حكمة الصّيام ، وخطبة عن القرآن ، وخطبة عن الإنفاق ، وخطبة عن معركة بدر ، وخطبة عن ليلة القدر .
 ونحن في الخطبة الثانية ؛ إذًا حول موضوع القرآن الكريم ، القرآن الكريم بماذا وُصِفَ في القرآن الكريم ؟ الله سبحانه وتعالى وصفَ كتابهُ بأنَّه هُدى وبيان ، وموعظة وبرهان ، ونور وشفاء ، هذه كلّها كلمات مأخوذة من كتاب الله ، وذِكْرٌ وبلاغ ، ووعْدٌ ووعيد ، وبُشرى ونذير ، يهدي إلى الحق ، وإلى الرّشد ، وإلى طريق مستقيم ، يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد ، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا ، وفيه تبيانٌ لكلّ شيء ، وهو شفاء لما في الصدور ، هذه كلمات القرآن في القرآن ، فهل من كتابٍ على وجه الأرض يمكن أن يجمع كلّ هذا ؟ فضْلُ كلام الله على خلقه كفضْل الله على خلقه ، القرآن أيها الأخوة يستوعبُ عمُر الإنسان كلّهُ ، لأنّ القرآن الكريم شفاءٌ لما في الصدور ، وموعظةٌ لما في النفوس ، وبيانٌ لكلّ شيءٍ ، ونورٌ يُلقى في القلب ، وذِكْرٌ وبلاغ ، ووعْدٌ ووعيد ، وبشرى ونذير، يهدي إلى الحق وإلى الرشْد ، وإلى الطريق المستقيم ، يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذْن ربّهم إلى صراط الله العزيز الحميد ، يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فيه تبيانٌ لكلّ شيءٍ ، ماذا قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الشريفة الصحيحة الجامعة المانعة ؟ قال عليه الصلاة والسلام :

((كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ))

[ الترمذي عن علي]

 الماضي السحيق لا يعلمهُ إلا الله ، الإنسان يتكهَّن وقد يخطئ ، وقد يدَّعي لمَصلحةٍ أو لأخرى ، لكنّ الله سبحانه وتعالى خالق الكون هو الذي يعلم وحدهُ كيف بدأت البشريّة ، ولماذا خلق الإنسان ؟ فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، غيب الماضي لا يعلمه إلا الله ، وغيب المستقبل لا يعلمه إلا الله ، في القرآن الكريم نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحُكْم ما بينكم ، إذا اختلفنا فالمرجع هو كلام الله ، إذا اختلفنا في مبادئنا ، في قيَمِنا ، في مذاهبنا ، وفي نظمنا ، كتاب الله عز وجل هو الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم ، وهو الكتاب الذي من عند الصانع ، ومن عند الخالق ، ومن عند ربّ العالمين ، وخالق الأكوان كلّها ، والقرآن حكم ما بينكم . ويقول عليه الصلاة والسلام :

((ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ))

[ الترمذي عن الحارث ]

 يمكن أن تحكم على كلّ إنسان ابتغى الهدى في غيره ، فهو ضالّ تأكيدًا ، بنصّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، من ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، من أخذ به أنقذه الله ، والذّكر الحكيم لا يشبع منه العلماء ، القرآن فيه حياة ، مهما تلوْتهُ أطراف الليل وآناء النهار وجدْت فيه الحلاوة والروح ، يمكن أن تتْلُوَ السورة مئات ألوف المرات ولا تشبعُ منه ، لأنّ في القرآن كما قلتُ قبل قليل روحًا يشعر بها الإنسان بِفِطْرته ، لا يشبعُ منه العلماء ، ولا يخلُق على كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبُه ، كلّما تقدّم العلم كشَفَ عن جانبٍ من إعجاز القرآن ، فهو معجزةٌ بين أيدينا لى أبد الآبدين ، معجزةٌ متجدِّدة ، من قال به صدق ، إذا رأيْتَ رأيًا ، وأتيتَ بآية كدليل على هذا الرأي فأنت صادق ، من قال به صدق ، ومن حكمَ به عدَل ، ومن عمل به أُجِرَ .

 

موقع القرآن الكريم من الدّين :

 أيها الأخوة الكرام ؛ موقع القرآن الكريم من الدّين هو كما يلي : القرآن مصدر رئيسٌ لمعرفة الله عز وجل ، فالقرآن كلامه ، ومن خلال كلامه نتعرّف إلى الله عز وجل ، ولكن عن طريق التدبّر لا عن طريق التّلاوة وحدها ، عن طريق التدبّر لِقَول الله عز وجل :

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾

[ سورة محمد : 24]

 والسموات والأرض خلقهُ ، ومن خلالها نتعرّف إلى الله عن طريق التفكّر ، قال تعالى :

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾

[سورة البقرة : 164]

 والحوادث التي تجري في العالم أفعالهُ ، ومن خلالها نتعرّف إلى الله عن طريق النّظر والتَّأمّل ، قال تعالى :

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة يونس : 101]

 القرآن يدُلُّنا ، إذا قرأتم القرآن فتدبَّروه ، وإذا نظرتم في ملكوت السموات والأرض فتفكَّروه ، وإذا نظرتُم في الحوادث فانظروا واعتبروا ، إذًا أحد المصادر الثلاثة لِمَعرفة الله عز وجل الكون ، قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي .

 

إرشاد الإنسان من خلال القرآن إلى طريق سلامته وسعادته :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ من الثابت في العلم أنّ الإنسان بِجَسدِهِ يُعدُّ أعْقدَ آلةٍ في الكون ، ففي خلاياه وأنسِجَته ، وفي أعضائه وأجهزته ، من التعقيد والدّقة والإتقان ما يعْجزُ عن فهْم بُنْيَتِها وطريقة عملها أعْلمُ العلماء ، وفي الإنسان نفْسٌ تعتلِجُ فيها المشاعر والعواطف ، وتصطرع فيها الشهوات والقِيَم ، والحاجات والمبادئ بحيث يعْجزُ عن تحليلها وتفسيرها أعْلمُ علماء النّفس ، وفي الإنسان عقْلٌ فيه من المبادئ والمُسلَّمات ، والقِوَى الإدراكية ، والتحليليّة ، والإبداعيّة ما أهَّلهُ ليَكون سيّد المخلوقات ، هذا المخلوق النفيس ، وهذا المخلوق الأوّل ، وهذا المخلوق الذي هو أعْقدُ آبةٍ في الكون ألا يحتاج إلى تعليمات ؟ وإلى كتابٍ من خالقه ؟ من مربّيه ؟ ومن مدبِّرِهِ ومُسيِّرِه يبيّن له الهدف من خلقه ؟ والوسائل الفعّالة التي تحقّق ذلك الهدف ؟ ألا يحتاج هذا المخلوق الأوّل والمخلوق المكرّم إلى كتاب فيه منهج يسير عليه ؟ ويضبط ويصحّحُ حركاته ونشاطاته من الخلل والخطأ والعبث ؟ ألا يحتاج هذا المخلوق الأوّل والمكرّم إلى كتابٍ فيه مبادئ سلامته ؟ سلامة جسدهِ من العطب ، قال تعالى :

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾

[سورة الأعراف : 31]

 وسلامة نفسه من التَّرَدِّي ، قال تعالى :

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[ سورة الشعراء : 213]

 وسلامة عقله من التعطيل والتّزوير ، ألا يحتاج هذا المخلوق الأوّل والمخلوق المكرّم إلى كتاب فيه مبادئ سعادته ؛ فرْدًا ومجتمعًا ، في الدنيا والآخرة ، إنّه القرآن الكريم ، الذي لا يقلّ في عظمة إرشاده وتشريعه عن عظمة إيجاد السموات والأرض ، وإليكم الدليل قال تعالى :

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾

[ سورة الأنعام : 1]

 وقال تعالى :

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ﴾

[ سورة الكهف :1]

 فكما أنّ الله يُحْمد على نعمة إيجاد السموات والأرض كذلك يُحْمدُ بالقَدْر نفسِهِ على نعمة الإرشاد ، إرشاد الإنسان من خلال القرآن إلى طريق سلامته وسعادته الأبديّة .

 

الدليل القطعي على أن القرآن كلام الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن يعتقد ما هو يقينيّ ، وما من مؤمن على وجه الأرض وهو في أمسّ الحاجة إلى أن يجعل من اعتقاده أنّ هذا القرآن كلام الله عز وجل مُسَلَّمَةً لا تحتملُ النِّقاش ، ما الدليل على أنّ هذا القرآن الذي بين أيدينا كلام الله تعالى ؟ ما الدليل القطعي ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ الله جلّ جلاله يشْهدُ بِذاتِهِ للإنسان أنّ هذا القرآن كلامهُ ، لو قلتُ لكم : فلانٌ شهد لفُلان ؛ أيْ نطق بلِسانه ، وقال : نعم أنا شهِدْتُ هذه الحادثة ، فكيف يشهد خالق السموات والأرض وهو العليّ العظيم الذي لا تدركهُ الأبصار ، كيف يشهد خالق السموات والأرض لهذا الإنسان أنّ هذا القرآن كلامه ؟ ثمّ كيف يشهد هذا القرآن لهذا الإنسان أنّ هذا الذي جاء به نبيُّه ؟ نحن أمام قضيّة ؛ يقول الله عز وجل :

﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾

[ سورة النساء: 166]

 أنزلهُ بِعِلمه ، والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيدًا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه القضِيَّة ، قضيّة شهادة الله للإنسان أنّ هذا القرآن كلامه تحتاج إلى دِقَّة بالغة ، الله جلّ جلاله يقول في كتابه الكريم :

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة النحل : 97]

 فالإنسان إذا آمن بالله كما ينبغي ، وعمِلَ صالحًا كما أُمِر بصِدْقٍ وإخلاص ، أذاقهُ الله طعْم الحياة الطيّبة ، من طمأنينة ، واستقرار ، وتوفيق ، وسعادة ، وحبور ، عندئذٍ يشعر من خلال هذه الحياة الطيّبة التي ذاقها مِصداقًا لوعد الله أنّ الله شهد له بأنّ هذا القرآن كلامه ، وأنّ هذه الحياة الطيّبة من فِعْل الله قدَّرها له تحقيقًا لوَعده ، وحينما يتطابق فعل الله في القرآن يقوم الدليل القطعي على أنّ هذا القرآن كلام الله .
 ويقول الله عز وجل في آية أخرى :

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه : 124]

 فَمَنْ أعرض عن ذكر الله تعالى ، وانْكبَّ على الدنيا ، وانْغمسَ في شهواتها ، ونسِيَ ذِكْر الله وما والاه ، جعل القرآن وراء ظهره ، واسْتحلَّ محارمه ، ولم يعبأ لا بأمرهِ ولا بِنَهْيِهِ ، ولا بوعده ولا وعيده ، الآن أذاقه الله طعْم المعيشة الضَّنْك ؛ من خوفٍ وقلق وضيقٍ ، ومن شدّة ، ومن تعسير ، ومن إحباطٍ ، ومن شقاءٍ ، عندئذٍ يشعر هذا الإنسان من خلال هذه المعيشة الضَّنك التي ذاقها مِصْداقًا لِوَعيد الله ، أنّ الله شهد له أنّ هذا القرآن كلامه ، وأنّ هذه المعيشة الضَّنْك مِن فِعْل الله تعالى قدَّرَها عليه تَحقيقًا لِوَعيده ، القرآن فيه أوامر ، وفيه وُعود ، وفيه وعيد ، فإذا طبّقْت الأوامر وجدْت الوعود يانعةً مثمرة ، وإذا وقعْت في النواهي وجدْت وعيد الله عز وجل نافذًا بين يديك ، فحياتك الطّيّبة التي وعدك الله بها ، والمعيشة الضّنك التي وعَدَكَ الله بها ، هما الدليلان القطعِيَّان على أنّ هذا القرآن كلام الله تعالى ، إذا رأيْت إنسانًا يعمل بالربا، وانغمس فيه إلى قِمَّة رأسه ، ثمّ دُمِّرَ مالهُ ، هذا دليل على أنّ الله شهِدَ لهذا الإنسان أنّ هذا القرآن كلامه ، قال تعالى :

﴿ فَإِن ْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾

[ سورة البقرة: 279 ]

 وإذا تصدَّقْتَ من مالك ورأيت أنّ هذا المال بدأ يتنامى ، هكذا قال الله عز وجل :

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾

[ سورة البقرة: 276 ]

 أفعال الله تشهد لك أنّ هذا القرآن كلامه .

 

من يتَّبِع هدى القرآن لا يضلّ عقلهُ ولا تشقى نفسهُ :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ بقي في القرآن حقيقة خطيرة ، كيف أنّ الإنسان لو تمتَّعَ بِعَيْنَين في أعلى درجة من الدِّقَّة ، هناك حالات يقول طبيب العيون : إنّ درجة البصر عندك اثنتا عشرة على عشرة ، أي دقّة بالغة ، لو تمتّع الإنسان بِعينين حسَّاستَين دقيقتَين ، حادَّتَي البصر ، والأشياء التي أمامه واضحة صارخة ، لكن ليس هناك نور يتوسَّط بين الأشياء المرئِيَّة وبين العين الدقيقة ، الإنسان لا يرى شيئًا حينها ، كما أنّ الضِّياء ضروري لِرُؤية البصر ، الهدى الإلهي ضروري لرُؤْيَة العقل ، فالعقل من دون هدى من الله يخبطُ خبْطَ عَشْواء ، السَّبب أنّ العقل جهاز بالغ الدّقة إلا أنَّه محدود الإمكانيّة ، العقل مهمّته الوحيدة استنباط الحقائق من الحِسِّيات أي الاستدلال ، فإذا لم تكن هناك حِسِّيات كالماضي السحيق ، ليس هناك ما يؤكِّدُ وجوده ، وكالمستقبل البعيد ، وكذات الله عز وجل ، هذه الأشياء التي ليس لها أصول حِسِيَّة نستعملُ عقلنا في فهْمِ ما خُبِّأ عنَّا ، العقل عاجز هنا ، يأتي القرآن الكريم لِيُوَضِّحَ للإنسان ما عجَزَ العقل عن إدراكه ، لذلك قال علماء التوحيد : هناك حقائق خاضِعَة للمدارسة العقليّة ، وهناك حقائق لا يمكن أن نصل إليها إلا بالخبر الصحيح ، لذلك يقول الله عز وجل :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ﴾

[ سورة النساء: 174]

 وحينما يستنير المؤمن بِنُور الله فلن يضلّ عقله ، ولن تشقى نفسهُ ، قال تعالى :

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[ سورة طه : 123]

 وفي آية أخرى :

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 38]

 من يتَّبِع هدى القرآن لا يضلّ عقلهُ ، ولا تشقى نفسهُ ، ولا يخاف ممّا هو آت ، ولا يندم على ما فات ، فهل بعد هذه السعادة من سعادة ؟‍

 

بيان القرآن للإنسان حقيقة الكون والدنيا والآخرة والتوحيد :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ كيف يضِلُّ عقْل الإنسان والله سبحانه وتعالى من خلال القرآن يقدّم له تفسيرًا لِحَقيقة الكون والحياة ؟ فالسموات والأرض خلقت بالحق ، وهو الثبات والسموّ ، ولم تُخلق باطلاً ، ولا لعبًا ، وهما الزوال والعبث ، والأرض خلقت بالحق ، والسموات والأرض مسخَّرة للإنسان تسخير تعريف وتكريم ، من أجل أن يؤمن وأن يشكر ، والحياة الدنيا دار ابتلاء وانقطاع وعمل ، والآخرة دار جزاءٍ وخلود وتشريف ، والحياة الدنيا كما وُصِفَت في القرآن الكريم حياةُ دُنيا ليسَت عليا ، هي لهْوٌ ، ولعبٌ ، وزينة ، وتفاخر ، وتكاثر ، وجمْعٌ ، والآخرة خيرٌ وأبقى ، وهي دار القرار ، قال تعالى :

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة القصص: 60]

 أيها الأخوة ؛ كيف يضلّ عقْل الإنسان والقرآن يقدّم لك تفسيرًا من عند خالق الكون ؟ لو أنَّك أمام آلةٍ معقّدة جدًّا ، وأمامك شخصٌ يعملُ حاجبًا في هذا المكان ، وأمامك أيضًا شخصٌ قد اخترع هذه الآلة ، فأيُّهما تصدّق إن سألته عن ظاهرة في الآلة ؟ هذا الذي لا يعلم أم هذا الذي اخترع هذه الآلة ؟ خالق الكون يقدّم لك تفسير الكون والحياة في كتابه ، والإنسان لم يُخلق عبثًا ، ولن يُتْرك سدًى ، وهو على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، وأنَّه المخلوق المكرّم ، خلقهُ الله في أحْسن تقويم ، وكرَّمه الله أعظمَ تكريم ، حملَ الأمانة التي أشْفقَت من حملها السموات والأرض ، وأنّ الإنسان خلق ضعيفًا ، وخلق عجولاً ، وخلق هلوعًا ، إذا مسّه الشرّ جزوعًا ، وإذا مسّه الخير منوعا ، قال تعالى :

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾

[ سورة النجم : 39]

 وهو يفوز ويفلح إذا أطاع الله عز وجل ، وتزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى ، هذه كلّها آيات كريمة تبيّن حقيقة الإنسان ، فكيف يضلّ عقل الإنسان وهو يقرأ القرآن ؟ وهذا الإنسان أيضًا لا ينفعهُ يوم القيامة مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 وكيف يضِلّ عقلهُ والقرآن يبيّن له حقائق التوحيد ؟ يبيّن أن لا إله إلا الله ؟ قال تعالى :

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة يوسف : 21]

 وأنّه في السماء إله وفي الأرض إله ، وأنّه إليه يرجع الأمر كلّه ، وأنّه على كلّ شيءٍ وكيل ، وأنّه يحكم لا معقّب لِحُكمه ، وأنَّه لا يشرك في حكمه أحدًا ، وأنّه ما من دابّة إلا هو آخذٌ بِنَاصِيَتها ، وأنّه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وأنَّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ، كيف يضِل عقل الإنسان والقرآن يبيّن له حقيقة الكون ؟ وحقيقة الحياة الدنيا ؟ وحقيقة الحياة الآخرة ؟ وحقيقة الإنسان ؟ وحقيقة التوحيد؟

 

من آمن بالله واهتدى بهديه فله معاملة خاصة من الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قال تعالى :

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[ سورة طه : 123]

 كيف تشقى نفس الإنسان وتحزن وقد منَحَه الله نعمةً هي أثمن ما في الحياة النفسِيَّة على الإطلاق ، ألا وهي نعمة الأمْن ، تلك النِّعْمة التي عزَّتْ على كثير من الناس ، فهو حينما آمن بالله وحده ابتعَدَ عن الشِّرْك الجليّ والخفيّ ، وحينما ابْتعد عن الشِّرْك ابتعد عن العذاب النفسي ، قال تعالى :

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾

[ سورة الشعراء : 213]

 فالإنسان لا يشقى بالتوحيد ، حينما يوحِّد يرى أنّ الأمر كلّه بيَد الله ، وأنّ علاقته وحدها مع الله ، وأنّه لا نافع ولا ضارّ إلا الله ، ولا معطي ولا مانع إلا الله ، ولا معزّ ولا مُذِلّ إلا الله ، ولا خافض ولا رافع إلا الله ، وأنّ الأمر كلّه بيَدِ الله تعالى ، وأنَّه حليم كريم عظيم غنيّ قدير ودود لطيف ، كلّ أسمائه حسنى ، فكيف تشقى نفسهُ ؟ وكيف تشقى نفس قارئ القرآن الكريم والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

[ سورة الجاثية : 21]

 أنت بِمُجرّد انّك آمنت بالله ، واهتدَيْتَ بِهُداه لك معاملة خاصّة بِنَصّ هذه الآية ، وهذا معنى قول الله عز وجل :

﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾

[ سورة إبراهيم : 27]

 أنت مطمئنّ ، هل يعقل أن تعامل أيها المؤمن كما يُعامل الكافر في كلّ شيءٍ ؟ قال تعالى :

﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية : 21]

 في الدنيا وفي حياتك .
 أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن ينْعمُ بِطُمأنينة أعظم من أن تُدْرك يؤكِّدُها له خالق الكون ، الله جلّ جلاله لن يضيّع على المؤمن عملهُ ، ولا إيمانه ، وأنَّه لن تكون حياته كحياة عامّة الناس ، وكيف تشقى نفس قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾

[ سورة فصلت : 30]

 هل من شيء أيها الأخوة أشدّ تَدميرًا للنفس من الخوف ؟ أنت من خوف المرض في مرض ، ومن خوف الفقر في الفقر ، وتوقّع المصيبة مصيبة أكبر منها ، هل من شعور أشدّ إيلاماً للنفس من النَّدَم والحزن على ما فات ؟ فحينما يُفاجأ الإنسان بما بعد الموت ويُصْعق يقول : يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله ! يا ليتني قدَّمت لِحياتي ؟! يا ليتني اتَّخَذت مع الرسول سبيلاً ، يا ويلتا ! ليتني لم أتَّخذ فلانًا خليلاً ، لكنّ القرآن يطمْئِنُ المؤمنين الذين آمنوا بالله واستقاموا على أمره بأنهم لا خوف عليهم في الدنيا لأنّ الله وليُّهم وناصرهم ، ويدافع عنهم ويهديهم سواء السبيل ، ولا هم يحزنون على فراقها لأنّ المؤمن ينتقل بالموت من ضيق الدنيا إلى سعَة الآخرة .

 

ما ورد في السنّة المطهّرة الصحيحة عن القرآن :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ماذا ورد في السنّة المطهّرة الصحيحة عن القرآن ؟ يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاريّ في صحيحه عن عثمان بن عفان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :

(( خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ ))

[البخاري عن عثمان بن عفان ]

(( بلِّغُوا عني ولو آية ))

[البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]

 أعظم عملٍ تفعلهُ أن تتعلّم القرآن وأن تعلّمه ، لا تنسى الثاني أن تعلّمه ، حضرتَ مجلسَ علمٍ في تفسير القرآن ، حضرت خطبةً فسِّرَت فيها آية ، أفضل عملٍ تعملهُ أن تبلّغ شرْح هذه الآية ، بلّغوا عنّي ولو آية ، إذًا خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ، لا ينطق عن الهوى ، سيّدنا سعد بن أبي وقاص يقول : " ثلاثة أنا فيهنّ رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس - من هذه الثلاثة - ما سمعتُ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا علمتُ أنَّه حقّ من الله تعالى" ، فيقول عليه الصلاة والسلام :

(( خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ ))

[البخاري عن عثمان بن عفان ]

 إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ، يعلي شأنهم ، ويجعلهم كالكواكب الدريّة ، يجعلهم في مكانة رفيعة سامية ، يجعل الأنظار تلتفتُ إليهم ، بهذا الكتاب ، قد يكون للإنسان عمل متواضع جدًّا ، مهنة ، حرفة ، لا يأبه لها أحد ، فإذا حفظ القرآن ، وتعلّم القرآن ، أصبح من كبار القرّاء ، ومن كبار الحفّاظ ، وأصبح جامعًا ، يقول عليه الصلاة والسلام : إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ، والذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، وأنّ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرجّة ، ريحها طيّب وطعهما طيّب ، وأنّه لا حسد إلا في اثنتين ؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه أطراف الليل ، وآناء النهار ، ورجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفقهُ آناء الليل والنهار ، ومن حديثٍ موجَّهٍ لسيّدنا معاذ رضي الله عنه ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((يا معاذ المؤمن لدى الحقّ أسير ...))

[حلية الأولياء لأبي نعيم عن معاذ بن جبل]

 غير المؤمن متفلّت كالدابة ، أما المؤمن فمقيّد بالقرآن ، مُقيَّد بالأمر والنّهي ، مُقيّد بِمَنهج الله عز وجل ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((يا معاذ المؤمن لدى الحقّ أسير ...))

[حلية الأولياء لأبي نعيم عن معاذ بن جبل]

 والمؤمن قيّده القرآن عن كثير من هوى نفسه ، النّفس تشتهي أن تنتقم ، تشتهي أن تأخذ ما ليس لها ، لكنّ المؤمن قيَّده القرآن عن كثير من هَوَى نفسه ، وشهواته ، وحال بينه وبين أن يهلكَ فيما يهوى ، ويقول عليه الصلاة والسلام :

((لا يحزن قارئ القرآن ...))

[ ورد في الأثر]

 اقرأ القرآن كلّ يوم ، تجد أنّ هذا الضِّيق الذي تشعر به قد انْزاح عن قلبك ، أنّ هذه الكآبة قد تلاشَت ، وأنّ هذا الشيء المُقْلق قد تبدَّد ، لأنَّك تقرأ كلام الله ، وكلام الله فيه روح، وغذاء لِنَفسِكَ ، وفيه إقناع لِعَقلك ، وله تأثيرات متوازية ، تأثير على عقلك ، وتأثير في نفسك ، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنَّه :

(( لا يحزن قارئ القرآن ، ولا يعذّب الله قلبًا وعى القرآن ))

[ ورد في الأثر]

 وفيه بِشارةٌ كبيرة جدًّا ، ما من شيءٍ يؤلمُ الإنسان كشَيْخوخة يُرَدُّ فيها إلى أرذل العمر ، ما من شيءٍ يضعف مكانة الإنسان كخريف العمر يصبح منبوذًا أحيانًا ، يصبحُ ذا أخلاق شرسة ، حشريّ المِزاج ، يعيد القصّة آلاف المرات ، ينبذهُ أهله ، هذا الذي ما عرف الله في شبابه يُردّ إلى أرذل العمر ، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام يبشّر قارئ القرآن أنّ كلّما قرأهُ ازداد تألُّقًا ، وازداد عقلاً ، وازداد نورًا ، وازداد مكانةً ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((لا يعذّب الله عبدًا وعى القرآن ، ومن جمع القرآن متّعه الله بعقله حتى يموت ...))

[ ورد في الأثر]

 هذا القرآن ضمانةٌ لك من الخرَف ، ويقول عليه الصلاة والسلام :

((اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فإنَّك لسْتَ تقرؤُه ، إذا قرأت الآية الكريمة : قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ....))

[ ورد في الأثر]

 وأنت لا تغضّ البصر ، إنَّك لا تقرأ القرآن ، وإذا قرأت الآية الكريمة :

﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 188]

 وأنت تأكل أموال الناس بالباطل فأنت لا تقرأ القرآن ، إيّاك أن تقع في هذا الوهم الكبير ، أنت لا تقرؤه إلا إذا أقمْت حدودهُ ، إلا إذا ائتمرْت بأوامره ، وانتهَيْت عن نواهيه ، عندئذٍ تقرؤهُ ، اقرأ القرن ما نهاك فإن لم ينهك فإنَّك لسْتَ تقرؤُه ، ويقول عليه الصلاة والسلام :

((ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه ...))

[الترمذي عن صهيب ]

 قد يأتي خاطب مستقيم عفيف ، تردُّه لفقْره ، وتقبل خاطبًا لِغِناه ، على فسْقه وفُجوره ، أنت لا تقرأ القرآن وربّ الكعبة ، ولو قرأتهُ آلاف المرات قال تعالى :

﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُم﴾

[ سورة البقرة : 221]

 أنت لا تقرؤهُ ، كلّ إنسان يخالف أوامر الله عز وجل فإذا قرأهُ وقال : صدق الله العظيم فهو كاذب ، لأنّه لا يصدّقه ، ولو صدَّقه لما عصى أمر الله عز وجل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لذلك ورد حديث يقصم الظَّهر ، يقول عليه الصلاة والسلام:

((ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنهُ ...))

[ ورد في الأثر]

مراجعة المؤمن حساباته بشكل دقيق :

 نحن في شهر القرآن ، نحن في شهر التوبة والمغفرة ، وشهر الصُّلح مع الله ، وشهر الانتقال من الجهل والوهم إلى المعرفة والعلم ، نحن في شهر الانتقال من وُحول الشهوات إلى جنّات القربات ، نحن في شهر الانتقال من مدافعة التَّدَني إلى متابعة الترقي ، راجعوا أنفسكم ، دقِّقوا في حساباتكم ، ونظِّموا أوراقكم ، تأمَّلوا في كلّ دقيقة من دقائق حياتكم ، تأمّلوا في بيوتكم ، هل بيتك بيتٌ إسلامي ؟ تأمّل في خروج زوجتك وبناتك ، تأمّل ما في هذا البيت من شيءٍ يُبعدُ عن الله عز وجل ، في علاقاتك الاجتماعِيَّة ، في زياراتك ؛ هل هناك اختلاط محرّم في القرآن ؟ تأمّل في عملك ؛ هل هناك كسبٌ حرام ؟ دقِّق في دخلك ومصروفك ، هذا هو المؤمن ، يراجع حساباته بِشَكل دقيق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل إلى ما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

نصاب الزكاة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ رمضان شهر الزكاة ، ونِصاب الزكاة كما تعلمون عشرون مثقالاً من الذهب ، والمثقال من الذَّهَب يعادل أربعة غرامات ومئتين وستّة وخمسين بالألف ، أي هذا النّصاب يعادل خمسة وثمانين غراماً من الذهب ، فإذا عرفت سعر الغرام من الذهب تعرف نِصاب الذّهب ، أو مئتي درهم من الفضّة ، مئتا درهم من الفضّة تعدل غراماً على وجه التحديد، وهذه السبعمئة ثمنها اليوم سبعة آلاف ، والعلماء يروْنَ أنَّه من مصلحة الفقير ينبغي أن تحسب زكاة مالك على أضعف النِّصابَين ، قد يزيد نصاب الزكاة على حساب الذهب بأربعين ألفاً ، أما نصاب الزكاة على حساب الفضّة فسبعة آلاف ليرة ، وحينما تذوق طعم الإنفاق تصدّق ، لماذا اسْتحْسَنَ العلماء أن تحسب زكاة مالك على حساب الفضّة لا على حساب الذهب؟ لأن مِنْ سبعة آلاف فما فوق تجِبُ فيها الزكاة على حساب الفضّة ، ومن أربعين ألفاً أو فيما يُعادلها فما فوق تجب الزكاة على حساب الذّهب وهذا َلِصالِحِك ، ولِصالحِ الفقير ينبغي أن تدفع على حساب الفضّة لكنّ الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة يبيّن أنّ المؤمن ينفق المال أحيانًا فوق حدّ الزكاة ، في المال حقّ سِوَى الزكاة .
 شيءٌ آخر : نصف الصاع من البرّ يساوي 2000 غرامًا ، ونحن بلاد القمح لذلك هذا النّصاب من زكاة الفطر أو الرأس ، بالمناسبة أيّها الأخوة الشيء اللّطيف أنّ زكاة الرأس تجِبُ على كلّ صائمٍ ؛ فقيرًا كان أم غنيًّا ، ذكرًا أم أنثى ، صغيرًا أم كبيرًا ، عبدًا أم حُرًّا ، فمن كان عندهُ في البيت قوتُ يومه ، وجْبةُ طعامٍ واحدة فقط تجبُ عليه زكاة الفطر ، لماذا ؟ لِيَذوق الفقير طعْم الإنفاق لِمَرَّة واحدة في السنة ، فقير معْدَم وليس في بيته إلا وجبة طعام واحدة يمكن أن ينفق ، إذا يمكن للفقير أن يُعطي وأن يأخذ .
 نصاب زكاة الفطر الأصحّ أن تكون خمسون ليرة على كلّ فرْد تمونُهُ أو تلي عليه، وربّما أنفق بعض المؤمنين عن الأجِنَّة في بطون زوْجاتهم ، عن كلّ جنين ، أو عن كلّ ولد ، ذكراً كان أو أنثى ، كبيرًا أو صغيرًا ، فقيرًا أو غنيًّا ، أو أختك التي تنفق عليها ، أو ابن أختك ، كلّ فرد تمونه أو تلي عليه تجب عليه زكاة الفطر

 

تمييز زكاة الفطر من زكاة المال :

 الخطبة القادمة إن شاء الله سوف تكون عن الإنفاق ، وهناك تفاصيل كثيرة ، والإمام الشافعي يرجّح دفْع الزكاة في أوَّل رمضان ، لأنّ في أوَّل رمضان هناك متّسع لِشِراء الحاجات ، وهو شهر بركة وخير ، وتوفير الطعام والشراب واللّحوم ، وتوفير الملبوسات للعيد ، فالأولى أن تدفع زكاة المال وزكاة الفطر في مطلع رمضان ، ونحن الآن ندعو عدّة جمعيّات حضرَت هذا المسجد ، فأرجو أن توضَع في مكان خاص زكاة الفطر ، وفي مكان آخر زكاة المال ، زكاة الفطر ينبغي أن تُنفق قبل أوّل أيام العيد ، وقبل صلاة العيد ، فإذا لم تنفق في هذا الوقت لا تسقط ، ولا تحسب زكاة فطر ، حتى تنتبه الجمعيّات الخيرية و تضع مبلغ زكاة الفطر في مكان ، ومبلغ زكاة المال في مكان آخر .
 أيها الأخوة الكرام ؛ في مسجدكم ثلاث جمعيّات ، الأولى هي جمعية الشيخ محي الدين الخيرية ، والجمعيّة الثانية ؛ جمعية ركن الدين الخيرية ، والجمعية الثالثة جمعية المقاصد الخيرية المغربيّة ، وكلّ هذه الجمعيّات معها كتب رسميّة من السيّد مدير أوقاف دمشق ، وتنظّم الإيصالات النظاميّة وتحفظ لدى الجهات المسؤولة ، فإن شاء الله تعالى أموالكم تذهب إلى حيث ينبغي أن تذهب .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور