وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0638 - العفو والصفح.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

العفو و الصفح :

 أيها الأخوة الكرام: الله جل جلاله عفو كريم، يعفو عن السيئات، ويعفو عن كثير، فإذا تاب العبد توبةً نصوحة أنسى الله حافظيه، وجوارحه، وبقاع الأرض جميعها خطاياه وذنوبه. فالعفو كما يقول علماء اللغة أبلغ من المغفرة لأن الغفران يُشعر بالستر، بينما العفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر، وقد أمر الله جل جلاله نبيه الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم بالعفو والصفح، فقال تعالى:

﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾

[سورة الأعراف:199]

 وقال أيضاً:

﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾

[ سورة الحجر: 85]

 وقد فهم النبي عليه الصلاة والسلام العفو بأن تعطي من حرمك، وأن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال جل جلاله:

﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة: 109]

 أيها الأخوة الكرام: أجمع علماء التفسير على أن قوله تعالى:

﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة النور: 22]

 أجمع علماء التفسير على أن المقصود بكلمة أولي الفضل سيدنا الصديق رضي الله عنه، كان يعطي مسطحاً، فهو من أقربائه الفقراء الذين هاجروا في سبيل الله.. حينما أشاع في المدينة حديث الإفك امتنع عن العطاء، فعاتبه الله جل جلاله وقال:

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾

 أي إذا كنت مكلفاً من قبل الحق جل جلاله أن تعفو عمن أشاع في المدينة حديث الإفك الذي لا يحتمله أب فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟ إذا كان هذا الذنب الذي لا يُحتمل قد أمر المؤمن أن يعفو عن قائله فكيف فيما سوى ذلك من الذنوب؟

 

الاتصال بالله يعلّم الإنسان العفو و الصفح :

 أيها الأخوة الكرام: سؤال يطرح نفسه أمامنا، لماذا يعفو أناس وينتقم آخرون ؟
 الجواب: الإنسان إذا اتصل بالله العفو الكريم اشتق منه بعضاً من هذا الخلق العظيم، وإذا استقرت الرحمة في قلب الإنسان فإنها تفيض على خصومه بالعفو والغفران، فيصبح العفو أحبَ إليه من الانتقام، وإذا علم الإنسان أن خصمه بشكل أو بآخر أخٌ له في الإنسانية فإذا انتقم منه خسره، وإذا عفا عنه ربحه، ولأن يربح الإنسان أخاه خير له من الدنيا وما فيها عندئذ يرى في العفو غُنْماً، وفي الانتقام غُرْماً.
 أيها الأخوة الكرام: إذا أيقن الإنسان أن العفو سلم يرقى به إلى عز الدنيا والآخرة، وأن الانتقام دركات يهوي بها إلى ذلٌ ومقت يلاحقانه حتى الممات، آثر العفو على الانتقام، وإذا علم أبناء المجتمع الواحد أنه بالعفو تتسع دائرة الصداقات والمودات فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص، وبالانتقام تفشو العداوات والأحقاد حتى تصل بالمجتمع إلى أحط الدركات صار العفو ديدنهم.

 

النبي الكريم أسوتنا الحسنة وقدوتنا الصالحة في العفو :

 يا أيها الأخوة الكرام: تعالوا بنا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، أسوتنا الحسنة، وقدوتنا الصالحة، ومثلنا الأعلى الذي بعثه الله معلماً للبشرية، ورحمة للإنسانية، النبي علمنا بلسانه، وعلمنا بأفعاله، ولعل أفعاله بالغة التأثير لأنها حقيقة مع البرهان عليها.
 تعالوا بنا لنرى النبي صلى الله عليه وسلم، لنرى نبينا الأكرم ومعلمنا الأعظم وهو يدخل مكة فاتحاً، يدخل مكة التي ائتمرت على قتله، مكة التي أخرجته، مكة التي عذبت أصحابه، مكة التي نكلت بهم، مكة التي قاطعته، مكة التي كذبته، مكة التي قاتلته في بدر وأحد والخندق، ومكة التي ألبت عليه العرب جميعاً.
 لقد ألقى أهلها السلاح، ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيهم ما يرى، إنهم في قبضته، أمره نافذ في رقابهم، حياتهم جميعاً معلقة بين شفتيه، وهذه عشرة آلاف سيف تتوجه يوم الفتح فوق ربا مكة، تأتمر بأمره،اً وتنتظر إشارةً منه، إنها تستطيع أن تهلكهم في لمح البصر.
 لقد دخلها عليه الصلاة والسلام يوم الفتح الأعظم دخول المتأدبين الشاكرين، معترف بعظم الفضل، ولم يدخلها دخول المتكبرين المتجبرين ثملاً بنشوة النصر. لقد سار النبي عليه الصلاة والسلام في موكب النصر يوم فتح مكة حانياً رأسه حتى تعذر على الناس رؤية وجهه، وحتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، مردداً بينه وبين نفسه ابتهالات الشكر المبللة بالدموع.
 سأل أعداءه بعد أن استقر به المقام: يا معشر قريش، ويا أهل مكة فاشرأبت إليه الأعناق، وزاغت الأبصار، سألهم ما تظنون أني فاعل بك؟ وصاحت الجموع الوجلة بكلمة واحدة، كأنما كانوا على اتفاق في ترديدها، قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٌ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
 أيها الأخوة الكرام: لقد غُمر المذنبون الذين كانوا ينتظرون القصاص، ويستحقونه بأنبل عفو، وأجمل صفح، حتى قال أبو سفيان الذي ناصب رسول الله العداء أعواماً طويلة، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أرحمك! وما أحلمك! وما أحكمك! وما أوصلك! وما أكرمك!
 يا سيدي يا رسول الله؛ ما أجمل عفوك عند المقدرة، وما أعظم نفسك التي سمت كل هذا السمو فارتفعت فوق الحقد، وفوق الانتقام، لقد ترفعت عن كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان، لم تكن تعرف العداوات، بل لم تكن تريد أن تقوم بين الناس، لقد مكنك الله من عدوك فقدرت وعفوت، فضربت بذلك للعالم كله ولأجياله مثلاً أعلى في العفو والصفح، فلم تجعل من يوم فتح مكة يوم تشفٍ ولا انتقام بل جعلته يوم برٍّ ورحمة وسلام.
 أيها الأخوة الكرام: عفوه صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة يذكرنا بعفوه عن أهل الطائف الذين كذبوه أشد التكذيب، واستخفوا بدعوته واستهزؤوا بها، بل أغروا به سفهاءهم وصبيانهم. جاءه جبريل الأمين يستأذنه أن يطبق عليهم الجبلين، فما زاد عن أن قال:

(( .. لا يا أخي، اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون، أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))

[متفق عليه عن عائشة]

 لم يتخلّ عن قومه، لقد عفا عنهم، والتمس لهم العذر، وتوسم بأبنائهم الخير، هذا عن عفوه الجماعي، فماذا عن عفوه الفردي؟

 

عفو النبي الفردي :

 يتجلى عفوه الفردي بالصفح عن نفر من المشركين بالغوا في عداوتهم وأذيتهم، ويوم فتح مكة ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وهاموا على وجوههم، ومن هؤلاء: صفوان بن أمية، الذي شدّ رحاله صوب جدة، ليبحر منها إلى اليمن ، واشتد إشفاق عمير بن وهب عليه، وصمم أن يسترده من يد الشيطان بكل وسيلة، وذهب مسرعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه إلى البحر فأمنه صلى الله عليك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو آمن، قال: يا رسول الله هو آمن ؟ ثم قال: يا رسول الله أعطني آيةً يعرف بها أمانك؟ أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام عمامته التي دخل بها مكة. فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر، قال: ياصفوان فداك أبي وأمي، الله اللهَ في نفسك أن تهلكها، هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، عزه عزك، وشرفه شرفك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. فرجع معه حتى دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان للنبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق. قال صفوان: فاجعلني في الخيار شهرين. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت في الخيار أربعة أشهر. وفيما بعد أسلم صفوان، وسعه عفو النبي.
 وروي أن أعرابياً جاء النبي صلى الله عليه وسلم يطلب شيئاً، فأعطاه ثم قال: أأحسنت إليك يا أعرابي؟ قال: لا ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن كفوا، ثم قام ودخل منزله فأرسل إليه وزاده شيئاً، ثم قال له: أأحسنت إليك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك. قال: نعم. فلما كان الغد جاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك يا أعرابي؟. قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. أما التعليق- تعليق النبي عليه الصلاة والسلام على هذه الحادثة- فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عنه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم بها، فتوجه لها بين يديها، فأخذ من قُمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها، وقال عليه الصلاة والسلام: إني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ))

[ البزار عن أبي هريرة]

 إن الرسول الحليم صلى الله عليه وسلم لم تأخذه الدهشة لجحود الأعرابي أول الأمر، وعرف طبيعة هذا الصنف من الناس، مردوا على الجفوة في التعبير، والإسراع بالشر، وأمثال هؤلاء لو عولجوا بالعقوبة، لقضت عليهم، ولَمَا كانت ظلماً، ولكن العظماء أصحاب القلوب الكبيرة لا ينتهون بمصائر العامة إلى هذا الختام الأليم، إنهم يفيضون من رحمتهم وحلمهم على ذوي النزق، حتى يلجئونهم إلى الخير إلجاءً، إن هذا الأعرابي الذي اشترى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رضاه بهذا المال لا يبعد أن تراه بعد أيام، وقد كُلِّف بعمل خطير، أن يقدّم فيه الغالي والرخيص عن طيب خاطر، وما المال إلا قمام الأرض تُستناخ به الرواحل الجامحة، لتقطع عليها المفازات الشاسعة. روى الإمام مسلم عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت:

(( مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))

[متفق عليه عن عائشة ]

ثمار العفو :

 وقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم ينتقم من أحد لنفسه قط. وقد تخلق الصحابة الكرام بأخلاق نبيهم العدنان في العفو والصفح، فقد روى البخاري عن أبن عباس، عن عيينة بن حصن قال لعمر بن الخطاب: يا بن الخطاب، ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل؟ فغضب عمر، حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه:

﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة الأعراف:199]

 وإن هذا من الجاهلين فقال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله عز وجل. و أورد السيوطي في الجامع الصغير حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو هريرة:

(( من كظم غيظه، وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ))

[ السيوطي عن أبي هريرة]

 انظروا إلى ثمار العفو التي نوه بها النبي صلى الله عليه وسلم، إنها الأمن والإيمان، الأمن مع الخلق، والإيمان مع الحق. فهذا الذي يؤثر الانتقام على العفو، يجعل الجو المحيط به ضاغطاً، وعلاقاته مع الآخرين متوترة، ويكون انتقامه تربة خصبة لانتقام مضاد فيتوقع المنتقم الشر، وتوقُّع الشر شرٌّ من وقوعه، وهكذا يفقد الأمن، يفقد أثمن ما في الحياة النفسية، قال تعالى:

﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 81-82]

 أما إذا آثر الرجل العفو على الانتقام، فقد جعل الجو المحيط به ودياً، وجعل علاقاته بالآخرين مريحة، وجعل من أعدائه الألداء أصدقاء حميمين، قال تعالى:

﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾

[ سورة فصلت:34]

 هذا عن أول ثمرة من ثمار العفو، فماذا عن ثمرة الإيمان ؟

 

ثمار الإيمان :

 إن الإنسان إذا عفا عن أخيه كان أقرب إلى ربه مما لو انتقم منه، لأن الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وفي الحديث القدسي:

(( إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ))

[ البخاري ]

 إذا كانت إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، فما بالك بالعفو عن إنسان حيث بالعفو عنه يبدل خوفه أمناً وضيقه فرجاً ويأسه أملاً؟ إن العفو يدل على الإيمان ويؤكده، ويزيد فيه ويجدده، فالإنسان بنيان الله وملعون من هدم بنيان الله.
 حينما تصح التوبة، ويتحقق الندم، وتصدق العزيمة على ترك الذنب، عندئذ يصبح العفو حياة للمذنب، كما كان القصاص حياة للمجتمع، ويغدو فرصة ثمينة ينالها المذنب، ليؤكد صحة توبته، وعظيم ندمه، وصدق عزيمته على ترك ما اقترفت يداه، وليؤكد أيضاً الجانب الخير في الإنسان، وربما كان هذا المذنب الذي عُفي عنه علماً من أعلام الأمة، ومصلحاً من كبار مصلحيها، وقائداً فذاً من قادتها، والتاريخ الإسلامي حافل بمثل أولئك الذين أصبحوا من قادتها الأبطال وعلمائها الأعلام، وأوليائها المقربين كعكرمة بن أبي جهل. مَنْ عكرمة بن أبي جهل ؟ هو الذي عادى النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ العداء، وآذى أصحابه أفدح الإيذاء، وهو أحد صناديد قريش المعدودين، وأبرز فرسانها المرموقين، وهو ابن أبي جهل، وجبَّار مكة الأول، وزعيم الشرك الأكبر، ولم يكتف الني صلى الله عليه وسلم بالعفو عنه بل وجه أصحابه قائلاً:

(( سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً فلا تسبُّوا أباه فإن سبَّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت ))

[الحاكم عن عبد الله بن زبير ]

 وقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته صداً عن سبيل الله إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله.
 وفي اليرموك لما اشتدَّ الكرب على المسلمين نزل عن جواده، وكسر غُمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادر إليه خالد بن الوليد، وقال: لا تفعل يا عكرمة فإن قتلك سيكون شديداً على المسلمين، فقال: إليك عني يا خالد، لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة أما أنا وأبي فقد كنَّا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعني أكفِّر عما سلف مني.. لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة وأفرُّ من الروم اليوم؟ إن هذا لن يكون أبداً..

 

المؤمنون الصادقون إذا أصابهم البغي هم ينتصرون :

 إن الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة الصحيحة، التي تحضُّ على العفو - هذه ملاحظة مهمة جداً - لا تعني، ولا تريد أن يكون العفو مرتعاً للمجرمين يسرحون ويمرحون في رحابه، ولا تعني ولا تريد أن يكون العفو حصناً لهم يحميهم من حكم العدالة فيهم، ولا تعني ولا تريد أن يكون العفو منطلقاً جديداً للعدوان على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم قال تعالى:

﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[سورة البقرة:179]

 كان أبو عزة الجمحي الشاعر من أسرى بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد مبلغ أربعة آلاف درهم فداءً لكل أسير، فكلم أبو عزَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لقد عرفتَ ما لي من مال، وإني ذو حاجة، وذو عيال، فامنن عليَّ، فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، وأخذ عليه العهد ألا يظاهر عليه أحداً لكنه نقض العهد، وعاد إلى ما كان عليه من سب النبي صلى الله عليه وسلم، وهجاء أصحابه، وحضِّ الناس على قتاله. وفي يوم أحد ظفر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا تقتلني وامنن عليَّ ودعني لبناتي، وأعاهدك ألا أعود، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

(( لا والله لا أدعك تمسح عارضيك بأستار الكعبة وتقول للناس: خدعت محمداً مرتين، إن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

ولم يعف عنه.
 أيها الأخوة: لهذا ليس من العفو أن نستسلم لعدو غاصب، سلب الأرض، وانتهك الحرمات، وأفسد العقائد، وأفرغ القيم، وزور التاريخ، فالمؤمنون الصادقون إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.
 اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إصلاح ذات البين :

 أيها الأخوة الكرام :عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالس، إذ رأيناه ضحك، حتى بدت ثناياه، فقيل له: مم تضحك يا رسول الله ؟
 قال:

((رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز وجل فقال أحدهما: خذ مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته.. فقال: يا رب إنه لم يبقَ من حسناتي شيء، فقال صاحبه: يا رب فليحمل من أوزاري. ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدموع، ثم قال: إن ذلك اليوم ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس فيه إلى أن يُحمل عنهم أوزارهم. ثم قال الله تعالى للطالب لحقِّه: ارفع بصرك فانظر إلى الجنان فيرفع رأسه فيرى ما أعجبه من الخير والنعمة. فقال: لمن هذا يا رب ؟ فقال الله تعالى: لمن أعطاني ثمنه. قال: ومن يملك ذلك يا رب ؟ قال: أنت، قال: بماذا ؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: أُشهدُكَ يا رب أني قد عفوت عنه، فقال الله تعالى: خذ بيد أخيك، ثم أدخِله الجنة))

[ المستدرك عن أنس بن مالك]

 ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( فاتقَّوا الله وأصْلِحُوا ذاتَ بينكم ))

 فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة، الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نصلح ذات بيننا، وقد فهم بعض العلماء هذه الآية على ثلاثة مستويات؛ المستوى الأول: أن نصلح أنفسنا التي بين جوانحنا، بتعريفها ربها، وحملها على طاعته، والتقرب إليه لتسعد بقربه.
 والمستوى الثاني: أن نصلح كل علاقة بيننا وبين الآخرين الأقارب منهم والأباعد، عن طريق معرفة الحقوق والواجبات والوقوف عند حدود الشرع واعتماد العدل والإحسان. والمستوى الثالث: أن نصلح فيما بين الناس، بحملهم على العفو والترغيب فيه، وبيان ثماره اليانعة، ونتائجه الطيبة، ولو كلَّفنا وقتاً وجهداً ومالاً لأننا إن فعلنا ذلك فإنما نطبِّق قوله تعالى:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الأنفال:1]

أولى الناس بالعفو أقدرهم عليه :

 أيها الأخوة الكرام: في ختام هذا الموضوع طوبى لمن كان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وطوبى لمن أصلح بين الناس، ووفق بينهم، وطوبى لمن استعمله الله في الخير..
 إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك.
 من عادة الكريم أنه إذا قدر غفر، وإن رأى زلَّةً ستر، فلا سؤدد مع الانتقام، وأولى الناس بالعفو أقدرهم عليه، وأقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب، وكفى بالمرء إثماً أن يغضب إذا قيل له اتـق الله، ولا يُعرف الحليم إلا عند الغضب، وقال خليفة عُرف بالحلم: إني آنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي. وقيل لابن المبارك رحمه الله تعالى: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة؟ فقال: ترك الغضب. وقال الأحنف: إياكم ورأي الأوغاد فقيل له: وما رأي الأوغاد؟ فقال: الذين يرون الصفح والعفو عاراً وحمقاً، وقال بعضهم:

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف  بما جنى من الذنوب واقترف
***

 لقوله:

﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾

[ سورة الأنفال:38]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور