وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0528 - الرجوع إلى الحق - القوانين الفيزيائية والكيميائية .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الرجوع إلى الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ موضوع الخطبة خلق كريم قلّما يلتفت الناس إليه ، وقلّما يُذكر مع الأخلاق الكريمة التي أمرنا الله أن نتحلى بها .
 إن هذا الخلق الكريم الذي هو محور الخطبة - إن شاء الله تعالى - هو الرجوع إلى الحق ، فمن عرف الحق ، واستبان له عليه أن يرجع إليه ، لا ينبغي أن يبقى مصراً على خطئه ، لا ينبغي أن يركب رأسه ، لا ينبغي أن يقول كيف أتراجع ؟ هناك فضيلة عظمى من الفضائل الأخلاقية أساسها أنك إذا جانبت الصواب ، والتبست عليك الأمور ، وكنت واهماً في موضوع من الموضوعات ، ثم ظهر لك الحق واستبان لك عليك أن ترجع إليه ، وهذه فضيلة من أعظم الفضائل ، ولولا هذه الفضيلة لهلك الناس ، لبقي الضال ضالاً ، والواهم واهماً ، والمخطئ مخطئاً ، والمفتري مفترياً ، ولضاعت معالم الحق ، ولدفع الناس ثمن إصرارهم على انحرافهم الأثمان الباهظة .

 

المؤمن مع الحق و غير المؤمن تعنته يمنعه من قبول الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الصفة من لوازم الإيمان ، لأن المؤمن يبغي الحق ، ولا شيء غير الحق ، وحيثما وجد الحق خضع إليه ، ورجع إليه ، وأعلن أنه رجع إليه ، وفي التاريخ الإسلامي مواقف تؤكد هذه الفضيلة لا تُعد ولا تُحصى ، أما غير المؤمن فانحرافه الأخلاقي سببه الكبر ، والاستعلاء ، وحب الغلبة ، والخوف من الظهور بمظهر ارتكاب الخطأ، والاعتزاز بالإثم ، وعدم قبول الحق من أشخاص يتوهم أنهم دونه ، لو أن الحق الصراح المؤيد بالأدلة العقلية والنقلية والواقعية والفطرية سمعه من رجل دونه مرتبة ، إن كبره وتعنته وغطرسته واستعلاءه يمنعه كل أولئك من قبول الحق والانصياع إليه .
أيها الأخوة الكرام ؛ المؤمن ليس عنده أنانية تصرفه عن الحق ، وليس عنده تعصب يصده عن سماع الحق ، وليس عنده عزة آثمة تحجبه عن الحق ، لا أنانية ، ولا عصبية ، ولا عزة آثمة ، هذه كلها معافى منها المؤمن ولله الحمد . لذلك نجد المؤمنين قد طرحوا عصبياتهم ، ونبذوا أنانيتهم ، واستهانوا بمصالحهم مع قومهم من أجل الحق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ كل شيء يقربك من الله عليك أن تفعله ، وكل شيء يبعدك عن الله عليك أن تجتنبه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الحق ، هو الحقيقة الوحيدة في الكون ، كل شيء يقربك إلى الله عليك أن تتقرب إليه ، وكل شيء يبعدك عن الله عليك أن تبتعد عنه ، فالباطل عليك أن تبتعد عنه ولو أوغلت فيه ، ولو عُرفت به ، ينبغي أن تقول : هذا هو الحق وقد عدت إليه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ سيدنا الصديق رضي الله عنه ، كان من وجهاء القوم ، من علية القوم ، ومع ذلك حينما رأى الحق مع رسول الله انضم إليه ولم يعبأ لا بمكانته بين قومه ، ولا بمصالحه المادية مع أهله ، ولزم الحق ودفع ثمنه باهظاً ولم يعبأ بشيء ، لكن الله سبحانه وتعال كرمه أعظم تكريم ، ورفعه إلى أعلى مقام .

 

دليل من السنة يؤكد فضيلة الرجوع إلى الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أتريدون دليلاً من السنة يؤكد هذه الفضيلة ؟ . . هذا الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال عليه الصلاة والسلام:

((إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير))

[متفق عليه عن عبد الرحمن بن سمرة]

 وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

((من حلف على يمين فرأى خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير))

[مسلم عن أبي هريرة]

 توجيه نبوي واضح وضوح الشمس ، أنت مع الحق حيث كان الحق ، أنت مع الحق حيث دار الحق ، أنت مع الحق لا مع الأشخاص .
 قال مرةً أحد كبار العلماء لشيخه الجليل : والله لأنت أحبّ إليّ من أي شيء ، لكن الحق أحبّ إليّ منك .

 

دليل من سنة النبي العملية عن الرجوع إلى الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لو أردنا أن نقف على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بسيرته العملية ، هذه سنة القولية ، أنت مع الحق ولو حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها كفر عن يمينك وائت الذي هو خير .
 هذه سنته القولية فماذا عن سنته العملية ؟ قبل أن أذكر هذه القصة سأمهد لها بقصة ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه العصر ركعتين ، سلم على رأس الركعتين ، فقال أحد أصحابه ، وهو من عامة أصحابه ، ولعله من أقل أصحابه ، قال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : كل هذا لم يكن . . كيف نفسر هذا القول وقد صلى ركعتين ؟ ، وكيف ينفي أنه صلى ركعتين ؟ قال شراح الحديث : إن الصلاة لم تقصر ، وهو باعتقاده صلى أربعاً ، فقال ذو اليدين : يا رسول الله بعضه قد كان ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : كل ذلك لم يكن ، عندئذ توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه يسألهم ويريد بهذا السؤال التواتر ، لأن التواتر طريقة من طرق صدق الحديث ، لأن الجمع الغفير لا يمكن أن يجتمع على الكذب ، فسأل أصحابه فأجابوه أنه صلى ركعتين .
 يقول الله جل جلاله:

﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾

[سورة طه: 52]

 مقام الألوهية يقتضي أن خالق الكون لا ينسى . لكن مقام النبوة:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾

[سورة الأعلى: 6-7]

 مقام النبوة يحتمل النسيان ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :

((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني))

[متفق عليه عن عبد الله]

 ولكن العلماء أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن ينسى في التبليغ ، لأنه إن نسي في التبليغ كان نقصاً في التبليغ ، لم يؤد التبليغ كما أراد الله عز وجل ، لم يعد معصوماً كما وصفه الله جلّ جلاله ، إن العصمة من لوازم الأنبياء ، فالنبي لا يمكن أن ينسى في موضوع التبليغ القولي ، لكنه ينسى في بعض الأفعال ، لأن مقام الإنسان يقتضي النسيان ، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾

[سورة الأعلى: 6-7]

 لكن بعض العلماء يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما صلى ركعتين لم ينس ، لكنه نسِّي تنفيذاً لقول الله عز وجل:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾

[سورة الأعلى: 6-7]

 لذلك حينما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين قال: "نما نُسِّيت كي أسنّ "
 كيف يسن النبي صلى الله عيه وسلم لنا سجود السهو إن لم ينسَ ؟ هو لم ينس ولكن الله نساه ليسنّ لنا سجود السهو . إذاً هناك حكمة بالغة من نسيانه صلى الله عليه وسلم أرادها الله وهي من فعل الله كي يسن النبي لنا سجود السهو إذا نسينا كم ركعة صلينا .
 هذه القصة مهدت بها لقصة أخرى ، وهي أن الحباب بن المنذر بن الجموح حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل جيشه في معركة بدر في موقع من المواقع ، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
 انظروا أيها الأخوة إلى هذا الصحابي الجليل الذي يتمتع بأعلى مستويات الأدب مع رسول الله ، ومع ذلك يعبر عن أشدّ أنواع الغيرة على صالح المسلمين . قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلك الله فيه ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة .
 وقبل أن نتابع القصة ؛ ألم يكن من الممكن أن يأتي جبريل عليه السلام فيحدد للنبي صلى الله عليه وسلم الموقع المناسب ؟ كان من الممكن ذلك . ألم يكن من الممكن أن يلهم الله نبيه المعصوم الموقع المناسب ؟ كان من الممكن أن يكون ذلك ، ولكن شاءت حكمة الله ، كما شاءت حكمة الله أن ينسيه كم ركعة صلى ليسنّ النبي عليه الصلاة لأصحابه ولأمته من بعده سجود السهو ـ كذلك شاءت حكمة الله جلّ جلاله أن يكون الموقع الذي نزله النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل جيشه ، أن يكون هناك موقع أقرب إلى نجاح المعركة منه . فجاء هذا الصحابي الجليل وهو في أعلى درجات الأدب ، وهو في أعلى درجات الغيرة على نجاح المعركة ، قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلك الله فيه ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام بكل بساطة ، وبكل عفوية، وبكل تواضع: بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال الحباب بن المنذر وهو يقطر أدباً : يا رسول الله هذا ليس بمنزل ، فلننهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القلب - من الآبار- ثم نبني على الماء حوضاً فنملؤه ماءً ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، فقال عليه الصلاة والسلام : لقد أشرت بالرأي .
 هكذا ببساطة وهو سيد الخلق وحبيب الحق الذي يوحى إليه ، هو المعصوم .
 لقد أشرت بالرأي ، ونهض سريعاً ، ونهض معه المسلمون ، وعمل برأي الحباب رجوعاً إلى ما هو أفضل ، ولم يجد حرجاً في نفسه أن يتراجع عن رأيه ، وأن يعمل برأي أحد أتباعه ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف درساً عملياً في فضيلة الرجوع إلى الحق .
 هذا الدرس أعطاه لأصحابه أولاً ، وأعطاه لأمته من بعده ثانياً ، وأعطاه للأمراء وللعلماء على وجه الخصوص ثالثاً . أن إذا جاءتك نصيحة مخلصة ، أن إذا جاءتك ملاحظة قيمة تنم عن غيرة ، وعن حرص ، وعن وفاء ، وعن إخلاص ، وعن ولاء ، لا ينبغي أن تصد عنها ، لا ينبغي أن تعد هذه النصيحة انتقاصاً لقدرك ، كان عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه ، تنفيذاً لقول الله عز وجل:

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك سنته القولية :

((من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير))

 وفي سنته العملية حينما صلى العصر ركعتين ثم قال: "إنما نسيت كي أسن" ، وحينما أنزل أصحابه بهذا الموقع لحكمة بالغة أرادها الله عز وجل ، ليظهر كمال هذا النبي العظيم في تواضعه ، وفي تمثله لفضيلة الناس أحوج ما يكونون إليها ، وهي فضيلة الرجوع إلى الحق .

 

الرجوع إلى الحق أساسه التواضع و حبّ الحق وإيثاره :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ، ولأنه تجري عليه كل خصائص البشر ، كان سيد البشر .

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾

[سورة الكهف: 110]

 لأنه بشر ، هو سيد البشر ، لأنه انتصر على ذاته .
 أيها الأخوة الكرام ؛ قال الله تعالى:

﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾

[سورة الحجرات: 9]

 هذه الفضيلة التي عبَّر عنها النبي بأقواله ، وأكدها بأفعاله ، وكان قدوةً ومثلاً أعلى لمن يأتي بعده ، من أن الإنسان عليه أن يصغي إلى النصيحة ، وليس الذي يصغي إلى النصيحة بأقل أجراً من الذي يسديها ، وما من أحد أكبر من أن يُنصح ، وما من أحد أصغر من أن ينصح ، وهذا الخلق أساسه التواضع ، وأساسه حب الحق وإيثاره ، وأساسه أن الحق هو ديدن المؤمن ، لذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه : " نحن نعرف الرجال بالحق ، ولا نعرف الحق بالرجال" .

 

مثل صارخ من السيرة النبوية المطهرة عن فضيلة الرجوع إلى الحق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أتريدون مثلاً صارخاً من السيرة النبوية المطهرة ، من سيرة أصحاب النبي رضوان الله تعالى عليهم ، وكيف أن هذا الخلق الكريم الرجوع إلى الحق ، كان سبب سعادة بعض هؤلاء .
 أيها الأخوة الكرام ؛ النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرِّح بها وأوهم أنه يريد جهة غير الجهة التي يقصد إليها ، لأن الحرب كما قال عليه الصلاة والسلام خدعة ، إلا في غزوة تبوك ، فإنه لبعد الشقة ، ولمشقة السفر ، ولأن وقتها في القيظ ، النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكون الناس على بينة من أمرهم ، فيستعدوا للأمر ، ويعدوا له عدته ، فبين لهم وجهته في هذه الغزوة . غير أن طائفة من المنافقين أخذوا يثبطون العزائم ، ويوهنون الهمم ، ويثيرون الشكوك ، ويغمزون ويلمزون ، ويطلقون في مجالسهم الخاصة ما يدمغهم بالكفر دمغاً . أحد الغلمان الصغار اسمه عمير بن سعد ، توفي والده وتزوجت أمه من رجل ثري من أثرياء الأوس ، اسمه الجلاس ، هذا الطفل الصغير حينما رأى نساء المهاجرين والأنصار ينزعن حليهن ويلقينه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليكون زاداً لتجهيز الجيش ، وحينما رأى هذا الغلام الصغير عمير بن سعد عثمان بن عفان يأتي بجراب فيه ألف دينار ذهباً ويقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحينما شهد عبد الرحمن بن عوف يحمل على عاتقه مئتي أوقية من الذهب ، ويلقيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحينما رأى رجلاً يعرض فراشه للبيع ليشتري بثمنه سيفاً يقاتل به في سبيل الله ، هذه الصور الرائعة ألهبت حماس الغلام عمير بن سعد ، لكنه عجب أشدّ العجب من تباطؤ عمه الجلاس عن الاستعداد للرحيل ، في جلسة ودية أراد هذا الغلام أن يثير حماس عمه ، فنقل له هذه الصورة المشرقة عن بذل الصحابة الشيء الكثير من أجل هذه المعركة الحاسمة ، ولكن الجلاس ما كاد يسمع من عمير ما سمع حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب الفتى المؤمن ، سمعه يقول : إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه من النبوة فنحن شر من الحمر ، عمير هذا الغلام المؤمن الصغير شده لهذه الكلمة ، فما كان يظن أن رجلاً له عقل كعقل عمه تخرج من فمه هذه الكلمة ، قال له كلاماً يأخذ بالألباب ، وقبل أن يقول له هذا الكلام رأى أن في السكوت عن الجلاس والتستر عليه خيانة لله ورسوله ، وإضراراً بالإسلام ، ورأى في إذاعة ما سمعه عقوقاً بالرجل الذي أنزله منزلة ابنه منه ، لذلك قال له : والله يا عماه ما كان على ظهر أحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ منك ، فأنت آثر الناس عندي ، وأجلهم يداً عليّ ، ولقد قلت الآن مقالة إن ذكرتها فضحتك ، وإن أخفيتها خنت أمانتي ، وأهلكت نفسي وديني ، وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت ، فكن على بينة من أمرك .
 ما أراد أن يعمل عملاً من وراء ظهره ، بين أن يخون الله ورسوله وبين أن يسيء إلى عمه ، فصارحه بذلك .
 مضى عمير إلى رسول الله وأخبره بما سمع ، فاستبقاه النبي عنده ، وأرسل أحد أصحابه يدعو له الجلاس ، وما هو إلا قليل حتى جاء الجلاس فحيّا رسول الله وجلس بين يديه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما مقالة ما سمعه منك عمير بن سعد ؟ وذكر له ما قاله. فقال : كذب عليّ يا رسول الله وافترى ، فما تفوهت بشيء من ذلك ، وأخذ الصحابة ينقلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير ، كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتي وجهيهما ما يكنه صدراهما ، وجعلوا يتهامسون ، فقال واحد منهم : فتى عاق أبى إلا أن يسيء لمن أحسن إليه ، وقال آخر : بل إنه غلام نشأ في طاعة الله ، وإن قسمات وجهه لتنطق بصدقه ، والتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن بالدم ، والدموع تنحدر مدراراً من عينيه ، تتساقط على خديه ، وهو يقول : اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به ، فانبرى الجلاس وقال: إن ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق ، وإن شئت تحالفنا بين يديك ، وإني أحلف بالله أنني ما قلت شيئاً مما نقله لك عمير ، فما إن انتهى من حلفه ، وأخذت عيون الناس تنتقل عنه إلى عمير حتى غشيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه السكنية ، فعرف أصحابه الكرام أنه الوحي فلزموا أماكنهم ، وسكنت جوارحهم ، ولاذوا بالصمت ، وتعلقت أبصارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس ، وبدأ التلهف على عمير ، وظلّ الجميع كذلك حتى سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا قوله جل وعز:

﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾

[سورة التوبة: 74]

 ذكرت هذه القصة لأنها من صميم موضوع هذه الخطبة ولم يأت المغزى بعد. ارتعد الجلاس لهول ما سمع ، وكاد ينعقد لسانه من الجزع ، ثم التفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : بل أتوب يا رسول الله ، بل أتوب ، صدق عمير يا رسول الله ، وكنت من الكاذبين، اسأل الله أن يقبل توبتي ، جُعلت فداك يا رسول الله . وهنا توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفتى عمير بن سعد فإذا دموع الفرح تبلل وجهه ، فمدّ النبي يده الشريفة إلى أذنه وأمسكها برفق وقال : وفت أذنك يا غلام ما سمعت ، وصدقك ربك . وهذا الذي سأقوله بعد قليل . وعاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام ، وحسن إسلامه ، وقد عرف الصحابة صلاح حاله مما كان يغدقه على عمير بن وهب من بر ، وقد كان يقول كلما ذُكر عمير : جزاه الله عني خيراً ، لقد أنقذني من الكفر وأعتق رقبتي من النار .
 كان من الممكن أن يبتعد ، وأن ينسل من الإسلام ، وأن يقطع علاقته بهذا الغلام الذي أساء إليه ، ولكنها روعة ما بعدها روعة ، أن هذا الإنسان أدرك خطأه وعاد .
 أيها الأخوة الكرام ؛ من أكبر الفضائل أن تعود عن الخطأ إلى الصواب ، وعن الباطل إلى الحق ، أنت مؤمن الحق هدفك ، ولا شيء غير الحق ، فلذلك قلّما يذكر الناس إذا ذكروا الشجاعة والكرم وسماحة النفس والحلم وما إلى ذلك هذه الخصلة العلية من خصال المؤمن ، وهي الرجوع عن الحق .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

قوانين لولاها لما قامت الحياة على سطح الأرض :

 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا قرأ المؤمن العلوم يربطها بخالق الكون ، ويكشف الحكمة البالغة من هذه القوانين التي قننها الله عز وجل . كلنا يعلم أن هناك ظاهرة من خصائص المعادن هي الانصهار ، فالمواد الصلبة تتحول إلى حالة سائلة بالانصهار ، كيف يمكن أن نستخرج المعادن من مظانها لولا خصيصة الانصهار ؟ وكيف يمكن أن نعيد تشكيلها لولا خصيصة التجمد ؟ الانصهار والتجمد بها نأخذ المعادن من أعماق الأرض ، وبها نشكل المعادن كما نريد . هذا قانون أراده الله عز وجل .
 شيء آخر: التبخر والتكثيف ، لولا هذان القانونان هل من الممكن أن تنزل الأمطار ؟ البحر ملح أجاج ، أشعة الشمس تبخره ، من الذي جعل المواد المترسبة بالسائل لا تتبخر تبقى في السائل ويتبخر الماء الصرف ؟ ومن أوجد قانون التكثيف ؟ يتحول الماء إلى بخار ، والبخار إلى ماء دون أن تعلق المواد الراسبة في السائل في البخار ، لولا قانون التبخير والتكثيف لما كانت أمطار ، ولما كانت مياه عذبة نشربها ونتذوقها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ شيء آخر: ظاهرة الترسب . الإنسان خُلق من ماء مهين ، له عظام ، عظم عنق الفخذ يتحمل من الوزن ما يزيد على مئتي وخمسين كيلو غرامًا ، أي أن الإنسان العتيد الشديد يمكن أن يتحمل خمسمئة كيلو فوقه ، هذه الصلابة التي اكتسبتها العظام أنى لها أن تكون لولا ظاهرة الترسب ؛ أن المواد الذائبة في السائل تنفصل عنه وتترسب وتشكل هذا العظم .
 يقول الأطباء : إن ميناء الأسنان تأتي بعد الماس في قساوته ، لولا الترسب لما كانت الأسنان بهذا القوام ، ولما كانت العظام ، ولما كنا . وظاهرة أخرى هي الذوبان ، لولا ذوبان المعادن في الماء لما أمكن للنبات أن يأخذ كل المعادن من التربة ، كل أملاح المعادن تذوب في الماء في التربة ، ويصعد الماء مع هذه المعادن المذابة ، فتأخذ الأوراق حاجتها ، ولولا ظاهرة الذوبان لما ذابت الأطعمة في سائل الكيلوس ، وانتقل هذا السائل إلى الدم ، والدم نقل كل هذه المواد إلى الخلايا . فإذا وقفنا عند قانون الانصهار ، وقانون التجمد ، قانون الذوبان وقانون الترسب ، قانون التبخير ، وقانون التكثيف .
 أيها الأخوة الأكارم ، المؤمن إذا أراد أن يعرف الله كل شيء يدله عليه ، كل قانون يقرؤه حتى في الكتب العلمية المحضة ، يجد أن هذا القانون يشير إلى عظمة الله عز وجل ، لولا ترسب الأجسام الصلبة والمعادن في السوائل لما كنا في هذا المكان ، كيف أنك تمشي على قدمين ؟ هناك هيكل عظمي يحمي هذه العضلات ، لولا ظاهرة الترسيب لما كان هناك إنسان يمشي على قدمين ، ولولا ظاهرة الذوبان لما أمكنك أن تأخذ كل الغذاء ، إنك تأكل مركبات الحديد وأنت لا تشعر ، أملاح المعادن كلها ذائبة في دمك ، لولا ظاهرة الذوبان لما أمكن أن تستفيد من المعادن ، ولما أمكن أن تستفيد من الغذاء . دققوا في هذه القوانين الستة: الذوبان ، والترسيب ، والتبخر ، والتكثيف ، والانصهار ، والتجمد ، هذه ستة قوانين لولاها لما قامت الحياة على سطح الأرض .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور