وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0509 - حقيقة الحياة الدنيا 3 - الدواء من هذه الأمراض - قصة مصعب بن عمير .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

كيفية معالجة من اعتقد أن الدنيا لهو و زينة و تفاخر و تكاثر :

1 ـ الإيمان بالآخرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في عدة خطب سبقت تحدثت بفضل الله تعالى عن حقيقة الحياة الدنيا كما وصفها الله عز وجل ، حيث قال :

﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾

[سورة الحديد :20]

 أيها الأخوة الكرام ؛ مادامت الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، ومادامت تكاثراً في الأموال والأولاد ، وتفاخراً فيما بين الناس ، هذا هو المرض ، فما هو الدواء ؟ . المنهج المتكامل هو المنهج الذي يضع البديل ، إذا كان إقبال الناس على الدنيا إقبال على زينتها ، إذا كانوا يلهون بها ، إذا تفاخروا فيها ، إذا تكاثروا بالأموال والأولاد ، هذا هو تشخيص المرض ، فما هو الدواء ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ القرآن الكريم يعرض نماذج من الدواء ، أولاً : الآية الكريمة وهي قوله تعالى :

﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 73-74]

 الإنسان من خلال هذه الآية الكريمة متى ينحرف عن الصراط المستقيم؟
 متى يبتعد عن طريق الحق ؟ متى يقع في المعاصي ؟ متى يتجاوز الحدود ؟

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾

[سورة المؤمنون : 74]

 إذا اعتقد الإنسان وهماً أن الدنيا كل شيء ، وأنه من كان فيها غنياً فقد ربح ، ومن كان فيها فقيراً فقد خسر وانتهى كل شيء ، من نتائج هذا التوهم أن ينكب على الدنيا ويدفع الثمن مهما يكن باهظاً .
 حينما يؤمن الإنسان أنه خُلق لحياة أبدية ، أنه خلق لجنة عرضها السموات والأرض ، وأن هذه الدنيا تمهيد لهذه الجنة ، هي دار يمر فيها الإنسان إلى الآخرة وليست دار مقر . الإنسان حينما يؤمن أن الآخرة هي كل شيء ، حينما ينقل اهتماماته إلى الآخرة ، حينما ينقل أهدافه إلى الآخرة ، عندئذ لا تغدو الدنيا في نظره لا لهواً ، ولا زينةً ، ولا تكاثراً ، ولا تفاخراً. إن هذه الآية أيها الأخوة دقيقة جداً :

﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 73-74]

 ابتعدوا عن الصراط لأنهم آمنوا بالدنيا ، ولم يؤمنوا بالآخرة ، لأنهم توجهوا إلى الدنيا ، ولم يتوجهوا إلى الآخرة ، لأنهم رأوا أن الدنيا هي كل شيء ، ولم يروا الآخرة هي كل شيء .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الحل إذاً . . من أجل أن نبتعد عن أن نلهو بالخسيس عن النفيس ، من أجل أن نبتعد عن الأعمال العابثة في الدنيا التي لا طائل منها ، من أجل ألا نتفاخر في حطام الدنيا ، من أجل ألا نتكاثر في الأموال والأولاد ، من أجل ألا تنطبق علينا الآية التي وصف الله بها الدنيا علينا أن نؤمن بالآخرة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لو سألت كل مسلم في العالم الإسلامي هل أنت مؤمن بالآخرة ؟ لقال : نعم . . ولكن إذا نظرت إلى سلوكه ، وإلى طموحاته ، وإلى حركاته اليومية تتيقن أنه ليس مؤمناً بها ، آمن بها بلسانه ، ولم يؤكد عمله إيمانه بها .
 فيا أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الموقف الازدواجي أن تقول شيئاً وأن تفعل شيئاً ، أن تعتقد شيئاً وأن تفعل خلافه ، ألا تُرى عقيدتك في سلوكك ، أن يُرى ورعك في علاقاتك ، هذا الموقف الازدواجي موقف خطير جداً في المسلم ، ربما أهلكه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج الأول أن نعمل للآخرة ، العلاج الأول أن نهتم بكل طاقاتنا ، بكل إمكاناتنا في التهيئة لحياة أبدية لا تنقضي .

نقل اهتماماتنا الحقيقية إلى الآخرة :

 الآية الثانية وهي قوله تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 4]

 إن لم نؤمن بالآخرة ازيَّنتْ لنا أعمالنا السيئة ، رأيناها أعمالاً جليلة ، رأيناها أعمالاً عظيمة ، انطلقنا نحوها ، افتخرنا بها ، لهونا بها ، جعلناها زينة لنا ، بنينا شرفنا عليها.

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 4]

 والعمه أخو العمى ، إنه في الدنيا أعمى :

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾

[سورة طه:124-126]

 أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان إن لم يؤمن بالآخرة هناك نتيجتان خطيرتان ، الأولى أنه يخرج عن الصراط المستقيم ، لا يبالي من أين يكسب المال ، لا يبالي كيف ينفقه ، لا يبالي أكان استمتاعه بالشهوات التي أودعها الله فيه وفق المنهج الإلهي ، أم خلاف المنهج الإلهي ، إذا لم يؤمن بالآخرة ، لم يدخلها في حساباته اليومية ، لم يدخلها في كل حركة وسكنة ، في كل منع وعطاء ، في كل موقف ، إن لم يدخل الآخرة في حساباته اليومية لابد من أن يخرج عن الصراط المستقيم .

﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 73-74]

 إذاً لمجرد أن ترى أن إنساناً ينحرف عن طريق الحق ، يأخذ ما ليس له ، يستمتع بما لا يحق له أن يستمتع به ، ينحرف في كسب المال أو في إنفاقه ، أو في ممارسة الشهوة ، أو اجتنابها ، إن رأيت الإنسان يخرج عن طريق الحق ، يخرج عن الصراط المستقيم ، فاعلم علم اليقين أن هذا لخلل في إيمانه بالآخرة ، لو أنه آمن بالآخرة الإيمان الذي ينبغي لاستقام على أمر الله ، لو أنه آمن بالآخرة الإيمان الذي ينبغي لانقشعت الغشاوة عن عينيه ، ورأى حقيقة عمله ، وكيف أن عمله هذا السيئ هو عمل سيئ ، لكن ما بال أكثر الناس يرون العمل السيئ صواباً ؟ . . لعدم إيمانهم بالآخرة ، يرون الانحراف ذكاءً ، يرون كسب المال الحرام ذكاءً وخبرةً ، هؤلاء الذين يرون المعاصي والآثام والانحرافات عملاً طيباً ذكياً ، هؤلاء لم يؤمنوا بالآخرة .

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾

[سورة النمل: 4-5]

 أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج الأول من أجل ألاّ تكون الحياة الدنيا لعبًا ولهواً وزينة وتكاثراً وتفاخراً . . هذه الأوساط الخمسة موضوع خطبتين سابقتين ، من أجل ألاّ تكون الحياة الدنيا لعبًا ولهواً وزينة وتكاثراً وتفاخراً لابد من أن نؤمن بالآخرة ، أن ننقل اهتماماتنا الحقيقية إلى الآخرة ، أن نسعى لجنَّةٍ عرضها السموات والأرض ، أن ندخل حساباتنا اليومية في قبض المال، في إنفاق المال ، في إطلاق البصر ، في غض البصر ، في إطلاق اللسان ، في ضبط اللسان، في كل شيء يجب أن نقيّم أعمالنا ، هل هذا العمل شرعي ؟ هل يجوز ؟ هل هو فرض؟ هل هو مستحب ؟ هل هو مندوب ؟ هل هو مكروه كراهة تحريمة أو كراهة تنزيهية ؟ هل هو حرام ؟ . . لا تجد مؤمناً آمن بالله الإيمان الصحيح إلا وهو يسأل عن الأحكام الشرعية، ما حكم الشرع في هذا ؟ . . في إقامة هذا العمل ؟ في هذا اللقاء ؟ في هذا الأخذ ؟ في هذا الكسب ؟ في هذا الإنفاق ؟ في هذا الاحتفال ؟ ما من مؤمن يحرص على دينه إلا ويتقصى حكم الله في كل شيء ، إذا فعل هذا فقد آمن بالآخرة ، في التعبير اليومي إذا أدخل الآخرة في حساباته اليومية فقد آمن بها ، أما إذا ادعى أنه مؤمن بها ولا تراها جلية واضحة في أعماله فهذا الإيمان القولي لا يرقى بصاحبه .

2 ـ التّحويل :

 علاج آخر : من أجل ألا تكون الدنيا لعبًا ولهواً وزينة وتكاثراً وفاخراً . . قال عنه العلماء هو التحويل ، ما هو التحويل ؟ سماه علماء آخرون التصعيد ، أي أنت إذا أردت أن تكون ذا شأن في الدنيا يمكن أن ترقى إلى هذا الشأن العالي من طريق مشروع ، بالإيمان والعمل الصالح ، ألم يقل الله عز وجل :

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[سورة الشرح: 4]

 إذا أردت شأن الدنيا لك أن تصل إليه لا من طريق المعصية ، بل من طريق الطاعة ، لا من طريق الإساءة ، بل من طريق الإحسان ، لا من طريق الأخذ ، بل من طريق العطاء ، لا من طريق إيقاع الأذى بالناس بل من طريق إعطائهم حقوقهم ، وبث الأمن والطمأنينة فيهم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يمكن أن تصل إلى التفوق في الدنيا من طريق الحق ، يمكن أن تصل إلى المال من الكسب المشروع ، يمكن أن تفرغ هذه الشحنة من الشهوة التي أودعها الله فيك من طريق مشروع ، فلذلك أن تحول هذه الطاقات من طاقات مسخرة في المعاصي إلى طاقات مسخرة في الطاعات ، أن تصعد هذه الميول من ميول تؤدى خلاف منهج الله إلى ميول تسير في قنوات مشروعة أرادها الله عز وجل . الله عز وجل لم يحرم في قرآنه الكريم زينة الحياة الدنيا التي أباحها لنا ، ولكن حرم علينا الطريق غير المشروع ، فيا أيها الأخوة الكرام ؛ يمكن أن يصل الإنسان من خلال هذه الطاقات التي أودعها الله فيه ، ومن خلال هذه الشهوات التي بثها الله فيه إلى ما يصبو إليه وفق المنهج الصحيح ، وفق المنهج الذي يرضي الله ، وهذا مصداق قول الله تعالى :

﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[سورة الرحمن: 46]

 أيها الأخوة الكرام ؛ التحويل أو التصعيد كلاهما بمعنى واحد ، أودع الله في الإنسان حبّ المال ، وأودع فيه حبّ النساء ، وأودع فيه حبّ العلو في الأرض ، تأكيد الذات ، هذه الميول حيادية ، يمكن أن تُلبى وفق الطريق المشروع ، بطاعتك لله عز وجل يرفع ذكرك ، بكسبك المال الحلال تتنعم به ، ببحثك عن زوجة صالحة تسرك إن نظرت إليها ، وتحفظك إن غبت عنها ، وتطيعك إذا أمرتها ، تصل إلى هذه الشهوة من خلال المنهج الإلهي .
 فيا أيها الأخوة الكرام ؛ إذا اتجهنا إلى الله عز وجل ، وأقمنا أمره في حياتنا حلّ التنافس الشريف محل التفاخر المقيت ، ألم يقل الله عز وجل :

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[سورة المطففين: 26]

 ألم يقل الله عز وجل :

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[سورة الصافات: 61]

 عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ))

[متفق عليه عَنْ ابْنِ عُمَرَ]

 إذاً يحل العمل الصالح محل الحسد الرخيص ، يحل التنافس على الآخرة محل التنافس على الدنيا ، يحل التفاخر في معرفة الله محل التفاخر في حطام الدنيا ، فالتفاخر والتنافس هذا يمكن أن يصعد إلى الدار الآخرة .

 

الدعوة إلى الله و القيام بالأعمال الصالحة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه :

((أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه فقراء المهاجرين ، فقالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور - أي الأغنياء- بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال عليه الصلاة والسلام: وما ذاك ، فقال فقراء المهاجرين : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق - لأننا فقراء- ويعتقون ولا نعتق -لأننا فقراء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله ، فقال : تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة))

[متفق عليه عَنْ أبي هريرةَ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ لنقف قليلاً عند هذا التوجيه النبوي ، تسبحون ، لك أن تقول: سبحان الله بلسانك فهل أنت مسبح ؟ لك أن تقول : الحمد لله بلسانك فهل أنت حامد ؟ لك أن تقول : الله أكبر بلسانك فهل أنت مكبر ؟ تسبحون حقيقة التسبيح ، أي تنزهون الله عز وجل عما لا يليق به ، وتمجدونه في أسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، أي تتعرفون إليه ، وتحمدونه على كل نعمائه ، ولا سيما نعمة الهدى ، وتكبرونه فلا يكون في حياتكم عظيم تأتمرون بأمره وتعصون الله عز وجل ، فإذا سبحتم ، وإذا حمدتم ، وإذا كبرتم فقد عرفتم ربكم .
 ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء . . والأبلغ من هذا إنكم إن سبحتم دعوتم إلى تسبيح الله ، إنكم إن كبرتم دعوتم إلى تكبير الله ، إن حمدتم دعوتم إلى حمد الله ، إذاً فعلتم ذروة ما في الإسلام وهو الدعوة إلى الله عز وجل :

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[سورة فصلت: 33]

 فرجع فقراء المهاجرين فرحين مطمئنين . . يقول عليه الصلاة والسلام :

((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم))

[أبو يعلى عن أبي هريرة ]

 ليست الأعمال الصالحة كلها تحتاج إلى إنفاق مال ، لعل إطلاق الوجه من الأعمال الصالحة ، لعل الترحيب بالضيف من الأعمال الصالحة ، لعل إصلاح ذات البين من الأعمال الصالحة ، لعل الأمر بالمعروف من الأعمال الصالحة . .

3 ـ القناعة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الدواء الأول الإيمان بالآخرة كما أراد الله ، الدواء الثاني التحويل ، أن تحول هذه الطاقات إلى الآخرة ، العلاج الثالث القناعة ، قال تعالى :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة:216]

 ألا تشعر أن الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله ؟ ألا تعرف الحقيقة الأساسية في العقيدة ؟ كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته متعلقة بالخير المطلق ، ألا ترى أن خالق السموات والأرض منزه عن أن يظلم ؟ منزه عن أن يفعل فعلاً ليس حكيماً ؟ فإذا آمنت بأفعاله الحكيمة آمنت بعلمه ، وحكمته ، ورحمته ، ولطفه ، وعدله ، عندئذ ترضى بما قسم الله لك ، عندئذ تقول مع الإمام أبي حامد الغزالي : ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني . . عندئذ تقرأ قوله تعالى فيقشعر جلدك ، قال تعالى :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة:216]

 أيها الأخوة الكرام ؛ القناعة أساسها معرفة الله ، القناعة أساسها التفويض لله ، القناعة أساسها أن توقن أن الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله ، أن توقن أن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل .

4 ـ أن ينظر المسلم إلى من هو أسفل منه :

 العلاج الرابع في هذا الموضوع من أجل ألاّ تكون الحياة الدنيا لعبًا ولهوًا وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا أن ينظر المسلم إلى من هو أسفل منه ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

((انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم))

[مسلم عَنْ أبي هريرةَ]

 إنّ الإنسان دائماً يتطلع إلى من فوقه في الدنيا ، تلتوي عنقه ، ويتحسر على نفسه ، ويشعر بالحرمان ، هذه المشاعر المرضية أساسها النظر في الدنيا إلى من فوقنا ، أما إذا نظرنا في الدنيا إلى من هو أسفل منا عرفنا نعمة الله علينا ، لم نزدر النعم التي أنعم الله علينا ، ولعل رأس هذه النعم نعمة الصحة .
في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم :

((انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم))

[مسلم عَنْ أبي هريرةَ]

 والإمام البخاري في صحيحه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

((إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ))

[البخاري عن أبي هريرةَ]

 أي هذه النظرة المتكافئة ، هذه النظرة الموضوعية ، لو أن أحداً منا نظر إلى من فُضل عليه في المال والخلق يقرن هذه النظرة بنظرة أخرى فلينظر إلى من هو دونه في المال والخلق . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا هو العلاج الرابع ، أن ننظر في أمر الدنيا لمن هو دوننا، وأن ننظر في أمر الآخرة لمن هو فوقنا ، وأن نقنع بعطاء الله لنا ، فهذا يبعدنا عن التنافس البغيض ، ويبعدنا عن الحسد ، ويبعدنا عن التفاخر .

5 ـ أن نقنع بما آتانا الله عز وجل و نتحرر من عبودية الدنيا :

 والعلاج الآخر : أن نقنع بما آتانا الله عز وجل ، وأن نحول طاقاتنا إلى الآخرة.
 بقي علينا أننا إذا كنا عبيداً لله عز وجل علينا أن نتحرر من عبودية الدنيا ، فقد أورد البخاري في صحيحه عن أبي هريرة حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

((تعس عبد الدرهم والدينار ، تعس عبد القطيفة والخميصة - أي الثوب- وفي رواية أخرى تعس عبد البطن ، وتعس عبد الفرج . . تعس عبد الدرهم والدينار ، وتعس عبد القطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط لم سخط ))

[البخاري في كتاب الرقائق]

 تعس : أي شقي ، هلك ، ابتعد عن الله ، لعنه الله . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا أيضاً من أساليب التربية الإسلامية في التحرر من أن تكون الدنيا لعباً ولهواً وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا . .

6 ـ الإيمان بالتعويض :

 بقي علينا أن الإيمان بالتعويض . . روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها من الفقراء ، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها من النساء . .))

[متفق عليه عَنْ ابن عباس]

 لماذا ؟ . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان يُحاسب على قدر حظه من الدنيا ، فإذا آتاه الله مالاً وفيراً سأله سؤالاً كبيراً ، وإذا آتاه الله قوةً وسلطاناً حاسبه الله عن كل تصرفاته ، معنى أن الفقراء يدخلون الجنة قبل غيرهم بخمسمئة عام ، وفي حديث آخر :

((رأيت أكثر أهل الجنة الفقراء))

[مسلم عَنْ ابن عباس]

 لأن حسابهم ليس عسيراً ، دخلهم قليل أنفقوه في طعامهم وشرابهم . . أما هذا الذي يؤتيه الله مالاً كثيراً ، وينفقه في غير ما يرضي الله عز وجل فله عند الله حساب كبير .
 أيها الأخوة الكرام ؛ أنت محاسب على قدر حظك من الدنيا ، أنت مُحاسب على قدر ما آتاك الله منها ، فما من نعمة تُؤتاها إلا ويقابلها سؤال ، لذلك ورد في الأثر أن الأغنياء يُحشرون على أربع فرق يوم القيامة ، فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام فيُقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حرام فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حرام وأنفقه في حلال فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، هذا الذي يُقال له : خذوه فاسألوه ، هل تاه بماله على عباد الله ؟ . .
فانتبه أيها الأخ الكريم إلى أن هذه الدنيا سوف تُسأل عنها سؤالاً دقيقاً .

 

توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هناك فكرة أساسية أرجو أن تتوضح لديكم ، الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، أي شيء أنت فيه من نعمة هو مادة امتحانك مع الله ، وأي حرمان حرمك الله إياه ، الحرمان نفسه هو مادة امتحانك مع الله ، أنت ممتحن مرتين ، ممتحن فيما أعطاك ، وممتحن فيما لم يعطك ، أليست الدنيا دار ابتلاء ؟ أليست الدنيا دار امتحان ؟ أليست الدنيا دار عمل ؟ أنت في الدنيا ممتحن . فهذا الذي آتاه الله مالاً كيف اكتسبه ؟ وكيف أنفقه ؟ وماذا فعل به ؟ وهل سخره في خدمة الحق أم في خدمة الباطل؟ هل أنفقه إسرافاً وبداراً أم أنفقه باعتدال كما أمر الله عز وجل ؟ هل بذَّر وأسرف أم أنفق في الحلال الذي يرجو به رضا الله عز وجل؟ . . إذاً هذه الحظوظ التي آتاك الله إياها إنما وزعت في الدنيا توزيع ابتلاء ، أنت مُبتلى بمعنى ممتحن فيما آتاك الله ، وممتحن فيما لم يؤتك . . لم يؤتك الله المال ، هل تأخذه من طريق غير مشروع ؟ هل تتعفف أم تتأسى ؟ هل تتجمل أم تشكو حظك العاثر لكل إنسان ؟ هل تأخذ مالاً حلالاً أم تأخذه حراماً ؟ . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ دققوا في هذه المقولة : مادة امتحانك مع الله ما آتاك الله ، ومادة امتحانك مع الله ما لم يؤتك الله عز وجل . فلذلك الحظوظ توزع في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف تُوزع في الآخرة توزيع جزاء ، الآخرة لا نهاية لها ، لعل الذي عانى الفقر في الدنيا يسعده الله في جنة عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين ، ولعل الذي أترفه الله في الدنيا وأنفق المال في معصية الله يشقى بهذا الإنفاق المنحرف إلى أبد الآبدين ، فلذلك حينما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي الكريم قال : " يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً ، أجوع يوماً فأذكره ، وأشبع يوماً فأشكره ". ولعل الوضع الثاني أقرب إلى العبودية من الوضع الأول . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج السادس الإيمان بالتعويض ؛ أن الله سبحانه وتعالى يعوض على المؤمن في الآخرة ما فاته من الدنيا ، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، من عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي . .

7 ـ أن تؤمن أن المال الحقيقي هو الذي تنتفع به فقط :

 أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج السابع : أن تؤمن أن المال الحقيقي هو الذي تنتفع به فقط ، هو المستهلكات ، ما سوى الذي تستهلكه ليس مالك ، إنما هو كسبك وسوف تحاسب عليه ، من أين اكتسبته ؟ وكيف أنفقته ؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله رضي الله عنه قال :

((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر ، فقال عليه الصلاة والسلام : يقول ابن آدم : مالي مالِي ، وهل لك يا بن آدم إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ أو تصدقت فأبقيت ؟))

[مسلم عن عبد الله]

 ما الذي تملكه حقيقة ؟ الذي أكلته ، والذي لبسته ، والذي أكلته سوف يفنى وسوف ترى مصيره ، والذي لبسته سوف يبلى ، ولم يبق لك مما هو لك في الأصل إلا ما تصدقت فأبقيت . .
 كلمة لك . . لك ما تصدقت . لما أراد النبي أن يوزع شاةً وزع معظمها فقالت السيدة عائشة :" يا رسول الله لم يبق إلا كتفها- أي ابقه لنا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لقد بقيت كلها إلا كتفها" . على العكس . .
 ما هو مالك ؟ مالك الذي أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ، ثلاثة أثلاث ، الثلثان ليسا لك ، ليس لهما رصيد في الآخرة ، الثلث الذي يبقى في الآخرة هو الذي يبقى في سبيل الله ، وما سوى هذه الأثلاث الثلاثة ليس مالك في الأصل ، إنما هو كسبك و أنت محاسب عليه .
 يا أهلي ، ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ أو حرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة علي . وأندم الناس رجل دخل ورثته بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار . . المال نفسه ورثه أبناؤه حلالاً فأنفقوه في طاعة الله فاستحقوا الجنة ، وكسبه حراماً ، ولم ينتفع به ، أعطاه لغيره ، لأنه كسبه عن طريق حرام استحق به دخول النار . . أندم الناس عالم دخل الناس بعلمه الجنة ، ودخل هو بعلمه النار . أندم الناس من دخل ورثته بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه حقيقة سابعة متعلقة بعلاج :

﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾

[سورة الحديد :20]

 أن توقن أن مالك الحقيقي هو الذي أنفقته في سبيل الله ، وأن الذي استمتعت به أكلت ، وشربت ، ولبست ، ليس له رصيد في الآخرة ، وما سوى هذه الثلاثة ليس لك في الأصل ، تُحاسب عليه ولا تنتفع به .

8 ـ الإيمان أن الدنيا مزرعة الآخرة :

 بقي علينا أننا إذا آمنا أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الحياة الدنيا من أجل العمل الصالح ، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام كما ورد في البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال :

((كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل))

[البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما ]

﴿فامشوا في مناكبها﴾

[سورة الملك : 15]

 لا تغوصوا فيها :

﴿وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾

[سورة الملك : 15]

 أيها الأخوة الكرام ؛ ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم :

((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))

[مسلم عن أبي هريرة]

 الدنيا للمؤمن كالعام الدراسي ، لابد من دراسة ، لابد من قعود في البيت ، لابد من عكوف على الكتاب ، لابد من ترك النزهات والسهرات من أجل أن ينال الشهادة العليا فينعم بها . فالدنيا سجن المؤمن لأنها دار تكليف ، وجنة الكافر لأنها في نظره دار نعيم . . هي دار ابتلاء ليست دار إكرام . .

9 ـ الزهد في الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في نهاية المطاف ، وفي البند التاسع من أساليب التربية الإسلامية في معالجة هذا المرض ، والمرض أن تغدو الدنيا لعباً ، ولهواً ، وزينة ، وتكاثراً ، وتفاخراً . . من أجل ألا نقع في هذه الأمراض العضالة ، ابن ماجة روى عن سهل بن سعد الساعدي أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام قال :

((يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس معاً ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس))

[ابن ماجة عن سهل بن سعد الساعدي]

 وأعيد عليكم التعليق الذي ذكرته في الخطبة السابقة ، ليس معنى الزهد في الدنيا أن تكون يدك هي السفلى ، لا والله ، ولا أن تكون عالة على غيرك ، ولا أن تكون مهملاً لعملك، ولا أن تكون دنياك قميئة ، ليس هذا هو الزهد في الدنيا . . الزهد في الدنيا أن تنقلها من قلبك إلى يديك ، الزهد في الدنيا أن تسخرها لا أن تسخرك ، الزهد في الدنيا أن تضحك عليها ، لا أن تضحك عليك ، الزهد في الدنيا أن توظفها في الحق ، لا أن توظفك في الباطل ، الزهد في الدنيا أن تأخذ منها كي تستعين على الدار الآخرة ، الزهد في الدنيا جاء في قوله تعالى :

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾

[سورة القصص : 77]

 آتاك المال ، آتاك العلم ، آتاك الوجاهة ، آتاك القوة ، آتاك الخبرة ، كل هذه الحظوظ إذا آتاك الله منها ابتغ بها الدار الآخرة ، هذا هو التصعيد الذي ذكرته قبل قليل ، هذا هو التحويل ، أن توظف الحياة الدنيا من أجل الآخرة . . ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، ولا من ترك آخرته لدنياه إلا أن يأخذ منهما معاً ، فإن الأولى مطية للثانية .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

قصة إيثار مصعب بن عمير الآخرة على الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أذكركم بأن الخطبتين السابقتين تحدثت بها عن هذه الأوصاف الخمسة التي وصف الله بها الدنيا ، وهذه الخطبة كانت عن البديل ، عن العلاج كي لا نقع في هذا المنزلق الخطر ، أن نلهو عن النفيس بالخسيس ، أن نعبث في الدنيا ، أن تكون دنيانا لعباً ، أن نبتغي زينة الحياة الدنيا وهي زائلة ، أن نفتخر بما نمتلك ، لا أن نفتخر بأعمالنا الصالحة ، أن نتكاثر في حطامها دون أن نتكاثر في الأعمال الصالحة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ من الصحابة الكرام سيدنا مصعب بن عمير ، مصعب بن عمير كان سليل أسرة غنية وعريقة في الغنى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان من أشدّ شباب مكة أناقة ، وتجملاً ، وزياً حسناً ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : " لقد رأيت مصعباً وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه " .
 اللباس الحسن ، الأناقة ، التجمل ، العطر ، ثم ترك ذلك كله حباً بالله ورسوله ، لما آمن برسول الله حرمه أهله كل شيء ، وطردوه من بيتهم ، وضيقوا عليه ، أرسله النبي إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر إليها ، هيأ له الجو هناك ، فإذا كان في المدينة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقبال عليه ، فبفضل هذا الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، لقد أجرى الله على يديه عملاً لو وزنت جبال الأرض لا تعدله ، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : " لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً بالله ورسوله " .
 يقول خباب بن الأرت أحد أصحاب النبي : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في الدنيا شيئاً ومنهم مصعب بن عمير ، قُتل يوم أحد ، فلم يوجد له شيء يُكفن فيه إلا نمرة ، أي ثوباً صغيراً ، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرت رجلاه ، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه ، فقال عليه الصلاة والسلام اجعلوها مما يلي رأسه ، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر، فوقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير قبل أن يُدفن ، وقال وعيناه تذرفان بالدموع ، وعيناه تلفانه بضيائهما ، وحنانهما ، ووفائهما ، قال :

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾

[سورة الأحزاب: 23]

 وقال مخاطباً مصعب بن عمير : " لقد رأيتك بمكة وما بها فتى أرق حلة منك ولا أحسن لمةً منك ، ثم ها أنت شعث الرأس في بردة ".
 ماذا خسر مصعب ؟ . . لم يخسر شيئاً ، ربح كل شيء ، ربح رضوان الله عز وجل ، ربح جنة عرضها السموات والأرض ، ربح نعيماً مقيماً . . الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل . آثر الآخرة فأعطاه الله الآخرة وثواب الدنيا . .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذّل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور