- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
كيفية معالجة من اعتقد أن الدنيا لهو و زينة و تفاخر و تكاثر :
1 ـ الإيمان بالآخرة :
أيها الأخوة الكرام ؛ في عدة خطب سبقت تحدثت بفضل الله تعالى عن حقيقة الحياة الدنيا كما وصفها الله عز وجل ، حيث قال :
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ مادامت الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، ومادامت تكاثراً في الأموال والأولاد ، وتفاخراً فيما بين الناس ، هذا هو المرض ، فما هو الدواء ؟ . المنهج المتكامل هو المنهج الذي يضع البديل ، إذا كان إقبال الناس على الدنيا إقبال على زينتها ، إذا كانوا يلهون بها ، إذا تفاخروا فيها ، إذا تكاثروا بالأموال والأولاد ، هذا هو تشخيص المرض ، فما هو الدواء ؟
أيها الأخوة الكرام ؛ القرآن الكريم يعرض نماذج من الدواء ، أولاً : الآية الكريمة وهي قوله تعالى :
﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
الإنسان من خلال هذه الآية الكريمة متى ينحرف عن الصراط المستقيم؟
متى يبتعد عن طريق الحق ؟ متى يقع في المعاصي ؟ متى يتجاوز الحدود ؟
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾
إذا اعتقد الإنسان وهماً أن الدنيا كل شيء ، وأنه من كان فيها غنياً فقد ربح ، ومن كان فيها فقيراً فقد خسر وانتهى كل شيء ، من نتائج هذا التوهم أن ينكب على الدنيا ويدفع الثمن مهما يكن باهظاً .
حينما يؤمن الإنسان أنه خُلق لحياة أبدية ، أنه خلق لجنة عرضها السموات والأرض ، وأن هذه الدنيا تمهيد لهذه الجنة ، هي دار يمر فيها الإنسان إلى الآخرة وليست دار مقر . الإنسان حينما يؤمن أن الآخرة هي كل شيء ، حينما ينقل اهتماماته إلى الآخرة ، حينما ينقل أهدافه إلى الآخرة ، عندئذ لا تغدو الدنيا في نظره لا لهواً ، ولا زينةً ، ولا تكاثراً ، ولا تفاخراً. إن هذه الآية أيها الأخوة دقيقة جداً :
﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
ابتعدوا عن الصراط لأنهم آمنوا بالدنيا ، ولم يؤمنوا بالآخرة ، لأنهم توجهوا إلى الدنيا ، ولم يتوجهوا إلى الآخرة ، لأنهم رأوا أن الدنيا هي كل شيء ، ولم يروا الآخرة هي كل شيء .
أيها الأخوة الكرام ؛ الحل إذاً . . من أجل أن نبتعد عن أن نلهو بالخسيس عن النفيس ، من أجل أن نبتعد عن الأعمال العابثة في الدنيا التي لا طائل منها ، من أجل ألا نتفاخر في حطام الدنيا ، من أجل ألا نتكاثر في الأموال والأولاد ، من أجل ألا تنطبق علينا الآية التي وصف الله بها الدنيا علينا أن نؤمن بالآخرة .
أيها الأخوة الكرام ؛ لو سألت كل مسلم في العالم الإسلامي هل أنت مؤمن بالآخرة ؟ لقال : نعم . . ولكن إذا نظرت إلى سلوكه ، وإلى طموحاته ، وإلى حركاته اليومية تتيقن أنه ليس مؤمناً بها ، آمن بها بلسانه ، ولم يؤكد عمله إيمانه بها .
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الموقف الازدواجي أن تقول شيئاً وأن تفعل شيئاً ، أن تعتقد شيئاً وأن تفعل خلافه ، ألا تُرى عقيدتك في سلوكك ، أن يُرى ورعك في علاقاتك ، هذا الموقف الازدواجي موقف خطير جداً في المسلم ، ربما أهلكه .
أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج الأول أن نعمل للآخرة ، العلاج الأول أن نهتم بكل طاقاتنا ، بكل إمكاناتنا في التهيئة لحياة أبدية لا تنقضي .
نقل اهتماماتنا الحقيقية إلى الآخرة :
الآية الثانية وهي قوله تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾
إن لم نؤمن بالآخرة ازيَّنتْ لنا أعمالنا السيئة ، رأيناها أعمالاً جليلة ، رأيناها أعمالاً عظيمة ، انطلقنا نحوها ، افتخرنا بها ، لهونا بها ، جعلناها زينة لنا ، بنينا شرفنا عليها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾
والعمه أخو العمى ، إنه في الدنيا أعمى :
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان إن لم يؤمن بالآخرة هناك نتيجتان خطيرتان ، الأولى أنه يخرج عن الصراط المستقيم ، لا يبالي من أين يكسب المال ، لا يبالي كيف ينفقه ، لا يبالي أكان استمتاعه بالشهوات التي أودعها الله فيه وفق المنهج الإلهي ، أم خلاف المنهج الإلهي ، إذا لم يؤمن بالآخرة ، لم يدخلها في حساباته اليومية ، لم يدخلها في كل حركة وسكنة ، في كل منع وعطاء ، في كل موقف ، إن لم يدخل الآخرة في حساباته اليومية لابد من أن يخرج عن الصراط المستقيم .
﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
إذاً لمجرد أن ترى أن إنساناً ينحرف عن طريق الحق ، يأخذ ما ليس له ، يستمتع بما لا يحق له أن يستمتع به ، ينحرف في كسب المال أو في إنفاقه ، أو في ممارسة الشهوة ، أو اجتنابها ، إن رأيت الإنسان يخرج عن طريق الحق ، يخرج عن الصراط المستقيم ، فاعلم علم اليقين أن هذا لخلل في إيمانه بالآخرة ، لو أنه آمن بالآخرة الإيمان الذي ينبغي لاستقام على أمر الله ، لو أنه آمن بالآخرة الإيمان الذي ينبغي لانقشعت الغشاوة عن عينيه ، ورأى حقيقة عمله ، وكيف أن عمله هذا السيئ هو عمل سيئ ، لكن ما بال أكثر الناس يرون العمل السيئ صواباً ؟ . . لعدم إيمانهم بالآخرة ، يرون الانحراف ذكاءً ، يرون كسب المال الحرام ذكاءً وخبرةً ، هؤلاء الذين يرون المعاصي والآثام والانحرافات عملاً طيباً ذكياً ، هؤلاء لم يؤمنوا بالآخرة .
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج الأول من أجل ألاّ تكون الحياة الدنيا لعبًا ولهواً وزينة وتكاثراً وتفاخراً . . هذه الأوساط الخمسة موضوع خطبتين سابقتين ، من أجل ألاّ تكون الحياة الدنيا لعبًا ولهواً وزينة وتكاثراً وتفاخراً لابد من أن نؤمن بالآخرة ، أن ننقل اهتماماتنا الحقيقية إلى الآخرة ، أن نسعى لجنَّةٍ عرضها السموات والأرض ، أن ندخل حساباتنا اليومية في قبض المال، في إنفاق المال ، في إطلاق البصر ، في غض البصر ، في إطلاق اللسان ، في ضبط اللسان، في كل شيء يجب أن نقيّم أعمالنا ، هل هذا العمل شرعي ؟ هل يجوز ؟ هل هو فرض؟ هل هو مستحب ؟ هل هو مندوب ؟ هل هو مكروه كراهة تحريمة أو كراهة تنزيهية ؟ هل هو حرام ؟ . . لا تجد مؤمناً آمن بالله الإيمان الصحيح إلا وهو يسأل عن الأحكام الشرعية، ما حكم الشرع في هذا ؟ . . في إقامة هذا العمل ؟ في هذا اللقاء ؟ في هذا الأخذ ؟ في هذا الكسب ؟ في هذا الإنفاق ؟ في هذا الاحتفال ؟ ما من مؤمن يحرص على دينه إلا ويتقصى حكم الله في كل شيء ، إذا فعل هذا فقد آمن بالآخرة ، في التعبير اليومي إذا أدخل الآخرة في حساباته اليومية فقد آمن بها ، أما إذا ادعى أنه مؤمن بها ولا تراها جلية واضحة في أعماله فهذا الإيمان القولي لا يرقى بصاحبه .
2 ـ التّحويل :
علاج آخر : من أجل ألا تكون الدنيا لعبًا ولهواً وزينة وتكاثراً وفاخراً . . قال عنه العلماء هو التحويل ، ما هو التحويل ؟ سماه علماء آخرون التصعيد ، أي أنت إذا أردت أن تكون ذا شأن في الدنيا يمكن أن ترقى إلى هذا الشأن العالي من طريق مشروع ، بالإيمان والعمل الصالح ، ألم يقل الله عز وجل :
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
إذا أردت شأن الدنيا لك أن تصل إليه لا من طريق المعصية ، بل من طريق الطاعة ، لا من طريق الإساءة ، بل من طريق الإحسان ، لا من طريق الأخذ ، بل من طريق العطاء ، لا من طريق إيقاع الأذى بالناس بل من طريق إعطائهم حقوقهم ، وبث الأمن والطمأنينة فيهم .
أيها الأخوة الكرام ؛ يمكن أن تصل إلى التفوق في الدنيا من طريق الحق ، يمكن أن تصل إلى المال من الكسب المشروع ، يمكن أن تفرغ هذه الشحنة من الشهوة التي أودعها الله فيك من طريق مشروع ، فلذلك أن تحول هذه الطاقات من طاقات مسخرة في المعاصي إلى طاقات مسخرة في الطاعات ، أن تصعد هذه الميول من ميول تؤدى خلاف منهج الله إلى ميول تسير في قنوات مشروعة أرادها الله عز وجل . الله عز وجل لم يحرم في قرآنه الكريم زينة الحياة الدنيا التي أباحها لنا ، ولكن حرم علينا الطريق غير المشروع ، فيا أيها الأخوة الكرام ؛ يمكن أن يصل الإنسان من خلال هذه الطاقات التي أودعها الله فيه ، ومن خلال هذه الشهوات التي بثها الله فيه إلى ما يصبو إليه وفق المنهج الصحيح ، وفق المنهج الذي يرضي الله ، وهذا مصداق قول الله تعالى :
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ التحويل أو التصعيد كلاهما بمعنى واحد ، أودع الله في الإنسان حبّ المال ، وأودع فيه حبّ النساء ، وأودع فيه حبّ العلو في الأرض ، تأكيد الذات ، هذه الميول حيادية ، يمكن أن تُلبى وفق الطريق المشروع ، بطاعتك لله عز وجل يرفع ذكرك ، بكسبك المال الحلال تتنعم به ، ببحثك عن زوجة صالحة تسرك إن نظرت إليها ، وتحفظك إن غبت عنها ، وتطيعك إذا أمرتها ، تصل إلى هذه الشهوة من خلال المنهج الإلهي .
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ إذا اتجهنا إلى الله عز وجل ، وأقمنا أمره في حياتنا حلّ التنافس الشريف محل التفاخر المقيت ، ألم يقل الله عز وجل :
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
ألم يقل الله عز وجل :
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ))
إذاً يحل العمل الصالح محل الحسد الرخيص ، يحل التنافس على الآخرة محل التنافس على الدنيا ، يحل التفاخر في معرفة الله محل التفاخر في حطام الدنيا ، فالتفاخر والتنافس هذا يمكن أن يصعد إلى الدار الآخرة .
الدعوة إلى الله و القيام بالأعمال الصالحة :
أيها الأخوة الكرام ؛ روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه :
((أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه فقراء المهاجرين ، فقالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور - أي الأغنياء- بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال عليه الصلاة والسلام: وما ذاك ، فقال فقراء المهاجرين : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق - لأننا فقراء- ويعتقون ولا نعتق -لأننا فقراء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله ، فقال : تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة))
أيها الأخوة الكرام ؛ لنقف قليلاً عند هذا التوجيه النبوي ، تسبحون ، لك أن تقول: سبحان الله بلسانك فهل أنت مسبح ؟ لك أن تقول : الحمد لله بلسانك فهل أنت حامد ؟ لك أن تقول : الله أكبر بلسانك فهل أنت مكبر ؟ تسبحون حقيقة التسبيح ، أي تنزهون الله عز وجل عما لا يليق به ، وتمجدونه في أسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، أي تتعرفون إليه ، وتحمدونه على كل نعمائه ، ولا سيما نعمة الهدى ، وتكبرونه فلا يكون في حياتكم عظيم تأتمرون بأمره وتعصون الله عز وجل ، فإذا سبحتم ، وإذا حمدتم ، وإذا كبرتم فقد عرفتم ربكم .
ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء . . والأبلغ من هذا إنكم إن سبحتم دعوتم إلى تسبيح الله ، إنكم إن كبرتم دعوتم إلى تكبير الله ، إن حمدتم دعوتم إلى حمد الله ، إذاً فعلتم ذروة ما في الإسلام وهو الدعوة إلى الله عز وجل :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
فرجع فقراء المهاجرين فرحين مطمئنين . . يقول عليه الصلاة والسلام :
((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم))
ليست الأعمال الصالحة كلها تحتاج إلى إنفاق مال ، لعل إطلاق الوجه من الأعمال الصالحة ، لعل الترحيب بالضيف من الأعمال الصالحة ، لعل إصلاح ذات البين من الأعمال الصالحة ، لعل الأمر بالمعروف من الأعمال الصالحة . .
3 ـ القناعة :
أيها الأخوة الكرام ؛ الدواء الأول الإيمان بالآخرة كما أراد الله ، الدواء الثاني التحويل ، أن تحول هذه الطاقات إلى الآخرة ، العلاج الثالث القناعة ، قال تعالى :
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
ألا تشعر أن الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله ؟ ألا تعرف الحقيقة الأساسية في العقيدة ؟ كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته متعلقة بالخير المطلق ، ألا ترى أن خالق السموات والأرض منزه عن أن يظلم ؟ منزه عن أن يفعل فعلاً ليس حكيماً ؟ فإذا آمنت بأفعاله الحكيمة آمنت بعلمه ، وحكمته ، ورحمته ، ولطفه ، وعدله ، عندئذ ترضى بما قسم الله لك ، عندئذ تقول مع الإمام أبي حامد الغزالي : ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني . . عندئذ تقرأ قوله تعالى فيقشعر جلدك ، قال تعالى :
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ القناعة أساسها معرفة الله ، القناعة أساسها التفويض لله ، القناعة أساسها أن توقن أن الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله ، أن توقن أن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل .
4 ـ أن ينظر المسلم إلى من هو أسفل منه :
العلاج الرابع في هذا الموضوع من أجل ألاّ تكون الحياة الدنيا لعبًا ولهوًا وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا أن ينظر المسلم إلى من هو أسفل منه ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم))
إنّ الإنسان دائماً يتطلع إلى من فوقه في الدنيا ، تلتوي عنقه ، ويتحسر على نفسه ، ويشعر بالحرمان ، هذه المشاعر المرضية أساسها النظر في الدنيا إلى من فوقنا ، أما إذا نظرنا في الدنيا إلى من هو أسفل منا عرفنا نعمة الله علينا ، لم نزدر النعم التي أنعم الله علينا ، ولعل رأس هذه النعم نعمة الصحة .
في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم :
((انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم))
والإمام البخاري في صحيحه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
((إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ))
أي هذه النظرة المتكافئة ، هذه النظرة الموضوعية ، لو أن أحداً منا نظر إلى من فُضل عليه في المال والخلق يقرن هذه النظرة بنظرة أخرى فلينظر إلى من هو دونه في المال والخلق . .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا هو العلاج الرابع ، أن ننظر في أمر الدنيا لمن هو دوننا، وأن ننظر في أمر الآخرة لمن هو فوقنا ، وأن نقنع بعطاء الله لنا ، فهذا يبعدنا عن التنافس البغيض ، ويبعدنا عن الحسد ، ويبعدنا عن التفاخر .
5 ـ أن نقنع بما آتانا الله عز وجل و نتحرر من عبودية الدنيا :
والعلاج الآخر : أن نقنع بما آتانا الله عز وجل ، وأن نحول طاقاتنا إلى الآخرة.
بقي علينا أننا إذا كنا عبيداً لله عز وجل علينا أن نتحرر من عبودية الدنيا ، فقد أورد البخاري في صحيحه عن أبي هريرة حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
((تعس عبد الدرهم والدينار ، تعس عبد القطيفة والخميصة - أي الثوب- وفي رواية أخرى تعس عبد البطن ، وتعس عبد الفرج . . تعس عبد الدرهم والدينار ، وتعس عبد القطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط لم سخط ))
تعس : أي شقي ، هلك ، ابتعد عن الله ، لعنه الله . .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا أيضاً من أساليب التربية الإسلامية في التحرر من أن تكون الدنيا لعباً ولهواً وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا . .
6 ـ الإيمان بالتعويض :
بقي علينا أن الإيمان بالتعويض . . روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها من الفقراء ، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها من النساء . .))
لماذا ؟ . .
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان يُحاسب على قدر حظه من الدنيا ، فإذا آتاه الله مالاً وفيراً سأله سؤالاً كبيراً ، وإذا آتاه الله قوةً وسلطاناً حاسبه الله عن كل تصرفاته ، معنى أن الفقراء يدخلون الجنة قبل غيرهم بخمسمئة عام ، وفي حديث آخر :
((رأيت أكثر أهل الجنة الفقراء))
لأن حسابهم ليس عسيراً ، دخلهم قليل أنفقوه في طعامهم وشرابهم . . أما هذا الذي يؤتيه الله مالاً كثيراً ، وينفقه في غير ما يرضي الله عز وجل فله عند الله حساب كبير .
أيها الأخوة الكرام ؛ أنت محاسب على قدر حظك من الدنيا ، أنت مُحاسب على قدر ما آتاك الله منها ، فما من نعمة تُؤتاها إلا ويقابلها سؤال ، لذلك ورد في الأثر أن الأغنياء يُحشرون على أربع فرق يوم القيامة ، فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام فيُقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حرام فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حرام وأنفقه في حلال فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، هذا الذي يُقال له : خذوه فاسألوه ، هل تاه بماله على عباد الله ؟ . .
فانتبه أيها الأخ الكريم إلى أن هذه الدنيا سوف تُسأل عنها سؤالاً دقيقاً .
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :
أيها الأخوة الكرام ؛ هناك فكرة أساسية أرجو أن تتوضح لديكم ، الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، أي شيء أنت فيه من نعمة هو مادة امتحانك مع الله ، وأي حرمان حرمك الله إياه ، الحرمان نفسه هو مادة امتحانك مع الله ، أنت ممتحن مرتين ، ممتحن فيما أعطاك ، وممتحن فيما لم يعطك ، أليست الدنيا دار ابتلاء ؟ أليست الدنيا دار امتحان ؟ أليست الدنيا دار عمل ؟ أنت في الدنيا ممتحن . فهذا الذي آتاه الله مالاً كيف اكتسبه ؟ وكيف أنفقه ؟ وماذا فعل به ؟ وهل سخره في خدمة الحق أم في خدمة الباطل؟ هل أنفقه إسرافاً وبداراً أم أنفقه باعتدال كما أمر الله عز وجل ؟ هل بذَّر وأسرف أم أنفق في الحلال الذي يرجو به رضا الله عز وجل؟ . . إذاً هذه الحظوظ التي آتاك الله إياها إنما وزعت في الدنيا توزيع ابتلاء ، أنت مُبتلى بمعنى ممتحن فيما آتاك الله ، وممتحن فيما لم يؤتك . . لم يؤتك الله المال ، هل تأخذه من طريق غير مشروع ؟ هل تتعفف أم تتأسى ؟ هل تتجمل أم تشكو حظك العاثر لكل إنسان ؟ هل تأخذ مالاً حلالاً أم تأخذه حراماً ؟ . .
أيها الأخوة الكرام ؛ دققوا في هذه المقولة : مادة امتحانك مع الله ما آتاك الله ، ومادة امتحانك مع الله ما لم يؤتك الله عز وجل . فلذلك الحظوظ توزع في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف تُوزع في الآخرة توزيع جزاء ، الآخرة لا نهاية لها ، لعل الذي عانى الفقر في الدنيا يسعده الله في جنة عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين ، ولعل الذي أترفه الله في الدنيا وأنفق المال في معصية الله يشقى بهذا الإنفاق المنحرف إلى أبد الآبدين ، فلذلك حينما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي الكريم قال : " يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً ، أجوع يوماً فأذكره ، وأشبع يوماً فأشكره ". ولعل الوضع الثاني أقرب إلى العبودية من الوضع الأول . .
أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج السادس الإيمان بالتعويض ؛ أن الله سبحانه وتعالى يعوض على المؤمن في الآخرة ما فاته من الدنيا ، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، من عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي . .
7 ـ أن تؤمن أن المال الحقيقي هو الذي تنتفع به فقط :
أيها الأخوة الكرام ؛ العلاج السابع : أن تؤمن أن المال الحقيقي هو الذي تنتفع به فقط ، هو المستهلكات ، ما سوى الذي تستهلكه ليس مالك ، إنما هو كسبك وسوف تحاسب عليه ، من أين اكتسبته ؟ وكيف أنفقته ؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله رضي الله عنه قال :
((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر ، فقال عليه الصلاة والسلام : يقول ابن آدم : مالي مالِي ، وهل لك يا بن آدم إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ أو تصدقت فأبقيت ؟))
ما الذي تملكه حقيقة ؟ الذي أكلته ، والذي لبسته ، والذي أكلته سوف يفنى وسوف ترى مصيره ، والذي لبسته سوف يبلى ، ولم يبق لك مما هو لك في الأصل إلا ما تصدقت فأبقيت . .
كلمة لك . . لك ما تصدقت . لما أراد النبي أن يوزع شاةً وزع معظمها فقالت السيدة عائشة :" يا رسول الله لم يبق إلا كتفها- أي ابقه لنا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لقد بقيت كلها إلا كتفها" . على العكس . .
ما هو مالك ؟ مالك الذي أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ، ثلاثة أثلاث ، الثلثان ليسا لك ، ليس لهما رصيد في الآخرة ، الثلث الذي يبقى في الآخرة هو الذي يبقى في سبيل الله ، وما سوى هذه الأثلاث الثلاثة ليس مالك في الأصل ، إنما هو كسبك و أنت محاسب عليه .
يا أهلي ، ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ أو حرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة علي . وأندم الناس رجل دخل ورثته بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار . . المال نفسه ورثه أبناؤه حلالاً فأنفقوه في طاعة الله فاستحقوا الجنة ، وكسبه حراماً ، ولم ينتفع به ، أعطاه لغيره ، لأنه كسبه عن طريق حرام استحق به دخول النار . . أندم الناس عالم دخل الناس بعلمه الجنة ، ودخل هو بعلمه النار . أندم الناس من دخل ورثته بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه حقيقة سابعة متعلقة بعلاج :
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾
أن توقن أن مالك الحقيقي هو الذي أنفقته في سبيل الله ، وأن الذي استمتعت به أكلت ، وشربت ، ولبست ، ليس له رصيد في الآخرة ، وما سوى هذه الثلاثة ليس لك في الأصل ، تُحاسب عليه ولا تنتفع به .
8 ـ الإيمان أن الدنيا مزرعة الآخرة :
بقي علينا أننا إذا آمنا أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن الحياة الدنيا من أجل العمل الصالح ، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام كما ورد في البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال :
((كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل))
﴿فامشوا في مناكبها﴾
لا تغوصوا فيها :
﴿وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم :
((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))
الدنيا للمؤمن كالعام الدراسي ، لابد من دراسة ، لابد من قعود في البيت ، لابد من عكوف على الكتاب ، لابد من ترك النزهات والسهرات من أجل أن ينال الشهادة العليا فينعم بها . فالدنيا سجن المؤمن لأنها دار تكليف ، وجنة الكافر لأنها في نظره دار نعيم . . هي دار ابتلاء ليست دار إكرام . .
9 ـ الزهد في الدنيا :
أيها الأخوة الكرام ؛ في نهاية المطاف ، وفي البند التاسع من أساليب التربية الإسلامية في معالجة هذا المرض ، والمرض أن تغدو الدنيا لعباً ، ولهواً ، وزينة ، وتكاثراً ، وتفاخراً . . من أجل ألا نقع في هذه الأمراض العضالة ، ابن ماجة روى عن سهل بن سعد الساعدي أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس معاً ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس))
وأعيد عليكم التعليق الذي ذكرته في الخطبة السابقة ، ليس معنى الزهد في الدنيا أن تكون يدك هي السفلى ، لا والله ، ولا أن تكون عالة على غيرك ، ولا أن تكون مهملاً لعملك، ولا أن تكون دنياك قميئة ، ليس هذا هو الزهد في الدنيا . . الزهد في الدنيا أن تنقلها من قلبك إلى يديك ، الزهد في الدنيا أن تسخرها لا أن تسخرك ، الزهد في الدنيا أن تضحك عليها ، لا أن تضحك عليك ، الزهد في الدنيا أن توظفها في الحق ، لا أن توظفك في الباطل ، الزهد في الدنيا أن تأخذ منها كي تستعين على الدار الآخرة ، الزهد في الدنيا جاء في قوله تعالى :
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾
آتاك المال ، آتاك العلم ، آتاك الوجاهة ، آتاك القوة ، آتاك الخبرة ، كل هذه الحظوظ إذا آتاك الله منها ابتغ بها الدار الآخرة ، هذا هو التصعيد الذي ذكرته قبل قليل ، هذا هو التحويل ، أن توظف الحياة الدنيا من أجل الآخرة . . ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، ولا من ترك آخرته لدنياه إلا أن يأخذ منهما معاً ، فإن الأولى مطية للثانية .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ..
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قصة إيثار مصعب بن عمير الآخرة على الدنيا :
أيها الأخوة الكرام ؛ أذكركم بأن الخطبتين السابقتين تحدثت بها عن هذه الأوصاف الخمسة التي وصف الله بها الدنيا ، وهذه الخطبة كانت عن البديل ، عن العلاج كي لا نقع في هذا المنزلق الخطر ، أن نلهو عن النفيس بالخسيس ، أن نعبث في الدنيا ، أن تكون دنيانا لعباً ، أن نبتغي زينة الحياة الدنيا وهي زائلة ، أن نفتخر بما نمتلك ، لا أن نفتخر بأعمالنا الصالحة ، أن نتكاثر في حطامها دون أن نتكاثر في الأعمال الصالحة .
أيها الأخوة الكرام ؛ من الصحابة الكرام سيدنا مصعب بن عمير ، مصعب بن عمير كان سليل أسرة غنية وعريقة في الغنى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان من أشدّ شباب مكة أناقة ، وتجملاً ، وزياً حسناً ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : " لقد رأيت مصعباً وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه " .
اللباس الحسن ، الأناقة ، التجمل ، العطر ، ثم ترك ذلك كله حباً بالله ورسوله ، لما آمن برسول الله حرمه أهله كل شيء ، وطردوه من بيتهم ، وضيقوا عليه ، أرسله النبي إلى المدينة المنورة قبل أن يهاجر إليها ، هيأ له الجو هناك ، فإذا كان في المدينة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقبال عليه ، فبفضل هذا الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، لقد أجرى الله على يديه عملاً لو وزنت جبال الأرض لا تعدله ، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : " لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً بالله ورسوله " .
يقول خباب بن الأرت أحد أصحاب النبي : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في الدنيا شيئاً ومنهم مصعب بن عمير ، قُتل يوم أحد ، فلم يوجد له شيء يُكفن فيه إلا نمرة ، أي ثوباً صغيراً ، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرت رجلاه ، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه ، فقال عليه الصلاة والسلام اجعلوها مما يلي رأسه ، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر، فوقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير قبل أن يُدفن ، وقال وعيناه تذرفان بالدموع ، وعيناه تلفانه بضيائهما ، وحنانهما ، ووفائهما ، قال :
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
وقال مخاطباً مصعب بن عمير : " لقد رأيتك بمكة وما بها فتى أرق حلة منك ولا أحسن لمةً منك ، ثم ها أنت شعث الرأس في بردة ".
ماذا خسر مصعب ؟ . . لم يخسر شيئاً ، ربح كل شيء ، ربح رضوان الله عز وجل ، ربح جنة عرضها السموات والأرض ، ربح نعيماً مقيماً . . الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل . آثر الآخرة فأعطاه الله الآخرة وثواب الدنيا . .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذّل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .