وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0498 - ذكرى المولد 7 ، سورتي الضحى والشرح - مكونات الدم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الحكمة من سورة الضحى لفت نظر النبي أن الله ما ودَّعه ولا قلاه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ نحن في الخطبة الأخيرة من خُطَبِ ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقد بيَّنت لكم في خطبٍ سابقة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم وجَّهه الله عزَّ وجل إلى الأدب الرفيع ، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( أدَّبني ربي فأحسن تأديبي ))

[الجامع الصغير عن ابن مسعود]

 ومن تأديب الله جلّ جلاله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام - وهذا التأديب ينسحب علينا ، ونحن أَوْلَى بتطبيقه - أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾

[ سورة الضحى : 1-3]

 لقد تأخَّر الوَحْيُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وتأخر الوحي تأخرٌ له حكمته البالغة ، فهو تربيةٌ من الله عزَّ وجل ، وامتحانٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وتشويقٌ له.

 إذا أردنا أن نقف عند هذه النقطة ؛ فالمؤمن أحياناً بين حالات الإقبال وبين حالات الصدود ؛ لا يرى في صلاته شعوراً معيَّناً ، لا يرى في تلاوته حالاً طيباً ، هذا من قِبَل الله عزَّ وجل لعلَّه تشويقٌ ، ولعلَّه تأديبٌ ، ولعلَّه لفتُ نَظَر ، فالله سبحانه وتعالى حينما تأخَّر الوحي عن رسوله صلى الله عليه وسلَّم قالت العرب : " لقد قلى رب محمدٍ محمداً ، لقد ودَّع محمداً رَبُّهُ . " هكذا قال العرب شامتين ، فلما جاء الوحي ، وقد ذكَّر النبي ، أو أقسم للنبي عليه الصلاة والسلام بمظهَرَيْن من مظاهر الحياة : الضحى في إشراقه والليل في سكونه ، والليل والنهار آيتان من آيات الله عزَّ وجل ، وأجمل ما في النهار ضُحاه ، وأجمل ما في الليل سكونُه ، من خلال هاتين الآيتين الكريمتين الدالتين على عظمة الله جل جلاله ، أقسم الله بهاتين الآيتين ليلفِتَ النظر للنبي عليه الصلاة والسلام أنه ما ودَّعه ولا قلاه ، فالتوديع هو الترك النهائي ، والقلى هو الهجران الموقَّت . .

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾

[ سورة الضحى : 1-3]

 هذه المودَّة ، المؤمن كما قال الله عزَّ وجل :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

[ سورة مريم : 69]

 أن تكون على علاقة طيبةٍ مباركةٍ بالله عزَّ وجل فهذا غاية المُنى ، أن تكون علاقتك بالله علاقة الود والحُب هذه غاية المُنى ، لذلك المؤمن ربَّاني ، أيْ أن الشيء الذي يستحوذ عليه أن تكون علاقته بالله طيبة ، أن يكون قلبه عامراً بذكر الله ، أن يكون عبداً لله ، خاضعاً في كلِّ مناحي حياته لأمر الله ، فهذا المستوى الرفيع من العبادة هو غاية الغايات ، ومحطّ الرحال ، ونهاية الآمال . فالله سبحانه وتعالى يلفت نظر عباده إلى آيتين من آياته الدالتين على عظمته ؛ النهار وأجمل ما فيه الضُحى ، والليل وأجمل ما فيه السُكون . .

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾

[ سورة الضحى : 1-3]

لفت نظر النبي الكريم للآخرة :

 لكنَّ الله سبحانه وتعالى يؤدِّب هذا النبي الكريم الذي هو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، يؤدبه على ماذا ؟ يؤدِّبه بأن يلفت نظره إلى الآخرة . .

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى : 4]

 لمجرَّد أن تظن أن الدنيا خيرٌ لك من الآخرة فأنت لا تعرف شيئاً ، لمجرَّد أن تَحْرصَ على متاعها ، على مالها ، على المكتسبات بها ، على طيّباتها ، على مباهجها ، على حساب الآخرة فهذا الإنسان بعيدٌ عن الله عزَّ وجل ، فالنبي صلى الله عليه وسلَّم أدَّبه ربه على النظر إلى الآخرة ، على تعليق الآمال بالآخرة ، على نقل الاهتمامات للآخرة ، على جعل الآخرة هي كل شيءٍ في حياته .
 أيها الأخوة الكرام ؛ نلمح مسلمين كثيرين يتحدَّثون عن الآخرة ، وعن الجنة ، وعن النار ، وعن الحساب ، وعن العذاب ، وعن الصراط ، وعن الحوض ، فإذا نظرنا إلى أعمالهم ، أو إلى بيعهم وشرائهم ، أو إلى كسب رزقهم ، أو إلى بيوتهم ، لا نجد أنهم مؤمنون بالآخرة ، مؤمنون بالدنيا ، ولو آمنوا بالآخرة لكانت حياتهم غير هذه الحياة ، ولكانت علاقاتهم غير هذه العلاقات ، ولكان انضباطهم غير هذا الانضباط ، فأول تأديبٍ أدَّب الله به النبي عليه الصلاة والسلام كلماتٌ موجزات . .

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى : 4]

 فهل أنت تصدِّق ربك ؟ حينما تقرأ القرآن ألا تقول : صدق الله العظيم ؟ ربُّ العالمين خالق الأكوان يلفت نظرك إلى أن الآخرة . .

﴿ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى : 4]

 خيرٌ وأبقى ، هذا من تأديب الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام . .

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى : 4]

 فإذا كانت الدنيا خَشِنَة ، مالها قليل ، متاعبها كثيرة ، لكنك في طاعة الله ، لكنك مقيمٌ على أمر الله ، لكنك في جهادٍ مع نفسك وهواك ، لكنك تبتغي مرضاةَ الله عزَّ وجل ، الله جلَّ جلاله يطمئنك . .

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾

[ سورة الضحى : 5]

 سوف تفيد الاستقبال ، أنت في دار امتحان ، أنت في دار ابتلاء ، أنت في دار عمل ، والآخرة هي الجزاء ، وهي التشريف ، وهي الإكرام ، وهي النعيم المُقيم ، هذا هو الأدب الذي أدبَّ الله به النبي عليه الصلاة والسلام . .

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى : 4]

 وإن كنت تعاني ما تعاني ، إن كنت يا محمد تعاني من مُعارضات أهل الكفر ، إن كنت تعاني من شظف العَيْش ، إن كنت تعاني من عوائق الدعوة إلى الله ، من كثرة الصوارف عنها . .

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾

[ سورة الضحى : 5]

سرُّ سعادة المؤمن هو الأمل الذي يعيش فيه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من آيةٍ موجَّهةٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا وللمؤمن منها نصيب ، فإذا تلوت هذه القاعدة :

(( وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين ))

[مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 فالآيات التي يتوجه الله بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام هي لنا من باب أولى.

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾

[ سورة الضحى : 5]

 هذه نظرةٌ للاستقبال ، نظرةٌ للمستقبل مُفْعَمَةٌ بالأمل ، ولولا الأمل ضاع العمل، أنت تحيا بأملك ، أنت تسعد بوعْدِ الله لك . .

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ سورة القصص :61]

 ما سرُّ سعادة المؤمن أيها الأخوة ؟ الأمل الذي يعيش فيه ، خالق الكون وعده بالجنة ، هذا الوعد القَطْعِيّ من الله خالق الأكوان يمتصُّ كل المتاعب ، يمتص كل المُزعجات .

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾

[ سورة الضحى : 5]

 والدليل :

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾

[ سورة الضحى : 6]

 فالإنسان إذا وصل إلى ما وصل إليه ألم يكن فقيراً فأغناه الله ؟ ما الذي جعلك تنمو هذا النمو ؟ هو تلك المحبة التي أودعها الله في قلب والديك ، ولولا هذه المحبة ما ربَّى أبٌ ابنه ، لولا هذه المحبة ما نما طفلٌ نمواً طبيعياً . .

يُـنـادى لـه في الكـون أنَّا نـُحِـُّبه  فيسمع من في الكون أمر مُحِبّنا
* * *

 إذا عطف الناس عليك ، إذا أكرمك الناس ، إذا أعطاك الناس ، فهذا من محبة الله لك ، أودع حبك في قلوبهم . .

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾

[ سورة الضحى : 6]

 تكفل به جده ، تكفَّل به عمه ، ألقى حبه في قلب السيدة خديجة ، واسته بمالها ، منحه الله منها الوَلَد ، صدَّقته حينما كذَّبه الناس ، هذه رعاية الله .

 

الرعاية التي يتلقاها الإنسان من البشر هي في حقيقتها من الله :

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ أيَّة رعاية تلقاها من الناس إذا كنت موحِّداً تراها من الله عزَّ وجل ، من دون أن تَغْمِطَ الناس حقَّهم ، من دون أن تجحد بفضل الناس ، لكن أية رعايةٍ يلقاها الإنسان ممن حوله : من أمه وأبيه ، من صاحبته وأخيه ، من أولاده ، أيَّةُ رعايةٍ يلقاها الإنسان هي في حقيقتها من الله عزَّ وجل ، ولو عرفت أن الله هو المُلْهِم ، وأن الله هو الذي يضع محبتك في قلوب الخلق لذابت نفس الإنسان حباً بالله عزَّ وجل . . ألم يجدك يتيماً فآواك، آواك في رحمته ، الأنصار ألم يستقبلوا النبي ؟ أخرجه الناس فآووه ، كفر به الناس فصدَّقوه ، حاربه الناس فناصروه ، الأنصار رعاية من الله عزَّ وجل ، عَمُّه أبو طالب رعاية ، جده ، زوجته . .

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾

[ سورة الضحى : 6]

 إذا أردت أن تَقيس على هذا : أية رعايةٍ تلقاها من البشر هي رعاية الله عزَّ وجل ، لا ينبغي لتلك الرعاية أن تَحْجُبَكَ عن فضل الله ، ولا ينبغي أن يكون فضل الله عزَّ وجل دافعاً لك على جحود فضل الناس ، المؤمن البطل هو الذي لا ينسى فضل الله عليه ، ويرى كل رعايةِ يتلقَّاها من الناس رعاية الله عزَّ وجل ، لا تحمله هذه الرؤية على جحود فضل الناس ، كما لا تحمله رعاية الناس على نسيان فضل الله عزَّ وجل . .

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾

[ سورة الضحى : 6]

 ماذا عليك أن تعمل ؟ . .

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾

[ سورة الضحى : 9]

 كنت ضعيفاً مستضعفاً فقوَّاك الله ، جاءك الضعيف ، يجب أن تلبي طلبه ، أن ترعاه حَقَّ الرعاية . .

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى ﴾

[ سورة الضحى : 6-7]

 الضلال هنا الغفلة ، عاش النبي عليه الصلاة والسلام في جزيرة العَرَب بعيداً عن كل عِلم ، عن كل حضارة ، أناسٌ عاشوا في الصحراء ، حياتهم بسيطة ، لم يتعلموا علم الإغريق ، ولا علم الهند ، ولا درسوا هذه الدراسات ، نشأ النبي عليه الصلاة والسلام في أمَّةٍ أُمِّية ، فجاءه الوحي ، ولكن من علَّمه ؟ . .

﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾

[ سورة النجم : 5-7]

﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً﴾

  فهداك إلى طريقه ، هداك إلى الرسالة ، أنزل عليك القرآن ، وإذا أردت أن تقيس هذه الآية على نفسك هل كنت بهذه المعرفة ؟ أنت على بيِّنةٍ من أمرك ؟ تعرف لماذا خلقت ؟ وأين المصير؟ وماذا في الدنيا من فضائل ؟ وما في الدنيا من نِعَم ؟ تعرف الحلال من الحرام ؟ الخير من الشر ؟ الحق من الباطل ؟ هذه المعرفة التي أكرمك الله بها هذه من فضل الله عليك ، أنت على بصيرة ، أنت على منهجٍ مستقيم ، أنت على طريقٍ يؤدِّي بك إلى الجنة ، أنت على بيِّنةٍ من الأمر تعرف ما لك وما عليك ، ما يجوز وما لا يجوز ، ما هو حرام وما هو حلال ، ما الذي يقرِّبك وما الذي يُبَعِّدُك ، هذه نِعمة الهدى أكبر نعمةٍ على الإطلاق . .

﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾

[ سورة الضحى : 7-8]

 ألم تكن فقيراً فأغناك الله ؟ كل إنسان وصل إلى ما وصل إليه بفضل الله عزَّ وجل ، علَّمه حرفةً يكتسب منها رزقه ، يَسَّر له شهادةً عاليةً فهو يعمل بها ، ما من إنسان إلا وآتاه الله بعض القُدْرات ، وبعض المَلَكَات يكسب منها رزقه ، ولولا ذلك لكان عالةً على الناس ، لكانت يده سُفلى وليست عُليا . هذه الآيات الثلاث :

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾

[ سورة الضحى : 6-8]

 نعمة التربية ، ونعمة الغنى والكفاية ، ونعمة الهُدى والرشاد ، هذه نِعَمٌ أيها الأخوة لا ينبغي أن تغيب عن بال مؤمنٍ لحظةً من الزمن ، وكلَّما رأيت النعم التي تتلقَّاها من الناس هي في حقيقتها من الله فقد أفلحت ، دون أن تغمط حق الناس . وكلَّما رأيت النعم من الله أفلحت دون أن تغمط حق الناس كما قلت قبل قليل .

 

الأدب الذي يبنى على نعم الله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الأدب الذي يُبْنَى على هذه النعم .

﴿ فأمّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾

 إيَّاك أن تقهر الضعيف ، إياك أن تستعلي عليه ، كنت مثله ضعيفاً ، كنت مثله يتيماً ، كنت مثله محتاجاً . .

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾

[ سورة الضحى :9-11]

 قال علماء التفسير :

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾

 و

﴿وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى﴾

  الآية التي تقابلها :

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾

  حدِّث الناس بنعم الله ، يفهم الناس هذه الآية خطأً ، حينما يقولون إذا تحدثوا عن نعمة الله التي وهبهم الله إياها : هذا امتثال لقوله تعالى :

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾

 إطلاقاً هذه الآية لا تعني هذا السلوك ، حدِّث الناس عن نعمة الله ، عن نعمة الخَلْق ، حدِّثهم عن نعم الله التي تَعُمّ الناس جميعاً ؛ نعمة الوجود ، نعمة الإمداد ، نعمة التربية ، نعمة الهدى والرشاد ، حدثهم عن ربك ، لا تحدثهم عن النعم الخاصَّة بك ، أنت بهذا تستعلي عليهم ، وتبثُّ الألم في نفوسهم ، حدثهم عن الله ؛ عن وجوده ، عن وحدانيَّته ، عن كماله ، عن منهجه ، عن نعمه الظاهرة ، عن نعمه الباطنة ، عن تربيته . .

﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾

  فتقابلها الآية الكريمة :

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾

لفت نظر النبي إلى آيتين بارزتين عظيمتين في القرآن الكريم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه السورة أولاً تلفت نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى آيتين بارزتين عظيمتين . .

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾

[ سورة الضحى : 1-2]

 ثم إنها تؤكِّد المودَّة بين العبد وربه . .

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾

  ثم إنها توجِّه الإنسان إلى الدار الآخرة . .

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

 ثم إنها تبثُّ في الإنسان الأمل مهما تكن حياته خَشِنَة ، مهما تكن حياته مُفْعَمَة بالمتاعب . .

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾

 والدليل :

إن الله عـوَّدك الجميل  فقس على ما قد مضى
***

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾

[ سورة الضحى : 6-11]

 والسورة التي تليها :

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1]

 أيْ أن هذا الضيق الذي يعانيه الإنسان ، حينما يتصل بالله عزَّ وجل ينشرح صدره ، حينما يصطلح مع الله عزَّ وجل ينشرح صدره ، حينما يتوب توبةً نصوحة ينشرح صدره، لذلك في حياة المؤمن سعادةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها . . " إن الله يعطي الصحة والمال والذكاء والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ".
 هذه السكينة التي تتنزَّل على قلب المؤمن لا يعرفها إلا من ذاقها ، في قلب المؤمن سكينة لو وُزِّعت على أهل بلدٍ أشقياء لأسعدتهم . .

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1]

 أما إذا أردنا أن نفهم الآية بحق النبي عليه الصلاة والسلام ؛ كان يعرف ربه ، وكان يعرف ضلال الخلق فكان في ضيقٍ مستمر ، ما العمل ؟ ما السبيل إلى هدايتهم ؟ فلما جاءه الوحي وأمره بالتبليغ شرح الله صدره . .

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1-4]

تأكيد الذات حاجة أساسية في الإنسان تلبّى عن طريق طاعة الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من إنسانٍ إلا ويتمنى أن يُرفع ذكره ، هذه حاجةٌ أساسية ، يسميها علماء النفس : تأكيد الذات ، إشعار الناس بأهميتك هذه حاجة فطرية ، إما أن تُلَبَّى هذه الحاجة عن طريق الانغماس في الشهوات ، أو عن طريق إيقاع الأذى بالناس ، وإما أن تُلبَّى هذه الحاجة عن طريق طاعة الله عزَّ وجل . .

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 4]

 فالنبي عليه الصلاة والسلام إذا ذُكِرَ الله ذُكِرَ معه النبي في الآذان ، وفي الإقامة، وفي الدخول في الإسلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . هل بعد هذا الرفع من رفع ؟ . .

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1-4]

 ولكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب ، ما من مؤمنٍ يُطيع الله عزَّ وجل ، ويُقبل عليه ، ويجاهد نفسه وهواه إلا ويرفع الله شأنه في مجتمعه ، يصبح مَحَطَّ الأنظار ، يشار إليه بالبَنان ، يثني عليه الناس في غيبته ، هذه نعمةٌ من نعم الله عزَّ وجل . .

﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 3-4]

العلاقة بين الحاضر و الماضي و المستقبل :

 الآن أيها الأخوة نحن في أزمانٍ ثلاثة : نحن في زمنٍ حاضر ، وزمنٍ ماض ، وزمنٍ مستقبل ، ما علاقة الماضي بالحاضر ؟ وما علاقة المستقبل بالحاضر ؟ الماضي أيها الأخوة من أجل اكتساب الدروس ، فالماضي يعلِّمنا أشياء كثيرة ، والمستقبل من أجل أن يمنحنا الأمل ، نحيا بالأمل ، فربنا سبحانه وتعالى في هذه السورة أشار إلى الماضي ، وأشار إلى المستقبل . .

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 1]

 هذه في الماضي . .

﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح : 2-4]

 المستقبل ؛ فإن كنت تعاني ما تعاني من متاعب ، من صعوبات ، من عقبات ، من تضييق من أهل الكفر . .

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 5-6]

 أيها الأخوة الكرام ؛ لعلماء التفسير عند هذه الآية وقفةٌ متأنية . .
 أولاً : الله جلَّ جلاله يؤكِّد للنبي عليه الصلاة والسلام أن المستقبل للمؤمن ينطوي على كلِّ الخَير ، العُسْر الحاضر سينتهي إلى يُسْر ، كيف أَكَّد الله هذا المعنى ؟ أكد هذا المعنى بأدواتٍ عديدة ، الأداة الأولى " إنَّ " أداة توكيد . .

﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 6]

 والأداة الثانية أيها الأخوة - الجملة الاسمية تؤكد المعنى أكثر من الجملة الفعلية - الجملة الاسمية تفيد الاستقرار ، والاستمرار ، والثبوت ، بينما الجملة الفعلية تفيد الحدوث ، والانقطاع ، فـ

﴿مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

  تركيب اسمي ، وهو أكثر تأكيداً من التأكيد الفعلي ، و إنَّ تفيد التوكيد .
 شيءٌ آخر : التكرار يفيد التوكيد . .

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 5-6]

 الشيء الثالث : المُعَرَّف بأل إذا أعيد فهو عين الأول ، أما النَكِرَة إذا أعيدت فهي خلاف الأول . .

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

 العسر معرَّفة بـ أل فلما أعيدت هي عين الأولى ، أي عُسر واحد ، و يسراً نكرة فلما كُرِّرت اختلفت ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( لن يغلب عسرٌ يسرين ))

[ الجامع الصغير عن زيد بن أسلم ]

 وما قال : إن بعد العسر يسراً ، توكيد ثالث . .

﴿إِنَّ مَعَ﴾

  تطميناً لك ، أيْ أنَّ هذه المتاعب التي تعانيها اليُسر معها ، الانفراج معها ، البَحْبوحة معها ، الدَعْم معها ، النصر معها . .

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 5-6]

الضحى و الانشراح سورتان تشعران الإنسان بالراحة و الطمأنينة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ والله الذي لا إله إلا هو هاتان السورتان إذا قرأهما العبد بإنابةٍ وإخلاص شعر أن جبالاً انزاحت عن قلبه . .

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 1- 5]

كـن عـن ذنـوبـك معرضاً   وكـِلِ الأمـور إلـى القـضــــا
وابشـــر بخـيـرٍ عـاجــــــــلٍ  تـنسـى بـه مـا قـد مضــــى
فـلـربَّ أمـرٍ مـســــــــــــخطٍ  لـك فـي عـواقـبه رضـــــــــى
ولـربَّما ضـاق المـضـيـق  ولربما اتســــــــع الـفـضــــــــا
الله يفـعـل ما يـشـــــــــــاء  فــــــــــلا تـكـن مـعـتـرضـــــــــا
اللـه عـوَّدك الـجـمـيـــــــل  فـقـس على مـا قـد مـضى
* * *

﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح : 2-6]

توجيه الله عز وجل الإنسان إلى علو الهمة و استغلال الوقت :

 ثم إن من تأديب الله للنبي عليه الصلاة والسلام . .

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾

[ سورة الشرح : 7]

 ما معنى هذه الآية ؟ إذا فرغت من عبادةٍ فاجهد لعبادةٍ أخرى ، إن فرغت من خدمة الخَلْق فانصب للقاء مع الحق ، إذا فرغت من عملٍ صالح فاتَّجه إلى طاعة ، إن فرغت من طاعة فاتجه إلى عملٍ صالح ، أيْ ينبغي أن تستغل وقتك كله ، ينبغي ألا تُضَيِّع ساعةً في غير ما خُلِقْت ، لأنك بضعة أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك . .

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ ﴾

[ سورة الشرح : 7]

 من عملٍ مجهد . .

﴿ فَانْصَبْ ﴾

[ سورة الشرح : 7]

 للصلاة ، إذا فرغت من الصلاة فانصب للعمل الصالح ، إذا فرغت من الدعوة فانصب لذكر الله ، إذا فرغت من ذكر الله فانصب إلى الدعوة ، إذا فرغت من خدمة الخَلق فانصب لذكر الله ، أيْ كلَّما أنهيت عملاً تابع عملاً آخر ، لماذا ؟ لأن العمر قصير ، وأنت بضعةٌ أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك . . إذاً يوجِّه الله النبي عليه الصلاة والسلام إلى علو الهمَّة ، وإلى استغلال رأس مالك الوحيد وهو الوقت ، يوجِّه الله نبيَّه الكريم إلى عدم تضييع ثانيةٍ واحدة ، لذلك الله جلَّ جلاله أَقْسَمَ بعمر النبي عليه الصلاة والسلام فقال :

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[ سورة الحجر : 72]

 أقسم الله بعمر النبي ، والمؤمن أيها الأخوة كلَّما علا في مراتب الإيمان عرف كيف يستغل وقته ، عرف كيف يستنفذ وقته كله في طاعة الله ، لأن المؤمن مهما علا شأنه يوم القيامة لا يندم إلا على شيءٍ واحد : على ساعةٍ مضت لم يذكر الله فيها .
أخوة الإيمان ؛ اللذائذ تنقضي وتبقى التبعات ، والمتاعب في الأعمال الصالحة تنقضي ويبقى الثواب ، فالدنيا ساعة اجعلها طاعة ، والنفس طمَّاعة عوِّدها القناعة .

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾

 هذه آيةٌ بليغةٌ جداً ، أي مِنْ عمل إلى عمل ، مِن طاعة إلى طاعة ، مِن عبادة إلى عبادة ، نوَّع أعمالك الصالحة ، من خدمة الخلق ، إلى ذكر الله ، إلى الأمر بالمعروف ، إلى النهي عن المنكر ، إلى طلب العلم ، إلى تعليم العِلم . .

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾

[ سورة الشرح : 7]

 أنت في زمنٍ قصير ، و الأيام تجري .

 

الزهد بما في أيدي الناس و سؤال الله فقط :

 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾

[ سورة الشرح : 8]

 أيْ لا تسأل الناس . .

لا تســـألن بُنَيَّ آدم حاجــــــــةً  وســـل الذي فضائله لا تغلـــق
الله يغضب إن تركت ســؤاله  وبُـنَيَّ آدم حـين يُسأل يغضب
* * *

 علَّم الله النبي أن يزهد بما في أيدي الناس ، وأن يطمع بما في يدي الله عزَّ وجل. .

﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾

[ سورة الشرح : 8]

 اسأل الله عزَّ وجل ، اسأل الله ولا تسأل أحداً سواه . إذا سألت فاسأل الله ، وإن استعنت فاستعن بالله ، وإن أردت شيئاً فاطلبه من الله عزَّ وجل . .

(( فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ ؟ وَقَالَ فِيهِ : حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ))

[أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 إذا سألت فاسأل الله ، إن استعنت فاستعن بالله ، هذا من تأديب الله للنبي . .

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾

[ سورة الشرح :7- 8]

(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))

[ البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الشعراء : 213-215]

 أيها الأخوة الكرام ؛ شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزّه استغناؤه عن الناس .
 ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير ، لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، هذا تأديب الله للنبي :

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾

[ سورة الشرح :1- 6]

 ستُّة توكيدات في هذه الآية ، " إنَّ " حرف توكيد ، التركيب الاسمي حرف توكيد ، التكرار حرف توكيد ، تكرار النكرة وتكرار المعرفة توكيد ، كلمة " مع " تفيد التوكيد ، العسر مع اليسر . .

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾

[ سورة الشرح :7- 8]

الإكثار من قراءة سورتي الضحى و الانشراح :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هاتان السورتان القصيرتان اقرؤوهما كثيراً ؛ اقرؤوهما في الصلوات ، كان عليه الصلاة والسلام يكثر قراءة . .

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾

  فيها تحبُّب ، فيها مودَّة ، فيها تَطْمِين ، فيها تفاؤل ، فيها راحة نفسية . وكذلك :

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾

  والإنسان أيها الأخوة حينما ترتاح نفسه ينطلق في عمله ، حينما ترتاح نفسه يفلح في بيته ، حينما ترتاح نفسه يُضاعف إنتاجه ، حينما ترتاح نفسه يعلو في نظر نفسه ، ما من إنسان إلا ويسعى لهذه الراحة النفسيَّة التي لا تقدَّر بثمن ، يقابلها القلق ، الكآبة ، الخوف ، التشاؤم ، هذه كلها أعراض الإعراض ، إذا أقبلت كان الانشراح والسَكينة ، وإذا أعرضت كان القلق والخوف والتشاؤم والتمزُّق والانهيار وما إلى ذلك . سورتان قصيرتان أدَّب الله بهما النبي عليه الصلاة والسلام .

 

تنزّه الدعوة الخالصة إلى الله عن كل غرض دنيوي :

 بقي ثلاث آياتٍ من تأديب الله عزَّ وجل . الآية الأولى :

﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾

[ سورة ص : 86 ]

 لو أن النبي أراد أجراً على دعوته لسقطت دعوته ، لا يرفع الدعوة إلا أن تُنَزَّه عن المطلب الدنيوي ، قال :

﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً﴾

[ سورة يس : 20-21]

 الغرض الدنيوي يثير الشكوك ، يسقط الدعوة ، يضعها في قفص الاتِّهام ، يُتَّهم صاحبها أنه ذو أغراضٍ دنيوية ، لذلك : ما من دعوةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجل إلا وينبغي أن تنزَّه عن كل غرضٍ دنيوي . .

﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾

[ سورة ص : 86 ]

 والآية الثانية :

﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾

[سورة الفرقان : 57]

 أيْ أَنَّ سعادة النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يرى الناس في طريقهم إلى الله ، أن يرى الناس ملتزمين أمر الله ، هذا هو الأجر الذي يتمنَّاه ، أجره ليس مادياً ، أجره معنوي ، أيْ إذا كان المدعوون في مستوى دعوته فهذا أعظم أجر معنويٍ يتقاضاه النبي ممن حوله .
 والآية الثالثة :

﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾

[ سورة الشورى : 23 ]

 هذا ليس أجراً ، لكن إذا تودَّدتم إلى الله بأعمالٍ تقرِّبكم إليه ، فهذا يعدُّ عند النبي أجراً مُجْزِيَاً ، إذا توددتم إلى الله بعملٍ يقربكم إليه فهذا عند النبي صلى الله عليه وسلَّم يعد أجراً مجزياً ، لذلك التأديب : إياك أن تبتغي غرضاً دنيوياً في الدعوة إلى الله ، عندئذٍ ولو كنت مخلصاً هذا الطلب يثير الشكوك ، هذا الطلب يجعل الدعوة في قَفَصِ الاتهام ، هذا الطلب يسقط الدعوة ، لا ترتفع الدعوة إلا بتنزُّهها عن الأغراض الدنيوية .

 

التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أنهي بهذه الخطبة سلسلة الخُطَب التي تحدثت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلَّم عن شمائله ، وعن أخلاقه ، وعن جوانب شخصيته ، وعن الآيات التي مدح الله بها النبي ، وأنهيت الخطب بعدة خطبٍ عن التوجيهات التربوية التي وجَّه الله بها النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يبقَ علينا إلا أن نتحرَّك في هذه الخُطوط ، إلا أن نتأسَّى بهذا النبي العظيم ، إلا أن ننطلق في معرفة شمائله وتطبيقها ، إلا أن يكون هذا النبي عليه الصلاة والسلام قدوة لنا .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الدم وحده أكبر آية دالة على عظمة الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ دم الإنسان في رأي بعض العلماء بمثابة بحرٍ زاخرٍ بقطع الأسطول ، فهناك سفن للإمداد - كريات الدم الحمراء - وهناك سفن للدفاع ، تتمتع بقدرة على المناورة ، والمراوغة ، والاقتحام وهي الكريات البيضاء ، وهناك سفن للإنقاذ من الموت المحقَّق هي الصفائح الدمويَّة ، وهناك سفن تحمل المواد الغذائيَّة - السكر - وهناك سفن تحمل المواد المُرَمِّمة – البروتين - وهناك سفن تحمل الفضلات - حمض البول وحمض اللبن- فالدم بحرٌ زاخر بسفن فيها مواد ، فيها سفن إمداد ، وسفن دفاع ، وسفن إنقاذ ، وسفن تحمل المواد الغذائية، وسفن تحمل الفضلات ، وكل هذه السفن تتحرك بحريةٍ دون أن تصطدم ، ودون أن تغرق ، ودون أن يصيبها عطب .
 من منَّا يصدِّق أيها الأخوة أن في دم الإنسان - كما قال العلماء - خمسة وعشرين تريليون كرية حمراء ، هذه الكرية لها خصائص العقل لا يصدِّقها ، بإمكانها أن تمر في ممر ضيق هو عشر حجمها بمرونةٍ فائقة ، ونقي العظام يُصَنِّع في كل ثانيةٍ واحدة اثنين ونصف مليون كريَّة في كل ثانية ، ويموت في كل ثانية مثل هذا العدد ، فإذا ماتت هذه الكريات ذهبت إلى مقبرةٍ جماعيَّة اسمها " الطحال " . ففي الطحال تحلَّل هذه الكريات الميتة إلى حديد ، وإلى هيموغلوبين ، يذهب الهيموغلوبين إلى الكبد ليكون الصفراء ، ويذهب الحديد ثانيةً إلى نقي العظام ليعاد تصنيعه مرةً ثانية ، وهذه نظرةٌ اقتصادية .
أيها الأخوة الكرام ؛ وفي الإنسان خمسة وعشرون ألف مليون كرية بيضاء ، هي بمثابة جيش الدفاع ، ومرض الإيدز هو قتلٌ لهذه الكريات البيضاء ، عندئذٍ يموت الإنسان لأقل إصابةٍ جرثوميَّة ، جهاز الدفاع يمثل جيشاً بكل معاني هذه الكلمة ، قسم استطلاع ؛ يستطلع العدو وأسلحته وخصائصه ، وقسم يصنِّع الأسلحة ، وقسم يحارب ، فثلاثة عناصر : عنصر استطلاعي - استخبارات - وعنصر تصنيع الأسلحة ، وعنصر مواجهة لهذه الأسلحة ، هذا جهاز الدفاع ، خمسة وعشرون ألف مليون كرية بيضاء ، وخمسة وعشرون تريليون كرية حمراء، وواحد تريليون صفيحات دموية ، هذه الصفيحات لولاها لنزف دم الإنسان من جُرْحٍ بسيط ، المكان إذا صار فيه جرح تتوجَّه هذه الصفيحات إليه ، وتتلاحم ، وتغلق هذا الجرح . أعرف شخصاً - على علاقةٍ متينةٍ معه - توفَّاه الله بعدم تصنيع الصفيحات في نقي العظام ، ومات بهذا المرض .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الذي يلفِت النظر أن في الدم مادة ، هذه المادة تُعِيُن على لزوجة الدم ، فلولا هذه المادة لخرج من الإنسان ألف سنتيمتر مكعَّب في ست دقائق ، بفضل هذه المادة الألف سنتيمتر مكعب لا تخرج إلا في ثلاثين دقيقة ، لأن اللزوجة أساسيَّة في الدم.
 وقد ذكرت لكم من قبل أن في الدم هرمون يجلِّط الدم وهرمون يميّعه ، ومن توازن هذين الهرمونين يبقى الدم بهذه الحالة العجيبة ، لا هو من السيولة بحيث ينزف الإنسان دمه كله بوقتٍ قصير فيموت ، ولا هو من اللزوجة بحيث يبقى كالوحل في الشرايين، وضعٌ دقيق جداً بين اللزوجة وبين الميوعة .
أيها الأخوة الكرام ؛ بحث الدم وحده أكبر آية دالة على عظمة الله ، الدم وحده؛ بلازما الدم ، مكونات البلازما ، الكريات الحمراء والبيضاء ، والصفائح ، لذلك :

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات : 21]

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليتى ، ولا يعزُّ من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك اللهمَّ ونتوب إليك . اللهمَّ هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تُهِنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهمَّ إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السَلب بعد العطاء مولانا رب العالمين . اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك . اللهمَّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور