وضع داكن
29-03-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 09 - الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الإخوة والأَخوات السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبَرَكاته، وأهْلاً ومَرْحَبًا بِكم مع حَلْقَةٍ جديدة مِن برْنامَج: صُوَرٌ مِن حَياة الصَّحابة.
 يُسْعِدُنا أن نسْتضيف فَضيلَة الشَّيْخ محمَّد راتب النابُلسي ؛ الأُستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة بِجامِعَة دمَشْق والمُدَرِّس الدِّيني في مساجِد دمشْق...؛ أوقاتكم مُلئَت بالخير إن شاء الله.
السائِل:

 أستاذ راتب ؛ قِصَّة الصحابي كعب بن مالك هي قِصَّة لها وَقْعُها وتأثيرُها ؛ بِدايَةً لو سَمَحْتُم لو نُلْقي الضَّوء حول هذه الشَّخْصِيَّة الفذَّة من صحابة النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام ؛ كعب بن مالك.
الشيخ: الأستاذ جمال ؛

 في هذا الصَّحابي الجليل كعب بن مالك قِصَّة رائِعَةٌ مع سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يُمكن أن نستنبط منها عشَرات المواعظ، فقد قال هذا الصَّحابيِّ الجليل: لم أتَخَلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في غزْوَةٍ غزاها قطّ إلا في غزْوة تبوك غير أنِّي تَخَلَّفْتُ في غزْوة بدْر، ولم يُعاتِب أحَدًا تَخَلَّفَ عنه إنَّما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يريدون عير قريش، حتَّى جمَعَ الله بينهم وبين عدُوِّهم على غير ميعاد، ولقد شَهِدْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليلة العقبة حينما توافقْنا على الإسلام، وما أُحِبُّ أنَّ لِيَ بها مَشْهد بدْر، وإن كانت بدْر أذْكَر في الناس منها، وكان مِن خَبَر حينما تخَلَّفْتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في غزوة تبوك أنَّني لم أكن قطّ أقْوى ولا أيسَرُ مِنِّي حين تَخَلَّفْتُ عنه في تلك الغزْوَة، والله ما جَمَعْتُ قبلها راحِلَتَيْن قطّ حتَّى جمعتُهُما في تِلْك الغزوة.
السائل:

ما هذا الصِّدْق الأستاذ راتب ؟
الشيخ:

 الحقيقة يا أستاذ جمال ؛ أنَّ الصِّدْق هو الذي نجَّاه، والصِّدْقُ مَنْجاة، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يريدُ غَزْوَةً إلا ورَّى بغيرها حتَّى كانت تلك الغزوة فغَزاها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في حرٍّ شديد، واسْتَقْبَلَ سفَرًا بعيدًا، ومفازًا، واسْتَقْبَلَ عددًا كثيرًا من المسلمين ليتأهَّبوا أُهْبَة غزْوَتهم فأخبرهم بِوَجههم الذي يريد، وكان عدد المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّك كثيرون لا يجْمعهم كتاب حافظ، فقال كعب: فقَلَّ رجلٌ يُريد أن يتغَيَّب إلا ظنَّ أنّ ذلك سَيَخْفى على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؛ ما لم ينزل فيه وحْيٌ من الله تعالى، وغزى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تلك الغزوة حين طابَتْ الثِّمار والظِّلال فأنا إليها أمْيَل، وجَهَّزَ النبي عليه الصلاة والسلام، والمسلمون معه وطَفِقْتُ أغْدو لأتَجَهَّزَ معه، فأرْجِعُ ولم أقْضِ شيئًا ؛ فقُلْتُ في نفسي: أنا قادِرٌ على ذلك، فلم يزَل ذلك يتمادى بي حتَّى اسْتَمَرَّ بالناس الجِدّ، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلَّم غادِيًا والمسلمون معه ولم أقْضِ مِن جِهازي شيئًا، ثمَّ غدَوْتُ ورَجَعْتُ ولم أقْضِ من ذلك شيئًا فلم يزَل ذلك يتمادى بي حتَّى أسْرعوا وتفارَط الغَزْوُ فَهَمَمْتُ أن أرْتَحِل فأُدْرِكُهم فيا ليْتني فعلْتُ، ثمَّ لم يُقَدَّر ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرجْتُ في الناس بعد خُروج النبي صلى الله عليه وسلَّم يُحْزِنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلاً مغْموسًا عليه في النِّفاق، أو رجُلاً مِمَّن عذَر الله تعالى مِن الضُّعَفاء ولم يذْكُرني النبي عليه الصَّلاة والسلام حتَّى بلغَ تبوك، وكان هذا مِن عادَتِه - فقد كان عليه الصلاة والسلام يتفقَّد أصْحابه - وقال وهو جالسٌ بالقَوم بِتَبوك: ما فَعَل كعبُ بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة: حَبَسَهُ بُرْداه ونعْلاه والنَّظر إلى عطْفَيْه، فقال له معاذ بن جبل: لا، يا رسول الله والله ما علِمْنًا عليه إلا خيرًا ؛ فقد صحابة النبي عليه الصلاة والسلم يُدافع بعضهم عن بعض !
السائل:

وهذا معنى الأُخُوَّة الصادِقَة !
الشيخ:

 نعم، فسَكَتَ النبي عليه الصلاة والسلام، فبَيْنَما هو على ذلك رأى رجُلاً يزول به السَّراب، فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا خُثَيْمة، فإذا هو أبو خثيْمَة الأنصاري، وهو الذي تصَدَّق بِصاعِ تَمْرٍ حين لمزَهُ المنافقون.
 قال كعب: فلمَا بلغني أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قد توَجَّه قافِلاً مِن تبوك حضرني بثِّي - حُزْني - فَطَفِقْتُ أتذَكَّرُ الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلَّم غذًا، وأستعين على ذلك بِكُلِّ ذي رأيٍ من أهْلي، فلَمَّا قيل: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد أضَلّ قادِمًا زاح عنِّي الباطل حتَّى عرَفْتُ أنِّي لم أنْجو منه بِشَيءٍ أبَدًا ومَوْطِنُ القِصَّة وشاهِدُها الكبير هذه الكلمة: فأجْمَعْتُ صِدْقَهُ ؛ أي قَرَّرْتُ أن أكون صادِقًا معه، وأصْبح رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قادِمًا، وكان إذا قَدِمَ من سفَرِه بدأ بالمَسْجِدِ فركَعَ فيه ركعتَيْن، ثمَّ جلس للناس فلمَّا فعل ذلك ؛ جاءَهُ الُخَلَّفون يعْتَذِرون إليه كعادَتِهِم، ويحْلِفون كذِبًا، وكانوا بِضْعًا وثمانين رَجُلاً، فَقَبِلَ منهم رسول الله أعْذارهم وعلانِيَتَهُم وبايَعَهُم واسْتَغْفَرَ لهم ووكَّل سرائرهم إلى الله تعالى ؛ فالله تعالى لا تخْفى عليه خافِيَة.
 حتَّى جئْتُ فسلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَب، ثمَّ قال: تعال، فَجِئْتُ أمشي حتَّى جلَسْتُ بين يدَيْه، فقال لي: ما خلَّفَك ، ألم تكن قد ابْتَعْتَ ظهْرًا ؟ قلتُ: يا رسول الله، والله لو جلَسْتُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيْتُ أن أخرُجَ من سَخَطه بِعُذْرٍ، لقد أُعْطيتُ جدَلاً - أي عندي قوَّة إقْناع ولسانٍ طليق، لكن عَلِمْتُ إن حدَّثْتُكَ اليوم حديث كذِبٍ ترْضى به عَنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسَخِّطَك عليّ ‍! وإن حدَّثْتُكَ حديث صِدْقٍ تجد فيه عليَّ - أي تغضب عليَّ- إنِّي لأرْجو فيه عُقْبَ الله عز وجل.
والآن يقول: والله يا رسول الله، ما كان لِيَ مِن عُذْرٍ، ووالله ما كنت قطُّ أقْوى ولا أيْسَرَ مِنِّي حينما تَخَلَّفْتُ عنك ؛ هذا هو الصِّدْق، وهذا هو التَّوْحيد، فلو اعْتَذَر له بِعُذْرٍ يُرضيهِ لأوْشَكَ الله أن يُسَخِّطَهُ عليه.
السائل: صدق مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلَّم.
الشيخ:

 فقال عليه الصلاة والسلام: أمَّا هذا فقد صَدَق، وهي إشارة إلى هؤلاء الثمانين الذين اعْتِذروا إليه أنَّهم كاذِبون، قُمْ حتَّى يقْضِيَ الله فيك، وسار رِجالٌ من بني سلمة فاتَّبعوني وقالوا: والله، ما عَلِمْناك أذْنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ كي أن لا تكون اعْتَذَرْتَ إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِما اعْتَذَر به هؤلاء ! فقد كان كافيك ذَنْبُك اسْتِغْفار النبي عليه الصلاة والسلام لك ! قال: فوالله ما زالوا يُؤنِّبونَني حتَّى أرَدْتُ أن أرْجِع إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأكْذِبَ عليه ! ثمَّ قلتُ لهم: هل لَقِيَهُ هذا معي من أحَد ؟ قالوا: نعم، لَقِيَهُ معك رجلان، وقالا ما قلْتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلْتُ: من هما، فقالوا: مرارة بن ربيعة العُمَري وهِلال بن أمَيَّة الواقفي، قال: فذَكروا لي رجُلَيْن صالِحَين قد شَهِدا بدْرًا فيهما أُسْوَةٌ، قال: فَضَيْتُ حتَّى ذَكَروهما لي، ونهى النبي صلى الله عليه وسلَّم عن كلامنا نحن الثلاثة.
 قال: فاجْتنَبَنا الناس، أو قال تغَيَّروا لنا، حتَّى تنَكَّرَتْ لي في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف، فلَبِثنا على تلك الحال خمسين ليلةً فأمَّا صاحِباي فاسْتكانا وقعَدا في بيوتِهما يبْكيان، وأما أنا فكُنْتُ أشَدَّ القوم أي أشَدُّهم شبابًا، وأجْلدهم، وكنت أخْرج وأشْهَدُ الصلاة، وأتَجَوَّل في الأسواق فلا يُكَلِّمُني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسَلِّمَ عليه وهو في مَجْلِسِه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: حرَّكَ شَفَتَيْه بِرَدِّ السلام أم لا ؟ ثمّ أصلِّي قريبًا منهم وأُسارِقُهُ النَّظر فإذا أقْبلْتُ على صلاتي نظر إليّ، وإذا الْتَفَتُّ نحوَهُ أعْرَضَ عنِّي، حتَّى إذا طال ذلك عليَّ مِن جَفْوَة المسلمين مَشَيْتُ حتَّى تسَوَّرْتُ جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمِّي وأحَبُّ الناس إليَّ فسَلَّمْتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السَّلام، فقُلْتُ: يا أبا قتادة أُنْشِدُك الله ؛ هل تعْلمني أُحِبُّ الله ورسوله، فسَكَتَ فَعُدْتُ فناشَدْتُهُ فَسَكَت، فَعُدْتُ فناشَدْتُهُ فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضَتْ عَيْناي وتوَلَّيْتُ حتَّى تسَوَّرْتُ الجِدار، فبَيْنما أنا أمشي في سوق المدينة إذْ نَبْطيٌّ من نبْط الشام ممَّن قَدِمَ بالطعام يبيعُهُ بالمدينة قول: من يدُلُّ على كَعْب بن مالِك ؟ فطَفِقَ الناس يُشيرون إليّ، فدَفَعَ إليَّ كتابًا مِن ملِكِ غسَّان، وكُنْتُ كاتِبًا - أي أقرأ - فإذا فيه: أما بعدُ: فإنَّا قد بلغنا أنَّ صاحِبَك قد جفاك، ولم يجْعلْك الله بِدار هوان، ولا مَضْيَعَ فالْحَق بنا نُواسِكَ، فقُلْتُ حين قرأتُها: وهذه أيْضًا من البلاء، فَتَيَمَّمْتُ بها التَّنور فسَجِرْتُها - أي أحْرَقْتُها - حتَّى إذا مَضَتْ أربعون من الخمْسين جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقال لي: إنَّ رسول الله يأمرُكَ أن تعْتَزِل امْرأتَك ‍! فَقُلْتُ أُطَلِّقُها أم ماذا أفْعَل ؟ قال: بل اعتَزِلْها ولا تقْرَبَنَّها، وأرْسَل إلى صاحِبَيَّ بِمِثْل ذلك ؛ فقُلْتُ لامرأتي الْحَقي بِأهْلِكِ و كوني معهم حتَّى يقْضِيَ الله فيَّ هذا الأمْر.
 وفي صباح ليلة الخمْسين من هذه القطيعة المُرَّة، بينما أنا جالسٌ على الحال التي ذَكَر الله مِنَّا، وضاقَتْ عليهم الأرض بِما رَحُبَتْ، وضاقَتْ عليهم أنفُسهم، سَمِعْتُ صَوْتَ صارِخٍ على سَلْعٍ يقول بِأعلى صَوْتِهِ: يا كعْبُ بن مالِكٍ أبْشِر فَخَرَرْتُ ساجِدًا وعرَفْتُ أنَّه قد جاء الفَرَج فآذَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الناس بِتَوْبة الله عز وجل علينا حين صلَّى صلاة الفجْر، فَذَهَب الناس يُبَشِّروننا، فَذَهَب قبل صاحِبي مُبَشِّرون ورقَدَ رجُلٌ إلى فرسٍ فلما جاءني الذي سَمِعْتُ صوْتَهُ يُبَشِّرُني نزَعْتُ له ثَوْبي وكَسَوْتُهما إياه لِبِشارَتِهِ ! ثمَّ دَخَلْتُ المسْجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم جالسٌ وحوله الناس، فقام طلْحة بن عُبَيْد الله رضي الله عنه يُهَرْوِلُ حتَّى صافَحَني وهنّأني، والله ما قام رجُلٌّ من المُهاجرين غيرُهُ فكان كَعْبُ لا ينْساها لِطَلْحَة، قال كعبُ: فلمَّا سلَّمْتُ على النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقال: أبْشِرْ بِخَيْرٍ يومٍ مرَّ عليك منذ ولَدَتْكَ أُمُّك ! فقُلْتُ أَمِن عندكَ يا رسول الله، أم من عند الله تعالى ؟ فقال: بل مِن عند الله عز وجل، وكان عليه الصلاة والسلام إذا سُرَّ اسْتنارَ وَجْهُهُ حتَّى كأنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةَ قمَر ‍! وكُنَّا ننعرِفُ ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وهكذا تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار، وعلى الثلاثة الذين خُلِّفُوا، قال تعالى:

﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾

[ سورة التوبة ]

فهذه قِصَّةٌ بُنِيَت على الصِّدْق.
السائل: وصدق الله العظيم، وصَدَق النبي الكريم صلى الله عليه وسلَّم ورَحِمَ الله الصَّحابي الجليل كعب بن مالك.
 وأهْلاً ومرحبًا بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي ؛ الأُستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة بِجامِعَة دمَشْق والمُدَرِّس الدِّيني في مساجِد دمشْق...؛ أهْلاً بِكُم ومرحَبًا.
الشيخ:

 

شكْرًا لكم.

تحميل النص

إخفاء الصور