وضع داكن
28-03-2024
Logo
العقيدة الطحاوية - الدرس : 11 - أسماء الله قديمة ولا علاقة لها بأفعاله .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا، وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً، وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

تَسَلْسُل الحوادث في الماضي ممتَنِع وهو في المستقبل ممكن :

 أيها الأخوة المؤمنون، وصَلْنا في دروس العقيدة الطحاوِيَّة إلى قَوْل الإمام رحمه الله تعالى: "ليس منذ خَلَق الخلْق اسْتَفاد اسمَ الخالِق، ولا بِإحْداثِهِ البَرِيَّة استَفاد اسم الباري"، فأسماؤه تعالى قديمة ولا علاقة لها بأفعاله، وقد تَحَدَّثْنا عن هذا مَلِيًّاً في الدرس الماضي.
 ظاهِرُ كلام الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ أنَّه يمْنَعُ تَسَلْسُل الحوادث، والتَّسلسل كما تعلمون شيء يرْفضه العقل، فلا بدّ مِن بداية، والله سبحانه وتعالى قديم وأزَلِيّ أبَدِيّ، لكن الخَلْق الحادِث لا يَقبَلُ التَّسلسل إلى ما لا نِهايـَة، وقد وَضَّحْتُ هذا بِمَثَل تقريبـًا لأذْهانكم؛ الدَّجاجة من البَيْضة، والبَيْضَة من الدَّجاجة...إلى متَى ؟ فلا بدّ مِن دجاجَةَ خَلَقَها الله عز وجل، ثمَّ جاءَت البَيْضة، وهكذا.
 ويأتي في كلامِهِ ما يَدُلّ على أنَّه لا يَمْنَعُهُ في المستقبل، والسبب لأنّ الجنَّة إلى أبَدِ الآبِدين، وهي مِن خَلْق الله عز وجل، والله تعالى قال:

﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾

[ سورة الحجر: 48]

 وهو قَوْلُه: "والجنَّة والنار مخلوقتان لا تَفْنَيَان أبَداً ولا تبيدان"، إذاً تَسَلْسُل الحوادث في الماضي ممتَنِع، وهو في المستقبل ممكن، وهو مذهَبُ الجمهور كما تَقَدَّم.
 ولا شَكَّ في فساد مَن منعَ التَّسلسل في الماضي والمستقبل، وبها تفسُد عقيدته، كما ذَهَب إليه جَهْم وأتْباعه، وقال بِفَناءِ الجنَّة والنار، لِما يأتي من الأدِلَّة إن شاء الله، والجنَّة والنار لا تَفْنَيَان، لأنَّ الله تعالى قال:

﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾

[ سورة الجن: 23 ]

العقيدة الإسلامِيَّة لا تؤخَذُ من الفلاسفة بل من كتاب الله و سنة رسوله :

 هناك نقطة دقيقة أيها الأخوة، وأنا أُلِحُّ عليها أشَدَّ الإلْحاح، وهي أنَّ العقيدة الإسلامِيَّة لا تؤخَذُ من الفلاسفة، وأكبر خطأ ارْتَكَبَهُ بعض العلماء أنَّهم الْتَجَؤوا إلى عِلْمِ الكلام، وعِلْم المنطق، وإلى الفلسفة الإغريقِيَّة، لِيأْخُذوا منها العقيدة الإسلامِيَّة! نحن عقيدتنا نأخذها من كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبِما أنَّ الجنَّة والنار مِن خلْقِه سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول في كتابه الكريم:

﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾

[ سورة الجن: 23 ]

 إذاً الجنَّة والنار لا تَفْنيان.

 

َدَوام الجنَّة للإنسان دليل أنَّها راضِيَةٌ عنه :

 وقال تعالى:

﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

[ سورة الغاشية: 21 ]

 لِمَ لمْ يقل الله تعالى: مَرْضِيَّة؟ الإنسان أحْيَاناً يَرْضى عن بيته؛ واسِع، ويَرْضى عن زوْجَتِه؛ كما تروق له، ويَرْضى عن دَخْلِه، ومَرْكَبَتِه، وأولاده، إذاً هذه الأشياء مرْضِيٌّ عنها، والله عز وجل يقول:

﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

[ سورة الغاشية: 21 ]

 والمعنى أنَّ هذه العيشة إذا رضيتَ عنها أنت، وقَبِلْتَها، فهي قد تزول عنك، أو لا ترْضى أن تَبْقى لك، وهذا الأسلوب في اللغة العربية اسمه أُسلوب التَّجْسيد، ونحن عندنا في البلاغة أسلوب اسمه التَّجْسيد، أو التَّشْخيص، مَثَلاً قال تعالى:

﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾

[ سورة الكهف: 77]

 أسْبَغَا على الجِدار صِفات الإنسان؛ وهي الإرادة، فهذا التَّشْخيص والتَّجْسيد في قول الشاعر:

فما جازه جود ولا حلَّ دونَهُ  ولكن يسير الجود حيث يسير
***

 فالجود أمر مَعْنوي، وهو صِفَة، فنحن في هذا البيت خَلَعْنا صِفاتٍ مادِيَّة على أشياء مَعْنَوِيَّة، بينما التَّشْخيص خَلَعْنا صِفاتٍ مَعْنَوِيَّةً على أشياء مادِّيَّة.
 فَرَبُّنا عز وجل قال:

﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

[ سورة الغاشية: 21 ]

 أي أنَّ هذه العيشة تَبْقى له، وعَبَّر الله تعالى عن بقائِها له إلى أبَدِ الآبِدين لأنَّها راضِيَةٌ عنه فإذا كنتَ راضِياً عن شيء فلا بدّ أن تبْحَثَ أنَّ هذا الشيء راضٍ عنك، كيفَ أنَّهُ راضٍ عنك؟ لأنه يبقى لك! فَدَوام الجنَّة لك دليل أنَّها راضِيَةٌ عن أهْلِها.

 

الله تعالى فَعَّال لِما يُريد :

 

 وأما قَوْل من قال بِجَواز حوادث لا أوَّل لها مِن القائِلين بِحَوادث لا آخر لها، فأظْهرُ في الصِّحة مِن قَوْل مَن فرَّق بينهما، فإنَّه سبحانه وتعالى لم يَزَل حَيًّاً والفِعْل مِن لوازم الحياة، فَلَم يَزَل فاعِلاً لما يُريد كما وصَف بذلك نفسه تعالى، حيث يقول:

﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾

[ سورة البروج: 15-16 ]

 أحياناً الإنسان بِهذا الموضوع يَقَع في خَطأ، يقول لك: الله عز وجل قادِر أن يَضَعَ من أفْنى عمره في طاعته في جَهَنَّم! هذا كلامٌ مُنَفِّر، فالله تعالى حقيقةً قادِر لكن هل يفعل هذا؟! إذًا لِمَ لا يفعل ذلك سبحانه؟ لأنَّه ألْزَمَ نفسه بالاسْتِقامة، والدليل قوله تعالى:

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[سورة هود: 56]

 أوْضَح معنى، إذا كان الإنسان لا ينجب أولاداً، وبعد عشر سنين أنْجَبَ ولداً! فهل يستطيع الأب أن يذبح ابنه هذا؟! نحن نتكلَّم مِن حيث القُدْرة، لذا، ولله المَثَل الأعلى، قُدْرَتُه شيء، وكماله شيء آخر، فالله تعالى قادِر أن يضَع الأنبياء في جَهَنَّم، ويضَع الفراعنة في الجنَّة، لكن الله تعالى كما قال:

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[سورة هود: 56]

 مرَّةً ناقَشني أحدهم في البيْت، فقال لي: لا يُسأل عمَّا يفعل ‍! فقُلْتُ له: صحيح، هذه الآية لِفَرْطِ عدالته، عَدْلُهُ يُسْكِتُ الألْسِنة، والأمر الآخر أنَّ الإنسان حينما يفعل شيئًا فهو مَقْهور بالعِلَّة الغائِيَّة، فأنا لا أَصِلُ إلى غايتي إلا بِسَبب، وأنا أتمنَّى أن أذْهب إلى حلب، فأنا مَقْهور إلى أن أرْكبَ الوسيلة، وأنا أُريد الماء، فأنا مَقْهور بِحَفْر البئر، وأُريد القمح، فأنا مَقْهور بِزِراعَتِه، فالإنسان مَقْهورٌ بالعِلَّة الغائِيَّة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لا يليق به ذلك، إنَّما أمْره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُن فَيَكون، فَلِذلك ما دامَتْ الحياة، والتي هي صِفَة من صفات الله تعالى، هو الحيُّ الباقي، ومِن لوازِم الحياة الفِعْل والإرادة، فالله تعالى فَعَّال لِما يُريد، وهو الذي سبحانه وتعالى أَلْزَمَ نفْسه.

 

الآية التالية تطمين من الله عز وجل لعباده :

 وفي القرآن الكريم آيَة تُطَمْئِن العباد، وهي تليق بهم لا بالله تعالى، قال تعالى:

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة الأنعام: 54]

 نحن نَعُدّ الكتابة أقْوى، فأنت إذا أردْت شراء بيت لا بدّ من عقْد، فلِذلك من أجل نَزْعَتِنا المادِيَّة وهو الذي خَلَقَنا، فالله عز وجل أحياناً يُقَرِّب لنا الحقائق، إلا أنَّ الذي قاله لا ينطبقُ على الحقيقة.

 

الآية التالية تَدُلّ على أمورٍ منها :

1 ـ أن الله تعالى يَفْعَلُ بِإرادَتِه ومشيئتهِ ما يشاء :

 ثم قال سبحانه وتعالى:

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾

[ سورة يس : 82]

 هناك زَمَن بين كلمة كُن وبين كلمة يكون ‍! هناك ساعات تضبط الوقت بنسبة واحِد بالمئة من الثانِيَة، لكن الحقيقة أنَّه لا زَمَنَ بين كُن ويكون، مثل الهَنْدسة، ما هو تعريفها الدََّقيق للنُّقطة؟ هي نَظَرِياً لا مَساحة لها، أما عَمَلِياً لو وضَعْتَ نقطةً بِأدَقِّ قلم، وأتَيْتَ بِمُكَبِّر، لَوَجَدْتَ لها مساحة، فإنْ تحرَّكت النّقطة رسَمَتْ مستقيماً أو مساحَةً، وإذا تَحَرَّكَت المساحة رسَمَتْ حجْماً، وإذا تَحَرَّك الحجْم شَكَّل زَمَنًا، وهو ما جاء به (أينشتاين) وسمّاه البُعْد الرابِع، فالزَّمَن مُتَعَلِّق بالحركة.
 الآية تَدُلّ على أمورٍ ؛ أحَدِها: أنَّه تعالى يَفْعَلُ بِإرادَتِه ومشيئتهِ، والله أيها الأخوة، لقد وَرَد في الصَّفحة التاليَة حقيقة بِكَلِمَتَين أو ثلاث، لو أيْقَنْتُم بها لانْقَلَبَتْ الحياة جنَّة، ولانْعَدَمَت المشاكِل.
 أوَّلُها: أنَّه تعالى يَفْعَلُ بِإرادَتِه ومشيئتهِ.

 

2 ـ أن الخالِق قديم و المخلوق حادث :


 والثانِيَة: أنَّه لم يَزَل كذلك، لأنَّه ساق ذلك في معْرض المَدح والثَّناء على نفسِه، وأنَّ ذلك من كمالهِ سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادِماً لِهذا الكمال في وَقْتٍ من الأوْقات، وقد قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة يس: 17]

 ولمَّا كان من أوْصاف كماله، ونُعوت جلاله، لم يَكُن حادِثاً بعد أنْ لم يَكُن، فالله تعالى قال:

﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة يس: 17]

 المخلوق حادِث، والخالِق قديم، أنت تتكَلَّم أحْيَانًا أمام أشْخاص مُثَقَّفين، فقد قُلتُ البارِحَة لِشَخْص: لا يُعْقَل أن يُحيط الحادِث بالقديم ‍! كلمة حادِث أي سبقهُ عدَم، وسَيَأتي بعده عَدَم، القديم ليس له بِداية، وليس له نِهايَة، أما الحادِث فله بِداية، وله نِهايَة، وأنا أحْيانًا أشعر بِحُدوث الإنسان بِحالاتٍ نادِرَة؛ أحْيَانًا يقع تحت يدِي كتاب مَطبوع في سنة ألف وتسعمئة وخمسة وعشرين، وأنا وِلادتي بعد هذا التاريخ ! فَقُلْتُ حينما أُلِّفَ هذا الكتاب، وحينما صُفَّتْ حروفه، لم أكُنْ وَقْتَها شيئًا مَذْكوراً.

 

3 ـ أن الله تعالى إذا أراد شيئاً فعله :

 الثالث: أنَّه إذا أراد شيئًا فَعَلَهُ، فهل أنت كذلك أيها الإنسان؟ نحن بني البشر بنسبة تسعة وتسعين بالمئة لا يُحَقَّق لنا ما نُريد ! أليْسَ كذلك؟ هل هناك مَن لا يحبّ البيْت الواسِع والزَّوْجة المُريحة والتِجارة والدَخْل والأولاد الأبْرار؟ إلا أنّ الإنسان ليس فعَّالاً لِما يُريد، ما معنى فعَّال لِما يريد؟ أيُّ شيءٍ يَخْطر في بالِك قادِر على فعله ! إلا أنَّ الإنسان لا يستطيع تحقيق ما يريد، لذا يقول أحَدُ العلماء: الله عز وجل أعْطى الإنسان الاخْتِيار، ومع ذلك بِأيِّ لحظة يأخذه منه، والدليل قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة البقرة: 142 ]

 كلمة سُفهاء سُباب، فأنت أيُّها السَّفيه سوف تقول كذا وكذا، فإذا أراد هذا السَّفيهُ إبْطال نصٍّ في القرآن الكريم، فماذا يفعل؟ ما عليه إلا السُّكوت ! فَهُوَ إن سَكَتَ أبْطَل كلام الله عز وجل، وفِعْلاً السَّفيه قال: ما وَلاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهذه مِن طلاقَةِ الإرادة الإلهِيَّة، فَهُوَ تعالى خَيَّرَك، ولكن في أيِّ لحظة يأخذ اخْتِيارَك، فأبو لهب سَيَصلى ناراً ذات لَهَب، وامرأته حمَّالَة الحطَب، فلو فَكَّر أبو لهبٍ بهذا، وجاء أمام الناس، وقال: أشْهد أنّ محمَّداً رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، يكون بِهذا أَلْغى الآية، ألَيْس كذلك؟ فعلى الرَّغْم من أنَّك مُخَيَّر يُمكِنه تعالى أن يأخذ منك اخْتِيارَك، والله تعالى إذا أراد أن يُعالِج إنسَانًا، قال: إذا أراد ربّك إنفاذ أمْرٍ أخَذَ من كلّ ذي لُبٍّ لُبَّه، أحيانًا يجعل الله تعالى الذَكِيّ يَرْتَكِب حمَاقَةً ما بعدها حماقة، وأخطاء فاحشة، فلذلك فإنّ الله عزَّ وجل طليق الإرادة، فإذا أراد فَعَل، فَمشيئة العِباد لا تمنعه.

 

الإنسان مُخَيَّر ومُسَيَّر :

 لذلك قلتُ لكم مرَّةً: الإنسان مُخَيَّر ومُسَيَّر ! مُسَيَّر مَرَّتَين؛ مُسَيَّر قَبْل أن يُخلق، فهل منكم مَن بِيَدِه ولادَتُه مِن فُلان أو من فُلانة؟ أو أنْ تكون وِلادته بالعام الفُلاني؟ فنحن وُلِدْنا بالشَّام، فهل لنا خيار بهذا الشيء؟ لا خيار لنا، فالإنسان مُسَيَّر قبل أن يخلق، لكن يجب أن تعلموا عِلْمَ اليَقين أنَّ هذا التَّسْيير هو أكْمَلُ شيء لإيمانِك، ليس في إمْكانِك أبْدَعُ مِمَّا أعْطاك، ثمَّ جاء بعده الاخْتِيار، فأنت ضِمن دائرة التَّكْليف، قال تعالى:

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾

[ سورة الإنسان: 3 ]

 فهو اختار، والآن هو مُسَيَّر مرَّةً ثانِيَة؛ مُسَيَّر لِتَحقيق اخْتِيارِه، والفِعل فِعْل الله، ومرَّة ثانِيَة مُسَيَّر لِدَفْعِ ثَمَن اخْتِياره، فلو أنّ رجلاً اختار غشّ الناس، واخْتار أن يأكل أموالهم بالباطل، ومَكَّنه اللهُ تعالى من ذلك، ثمَّ يسوق له مَن يُذيقه ألوان العذاب، فلو كان نِظام السَّيْر يقتضي حَجْز الإنسان سبعة أيام؛ الإشارة حمراء، وأنت مُخَيَّر، فأنت عندما اخْتَرتَ خَرْق النِّظام فقَدْتَ اخْتِيارَك، وسُيِّرْتَ إلى السِّجْن، فنحن عندنا ثلاثة أنواع من التَّسْيير: تَسْيير الخَلْق مِن فلان وفلانة، وفي المكان والزمان الفلاني، والتَّسْيير الثاني لِتَحقيق اخْتِيارِك، والتَّسْيير الثالث: لِدَفْع ثَمن اخْتِيارك.

 

الله تعالى له إرادة مُتَعلِّقَة بِفِعْله وله إرادة متعَلِّقَة بِفِعْل العِباد :

 قال: إنَّه إذا أراد شيئًا ما فَعَلَهُ، فإنَّ (ما) موصولة عامَّة، أي يفعل كلّ ما يريد أن يفعله، أما الإنسان فلا يفعل مِمَّا يُريد إلا المِعْشار، وهذا في إرادته المتَعَلِّقة بِفِعْلِه، وأما إرادته المُتَعَلِّقَة بِفِعْل العَبْد فَتِلْكَ لها شأنٌ آخر، فالله تعالى له إرادة مُتَعلِّقَة بِفِعْله، وله إرادة متعَلِّقَة بِفِعْل العِباد، ولله المَثل الأعلى، فأنت في البيت أب مِلء السَّمع والبصر، تقوم مِن مَجْلسِك لِتَأكل، أو لِتَنام، أو لِتَشْرَب، ولك ابن ما أراد أن ينام، فأنت تُلزِمه بالنَّوم، فأنت لك إرادة مُتَعَلّقَة بِفِعْلك؛ تقوم، وتقعد، وتنام، وتخرج، وتدخل، وتقف، وتقرأ، و تستمِع، وابنك إرادته متَعَلِّقة بِفِعْلِك أنت، فأحْيانًا تسْمَحُ له أن يتحَرَّك، وتَسمح له أن يلعب، وأحْيانًا تُلْزِمُه أن يلعب.
 قال: فإن أراد فَعَل العَبْد، وإن لم يُرِد من نفسِه أن يُعينه عليه، ويجعله فاعِلاً لم يوجَد الفِعْل، لذلك النقطة المُهِمَّة جداً: يا ترى هل يعلم الله ما أفْعَل؟ هناك جواب مُسْكِت؛ وهو كيفَ لا يعلم وفِعْلُك من خلقِه؟ أنا أُراقِب، وجاء إنسان ووضَع هذا الكأس هنا ورائي، فأنا أعلم ما فعل، ولكن لو كنت أنا الذي أمسكها وأضَعها، كان هذا أبْلَغ، ‍فَكَيْف لا يعلم الله عز وجل، وأفعال العباد تحت سَمعه وبصره، إن صحَّ التعبير، ولكن مِن فعلِهِ، فهو تعالى الفَعَّال، له إرادة مُتَعَلِّقَة بِفِعْلِهِ، وله إرادة مُتَعَلِّقَة بِفِعْل العَبْد، فلو أيْقَنَ الإنسان بِهذا الكلام هل يمكن أن يُخيفك أحَد؟‍ أبَداً، وهناك ألف قِصَّة وقِصَّة تُؤَكّد هذا الكلام، وحتى العِباد الأقوياء الشَّرِسون، والجبَّارون، والطغاة، كان في بلادنا أخ من أخواننا من إفريقيا، فَمَرَّةً أخَذ إجازة، وسافر إلى بلده، وبلده في غرب إفريقيا، ووُجِد شخصٌ ملقًى على سِكَّة الحديد مقتولاً، والقريَة التي هو فيها مُتَّهَمة بِقَتْل هذا الإنسان، والحُكومة قَوِيَّة جدًا، وأرادَت أن تُرَبِّي هذا المجتمع كلَّه بهذه القريَة، فما كان من رِجال الشرطة إلا أن جمَعوا كلّ ذَكَرٍ في هذه القريَة، وساقوهم إلى ساحة عامَّة لِيُذيقوهم ألوان العذاب، ولِيَعْتَرِفَ القاتِلَ؟ وهذا الأخ الكريم في اليوم الذي وصَل فيه وقع حادثُ القتل هذا، وسيقَ مع مَن سيق، وهذا الأخ مِمَّن نحسبهم من أهل الإيمان، وأنا أُصَدِّقُه، فالضابِط المُوَكَّل بِتَعْذيب هؤلاء الناس أشار إليه وقال له: أنت اِذْهَب إلى البيت، فَفِعْلُ العَبْد بِيَد الله تعالى، فهذه الحقيقة إذا أيْقَنْتَ بها لم يكنْ ثمّة خوْف إطْلاقًا.

الله تعالى يفعل كل ما يريد أن يفعله وهذا شأنُ إرادته المتَعَلِّقَة بِفِعْلِه :

 قال: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا شأنُ إرادته المتَعَلِّقَة بِفِعْلِه، وأما إرادته المُتَعَلِّقَة بِفِعْل العَبْد فَتِلْكَ لها شأنٌ آخر، فإن أراد الله تعالى فعَلَ العَبْدُ، ولم يُرِد من نفسه أن يُعينه عليه، ويجعله فاعِلاً، لم يقع الفِعْل أصْلاً، وكلُّ شيء وقَع أراده الله، لذلك قالوا: لِكُلّ واقِعٍ حِكْمة، فقد يكون الذي أوْقَعَ هذا الفِعْل أحْمق وأرْعَن، وقد يكون جاهِلاً، ولكن لأنَّ هذا الفِعْل وَقَع، فإنَّه يكون فيه حِكْمة بالغة.
 قال: وإن أراده حتى يُريد من نفسِه أن يجعله فاعِلاً، وهذه هي النُّكْتَةُ، وبالمناسبة نحن نقول: احكِ لنا نُكْتَة أي طُرْفَة، ولكن النُّكْتَة في اللُّغَة الشيء الدقيق الخَفِيّ؛ تقول: نُكْتَة بلاغِيَّة، أو نُكْتة لُغَوِيَّة، فالنُّكات الأشياء الدقيقة الخَفِيَّة، لا بِمَفْهومِها المُعاصِر !.
 قال: وهذه هي النُّكْتَةُ التي خَفِيَت على القَدَرِيَّة والجَبْرِيَّة، وخَبُثوا في مسألة القَدَر لِغَفْلَتهم عنها، وفرْق بين إرادته أن يفعل العَبْد، وإرادته أن يجعله فاعِلاً، فالله تعالى ما أجْبَر الإنسان، إلا أنّه إذا اختار شيئًا فإمَّا أن يسْمَحَ الله له أن يفْعله، أو لا يسْمَح، فإذا فَعَلَه فقد سَمَح.
 وهنا سؤال: هل يريد الله الكفر مِن الناس؟ أراده ولم يرْضَه، وأراده ولم يأمُرْ به، ومعنى أراده أيْ: سَمَح به، لماذا سَمَح به ؟ لأنّ الإنسان مُخَيَّر، وأوْضَح مثَل: أن تكون صَيْدَلِيًّاً، وتحتاج إلى موظَّف مُثَقَّف لكن تُحِبّ أن تَمْتَحِنَهُ، فَتضَعُ له على الطاوِلَة مجموعة أدْوِيَة مُنَوَّعَة، ثم طلَبْتَ أن يُصَنِّف هذه الأدْوِيَة، كيف يَصِحُّ الامتِحان؟ إذا سَمَحْتَ له أن يغْلَط؛ ألَيْس كذلك؟ فإن لم تَسْمح له أن يغْلَط، فما امْتَحَنْتَه، إذا أراد الله للعَبد الكفْر فإنَّه سَمَح له تَحْقيقًا لاخْتِياره.

تلازم إرادة الله عز وجل و فعله :

 الأمْر الآخر أنَّ إرادته وفِعْلَهُ متلازمان، فما أراد أن يَفْعَل فَعَل، وما فَعَلَهُ فقد أراده، هذا أقوله كثيراً ؛ كُلُّ شيءٍ وَقَع أراده الله، وكلّ شيء أراده الله تعالى وَقَع، أفْعالُهُ مُتَلازِمة مع إرادته، وهذا بِخِلاف المَخلوق فإنَّه يريد ما لا يفْعل، ويفْعَلُ ما لا يريد، أحْياناً يقول لك أحدهم: لقد أجْبروني حتَّى تَكَلَّمْتُ، وهذا أمْرٌ ليس بِيَدي ‍! فالإنسان يفعل ما لا يريد، أما الله تعالى فهو فَعَّالٌ لِما يريد، وإذا أراد شيئًا وَقَع، وإذا وَقَعَ الشيء فقد أراده الله عز وجل.
 قال: إثبات إرادات مُتَعَدِّدَة بِحَسَبِ الأفعال، وأنَّ كلّ فِعْلٍ له إرادةٌ تَخُصُّه، وهذا هو المَعقول في الفِطَر، وشأنه سبحانه وتعالى أنَّهُ يريد على الدَّوام ويفْعَل ما يريدُ، فالله عز وجل له إرادات كثيرة جداً، وإرادتُهُ مُسْتَمِرَّة، والدليل قوله تعالى:

﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾

[ سورة الرحمن: 29 ]

 وأَوْضَح مَثَل: أنّ الطبيب يمرّ على المريض، وينظر إلى ضَغْطه، فَيَقُول للمريض: تَجَنَّب المِلح، فَكُلّ شيء يجعل الطبيب يُعطي أوامِر، فهذه الإرادات مُتَبَدِّلَة بِتَبَدُّل حال الإنسان، فالله تعالى شأنُهُ مع المُستقيم الإكرام، ومع المُنْحِرَف التأديب، وشأنُه مع المُتَوَكِّل الدَّعْم، ومع المُتَكَبِّر القَصْم، ومع المُبَذِّر الإفْقار، ومع المُقْتَصِد الغِنى، ومع المُنيب الإكرام، ومع المُدْبِر الإعراض.
 الأمر الآخر: أنَّ كلَّ ما صَحَّ أن تتعَلَّق به إرادتُه جاز فِعْلُه، فإذا أراد كلّ ليلةٍ أن ينزل إلى السماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لِفَصْل القضاء، وأن يُري لِعِباده نفسَه، وأن يتَجَلَّى لهم كيف يشاء، وأن يُخاطبهم، ويضْحك إليهم، فقد وردَت صِفة الضَحك لله عز وجل، وغير ذلك لما يريد سبحانه، لم يَمْتَنِع فِعْلُه، فإنَّه تعالى فعَّال لِما يُريد، وإنَّما يتَوقَّف صِحَّةُ ذلك على الخبر الصادِق به، فإذا كان الخَبَر صاِدقًا، وأخبر به فقد وَجَب التَّصْديق، وكذلك مَحْوُ ما يشاء، وإثبات ما يشاء، وكُلَّ يومٍ هو في شأن سبحانه وتعالى.

 

الله تعالى فعَّال بِقُدْرَتِه و قادِر على أن يفْعَل ما يشاء دائِماً :

 قال: والقَوْل إنَّ الحوادِث لها أوَّل يَلْزَمُ منه التَّعْطيل قبل ذلك، وأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يَزَل غير فاعِلٍ، ثمَّ صار فاعِلاً، وهذه أجَبْنا عنها في الدَّرْس الماضي، وقلنا: إنَّ الله تعالى فعَّال بِقُدْرَتِه، وهو تعالى قادِر على أن يفْعَل ما يشاء دائِماً، فَقُدْرَتُهُ لا علاقة لها بِفِعْلِه، فقد يَفْعَلُ الإنسان هذا الشيء في وَقْتٍ مُحَدَّد، أما الله تعالى فهو دائِماً وأبداً قادِرٌ أن يفْعل ما يشاء.
 قال: ولا يلْزَمُ من ذلك قِدَمُ العالَم، لأنَّ كلّ ما سِوى الله تعالى حادِث ومُمْكِن الوُجود، ومَوْجود بِإيجاد الله تعالى له، وليس له مِن نفْسِه إلا العَدَم، والفَقْر، والاحْتِياج، والاحْتِياج وَصْفٌ ذاتي لازِمٌ لِكُلّ ما سِوى الله تعالى، وشَرْحُ اسم العزيز أنَّه يحْتاجُه كلُّ شيء في كُلِّ شيء.
 قال: والله تعالى واجب الوُجود بِذاتِه، غَنِيّ بِذاتِه، والغِنى وَصْفٌ ذاتي واجِبٌ له سبحانه وتعالى.

أقوال الناس في العالم

 وللناس قولان في هذا العالم؛ هل هو مَخْلوق مِن مادَّة أم لا؟ واخْتَلفوا في أوَّل هذا العالم ما هو؟ قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾

[ سورة هود: 7]

 وروى البخاري في صحيحه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:

((إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ))

[البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ]

 فَقَوْلُهُ كتَبَ في الذِّكْر أي اللَّوْحُ المحفوظ كما قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾

[ سورة الأنبياء: 105]

 الذِّكْر اللَّوح المَحفوظ، ويُسَمَّى ما يُكْتَبُ في الذِّكْر ذِكْراً، كما يُسَمَّى ما يُكتَب في الكتاب كتاباً، والناس في هذا الحديث على قَوْلَين: منهم من قال: إنَّ المَقصود إخباره أنَّ الله تعالى كان مَوْجوداً وَحْدَهُ، ولم يَزَل كذلك دائِماً ثمَّ إنَّه ابْتَدأ إحْداث جميع الحوادِث فَجِنْسُها وأعْيانُها مَسْبوقَةٌ بالعَدَم، وأنَّ جِنْسَ الزَّمان حادِثٌ لا في الزَّمان.
 أحْيانًا يقول لك أحدهم: الله تعالى لا يعلم ما سيَكون ! الأيام والشُّهور والسنون، كأنّ الله تعالى مَخلوق ضِمْن الزَّمن، وهو ينتظر سبحانه أن تأتي الأيَّام بِتَواريخ جديدة، أعوذ بالله من هذا الكلام ! هذا الزَّمَن مِن خلْق الله، وبعض خلقِه الزَّمنُ، ويسْتحيل على عقلنا أن نفهم حقيقة الذات الإلهِيَّة، فَيُمْكِنُنا أن نصِل إلى الله، وأن نسْعَد به، لكن لا يمكن أن نُحيط به، فالوُصول شيء، والإحاطَة شيء آخر.
 قال: وأنّ جنس الزمان حادِثٌ لا في الزَّمَن، وأنَّ الله تعالى صار فاعِلاً بعد أن لم يكن يفْعل شيئًا مِن الأزَل إلى حين ابْتِداء الفِعْل، ولا كان الفِعْل مُمْكِنًا.
 والقَوْل الثاني: المُراد إخبارُه عن مَبْدأ خلْق هذا العالم المَشْهود الذي خلَقَهُ الله في سِتَّة أيَّام ثُمَّ اسْتوى على العَرْش، كما أخْبَر القرآن بِذلك في غير مَوْضِع.
 أُحِبُّ وأُفَضِّل دائِمًا لك أن توكِلَ فهْم آياتها إلى الله كما فَعَلَ السَّلَف الصالِح، ولك أن تُؤَوِّلَها تأويلاً يليق بالله تعالى كما فَعَل الخَلَف الصالِح، وليس لك أن تُلْغِيَها كما فَعَل المُعَطِّلَة، ولا أن تُجَسِّدَها كما فعَل المُجَسِّدَة، فهؤلاء انْحَرَفوا.

 

دليل صحة قول النبي عليه الصلاة و السلام التالي :

 وقد أخْبَرَ النبي صلى الله عليه وسلَّم أنَّ تَقْدير هذا العالم المخلوق في سِتَّة أيَّام كان قبل خلقهِ بِخَمسين ألف سنة، وأنَّ عَرْش الربّ تعالى كان على الماء، ودليل صِحَّة هذا القول الثاني مِن وُجوه:
 أحدها: أنَّ قول أهل اليَمَن جئْناك لِنِسْألك عن أوَّل هذا الأمْر، وهو إشارة إلى حاضِرٍ مَشْهود موجود، والأمر هنا بِمَعنى المأمور، أي الذي كَوَّنَهُ الله تعالى بِأَمْره، فقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلَّم عن بدْء هذا العالم المَشْهود، لا عن بدْء المخلوقات، لأنَّهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السماوات والأرض حالَ كَون عرْشِه على الماء، ولم يُخْبرهم عن خَلْق العرش الذي هو مخلوق قبل السماوات والأرض.
 وأيْضاً قال: كان الله تعالى ولم يكن شيء قبله، وقد رُوي معه ورُوِيَ غيره والمجلس كان واحِداً، فَعُلِمَ أنَّه قال أحد اللَّفظين، والآخران رُوِيا بالمعنى ولَفْظ (قبْل) ثبت عنه في غير هذا الحديث.
 فكلمة غيره، ومعه، وقبْله كانت بِمَجْلس واحد، ففي حديث مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَالظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَالْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ ]

 واللَّفظان الآخران لم يثبت واحِدٌ منهما، ولهذا كان كثير من أهل الحديث يرْويه بِلَفظ غَيْر كالحُمَيدي، وإذا كان كذلك لم يكن في هذا الحديث تَعَرُّض لابْتِداء الحوادِث، ولا لأوَّل مخلوق.
 وأيضاً فإنَّه قال: كان الله ولم يكن شيء قبله ومعه أو غيره، وكان عرشه على الماء، وكتَبَ في الذِّكْر كلّ شيء، فأخْبَرَ عن هذه الثلاثة بالواو، وخلق السماوات والأرض، ورُوِيَ بِثُمَّ، فظَهَر أنَّ مَقْصودَهُ إخبارهم إيَّاه بِبَدْء خلْق السماوات والأرض وما بينهما، و هي المخلوقات التي خلقَت في سِتَّة أيام لا ابْتِداء الخلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذَكَر السماوات والأرض بِما يدلّ على خلقهما، وذَكَر قبلهما بِما يدُل على كوْنِه ووُجودِه، ولم يتَعَرَّض لابتِداء خلقِه له.
وأيْضاً، فإنَّه إذا كان الحديث قد ورَدَ بِهذا وهذا، فلا يُجْزَم بِأَحَدِهما إلا بِدليل، فإذا ترجَّحَ أحدهما على الآخر فَمَن جَزَمَ بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلَّم أراد المعنى الآخر فهو مُخطئٌ قطْعاً، ولم يأتِ في الكتاب ولا في السنَّة ما يدلّ على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته لِما يُظَنُّ أنَّه معنى الحديث، ولم يُرِد كان الله، ولم يكن شيءٌ معه مُجَرَّد، وإنَّما ورَدَ هذا على السِّياق المَذْكور، فلا يُظَنُّ أنّ معناه الإخبار بِتَعطيل الربِّ تعالى دائِماً عن الفِعْل إلى خلق السماوات والأرض، أيْ: قبل أن يخلق، فهُوَ تعالى خَلاَّق، وقبل أن يفْعل هو فعَّال، وقبل أن يُريد هو مريد، وهذا هو المعنى، فَدَائِماً الله تعالى قادِر على أن يفْعَل، ولو لم يفْعل.

 

الله تعالى موجود و لا شيء قبله أو معه أو غيره :

 آخر فقْرة: وقوله صلى الله عليه وسلَّم: كان الله، ولا شيء قبله، أو معه،أو غيره، وكان عرْشُه على الماء لا يَصِح المعنى أن يكون الموجود وحْده، ولا مخلوق أصْلاً، لأنَّ قوله تعالى: وكان عرْشه على الماء يرُدُّ ذلك، فإنَّ هذه الجملة؛ وكان عرشه على الماء إمَّا حالِيَة، أو مَعْطوفَة، وعلى كِلا التَّقْديرَيْن، مَخْلوقٌ ومَوْجود في ذلك الوقت، فَعُلِمَ أنَّ المعنى أنَّه لم يكن شيء من هذا العالم المَشْهود يوْمَ خلَق، إلا أنَّه كان هناك عرْش، ولا يعلم حقيقة العرْش إلا هو، والإنسان كلَّما تأدَّب قال: لا أدري.
 وإن شاء الله في الدرس القادم نُتابِعُ هذا الموضوع.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور