وضع داكن
24-04-2024
Logo
صور من حياة التابعين - الندوة : 12 - التابعي عطاء بن رباح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يسعدنا في هذه الحلقة أن نستضيف فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، و المدرس الديني في مساجد دمشق، و خطيب جامع العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي بدمشق، فضيلة الشيخ السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته .
 سيدنا التابعي عطاء بن رباح الشخصية التي بين أيدينا هذا اليوم كيف نبدأ بالحديث عن شخصيةٍ أحبها الله ورسوله ؟
أستاذ جمال:

  لهذه الشخصية مقدمة، سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين وأعظم ملوك الأرض يطوف بالبيت العتيق حاسر الرأس حافي القدمين ليس عليه إلا إزار ورداء شأنه في ذلك كشأن بقية رعاياه من أخوته في الله، وكان من خلفه ولداه وهما غلامان كطلعة البدر بهاءً ورواءً، وكأكمام الورد نضارةً وطيباً، وما إن انتهى من طوافه حتى مال على رجل من خاصته وقال: أين صاحبكم ؟ فقال: إنه قائم هناك يصلي وأشار إلى ناحية من المسجد الحرام، فاتجه الخليفة ومن ورائه ولداه إلى حيث أشير إليه وهم رجال الحاشية أن يتبعوا الخليفة ليفسحوا له الطريق ويدفعوا عنه أذى الزحام، فنهاهم عن ذلك وقال: هذا مقام يستوي فيه الملوك والسوقة ولا يفضل فيه أحد أحداً إلا بالقبول والتقوى، ورب أشعث أغبر قدم على الله فقبله بما لم يتقبل به الملوك ثم مضى نحو الرجل فوجده ما يزال داخلاً في صلاته غارقاً في ركوعه وسجوده والناس جلوس وراءه وعن يمينه وعن شماله، فجلس حيث انتهى به المجلس وأجلس معه ولديه .
 وطفق الفتيان القرشيان يتأملان ذلك الرجل الذي قصده أمير المؤمنين وجلس مع عامة الناس ينتظر فراغه من صلاته فإذا هو شيخ حبشي أسود البشر، مفلفل الشعر، أفطس الأنف إذا جلس بدا كالغراب الأسود، ولما انتهى الرجل من صلاته مال بشقه على الجهة التي فيها الخليفة فحياه سليمان بن عبد الملك ورد التحية بمثلها دون تعظيم، وهنا أقبل عليه الخليفة وجعل يسأله عن مناسك الحج منسكاً منسكاً ويفيض بالإجابة عن كل مسألة ويفصل القول فيها تفصيلاً لا يدع سبيلاً لمستزيد ويسند كل قول يقوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما انتهى الخليفة من مساءلته جزاه خيراً وقال لولديه: قوما فقاما ومضى الثلاثة نحو المسعى .
 وفيما هم في طريقهم إلى السعي بين الصفا والمروة سمع الفتيان المنادين ينادون: يا معشر المسلمين لا يفتي الناس في هذا المقام إلا عطاء بن رباح صاحب هذا اللقاء فإن لم يوجد فعبد الله بن أبي نجيح فالتفت أحد الغلامين إلى أبيه وقال: كيف يأمر عامل أمير المؤمنين الناس بأن لا يستفتوا أحداً غير عطاء بن رباح وصاحبه ثم جئنا نحن نستفتي هذا الرجل الذي لم يأبه للخليفة ولم يوفه حقه من التعظيم ؟ فقال سليمان لولده: هذا الذي رأيته يا بني ورأيت ذلنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح صاحب الفتيا في المسجد الحرام و وارث عبد الله بن عباس في هذا المنصب الكبير، ثم أردف يقول: يا بني تعلموا العلم فبالعلم يشرف الوضيع وينبغ الخامل ويعلو الأرقاء على مراتب الملوك .
 لم يكن سليمان بن عبد الملك مبالغاً فيما قاله لابنه في شأن العلم فقد كان عطاء بن أبي رباح في صغره عبداً مملوكاً لامرأة من أهل مكة غير أن الله جل جلاله أكرم الغلام الحبشي بأن وضع قدميه منذ نعومة أظفاره في طريق العلم فقسم وقته أقسام ثلاثة:
قسم جعله لسيدته يخدمها فيه أحسن ما تكون الخدمة يؤدي لها حقوقها عليه أكمل ما تؤدى الحقوق .
وقسم جعله لربه يفرغ فيه لعبادته أصفى ما تكون العبادة وأخلصها لله عز وجل .
 وقسم جعله لطلب العلم حيث أقبل على من بقي حياً من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وطفق ينهل من مناهلهم الترى الصافية.
فأخذ عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم حتى امتلأ صدره علماً وفقهاً وروايةً عن رسول الله، ولما رأت السيدة المكية أن غلامها قد باع نفسه لله، وقف حياته على طلب العلم تخلت عن حقها فيه وأعتقت رقبته تقرباً لله عز وجل لعل الله ينفع به الإسلام والمسلمين، فمنذ ذلك اليوم اتخذ عطاء بن أبي رباح البيت الحرام مقاماً له فجعله داره التي يأوي إليها، ومدرسته التي يتعلم فيها ومصلاه التي يتقرب فيه إلى الله بالتقوى والطاعة حتى قال المؤرخون: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح نحوناً من عشرين عاماً .
وقد بلغ التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح منزلاً في العلم فاقت كل تقدير، وسمى إلى مرتبةٍ لم ينلها إلا نفر قليل من معاصريه .
 فقد روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه أمّ مكة معتمراً فأقبل الناس عليه يسألونه ويستفتونه، فقال: إني لأعجب لكم يا أهل مكة أتجمعون لي المسائل لتسألوني عنها وفيكم عطاء بن أبي رباح، هذا قاله ابن عمر.
 وقد وصل عطاء بن أبي رباح إلى ما وصل إليه من درجة في الدين والعلم بخصلتين اثنين أولاهما أنه أحكم سلطانه على نفسه فلم يدع لها سبيلاً لترتع فيما لا ينفع، وثانيتهما أنه أحكم سلطانه على وقته فلم يهدره في فضول الكلام والعمل .
المؤمن يوم القيامة لا يندم إلا على ساعة مضت لم يذكر الله فيها.
 حدث محمد بن سوقة جماعةً من زواره فقال: ألا أسمعكم حديثاً لعله ينفعكم كما نفعني، قالوا: بلى، قال: نصحني عطاء بن أبي رباح ذات يوم فقال لي: يا بن أخي إن الذين من قبلنا كانوا يكرهون فضول الكلام، فقلت: وما فضول الكلام عندهم ؟ قال: كانوا يعدون كل كلام فضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يقرأ ويحفظ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروى ويدرس، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، أو علماً يتقرب به إلى الله تعالى، أو أن تتكلم بحاجتك أو معيشتك التي لابد لك منها، ثم حدق في وجهي وقال: أتنكرون إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين، وأن مع كل منكم ملكين عن اليمين والشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، ثم قال: أما يستحي أحدنا لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره فوجد أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا أمر دنياه .
كلام له وزن، قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون: الآية 1-3 ]

 ولقد نفع الله عز وجل بعلم عطاء بن أبي رباح طوائف كثيرة من الناس منهم أهل العلم المتخصصون، ومنهم أرباب الصناعات المحترفون، ومنهم غير ذلك .
 حدث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسه قائلاً: أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكة فعلمنيها حجاً وذلك أني أردت أن أحلق لأخرج من الإحرام فأتيت حلاقاً وقلت له: بكم تحلق لي رأسي ؟ فقال: هداك الله النسك لا يشارط عليه اجلس وأعطِ ما يتيسر لك، فخجلت وجلست غير أني جلست منحرفاً عن القبلة فأومأ إلي أن استقبل القبلة، ففعلت وازدت خجلاً على خجلي ثم أعطيته رأسي من الجانب الأيسر ليحلقه، فقال: أدر شقك الأيمن، فأدرته، وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت أنظر إليه وأعجب منه، فقال: مالي أراك ساكتاً كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب، فقال: أين تريد ؟ قال: أريد أن أمضي إلى رحلي، فقال: صلي ركعتين ثم امضي إلى حيث تشاء، فصليت ركعتين وقلت في نفسي ما ينبغي أن يقع مثل هذا من حجام إلا إذا كان ذا علم، فقلت له: من أين لك ما أمرتني به من المناسك ؟ قال: لله أنت هل رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله ؟ فأخذته عنه ووجهت الناس إليه، لقد رأيت عطاء بن أبي رباح يفعله فأخذته عنه ووجهت الناس إليه .
كلام جميل الشيخ محمد راتب النابلسي، دكتور عطاء بن أبي رباح شخصية متميزة كيف نختتم حديثنا بمزيد عن هذه الشخصية ؟
 التقى هذا التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح بهشام بن عبد الملك فقال: يا عطاء عظني، فقال: اتقِ الله في نفسك يا أمير المؤمنين واعلم أنك خلقت، وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك ممن ترى أحد، فأكب هشام ينكت في الأرض وهو يبكي، فقام عطاء بن أبي رباح فقمت معه فلما صرنا عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه وقال له: إن أمير المؤمنين بعث لك بهذا، فقلت: هيهات وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، فوالله إنه دخل على الخليفة وخرج من عنده ولم يشرب قطرة ماء .
 بلغ مئة عام ملأها بالعلم والعمل، وأترعها بالبر والتقوى، وزكاها بالزهادة بما في أيدي الناس والرغبة بما عند الله، فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أثقال الدنيا كثير الزاد من عمل الآخرة ومعه فوق ذلك سبعون حجةً وقف خلالها سبعين مرةً على عرفات وهو يسأل الله تعالى رضاه والجنة ويستعيذ من سخطه والنار .
 يا سعادة هذا التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح، أهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، و المدرس الديني في مساجد دمشق، و خطيب جامع العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي بدمشق .
نشكركم سماحة الشيخ إلى

تحميل النص

إخفاء الصور