وضع داكن
28-03-2024
Logo
صور من حياة التابعين - الندوة : 11 - التابعي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يسعدنا في هذه الحلقة أن نستضيف فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية  التربية في جامعة دمشق، و المدرس الديني في مساجد دمشق، و خطيب جامع العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي بدمشق، فضيلة الشيخ السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته.
وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته.
 قال سيدنا محمد بن علي بن الحسين: أما علمت أن لكل قوم نجيباً وأن نجيب بني أمية عمر بن عبد العزيز وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده، الشخصية فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي التي هي بين أيدينا الآن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حبذا لو سمحتم أن نلتقي لنضيف في هذه الشخصية.
 أستاذ جمال: بعد أن تسلم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز زمام الخلافة وكان قد بذل جهداً كبيراً أراد أن يأوي إلى مضجعه قليلاً فما أن أسلم جنبه إلى مضجعه حتى أقبل عليه ابن عبد الملك وكان يومئذ فتىً في السابعة عشر من عمره.
 قال: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ قال: أي بني أريد أن أغفو قليلاً فلم تبقَ في جسدي طاقة، فقال: أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟ قال: أي بني إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان وإني إذا حان الظهر صليت في الناس ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله. فقال: ومن لك يا أمير المؤمنين أن تعيش إلى الظهر. فألهبت هذه الكلمة عزيمة عمر وأطارت النوم من عينيه وبعثت القوة والعزم في جسده المتعب وقال: ادنُ مني أي بني فدنا منه فضمه إليه وقبل ما بين عينه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، ثم قام وأمر أن ينادى بالناس ألا من كانت له مظلمةٌ فليرفعها.
 فمن عبد الملك هذا ؟ ما خبر هذا الفتى الذي قال عنه الناس: إنه هو الذي أدخل أباه في العبادة وسلكه مسلك الزهادة ؟
تعالوا بنا أيها الإخوة الكرام نلم بقصة هذا الفتى الصالح من أولها.
 كان لعمر بن عبد العزيز خمس عشرة ولداً فيهم ثلاث بنات وكانوا جميعاً على حظ موفور من التقى ومقام كبير من الصلاح، لكن عبد الملك كان واسطة العقد وكان كوكب أخوته المتألق فقد كان أديباً أريباً سن الفتيان وعقل الكهول، ثم إنه نشأ في طاعة الله عز وجل منذ نعومة أظفاره فكان أقرب الناس سمتاً إلى آل الخطاب عاماً وأشبههم بعبد الله بن عمر خاصةً في تقواه لله عز وجل وتخوفه من معاصيه.
 حدث ابن عمه عاصم قال: وفدت على دمشق فنزلت على ابن عمي عبد الملك وهو عزب فصلينا العشاء فآوى كل منا إلى فراشه فقام عبد الله إلى المصباح فأطفأه وأسلم كل منا جفنيه إلى الكرى ثم إني استيقظت في جوف الليل فإذا عبد الملك قائمٌ يصلي في العتمة وهو يقرأ قوله عز وجل، دقق في هذه الآية:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾

[ سورة الشعراء: الآية 205-207 ]

 فما راعني منه إلا أنه كاد يردد الآية وينشجُ نشيجاً مكبوتاً يقطع نياط القلب وكان كلما فرغ من الآية عاد إليها حتى قلت سيقتله البكاء فلما رأيت ذلك قلت لا إله إلا الله والحمد لله كما يفعل المستيقظ من النوم لأقطع عليه البكاء فلما سمعني سكت فلم أسمع له حس.
 تتلمذ هذا الفتى العمري على أكابر علماء عصره حتى تملى من كتاب الله تعالى وتضلع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفقه في الدين فبدا على حداثةِ سنه يحازم الطبقة الأولى من فقهاء أهل الشام في زمانه، فقد روي أن عمر بن عبد العزيز جمع قراء الشام وفقهاءها وقال: إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي فما ترون فيها ؟ قالوا يا أمير المؤمنين إن ذلك أمر كان في غير ولايتك وإن وزر هذه المظالم على من غصبها، فلم يرتاح إلى ما قالوا، فالتفت إليه أحدهم ممن كان يرى رأياً غير رأيهم وقال: ابعث يا أمير المؤمنين إلى عبد الملك فإنه ليس بدون من دعوت علماً أو فقهاً أو عقلاً، ابعث لابنك عبد الملك.
 فلما دخل عليه عبد الملك، قال له عمر: ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمنا من الناس ظلماً وقد حضر أصحابها وجعلوا يطلبونها وقد عرفنا حقهم فيها ؟ فقال: أرى أن تردها إلى أصحابها مادمت قد عرفت أمرها وإنك إن لم تفعل كنت شريكاً للذين أخذوها ظلماً. فانبسطت أسارير عمر وارتاحت نفسه وزال عنه ما غمه.
 هذا الفتى العمري آثر المرابطة على ثغور المسلمين ـ شأن كبار الصحابة والتابعين ـ والإقامة في إحدى المدن القريبة منها، على البقاء في بلاد الشام فمضى إليها وخلف وراءه دمشق ذات الرياض النضرة والظلال الظليلة والأنهار السبعة، وكان أبوه على الرغم من كل ما عرفه من صلاحه وتقاه شديد الخوف عليه من نزعات الشيطان، كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب، حريصاً على أن يعلم من أمره كل ما يجوز أن يعلم وكان لا يغفل عن ذلك أبداً ولا يغفله.
 حدث ميمون بن مهران وزير عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فوجده يكتب رسالةً إلى ابنه عبد الملك يعظه فيها وينصحه ويبصره ويحذره وكان مما جاء فيها قوله: أما بعد فإن أحق من وعى عني وفهم قولي لأنت وإن الله وله الحمد قد أحسن إلينا في صغير الأمر وكبيره فاذكر يا بني فضل الله عليك وعلى والديك وإياك والكبر والعظمة فإنها من عمل الشيطان وهو للمؤمن عدواً مبيناً و اعلم أني لم أبعث لك كتابي هذا بأمر بلغني عنك فما عرفت عنك إلا خيراً غير أنه بلغني عنك شيء من إعجابك لنفسك ولو أن هذا الإعجاب خرج بك إلا ما أكره لرأيت مني ما تكره قال ميمون: ثم التفت إلي عمر وقال: يا ميمون إن ابني عبد الملك قد زين في عيني وإني اتهم نفسي في ذلك وأخاف أن يكون حبي له قد غلب على علمي به وأدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أولادهم فسرْ إليه واسبر غوره وانظر هل ترى فيه ما يشبه الكبر والفخر فإنه غلام حدث ولا آمن عليه الشيطان.
 قال ميمون: فشددت الرحال إلى عبد الملك حتى قدمت عليه فاستأذنت ودخلت فإذا غلام في مقتبل العمر، ريان الشباب، بهي الطلعة جم التواضع، قد جلس على حشية بيضاء فرحب بي ثم قال: لقد سمعت أبي يذكرك بما أنت أهل له من الخير وإني لأرجو أن ينفع الله بك فقلت له: كيف تجد نفسك ؟ قال: بخير من الله عز وجل ونعمة غير أني أخشى قد غرني حسن ظن والدي بي وأنا لم أبلغ من الفضل كل ما يظن وإني لأخاف أن يكون حبه لي قد غلبه على معرفته بي فأكون آفةً عليه، فعجبت من اتفاقهما، ثم قلت له: أعلمني من أين معيشتك فقال: من غلة أرض اشتريتها ممن ورثها عن أبيه ودفعت ثمنها من مال لا شبهة فيه فاستغنيت بذلك عن فيء المسلمين، قلت: فما طعامك ؟ قال: ليلةٌ لحم، وليلة عدس وزيت، وليلة خل وزيت، وفي هذا بلاغ، قلت له: أفما تعجبك نفسك ؟ فقال: كان في شيء من ذلك فلما وعظني أبي بصرني بحقيقة نفسي وصغرها عندي وحط من قدرها في عيني فنفعني الله عز وجل بذلك فجزاه الله من والد خيراً.
 فقعدت ساعةً أحدثه وأستمع بمنطقه فلم أرَ فتىً كان أجمل وجهاً ولا أكمل عقلاً ولا أحسن أدباً منه على حداثة سنه وقلة تجربته، فلما كان آخر النهار أتاه غلاماً والآن دقق أخ جمال.
 فقال: أصلحك الله قد فرغنا فسكت، فقلت: ما هذا الذي فرغوا منه ؟ قال: الحمام قلت: وكيف ؟ قال: أخلوه لي من الناس، فقلت: لقد كنت وقعت من نفسي موقعاً عظيماً حتى سمعت هذا.
 يعني أخلِ له الحمام وحده، فذعر واسترجع وقال: وما في ذلك يا عم يرحمك الله فقال: الحمام لك ! قال: لا، قال: فما دعاك إلى أن تخرج الناس منه كأنك تريد بذلك أن ترفع نفسك فوقهم وأن تجعل لها قدراً يعلو على أقدارهم، ثم إنك تؤذي صاحب الحمام في غلة يومه وترجع من أتى حمامه خائباً، قال: أما صاحب الحمام فأنا أرضيه وأعطيه غلة يومه، قلت هذه نفقة فيها إسراف ومعها كبر وما يمنعك أن تدخل الحمام مع الناس وأنت كأحدهم.
 فقال: يمنعني من ذلك أن طائفةً من رعاع الناس يدخلون الحمام بغير أزر أكره أن أرى عوراتهم وأكره أن أجبرهم على وضع الأزر فيأخذوا ذلك على أنه اقتدار مني عليهم بالسلطان الذي أسأل الله أن يخلصنا منه كفافاً لا لنا ولا علينا، فعظني رحمك الله عظةً أنتفع بها واجعل لي مخرجاً من هذا الأمر. فقلت: انتظر حتى يخرج الناس من الحمام ليلاً ويعودوا إلى بيوتهم ثم ادخله أنت، قال: لا جرم لا أدخله نهاراً أبداً بعد الآن ولولا شدة برد هذه البلاد ما دخلته أبداً وأطرق قليلاً كأنه يفكر في ذلك، ثم رفع رأسه إلي وقال: أقسمت عليك لتطوين هذا الخبر عن أبي فإني أكره أن يظل ساخطاً علي، ما هذا الأدب، وإني لأخشى أن يحول الأجل دون الرضا منه.
 قال ميمون: فأردت عند ذلك أن أسبر عقله فقلت له: إن سألني أمير المؤمنين هل رأيت منك شيئاً فهل ترضى لي أن أكذب عليه ؟ قال: لا معاذ الله ولكن قل له رأيت منه شيئاً فوعظته وكبرته في عينه فسارع إلى الرجوع عنه فإن أبي لا يسألك عن كشف ما لم تظهره له لأن الله جل وعز قد أعاذه من البحث عمن ستر.
قال ميمون: فلم أرَ والداً قط ولا ولداً مثلهما يرحمها الله عز وجل.
 رحم الله عز وجل سيدنا عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز التابعي الجليل وأهلاً ومرحباً بسماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي نشكركم سماحة الشيخ

تحميل النص

إخفاء الصور