وضع داكن
28-03-2024
Logo
العقيدة الطحاوية - الدرس : 04 - الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

العقيدة الصحيحة ينبغي أن تنطلق من كتاب الله وسنَّة رسوله :

 أيها الأخوة المؤمنون، لا زلنا في درْس العقيدة، وننتقل إلى قول الإمام الطحاوي: "ولا شيء مثله".
 في الحقيقة نُعيدُ ونُكَرِّر أنَّ العقيدة الصحيحة ينبغي أن تنطلق من كتاب الله وسنَّة رسول الله، وكلام الله سبحانه وتعالى في أعلى المُسْتويات من حيث المضْمونُ، ومن حيث الشَّكْلُ، فقد اتَّفق أهْل السنَّة على أنَّ الله تعالى "ليس كمثله شيء"، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإنّ الله جلَّ جلاله، له ذات، وله صِفات، وله أفعال، والذين أنكروا صِفاته فقد عَطَّلوها، والذين جَسَّدوها انْحرفوا، والذين فَوَّضوا تفْسيرها إلى الله عز وجل اِتَّبعوا، والذين أوَّلوها أرادوا أن يُقْنِعوا مَن جاء بعدهم مِمَّن حَكَّم عقْله في الآيات التي تتحَدَّث عن ذات الله عز وجل في القرآن الكريم، فهناك من أنْكر الصِّفات، وعُرفوا بالمُعَطِّلة، وهناك من جَسَّدها وهم المُشَبِّهَة، وهناك من فَوَّضَ تفْسيرها إلى الله عز وجل، وهناك من أوَّلها تأويلاً يليق بِكَماله.
 في الحقيقة نحن مع الفريقين الأخِيريْن، الذين فَوَّضوا، والذين أوَّلوا، وربَّما كُنَّا بِحاجَة إلى التأويل، فإذا قلنا: إنّ الله سميعٌ، أي يعْلم ما تقول، وبصير يعلم ما تفْعل، وإذا قلنا: يدُ الله، أي قُدْرَتُه، وإذا قلنا: وجاء ربّك، أي وجاء أمْر ربِّك، وهكذا نُؤوِّل بما يليق بِكمال الله تعالى، أو نُفَوِّض حيث نقول: هذه الآية نُفَوِّضُ تأويلها إلى الله تعالى، نحن آمنَّا بالله عز وجل، والله تعالى أخْبَرَنا أنَّ لهُ سمْعاً وبَصَراً، نُفَوِّض إلى الله آية السَّمْع والبصر، أو أنَّنا نُفَسِّرهما بما يليق بالله عز وجل.

العقل البشري حينما خلقه الله جعل له حُدوداً لا يتَعَدَّاها وهذا مِن كمال الصَّنْعة :

 يا أيها الأخوة، أنا مُضْطَرّ أن أعيد حقيقةً أساسِيَّة مُهِمَّة جداً، وهي أنّ العقل البشري حينما خلقه الله عز وجل جعل له حُدوداً لا يتَعَدَّاها، وهذا مِن كمال الصَّنْعة، فقد تصْنع ميزاناً وتكتب عليه: هذا الميزان يعْمل في دِقَّة بالغة إلى خمْسين كيلواً، فإذا حَمَّلْتَهُ فوق طاقته، فهذا الميزان يصاب بِالعَطَب، هل تتَّهِمُ الميزان أو صانِعَهُ؟ لا، بل أتَّهِمُ نفسي، فلو أنَّني حَمَّلْتُ عقلي قَضِيَّةً فوق العقْل، فلا أتَّهِمُ العقل بالقُصور، ولا أتَّهِمُ الصانِعَ بِصَنْعَتِه، ولكن أتَّهِمُ نفسي أنَّني كلَّفْتُهُ لِغَيْر ما خُلِقَ له، هذه فِكْرة دقيقة جداً، فالعقْل البشري لما أوْدعه الله في الإنسان أوْدعه من أجل أن نصِلَ به إلى الله، وفرقٌ كبير بين أن نَصِل به إلى الله وبين أن نُحيطَ بالله، الإحاطة بالله عز وجل من سابِع المُسْتحيلات! لقوله تعالى:

﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾

[ سورة البقرة: 255 ]

من أراد أن يصل إلى الله فالعقل يكفي أما من أراد أن يصل إلى ذات الله فالعقل يعجز :

 وكما ورد في الجوهرة: الجهل بالله عين العلم به، والعلم به عين الجهل به، فإذا أردت أن تصل إلى الله فالعقل يكفي، أما إذا أردتَ أن تصل بِعَقلك إلى ذات الله تعالى؛ كيف خُلِق العالم مِن عدم؟ وكيف يعلم؟ فالعَقْل يعْجز، لذلك أكبر قضِيَّة نلْمَحُها في الجماعات الإسلاميَّة التي لم تتحَقَّق من عقيدةٍ صحيحة، هي الخلط بين مساحَةٍ مُخَصَّصة للأخبار الصادِقَة، ومساحةٍ مُخَصَّصة للمَعْقولات، أقول لكم دائِماً أيها الأخوة: يجب أن تُجيب عن سؤال أوَّلي؛ هل هذه القَضِيَّة مع المَعْقولات أو مع المَسْموعات؟ فإن كانت مع المَعْقولات فسَلِّطْ عليها عقْلك، ولا مانع، أمّا إن كانت مع المَسْموعات فالعَقْل لا دخْل له فيها إطْلاقاً! هي حَكَمٌ على العقْل، وليس العقل حَكَماً عليها، وليْسَت هذه الحقيقة التي أخْبرنا الله بها حَكَماً على العقْل، فأخْطر فِكْرة أن تكون قَضِيَّة مُتَعَلِّقة بذات الله، وهكذا أخْبرنا الله بها، أما إن أردْتَ أن تضَعَها على مِحَكِّ العقل؛ كيف يعلم الله عز وجل؟ وكيف أعْطاهُ اخْتِياراً والله تعالى يعْلم؟ فإذاً ينبغي ألاّ يعْلم، نكون بِهذا دَخَلْنا في متاهَةٍ لا تنتهي، نحن في الإخْباريات نتلقاها من الله عز وجل، ونُفَوِّض تفْسيرها، أو نُؤَوِّلها تأويلاً يليقُ بِكماله، أما في المعْقولات فلك أن تُحَكِّمَ عَقْلَك على هذه الحقائق، وسوف ترى لِهذا العَقل نتائِج باهِرَة جداً، ففي أيِّ نِقاش أو إلقاء مُحاضرة أو درس إياك أن تنقل قَضِيَّة من دائرة الإخباريات والمَسْموعات والتَّصْديق إلى دائِرَة التَّحْقيق.

قضايا الدين تصنف في ثلاث دوائر هي: المحسوسات والمعقولات والإخباريات :

 قبل أن نمضي في هذا الدَّرْس أُحِبُّ أن أُحَدِّد بعض الاصْطِلاحات؛ الشيء الذي أخبرنا الله تعالى به فلك أن تُسَمِّيه الإخْبارِيَّات، أو المَسْموعات، أو المُسَلَّمات، أو دائرة الغَيْبِيَّات، أو التَصْديقات، فَكُلُّ هذه المُصْطَلحات مُؤَدَّاها واحد، أما الدائرة الأولى وهي دائرة المعقولات، أو المُشاهدات، أو الاسْتِدْلال، فالعقل مُرْتبط بهذه الأخيرة، أما الغيب فسبيل معْرِفَتِه الخَبَر، وذَكَرْتُ مَرَّةً دائِرَةً ودائِرَةً ودائرةً، دائِرَةُ الشُّهود أداتُها الوحيدة الحواس الخَمْس، ودائرة الغَيْب أداتها الوحيدة الخَبَر الصادِق، وهناك دائِرَة بين بين، وهي ما غابت عَيْنُهُ وبَقِيَتْ آثارُه، فالشُّهود عَيْنُ الشيء وآثاره، والغيب غابَتْ عَيْنُهُ وآثارُه، أما الدائرة التي بين بين غابَتِ العَيْن، وبَقِيَتْ الآثار؛ إذًا حواس، عَقْلٌ، وخبر، هذه النقْطة إذا اسْتَوْعَبْتُموها فلن يسْتطيع الإنسان بالنِّقاش أن يغْلِبَكم، فأيَّةُ قَضِيَّة إخْبارِيَّة الزِّيادة عليها ظَنِّيَّة، والله تعالى أعْطاك الحدّ المناسب، فلا تزدْ على النَصّ القرآني، ولا تزِد على النصّ النبوي، ذَكَرَ عن الجنّ بَضْعة آيات، فهي كافِيَة، أيُّ بَحْثٍ في موضوع الجنّ زِيادة على ما أخبرك الله به فهذا تطاول، وتنطّع، وليس موقِفاً علْمِياً، لأنّ الجن غابَتْ عنك عَيْنُ الجنّ وآثاره، ولم يبْقَ لك منه إلا الخبر الصادِق، فأيّ تسليطٍ للعقل على الخبر الصادِق اتِّهامٌ للمُخبِر، اِنْتَبِه فأنت حينما تُسَلِّط عقْلك على شيء أخْبَرَك الله به إنَّما تتَّهِمُ المُخْبِر وتتَّهِمُ الله عز وجل، لكن حينما تُعَطِّل عقْلك عن شيء دعاك الله تعالى إلى التَّفْكير به فأنت تعْصي ربَّك كذلك، قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 164 ]

 فالتَّفكّر في الدائرة الوُسْطى، والإحْساس في الدائِرَة الأولى، والتَّصْديق في الدائِرَة الثالثة.

 

عدم إحاطة المخلوق الحادث بالقديم :

 الآن، إيَّاك أن تنقل قضِيَّة من مكان إلى مكانٍ، ففي هذا خطر! هذه قَضِيَّة مع الإخباريات فأجعلها مع العَقْلِيات! وأسَلِّط عليها عقلي، وأُمَحِّص والأسباب؛ كلّ هذا كلام فارغ! قال تعالى:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

[ سورة الإسراء: 85 ]

 فهل يُمْكن لِمَخْلوق حادِث أنْ يُحيط بالقديم؟! وهل يُمكن لِنَمْلة على سطح جبل هيمالايا، وقد أوتِيَتْ إدراكاً لِتَحْصيل طعامها فقط، فهذه النَّمْلة هل بِإمْكانها أن تُحيط بالجبل؟! ومُكَوِّنات تُربته، وصُخوره، ووزْنِه، وحجْمه! هذا شيءٌ مُسْتحيل، فهذه الحقيقة إذا تَمَثَّلْتموها أيها الأخوة والله الذي لا إله إلا هو لشَعَرْتُم بِرَاحة لا تُقَدَّر بِثَمن .
 ففي المحسوسات ربَّما اشْترك بعض المخلوقات معنا، وفي الدائرة الثانِيَة ينفَرِدُ بها الإنسان، والدائرة الثالثة ينْفردُ بها المؤمن .

 

الحديث عن ذات الله هو من الإخباريات ونكْتفي بما أخبرنا الله به :

 الحقيقة الأولى أنَّ الحديث عن ذات الله من الدائرة الثالثة؛ من دائرة الغَيْب، ما الخطأ الفادِح الذي وقع به المُتَكَلِّمون؟ أنَّهم نَقَلوا قضايا من دائرة الإخبارِيات إلى دائرة المَعْقولات، فبهذا كُلَّما جهِدوا في حَلِّ مُشْكلة ظَهَرَت لهم عشْرُ مُشْكلات! لذلك ورد في بعض الأحاديث أنَّ: "سرَّ القضاء والقدر ادُّخِرَ إلى يوم القيامة"، فقوله تعالى:

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾

[ سورة الإخلاص: 1-4 ]

 أليس هذا الكون الذي أمامك يدلّ على عظمة ما بعدها عظمة؟ ألا يستأهل ربنا جل جلاله أن تُسلِّم له في قضِيَّة أخبرك عنها؟ وأذكر ذكر حادثة لِوَزير خارِجِيَّة دولةٍ مُتخَلِّفَة الْتقى مع وزير خارِجِيَّة دوْلة كبيرة بِمِقْياس العصْر، فسأله سؤالاً فأجاب عنه، فقال له: لي معلومات غيرها، فَطَرَدَهُ! فهذا إنسان وما تَحَمَّل، أعطاك معْلومات، وهو أكبر مِن أن يكذب، تقول له: عندي معلومات أخرى غير هذه! لذلك خالقُ الكون، وهو بِكُلِّ شيء عليم، ويقول لك في قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 148 ]

أخبرك بآيةٍ مُحْكمة وقَطْعِيَّة الدلالة أنَّ الإنسان مُخَيَّر، وأخبرك بِآيةٍ قطْعِيَّة الدلالة أنَّه يعْلم، ثمّ تقول: لا يعْلم! كيف هذا؟ أقول لك: هذا فوق طاقة البشر حتى الأنبياء عرفوا جانباً من عظَمَتِه! لكن لا يسْتطيع نَبِيّ ولا رسول أن يُحيط بالله تعالى، فالنُّقْطة الدقيقة في هذا الدرس أنّ الحديث عن ذات الله هو من الإخباريات ونكْتفي بما أخبرنا الله به، ودون أن تُسَلِّط عقلك في هذه الموضوعات، وإنَّ عدم تسْليط العقل على هذه الموضوعات هو قِمَّةُ العِلْم، فلا تظنّ أنَّهُ لا بدّ أن تعرف كُلَّ شيء، وإذا قلت: هذا الشيء ليس من اخْتِصاصي، فهذه علامة عِلْم وتواضع، وأنّكَ تعرف حجْمك الحقيقي، وأنَّك عبْد، أما حينما تجْلس وكأنّك تجْلس على مائِدَة مُفاوضات مع الله عز وجل، لماذا خَلَقْتَ؟ ولماذا لم تُعْلم؟ ولماذا ...؟ فالعبْد أحْياناً من دون أن يشْعر يضع نفسه نِداً لله ومُحاسِباً! والعياذ بالله، وهذا من ضَعْف الإيمان، ومن ضَعْف معْرِفَتِك بالله عز وجل، فشأنُ العبْد أن يسْتَسْلم.

 

كمال الخلْق يدلّ على كمال التَصَرُّف :

 هناك نقطة دقيقة جداً، وأرْجو الله تعالى أن أُوَفَّق في تذْليلها لكم، لأنَّها أساس الدرْس، لو كان هناك أبٌ له من العلم،، والحِكمة، والرَّحْمة، والقدرة، الشيء الكثير، وقد رأى ابنه منه ومن عطْفه ورحْمَتِه وحِكْمته الشيء الكثير، ثمّ جاء أمر من هذا الأب غير واضِحٍ للابن ولم يسْتَوْعِبْهُ، فهل يَحِقُّ لهذا الابن أن يرفض هذا الأمر؟ ألاَ يشْفع لهذا الأمْر عظمة الأب؟ هذه هي النقْطة الدقيقة فأنت: ألا ترى الكون؟! وهذا سؤال صغير، فكمال الخلْق يدلّ على كمال التَصَرُّف، هذا في الدنيا، شركة تصْنع كمبيوترات، كيف تظنّ نِظام مُحَاسبَتِها؟ وحينما تشتري البطيخ كيف تكون المُعاملة؟ هذه النقطة أشار إليها الإمام الشافِعي، وهي أنَّ الأشياء الخسيسة تُباع بالمُعاطاة ولا تحْتاج لا إلى إيجاب، ولا إلى قبول، ولا إلى شاهِدَيْن، فالأشياء الخسيسة تكون بالمناولة؛ أمسَكْتَ كأساً من العصير، وشَرِبْته، ووضَعْت النقود على الطاولة، وانتهى الأمر، أما الأشياء النَّفِيسة فتحتاج إلى عقْد، وإيجاب، وقَبول، وشُهود، فهذه الشَّرِكة التي تبيع الكمبيوترات ألا تَتَوَقَّعون أن يكون لها نِظام مُحاسبة راقٍ جداً؟ فكمال الخلْق ألا يدلّ على كمال التَّصرّف؟ هل ترى في هذا الكون خَلَلاً أو نقْصاً؟ رأيْتُ مَرَّةً أباً يحْمل ابنه من يدِه، لعل الأرض فيها وُحول، فَحِرْصاً على نظافة ابنه رفعه من يده، والله بقيت أُفَكِّر فَتْرة طويلة! فهذه اليد مدْروسة بعِلْم، فلو أنَّ العَضلات التي ترْبط الساعد بالجِسْم أضْعف من أن تحمل الوزْن لانخلَعَتْ يدُ الطِّفل، معنى هذا أنّ وزْن الابن مدْروس، ولو حَمَلْته من يده فلا حرج، ثم انظر إلى سيارة صُنِعَت سنة ألف وتسعمئة، مرَّة قرأت مقالة عنها؛ ليس فيها تَمْديد سرعة، تمْشي بِسُرْعة واحدة، والإضاءة بِقِنْديل، والتَّشْغيل من خارج السيارة، وانْظر إلى سيارة اليوم "أحدث موديل"؛ مرسيدس شبح، لو أقَمْتَ موازنة بينهما! كيف تُفَسِّر هذا التَطوّر؟! علم الإنسان قاصِر، وخبرته حديثة، أما الله عز وجل فخبرته قديمة، والدليل هذا الإنسان، فهل طرأ عليه تعْديل منذ أن خُلِق؟ وهذا الكون بِمَجرَّاتِه، وكازاراته، وسماواته، والجبال، والأنهار، والصحارى، والنبات، والطيور، هذا الكون ألا يدل على عظمة الله عز وجل وعلى علمه وقدرته ورحْمته؟ الطِّفل الصغير أودِع في طحاله كميَّة من الحديد تكَفيه عاميْن، لأنّ حليب الأم مُفْتَقِر إلى الحديد، فأنت لو فَكَّرْتَ في خلْق الإنسان، والحيوان، وفي بُنْيَةِ النبات، لرأيْتَ العَجَب العُجاب، هذا الكون هو الثابت، وهو الذي يدلّ على الله.

من عرف الله أحسن الظن به :

 انظُرْ في تصرفات الله عز وجل، فقد تجد أنَّ حرْباً عالَمِيَّة ثالثة تُعلَن على الإسلام، في العالم كلِّه، وهناك من يشكّ بِرَحمة الله، وعظمته، وعدالته، إلا أنَّك لو عرفْت عدالته، وحكمته، من خلال الكون، فهذه المعرفة تُلقي ضَوْءاً على تمام تَصَرّفه، تقول: أنا لا أعلم وربّما هناك حكمة تنْكشف، فسَيِّدنا علي قال: والله لو كُشِفَ الغِطاء ما ازْدَدْتُ يقيناً.
 الحديث عن تَصَرُّفاته، وأفعاله، وعن صفاته، وأسمائه؛ كلُّ هذا خاضِعٌ لِمَعْرِفَتِه، فإذا عرفْتَهُ أحسنْتَ الظنَّ به، لذلك إذا أخْبرك الله بِشَيء فبِمُجَرَّد أن تنقل هذا الشيء إلى دائرة العقل، والتَّمْحيص، والتحليل، والدِّراسة، فأنت تُشَكِّك في القائل! إذا سأل الزوج زوْجته عن شيء، ثمّ أرادت التحقق منه؛ ألا تنْشأ مشكلة؟ يقول لها: ألم تُصَدِّقيني؟! فهذه نقطة دقيقة جداً، أنّ الله إذا أراد أن يُخبرك عن شيء، وأنت أردْتَ أن تبحث في هذا الشيء، وأن تبحث عن دليل لهذا الأمر، فقد وقعْتَ في شِبْه إنكار، لذلك من جعل عقله حَكَماً على إخبار الله تعالى عز وجل نقُلْ له: جدِّدْ إيمانك بالله تعالى مَرَّةً ثانية، وجَدِّدْهُ دائماً، فالله تعالى قال، انتهى أمره، فهذه مُقَدِّمَة ذَكَرتها لأنَّ الذي سنتعرض له الآن: أنَّ الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.

الله تعالى ليس كمثله شيء :

 اِتَّفق أهل السنَّة على أنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صِفاته، ولا في أفعاله، إلا أنَّ هذا الكلام يعني أنّ خصائص الربّ تعالى لا يوصف بها شيء من مخلوقاته، فعِلْم الله وقدرته غير علمِ وقدرة المخلوقات، ولا يُماثله شيء من صفات مخلوقاته، لا المخلوقات تُماثل صفاتُها صفاتِ الله، ولا صِفات الله عز وجل يُمكن أن توصَفَ بها مخلوقاته.
 ليس كمثله شيء، وهذا ردّ على من شَبَّه ومثَّل صِفات الله بِصفات مادِيّة، فهذا الذي يقول: له سَمْعُ كَسَمْعِنا، وإذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربنا إلى السماء الدنيا، فأحد الخطباء يشْرح هذا الحديث ويقول: ينزل كَنُزولي هذا ونزل عن المنبر درجة! فأنت إذا قلتَ: ليس كمثله شيء فلا يمكن أن يوصف مخلوق بِصِفَةٍ خاصَّةٍ بالله، وإذا قلت: ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يرقى مخْلوق بِصِفاته إلى صِفات الله تعالى.
 قال: وهو السميع البصير ردٌّ على من نفى الصِّفات، فالآية على صِغَرها قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير رَدَدْنا على فرْقَتَين؛ المُجَسِّدَة والمُعَطِّلة، فالمُعَطِّلة عطَّلوا الصِّفات، والمُجَسِّدَة جعلوها صِفاتٍ مادِّيّة كالإنسان.

حياة الله غير حياة الإنسان يتشابَهَا في الاسم فقط :

 أقرأ لكم فقرة أساسِيَّة: الله سبحانه وتعالى سَمَّى نفْسه بِأسْماء، وسَمَّى بعض عباده بها، هنا المُشْكِلَة! ليس المُسَمَّى كالمُسَمِّي، إنسانٌ حيّ، تقول: فلان حيٌّ يُرْزق، والله تعالى حيٌّ لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فيجب أن تعتَقِد اعتِقاداً قاطِعاً أنّ حياة الله غير حياة الإنسان، تشابَهَا في الاسم فحسب، فالله عز وجل رَحْمَةً بنا قَرَّب لنا معنى الجنَّة فقال: فيها أنهار من ماء، وجنات، وعسل مُصَفى، ولبن لم يتغيَّر طعْمه، فيا تُرى ما العلاقة بين خمْر الدنيا وخَمْر الآخرة؟ لا علاقة بينهما إلا الاسْم، وكذا اللَّبن، والعسَل، فليس ما في الدنيا وبين ما في الجنَّة علاقة إلا الاسْم، كذلك إذا قلنا: الله تعالى حيّ قَيُّوم، وإذا قلنا: هذا إنسانٌ لا يزال حيًّاً يُرزق، فهل حياة الإنسان كَحَياة الله؟ لا، هذا هو مِحْور الدّرْس، فالله تعالى سَمَّى نفسه حَيًّاً عليماً قديراً رؤوفاً رحيماً عزيزاً مؤمناً جباراً حكيماً سميعاً بصيراً مُتَكَبِّراً وسَمَّى بعض عِباده بهذه الأسْماء، قال تعالى:

﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾

[ سورة الروم: 19 ]

 وقال تعالى:

﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾

[ سورة الذاريات: 28 ]

 وقال تعالى:

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

[ سورة التوبة: 128 ]

 فهذا للنبي عليه الصلاة والسلام.

 

المُسَمَّى ليس كالمُسَمِّي :

 وقال تعالى:

﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾

[ سورة الكهف: 79 ]

 فالله تعالى كذلك ملِك، فهل ذاك الملِك مثلُ الله تعالى في هذه الصفة، وقال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[سورة السجدة: 18]

 فالله كذلك سمّى نفسه المؤمن، قال عز وجل:

﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾

[سورة الحشر: 23]

 وقال تعالى:

﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾

[ سورة غافر: 35 ]

 فالله تعالى جبار مُتَكَبِّر.

 

الله تعالى له أسْماء وله صِفات وسَمَّى بعض عِباده بأسماء إلا أنَّه لا تشابُه بين الاسْمين:

 النُقْطة الدقيقة أنَّ الله تعالى سَمَّى نفْسه بِأسْماء وسَمَّى صِفاته بِصفات، وأطْلَقَها على بعض عباده في القرآن الكريم، والمعْلوم القَطْعي أنَّ الحَيَّ لا يُماثِلُ الحيَّ الآخر، فالله تعالى حَيّ والإنسان كذلك، إلا أنَّهُ شتَّان بين الحياتين! وكذلك يُقال في العزيز والعليم وسائر الأسْماء، قال تعالى:

﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾

[ سورة البقرة: 255 ]

 معنى ذلك أنَّ عِلْم الله تعالى غير عِلْم البشر، قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾

[ سورة فاطر: 11 ]

الواجبات والفرائِض لا اسْتِخارة فيها الاسْتِخارة فقط في المُباحات والمندوبات :

 أيها الأخوة الكرام، هذا هو درْسنا اليوم، فالله تعالى له أسْماء وله صِفات، وسَمَّى بعض عِباده في القرآن بأسماء، إلا أنَّه لا تشابُه بين الاسْمين إلا من حيث اللَّفْظ فقط، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ:

((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ))

[البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ]

 فالإنسان لو أراد الذَّهاب إلى العمرة فهل يسْتَخير؟ الواجبات والفرائِض لا اسْتِخارة فيها، الاسْتِخارة فقط في المُباحات والمندوبات، فإذا كان عليه دَيْن فهل عليه أن يسْتَخير ؟ لا، هذا واجب، فالشاهِد من هذا الحديث قوله:

((فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ))

 ثمَّ السؤال المطروح هو: كيف يعرف المُسْتخير أنّ الله تعالى قَبِل ما أراد فعله أو لم يقبلْهُ؟ التَّيْسير أو التَّعْسير، وكُلّ شيء آخر زِيادة ليسَتْ من أصْل الاسْتِخارة، فلو تَيَسَّر الأمْر، ووجَدْتَ عدم الانْشِراح، فأقْبِل، ففي هذا خير لا تعْلمه ما دامت الأمور مُيَسَّرة، لأنَّهُ لو لم يكن الأمر في صالِحِك لخلَقَ الله العقبات أمامه، فلا يغتَرّ المُسْتخير بأن يرى مناماً أو يفْتح المُصْحف.

 

الإنسان مخير :

 هناك سؤال سأله أخٌ كريم ويقول: كيف يُقَلِّبُ الله تعالى قلوب العباد بين أصبعيه؟! وهل بهذا يُلْغى اخْتِيار الإنسان؟! أكثر دُعاء أُثِرَ عن النبي عليه الصلاة والسلام:

((كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ إِنَّكَ تُكْثِرُ أَنْ تَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ قَالَ وَمَا يُؤْمِنُنِي وَإِنَّمَا قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدٍ قَلَّبَهُ قَالَ عَفَّانُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))

[أحمد عن عائشة]

 فكيف نُوَفِّق بين هذا الحديث وبين أنَّ الإنسان مُخَيَّر؟ والجواب سَهْلٌ جداً، قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾

[ سورة محمد: 17 ]

 فالحقيقة أنَّ الإنسان مُخَيَّر، فإذا اخْتار طريق الحق زاده الله من الهُدى بأن يشْرح قلبه للحق، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾

[ سورة الحجرات: 7 ]

 والإنسان إذا أراد الباطل جعل في قلبه ضَيْقاً، فأن يكون قلبك بين أُصْبعين من أصابع الرحمن من أجل أن يُشَجِّعَك للخير، ومن أجل رَدْعك عن الشرّ، فأنت مُخَيَّر، ولا زِلْتَ مُخَيَّراً، وإرادة الله عز وجل لا تتناقض، وهي قاعِدَة أساسِيَّة في العقيدة، فالله تعالى أرادك مُخَيَّراً، وكذا شاءَتْ مشيئتُه، فأنت جئتَ للدنيا والشرْط هكذا، فالإنسان مُخَيَّر فإذا اخْتار طريق الحق زاده الله من الهُدى بأن يشْرح قلبه للحق، فالله تعالى يتجلى على قلبك من اخْتِيارك الحق، وهذا هو الحال، فمُكافأة الله تعالى لك من حُسْن اخْتِيارك، وإذا أراد الباطل جعل في قلبه ضَيْقاً، وهذا هو الانقِباض، قال تعالى:

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾

[ سورة الحجرات: 7 ]

 عَلَّمونا في عِلم النفْس أنَّهُ بعد كُلّ انْحِراف شُعور اسمُه الكآبة، ولو كان المنحرف ملْحِداً، وعَمِلَ عمَلاً مُنْحَطاً، شعر بهذه الكآبة، فهذا هو معنى قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، الإنسان إذا خرج عن الفطرة شعر بالكآبة.

 

من رحْمة الله تعالى بالإنسان أن قلوب العباد بِيَدِه :

 شيءٌ آخر، وهو أنَّ الله عز وجل خلَق القَوِيَّ والضَعيفَ، والغَنِيَّ والفقير، فلو أنَّ الغنيّ لا يُحِبّك، وأنت مُسْتقيم، وأراد أن ينال منك، فكيف يمنع الله تعالى بؤس هذا الغنِيّ؟ فَقَلْبُ هذا الغنِيّ بِيَد الله تعالى، يُلْقي في قلبه هيْبَتَك فيخاف منك، أو يُلْقي عليه العطف عليك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا))

[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ]

 تنتثلونها، أي تستخرجونها .
 من رحْمة الله تعالى بنا أنَ قلوبنا بِيَدِه. مثال آخر: أحدهم أحَبَّ فتاةً قبل أن يعْرف الله تعالى، ولما عرف الله تعالى رأى أنَّها لا تُناسِبُه، فما دام قلبهُ بِيَد الله عز وجل كيف يُكافئهُ على هذا الاخْتِيار؟ يصْرِفُهُ عنها! قال: وإن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقِبةُ أمْري فاصْرِفْهُ عَنِّي، ولم يكْتَفِ بهذا بل قال: واصْرِفْني عنه، قال تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

[ سورة يوسف: 33 ]

 فالطريق الآن مليءٌ كما ترَوْن بكاسِيات عارِيات، فالله تعالى إذا عَلِمَ من عبْدٍ صِدْقاً في طاعته، فو الله الذي لا إله إلا هو، يمْشي في الطريق، وكأنَّهُ بين الرِّجال، ويصبح موضوع غضّ البصر سَهْلاً جداً، والله هو الذي صرفه عن هذه المعْصِيَة، فلو قال أحدهم: أنا مُلتَزِم، ولي إرادة قَوِيَّة، واعْتَدَّ بِنَفْسِه، أُوكِل لنفسِه، فوَجَد نفسه تنْصرف إليْهِنّ! فالإنسان لا يعْتَد باْستِقامته، وسلامة سلوكه، فيصاب بالغرور، وهذا الكلام كلّه يُلَخَّص بآية واحدة في الفاتِحَة:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾

[ سورة الفاتحة: 5 ]

 فهذا هو موقف العُبودية الذي يليق بالعبد نحو ربِّه.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور