وضع داكن
18-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 08 - الصحابي جعفر بن أبي طالب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الإخوة والأَخوات، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبَرَكاته، وأهْلاً ومَرْحَبًا بِكم مع بِداية هذه الحلْقة الجديدة مِن برنامَج صُوَر مِن حياة الصَّحابة.
 يُسْعِدُنا أن نستضيف فضيلة الشَّيْخ محمَّد راتب النابلسي ؛ الأستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة في جامِعَة دِمَشْق وأحد خُطباء مساجِد دِمَشْق.
أهْلاً بِكم ومَرْحَبًا.
الشيخ: أهْلاً ومرْحَبًا.
 السائل: الصَّحابي الجليل جَعْفر بن أبي طالب ؛ شَخْصِيَّة إسْلامِيَّة رائِعَة لها وَقْعُها وتأثيرُها في أيَّام النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام، بِدايَةً لو تُحَدِّثنا عن هذه الشَّخْصِيَة العظيمة ؟
الشيخ: سيِّدنا جعفر بن أبي طالب ابن عَمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ورَأسُ المُهاجِرين إلى الحَبَشة.
 مَضى ركْبُ المهاجرين الأوَّلين إلى أرض الحبشة، وعلى رأسِهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، واسْتَقَرُّوا في كَنَفِ النَّجاشي ملِكِها العادِل الصالِح، فَتَذَوَّقوا لأوَّل مرَّة منذ أسْلموا طَعْمَ الأَمْن، واسْتَمْتعوا بِحَلاوَة العِبادة دون أن يُعَكِّر مُتْعَة عِبادتهم مُعَكِّرٌ، أو يُكَدِّر صَفْوَ سعادَتِهم مُكَدِّر لكنّ قريْشاً وكَيْدُها العظيم ما كادَت تعلم بِرَحيل هذا النَّفَر مِن المسلمين إلى أرْض الحَبَشة، وتَقِفُ على مانالوه في حِمى مليكِها من الطمأنينة على دينهم، والأمْن على عقيدتهم، حتَّى هَبَّتْ تأْتَمِرُ بِهم لِتَقْتُلَهم أو تسْتَرْجِعَهم إلى السِّجْن الكبير، فَلْنَتْرُك الحديث لأمِّ سلَمَة لِتَرْوي لنا الخبر كما رأَتْهُ عَيْناها، وسَمِعَتْهُ أُذُناها، قالتْ أُمُّ سلَمَة:
 لمَّا نزَلْنا أرْض الحبَشَة رأيْنا فيها خَيْر جِوارٍ، فَأَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله تعالى ربَّنا مِن غير أن نُؤْذى، أو أن نسْمَع شيئًا نَكْرَهُهُ، فلمَّا بلَغَ ذلك قُرَيْشًا ائْتَمَرَت بنا، فأرْسَلَتْ إلى النَّجاشي رَجُلَيْن جَلْدَيْن مِن رِجالِها هما عَمْرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعَة، وبَعَثَت معهما بِهَدايا كثيرة للنَّجاشي ولِبطارقَتِه ممَّا كانوا يسْتطْرِفونه مِن أرْض الحِجاز ثمَّ أوْصَتْهُما أن يدْفَعا لِكُلِّ بِطْريق هَدِيَّتَهُ قبل أن يتكلَّما إلى النَّجاشي في أمرِنا فلمَّا قدِما الحبشة لَقِيا بطارقَة النَّجاشي، ودَفَعا إلى كلّ منهم بِهَدِيَّتِه فلم يبْق واحِد منه إلا وأخذَ هَدِيَّتَهُ، وقالا له: إنَّه قد حلَّ في أرْض المَلِك غِلْمانٌ من سُفَهائِنا، صبَؤوا - أي خرجوا عن دين آبائِهم وأجْدادهم - وفرَّقوا كلمَة قوْمِهم، فإذا كلَّمْنا المَلِكَ في أمْرِهم فأَشيروا عليه بأن يُسَلِّمهم إلينا دون أن يسْألهم عن دينهم، فإنَّ أشْراف قوْمِهم أبْصَرُ بهم وأعْلَم بما يَعْتَقِدون، فقال البطارِقَةُ: نعم، فقالتْ أُمُّ سَلَمة: ولم يَكُن هناك شيء أكْرَهُ لِعَمْروٍ ولِصاحِبِه مِن أن يسْتَدْعي النَّجاشي أحَدًّا مِنَّا ويسْمَعُ كلامَهُ ثمَّ أتَيْنا النَّجاشيّ وقَدَّمنا إليه الهَدايا فَأُعْجِبَ بها، ثمَّ كلَّماهُ فقالا: أيُّها المَلِك إنَّهُ قدْ أوى إلى ممْلَكَتِك طائِفَةٌ من أشْرار غِلْماننا، قد جاؤوا بِدِينٍ لا نعْرِفُه نحن ولا أنتم، ففَارَقوا ديننا، ولم يدْخُلوا في دينكم، وقد بَعَثَنا أشْراف قومِهم مِن آبائِهم وأعْمامِهم وعشائِرِهم لِتَرُدَّهم إليهم، وهم اعْلَمُ الناس بِما أحْدَثوه مِن فِتْنة، فَنَظَر النَّجاشي إلى بطارِقَتِه فقال البطارقة: صدقا أيُّها المَلِك فإنَّ قَوْمَهم أبْصَرُ بهم، وأعْلَمُ بما صَنَعوا فَرُدَّهم إليهم ليَرَوا رَأيَهُم فيهم ! فهؤلاء البطارِقَة تكلَّموا بِسَبب الهدايا التي قُدِّمَت إليهم وليس عن قناعَتِهم، فَغَضِبَ المَلِك غَضَبًا شديدًا من كلام بطارِقَتِه وقال: لا والله، لا أسَلِّمهم لأحَدٍ حتَّى أدْعوهم، وأسْألُهم عَمَّا نُسِبَ إليهم فإنْ كان كما يقول هؤلاء الرَّجلان أسْلَمْتُهم لهما، وإن كان على غير ذلك حَمَيْتُهُم وأحْسَنْتُ جِوارَهم ما جاوَروني.
 السائِل: هذا دليل فضيلة الشيخ، رجاحَةُ عَقْل النَّجاشي، وهو قول مُنْصف وعادِل، حبَّذا لو نُتابِع هذا الموضوع !
الشيخ: ربُّنا جلَّ جلاله أخْبَرَنا عن سيِّدنا سليمان في آيَةٍ دقيقَةٍ هي أحْوَجُ ما يحْتاجُها القادة، قال تعالى:

﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)﴾

[ سورة النَّمل ]

 وخاطب المؤمنين فقال:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾

 

[ سورة الحجرات ]

 قالتْ أمُّ سَلَمة يدْعونا لِلِقائِه، اجْتَمَعْنا قبل الذَّهاب إليه، وقال بعضنا لِبَعْض: إنّ المَلِك سَيَسْألُمن عن دينكم، فاصْدَعوا بِما تُؤْمِنون به، ولْيَتَكَلَّم عنكم: جَعْفر ابن أبي طالب، ولا يتكلَّم أحدٌ غيرهُ.
السائل: الأستاذ راتب، هذا تَكْتيك رائِع، وتنظيم بديع فيما يبْدو لي.
الشيخ: هذا من توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصَّلاة والسلام: إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم...".
 قالتْ أُمُّ سَلَمَة فَوَجَدْناهُ قد دعى بطارِقَتَهُ فجَلَسوا عن يمينِه، وعن شِمالِه ووجَدْنا عنده عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، فلَمَّا اسْتَقَرَّ بنا المَجْلس الْتَفَت إلينا النَّجاشي، وقال: ما هذا الدِّينُ الذي اسْتَحْدَثْتُموه لأنْفسِكم، وفارَقْتُم بِسَبِبِه دين قَوْمكم، ولم تَدْخُلوا في ديني، ولا في دين أيٍّ من هذه المِلَل ؟! فَتَقَدَّم منه جعْفر بن أبي طالبٍ وقال: أيُّها المَلِك كُنَّا قوْمًا أهْلَ جاهِلِيَّة، نعْبُدُ الأصنام، ونأكل المَيْتة، ونأتي الفواحِش ونقْطَعُ الأرْحام ونسيء الجِوار، ويأكل القَوِيُّ مِنَّا الضّعيف، وبقينا على ذلك حتَّى بعَثَ الله فينا رسولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وصِدْقَهُ وامانتَهُ وعفافَهُ فَدَعانا إلى الله، لِنُوَحِّدَه ونَعْبُدَهُ، ونَخْلَعَ ما كان يعْبُدُ آباؤُنا مِن الحِجارة والأوْثان، وأمَرَنا بِصِدْق الحديث، وأداء الأمانة وصِلَة الرَّحِم، وحُسْن الجِوار، والكَفِّ عن المحارِم والدِّماء، ونهانا عن الفواحِش وقَوْل الزُّور وأكْل مال اليتيم، وقَذْف المُحْصَنات.
 السائل: فضيلة الشَّيْخ من خِلال هذا الكلام يتَّضِحُ أنَّ الإسلام بِناءٌ أخْلاقي رائِه، وهو ما أوْجَزَهُ الصَّحابي الجليل جعفر بن أبي طالب مِن كلامه للنَّجاشي.
 الشيخ: الحقيقة الأخ جمال، يقول عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمْس، طبْعًا أرْكان الإسلام هي دعائِمُ البناء، وليس هي البناء إنَّما البِناء هو بناءٌ أخْلاقي، والإسلام كُلُّه خُلق مَعْنوي.
 وتابَعَ سيِّدنا جعفر بن أبي طالب كلامه للنَّجاشي وقال: وأمَرَنا أن نعْبُدَ الله وحْده ولا نُشْرِكَ به شيئًا، وان نُقيمَ الصَّلاة وأن نؤتي الزَّكاة ونصوم رمضان، فصَدَّقْناهُ وآمَنَّا به، واتَّبَعْناهُ على ما جاء به من عِند الله فَحَلَّلْنا ما أحَلَّ لنا، وحرَّمْنا ما حرَّما علينا، فما كان مِن قوْمِنا أيُّها المَلِك إلا أنْ عَدَوا علينا فَعَذَّبونا أشَدَّ العذاب لِيَفْتِنونا عن ديننا، ويرُدُّنا لِعِبادة الأوْثان فلمَّا ظلمونا وقهَرونا، وضَيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خَرَجْنا إلى بلادِك، واخْتَرْناك على ما سِواك، ورَغِبْنا في جِوارك، ورَجَوْنا أن لا نُظْلَم عندكَ.
السائل: يا سلام على هذا الكلام البديع والرائِع من الصَّحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، وهو يشْرح القِصَّة كامِلَةً.
 الشيخ: فالْتَفَت النَّجاشي إلى جعْفر بن أبي طالب، وقال: هل معك شيء ممَّا جاء به نَبِيِّكم عن الله تعالى ؟ فقال: نعم، قال: فاقْرأْهُ علَيَّ فقَرَأ عليه مَطْلَعَ سورة مرْيَم حتَّى أتَمَّ صَدْر السورة، فقالتْ أُمُّ سَلَمَة فبَكى النَّجاشي حتَّى أخْضَلَتْ لِحْيَتُه من الدُّموع، وبكى أساقِفَتُه حتَّى بلَّلوا كُتُبَهم لما سَمِعوه من كلام الله، وهنا قال النَّجاشي: إنَّ هذا الذي جاء به نَبِيُّكم، والذي جاء به عيسى ليَخْرُجُ من مِشْكاةٍ واحِدَة، ثمَّ الْتَفَتَ إلى عَمْروٍ وصاحِبِه، وقال لهما: اِنْطَلِقَا فوالله لا أُسْلِمُهم إليكما أبَدًا !
السائل: فمع ذلك هذه الخُطَّة لم تنْجَحْ أبَدًا.
 الشيخ: طبْعًا، وفوق ذلك قال النَّجاشي، وقد الْتَفَتَ إلى سيِّدنا جعفر بن أبي طالب وأصْحابِه: اِذْهَبوا فأنْتُم آمِنون، ومَن سَبَّكم غَرِم - أي سَيُعاقَب - ومَن تَعَرَّض لكم عوقِب، ووالله ما أُحِبُّ أن يكون لي جبَلٌ من ذَهَبٍ، وأن يُصاب أحَدٌ منكم بِسُوء، ثمَّ نظر إلى عَمْروٍ وصاحِبِه، وقال لهما: رُدُّوا على هذين الرجلين هداياهما فلا حاجة لي بِهما، قالتْ أُمُّ سلَمَة: فخرج عمرو وصاحبه مَكْسورَين ومَقْهورَيْن.
السائل: وهذا تأكيد قول الله عز وجل: إنَّ الله يُدافع عن الذين آمنوا
 الشيخ: قالتْ أُمُّ سلَمَة: فخرج عمرو وصاحبه مَكْسورَين ومَقْهورَيْن يَجُرَّان أذْيال الخَيْبَة، بِخَيْر دار مع أكرَم جار، وقضى جعفر ابن أبي طالب هو وزَوْجته في رِحاب النَّجاشي عَشْر سنوات آمِنين مُطْمئِنِّين، وفي السَّنة السابعة من الهِجْرة غادروا بلاد الحَبَشَة مع نَفَرٍ من المسلمين مُتَّجِهين إلى يثْرب، فلمَّا بلغوها كان عليه الصَّلاة والسلام عائِدًا من خَيْبَر بعد أن فَتَحها الله له، فَفَرِحَ بِلِقاء جَعْفَرَ فرَحًا شديدًا، حتَّى قال: ما أدْري بِأيِّهما أشَدّ فرَحًا ؛ بِفَتْح خَيْبر أم بِقُدوم جَعْفر، ولم تَكُن فرْحة المسلمين عامَّة والفقراء منهم خاصّ ةًبِعَوْدة جعْفر بأقلّ من فرْحة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كان كان سيِّدنا جعْفر شديد الحَدْب على الضُّعفاء، وكثير البِرِّ بِهم، حتَّى أنَّهُ كان يُلَقَّبُ بِأبي المساكين.
 النبي عليه الصَّلاة والسَّلام حينما وَفَدَ عليه وَفْدُ النَّجاشي قام وخَدَمَهم بِنَفْسِه فلمَّا كَبُرَ على أصْحابِه أن يفْعَلَ النبي هذا، قال: إنَّهم أكْرَموا أصْحاب يفَأُحِبُّ أن أُكافِئهم بِنَفْسي ‍‍، رضِيَ الله عنه سيِّدنا جعفر ابن أبي طالب، ورَحِمَ الله تعالى النَّجاشي ؛ هذا الملِك العادِل الذي عاش المسلمون في كنَفِه، وفي عَدْلِه وبِلاده.
السائل: الشُّكْر الجزيل لِفَضيلة الشَّيْخ محمَّد راتب النابلسي ؛ الأستاذ المُحاضِر في كُلِيَّة التَّرْبِيَة في جامِعَة دِمَشْق وأحد خُطباء مساجِد دِمَشْق.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.

تحميل النص

إخفاء الصور