وضع داكن
19-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 18 - الصحابي أبو العاص بن الربيع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أ. جمال: أستاذ راتب من هو ضيفنا في هذا اللقاء الطيِّب من برنامج صور من حياة الصحابة ؟
 أ. راتب: ضيفنا سيدنا أبو العاص بن الربيع، صهر النبي عليه الصلاة والسلام، زوج ابنته السيدة زينب رضي الله عنها، كان أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي شاباً موفور الشباب، بهي الرونق رائع المنظر، بسطت عليه النعمة بلالها، وجلله الحسب بردائه، فغدا مثلاً للفروسية العربية بكل ما فيها من خصال الأنفة والكبرياء، ومآثر الاعتزاز بتراث الآباء والأجداد، وقد ورث أبو العاص حب التجارة عن قريشٍ صاحبة الرحلتين ؛ رحلة الشتاء ورحلة الصيف، فكانت ركائبه لا تفتأ ذاهبةً آيبةً بين مكة والشام، وكانت قافلته تضمُّ المئة من الإبل والمئتين من الرجال، وكان الناس يدفعون إليه بأموالهم ليتجَّر لهم بما فوق ماله لما بلوا من حذقه وصدقه وأمانته، لما بلوا أي لما عرفوا، وكانت خالته خديجة بن خويلد زوج محمد بن عبد الله، تنزله من نفسها منزلة الولد من أمه، وتفسح في له في قلبها وبيتها مكاناً مرموقاً ينزل فيه على الرحب والحُب، ولم يكن حبُّ محمد بن عبد الله لأبي العاص بأقل نمن حب خديجة له ولا أدنى، ومرَّت الأعوام صِراعاً خفافاً على بيت محمد بن عبد الله، فشبَّ، ت زينب كبرى بناته وتفتحت كما تتفتح زهرةٌ فوَّاحة، فطمحت إليها نفوس أبناء السادة من أشراف مكة، وكيف لا ؟ وهي من أعرق بنات قريشٍ حسباً ونسباً، وأكرمهن أماً وأباً، وأزكاهن خلقاً وأدباً، ولكن أنى لهم أن يظفروا بها وقد حال دونهم ودونها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع فتى فتيان مكة.
ولم يمض على اقتران زينب بنت محمد بأبي العاص إلا سنواتٌ معدودات حتى أشرقت بطاح مكة بالنور الإلهي، وبعث الله نبيه محمد بدين الهدى والحق، وأمره بأن ينذر عشريته الأقربين، فكان أول من آمن به من النساء زوجته خديجة بنت خويلد، وبناته زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة على الرغم من أن فاطمة كانت صغيرةً آن ذاك، غير أن صهره أبا العاص كره أن يفارق دين آبائه وأجداده، وأبى أن يدخل فيما دخلت فيه زوجته زينب، على الرغم من أنه كان يصفيها بصافي الحب ويمحضُها من محض الوداد، ولما اشتد النزاع بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين قريش قال بعضهم لبعض: ويحكم إنكم قد حملتم عن محمدٍ همومه بتزويج فتيانكم من بناته فلو ردتموهُنَّ إليه لانشغل بهن عنكم.
أ. جمال: أرادوا أن يفرقوا بين بناته وأصهاره.
 أ. راتب: فقالوا: نعم الرأي ما رأيتم، ومشوا إلى أبي العاص وقالوا له: فارق صاحبتك يا أبا العاص، وردَّها إلى بيت أبيها، ونحن نزوجك أية إمرأةٍ تشاء من كرائم عقيلات قريش، فقال: لا والله إني لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بها نساء الدنيا جميعاً.
 أما ابنتاه رقية وأم كلثوم فقد طُلِّقتا وحُملتا إلى بيته، فسرَّ النبي عليه الصلاة والسلام بردهما إليه وتمنى أن لو فعل أبا العاص كما فعل صاحباه، غير أنه ما كان يملك من القوة ما يرغمه على ذلك، ولم يكن قد شُرِعَ بعد تحريم زواج المؤمنة من المشرك.
ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، واشتد أمره فيها، وخرجت قريش إلى قتاله في بدر، اضطر أبا العاص للخروج معهم  اضطرارا، إذ لم تكن به رغبةٌ في قتال المسلمين، ولا أربٌ في النيل منهم، ولكن منزلته في قومه حملته على مسايرتهم حملاً، وقد انجلت بدرٌ عن هزيمةٍ منكرةٍ لقريش أذلت أنوف الشرك وقسمت ظهور طواغيته ؛ ففريقٌ قتل، وفريقٌ أسر، وفريق نجَّاه الفرار، وكان في زمرة الأسرى أبو العاص زوج زينب بنت محمد صلوات الله عليه وسلامه، وقف النبي أمامه يستعرض الأسرى، فلما وقعت عينه على صهره، قال عليه الصلاة والسلام: والله ما ذممناه صهراً. هو مشرك وجاء ليحاربه ولكن النبي ما نسي أنه كان زوجاً طيباً قال: والله ما ذممناه صهراً. فرض النبي عليه الصلاة والسلام على الأسرى فديةً يفتدون بها أنفسهم من الأسر، وجعلها تتراوح بين ألف درهمٍ وأربعة آلافٍ، بحسب منزلة الأسير في قومه وغناه، وطفقت الرسل تروح وتغدوا بين مكة والمدينة، حاملةً من الأموال ما تفتدي بها أسراها، فبعثت زينب رسولها إلى المدينة يحمل فدية زوجها أبي العاص، وجعلت فيها قلادةً كانت أهدتها لها أمها خديجة بنت خويلد يوم زفتها إليه، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام القلادة ( قلادة زوجته السيدة خديجة ) غشيت وجهه الكريم غلالةٌ شفافةٌ من الحزن العميق، ورقَّ لأبنته أشد الرقاء، ثم إلتفت إلى أصحابه وقال: إن زينب بعثت بهذا المال لفداء أبي العاص، فإن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها مالها فافعلوا ؟ فقالوا: نعم ونعمة عينٍ يا رسول الله، الأسير صهره، والتي تفتدي أسيرها ابنته، ومبلغ الفدية هي قلادةٌ كانت للسيدة خديجة.
 غير أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترط على أبي العاص قبل إطلاق سراحه أن يسيِّر إليه إبنته زينب من غير إبطاء، فما كاد أبو العاص يبلغ مكة حتى بادر إلى الوفاء بعهده، فأمر زوجته بالاستعداد للرحيل، وأخبرها بأن رسل أبيها ينتظرونها غير بعيدٍ عن مكة، وأعدَّ لها زادها وراحلتها، وندب أخاه عمرو بن الربيع لمصاحبتها وتسليمها لمرافقيها يداً بيد، تنكبَّ عمرو بن الربيع قوسه وحمل كنانته جعبة سهامه، وجعل زينب في هودجها، وخرج بها من مكة جهاراً نهراً على مرأى من قريشٍ، فهاج القوم وماجوا، ولحقوا بهما حتى أدركوهما غير بعيدٍ وروَّعوا زينب وأفزعوها، عند ذلك وتر عمرٌ قوسه، أي هيأه، ونثر كنانته بين يديه، وقال: والله لا يدنو رجلٌ منها إلا وضعت سهماً في نحره، وكان رامياً لا يخطيء له سهم، فأقبل عليه أبو سفيان بن حرب، وكان قد لحق بالقوم وقال له: يا بن أخي كف عنا نبلك حتى نكلّمك، فكفَّ عنهم فقال له: إنك لم تصب فيما صنعت، فلقد خرجت بزينب علانيةً على رؤوس الناس، وعيوننا ترى، وقد عرفت العرب جميعها أمر نكبتنا في بدر، وما أصابنا على يد أبيها محمد، فإذا خرجت بابنته علانيةً كما فعلت رمتنا القبائل بالجبن، ووصفتنا بالهوان والذل، فارجع بها واستبقها في بيت زوجها أياماً حتى إذا تحدَّث الناس بأننا رددناها، فسلها من بين أنظرنا سراً، وألحقها بأبيها، فمالنا بحبسها عنه حاجة، فرضي عمرو بذلك وأعاد زينب إلى مكة، كان أبو سفيان حكيماً، ثم ما لبث أن أخرجها منها ليلاً بعد أيامٍ معدودات، وأسلمها إلى رسل أبيها يداً بيد كما أوصاه أخوه.
 وأقام أبو العاص في مكة بعد فراق زوجته زمناً، حتى إذا كان قُبيل الفتح بقليل خرج إلى الشام في تجارةٍ له، فلما قفل راجعاً إلى مكة ومعه عيره التي بلغت مئة بعير، ورجاله الذين نيَّفوا على مئة وسبعين رجلاً، برزت له سريةٌ من سرايا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه قريباً من المدينة، فأخذت العير، وأسرت الرجال، لكن أبا العاص أفلت منها فلم تظفر به، فلما أرخى الليل سدوله إستتر أبا العاص بجنح الظلام، ودخل المدينة خائفاً يترقَّب، ومضى حتى وصل إلى زينب واستجار بها، فأجارته.
 ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر، واستوى قائماً في المحراب، وكبر للإحرام وكبر الناس بتبكيره، صرخت زينب من صفة النساء وقالت: أيها الناس، أنا زينب بنت محمد وقد أجرت أبا العاص فأجيروه. فلما سلم النبي عليه الصلاة والسلام إلتفت إلى الناس وقال: هل سمعتم ما سمعتُ ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده ما علمت بشيءٍ من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه، وإنه يجير من المسلمين أدناهم، ثم انصرف إلى بيته وقال لابنته: أكرمي مثوى أبي العاص، وأعلمي أنك لا تحلين له، ثم دعا رجال السرية، التي أخذت العير وأسرت الرجال وقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أخذتم ماله، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له كان ما نحب، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم وأنتم به أحق ؟ فقالوا: بل نرد عليه ماله يا رسول الله، فلما جاء لأخذه قالوا: يا أبا العاص إنك في شرفٍ من قريش، وأنت ابن عم رسول الله وصهره، فهل لك أن تسلم ونحن نُنْزِل لك عن هذا المال كلّه فتنعُم بما معك من أموال أهل مكة وتبقى معنا في المدينة ؟ يعني المال أصبح غنيمة، هو حينما أسلم أصبحت أمواله التي معه غنيمةً للمسلمين.
 اسمع أستاذ جمال ماذا أجاب، فقال أبو العاص: بئس ما دعوتموني أن أبدأ ديني الجديد بغدرةٍ، هذا من نبله ومن مروءته، ومضى أبو العاص بالعير وما عليها إلا مكة، فلما بلغها أدَّى لكل ذي حقٍ حقه ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مالٌ لم يأخذه ؟ قالوا: لا، وجزاك الله عنا خيراً فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: أما وأني قد وفَّيت لكم حقوقكم، فأنا أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدٍ رسول الله.
أ. جمال: أهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، والمدرس الديني في مساجد دمشق، وخطيب جامع النابلسي، ورضي الله تعالى عن الصحابي الجليل أبا العاص بن الربيع، أهلاً بكم أستاذ راتب، لنا لقاء إنشاء الله.

تحميل النص

إخفاء الصور