وضع داكن
29-03-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 17 - الصحابي أسامة بن زيد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أ. جمال: أستاذ راتب، من هو محور لقائنا في هذا اليوم ؟ من هو الصحابي الجليل الذي سنكون اليوم في صدد الحديث عنه ؟
 أ. راتب: سأجيبكم عن هذا السؤال بعد قليل، نحن الآن في السنة السابعة قبل الهجرة في مكة، ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه يكابد من أذى قريشٍ له ولأصحابه ما يكابد، ويحمل من هموم الدعوة وأعبائها ما أحال حياته إلى سلسلةٍ متواصلةٍ من الأحزان والنوائب، وفيما هو كذلك أشرقت في حياته بارقة سرور، فلقد جاءه البشير يبشِّره أن أم أيمن وضعت غلاماً، فأضاءت أساريره عليه الصلاة والسلام بالفرحة، وأشرق وجهه الكريم بالبهجة، فمن يكون هذا الغلام السعيد الذي أدخل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ هذا السرور ؟ إنه أسامة بن زيد، محور هذا اللقاء.
أ. جمال: إذاً نحن الآن في صدد الحديث عن صحابي جليل إسمه أسامة بن زيد.
 أ. راتب: لم يستغرب أحدٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجته بالمولود الجديد، وذلك لموضع أبويه منه، ومنزلتهما عنده، فأم الغلام هي بركة الحبشية المُكَنَّاة بأم أيمن، وقد كانت مملوكةً لآمنةً بنت وهبٍ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربته في حياتها، وحضنته بعد وفاتها، ففتح عينيه على الدنيا وهو لا يعرف لنفسه أماً غيرها، فأحبَّها أعمق الحب وأصدقه، وكثيراً ما كان يقول: هي أمي بعد أمي وبقية أهل بيتي، هذه أم الغلام المحظوظ، أما أبوه فهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وابنه بالتبني قبل الإسلام، وصاحبه وموضع سرّه، وأحد أهله وأحب الناس إليه بعد الإسلام، هذا أبوه وهذه أمه، وقد فرح المسلمون بمولد أسامة بن زيد كما لم يفرحوا بمولودٍ سواه، ذلك لأن كلّ ما يفرح النبي عليه الصلاة والسلام يفرحهم، وكلَّ ما يدخل السرور على قلبه يسرهم، فأطلقوا على الغلام المحظوظ لقب الحبَّ ابن الحب.
أ. جمال: أستاذ راتب النابلسي ما معنى كلمة الحِب ؟
 أ. راتب: الحِب هو المحبوب، أي هو محبوب رسول الله، وأبوه محبوب رسول الله، ولم يكن المسلمون مبالغين حينما أطلقوا هذا اللقب على الصبي الصغير أسامة، فقد أحبَّه النبي صلوات الله وسلامه عليه حباً تغبطه عليه الدنيا كلُّها، فقد كان أسامة مقارباً في السن لسبطه الحسن بن فاطمة الزهراء، وكان الحسن أبيض أزهر رائع الحسن شديد الشبه بجده رسول الله، وكان أسامة أسود البشرة، أفطس الأنف شديد الشبه بأمه الحبشية.
أ. جمال: أستاذ راتب قلتم كلمة سبط، ما معنى كلمة سبط ؟
 أ. راتب: ابن الإبن، أي ابن الأولاد، أي نجل، لكن النبي صلوات الله وسلامه عليه ما كان يفرِّق بينهما في الحب، فكان يأخذ أسامة فيضعه على إحدى ركبتيه، ويأخذ الحسن فيضعه على ركبته الأخرى، ثم يضمهما معاً إلى صدره ويقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما. وقد بلغ من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة أنه عثر ذات مرةٍ بعتبة الباب، فشجَّت جبهته وسال الدم من جرحه، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضوان الله عليها أن تزيل الدم عن جرحه، فلم تطب نفسها لذلك، فقام إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يضمِّد جراحه ويطيِّب خاطره بكلماتٍ تفيض عذوبةً وحناناً، وكما أحب النبي عليه الصلاة والسلام أسامة في صغره فقد أحبه في شبابه، فلقد أهدى حكيم بن حزامٍ أحد ثراة قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حلةً ثمينةً شراها من اليمن بخمسين ديناراً ذهباً كانت لذي يزن أحد ملوكهم، فأبى النبي الكريم أن يقبل هديته لأنه كان يومئذٍ مشركاً، وأخذها منه بالثمن، ولقد لبثها النبي الكريم مرةً واحدة في يوم الجمعة، ثم خلعها على أسامة بن زيد، فكان يروح بها ويغدو بين أترابه من شبان المهاجرين والأنصار.
 أ. جمال: أستاذ راتب السؤال الذي يخطر إلى البال الآن، هؤلاء الذين يتحدثون عن حقوق الإنسان، ليتهم يروا كيف عامل النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء المملوكين وكأنهم أقرب الناس إليهم ؟
أ. راتب: هذه رحمته صلى الله عليه وسلم وهذا من كماله وقد وصفه الله عزَّ وجل فقال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

( سورة القلم )

 ولما بلّغ أسامة بن زيد أشده بدى عليه من كريم الشمائل وجليل الخصائل ما يجعله جديراً بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان ذكياً حاد الذكاء، شجاعاً خارق الشجاعة، حكيماً يضع الأمور في مواضعها، عفيفاً يأنف عن الدنايا، آلفاً مألوفاً يحبه الناس، تقياً ورعاً يحبه الله.
 أ. جمال: أستاذ راتب هل لنا أن نتحدث عن صورة من صور الشجاعة والبطولة عند أسامة بن زيد لنُطلع الإخوة المستمعين عن المزيد من حياة هذا الصحابي الجليل.
 أ. راتب: نعم، في يوم أحد جاء أسامة بن زيد مع نفرٍ من صبيان الصحابة رضوان الله عليهم، يريدون الجهاد في سبيل الله، فأخذ النبي الكريم منهم من أخذ ورد منهم من رد لصغر أعمارهم، البطولة كانت تسري في دمائهم، فكان في جملة المردودين أسامة بن زيد، فتولى وعيناه الصغيرتان تفيضان من الدمع حزناً ألا يجاهد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة الخندق جاء أسامة بن زيد أيضاً ومعه نفرٌ من فتيان الصحابة، وجعل يشدُّ قامته إلى أعلى ليجيزه النبي الكريم، فرقَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وأجازه فحمل السيف جهاداً في سبيل الله وهو ابن خمس عشرة سنة.
أ. جمال: أيضاً أستاذ راتب معلوماتنا عن هذا الصحابي الجليل له موقفٌ في يوم حنين، يا ليت أن نتكلم عنه ؟
 أ. راتب: وفي يوم حنين حينما إنهزم المسلمون ثبت أسامة بن زيد مع العباس عم رسول الله وأبي سفيان ابن عمه وستة نفرٍ آخرين من كرام الصحابة، فاستطاع النبي الكريم بهذه الفئة الصغيرة المؤمنة الباسلة أن يحول هزيمة أصحابه إلى نصرٍ، وأن يحمي المسلمين الفارين من أن يفتك بهم المشركون، وفي يوم مؤته جاهد أسامة تحت لواء أبيه زيد بن حارثة، وسنه دون الثامنة عشر، فرأى بعينيه مصرع أبيه، فلم يهن ولم يتضعضع وإنما ظلَّ يقاتل تحت لواء جعفر بن أبي طالب حتى صُرع على مرأى منه ومشهد، ثم تحت لواء عبد الله بن رواحة، حتى لحق بصاحبيه، ثم تحت لواء خالد بن الوليد، الذي استنقذ الجيش الصغير من براثن الروم، ثم عاد أسامة إلى المدينة محتسباً أباه عند الله، تاركاً جسده الطاهر على تخوم الشام راكباً جواده الذي استشهد عليه، وفي السنة الحادية عشر للهجرة أمر النبي الكريم بتجهيز جيشٍ لغزو الروم، وجعل فيه أبا بكرٍ وعمر وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم من جلَّة الصحابة وأمرَّ على الجيش أسامة بن زيد، شيءٌ لا يصدق وهو لم يجاوز العشرين بعده، شابٌ في العشرين تحت إمرته أبو بكرٍ وعمر وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح، وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء وقلعة الداروم القريبة من غزة من بلاد الروم، وفيما كان الجيش يتجهَّز مرض النبي الكريم، ولما اشتد عليه المرض توقف الجيش عن المسير انتظارا لما تسفر عنه حالة النبي عليه الصلاة والسلام.
 أ. جمال: أستاذ راتب النابلسي، هل يصدق الإنسان أن يكون أسامة بن زيد في هذه المكانة عند النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام ؟.
 أ. راتب: أولاً هذا يؤكد رحمة النبي ووفائه، ويؤكد بطولته وتفوقه معاً، قال أسامة: ولما ثقل على نبي الله المرض أقبلت عليه وأقبل الناس معي، فدخلّت عليه فوجدته قد صمت فما يتكلّم من وطأة الداء، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فعرفت أنه يدعو لي، ثم ما لبث النبي أن فارق الحياة، وتمت البيعة لأبي بكرٍ فأمر بإنفاذ بعث أسامة.
 الآن.. لكن فئةً من الأنصار رأت أن يؤخَّر البعث، إرسال هذا الجيش، وطلبت من عمر بن الخطاب أن يكلم في ذلك أبا بكر وقالت له: فإن أبا إلا المضي فأبلغه عنا أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة، وما إن سمع الصديق من عمر رسالة الأنصار حتى وثب لها وكان جالساً، وأخذ بلحية الفاروق، وقال مغضباً: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، إستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، والله لا يكون ذلك، ولما رجع عمر إلى الناس سألوه عما صنع فقال: أمضوا ثكلتكم أمهاتكم فقد لقيت ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله، نقل إلى الصديق رأي الأنصار، فوقف هذا الموقف الشجاع، فخضع الأنصار لهذا التوجيه، مضى أسامة بن جيش وأنفذ كلُّ ما أمره به النبي الكريم، فأوطأ خيل المسلمين تخوم البلقاء وقلعة الداروم من أرض فلسطين، ونزع هيبة الروم من قلوب المسلمين، ومهَّد الطريق أمامهم لفتح ديار الشام ومصر والشمال الإفريقي كلّه حتى بحر الظُلمات، ثم عاد أسامةً ممتطياً صهوة الجواد الذي استشهد عليه أبوه، حاملاً من الغنائم ما زاد عن تقدير المقدِّرين حتى قيل: إنه ما رؤي جيشٌ أسلم وأغنم من جيش أسامة بن زيد، هذا أسامة بن زيد.
 أ. جمال: نقول رحم الله هذه النفوس الكبيرة، فما عرف التاريخ أعظم ولا أكمل ولا أنبل من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية جامعة دمشق، وخطيب جامع النابلسي في دمشق، والمدرس الديني في مساجد دمشق أيضاً، نشكركم.

تحميل النص

إخفاء الصور